لذة العبودية الطوعية!
ماذا يحدث عندما يصل شعبٌ ما في مكانٍ ما إلىَ مرحلةِ الاكتفاءِ المازوخي في لذةِ المَذلةِ والاستكانةِ والرضا بأيّ حاكمٍ أو إرهابي أو حِمار أو درويش يحكمه ويصنع له الدولةَ السجن؟
هنا تظهر العُقدةُ التي لا حلَّ لها؛ فكيف تُقنع شخصاً يُصْفَع علىَ قفاه بأنَّ الصفعةَ ليست قُبـْـلــَة؟
أتحدثُ هنا عن فترةٍ زمنيةٍ مُحَدَّدَةٍ، قد تطول أو تقــْصُر، يصاب الشعبُ كلــُه، مع استثناءاتٍ قليلةٍ، بلـَذةِ العبودية التي تُعطي إحساساً خادعاً بالأمانِ والسلامِ والابتعادِ عن سَوْط السُلطة والتخويف المستمر.
كلُ الناسِ تخاف من كلِ الناسِ، وتتربص بك العيونُ، وتطارد الآذانُ همساتــِكَ، ويلجأ الناسُ إلى الدينِ ليستخلصوا منه، علىَ هواهم، المُخَدِّرَ الذي يربط عبوديةَ أهلِ الأرضِ بالسماءِ، ويتم العثورُ في ثنايا الآياتِ المقدسةِ والأحاديث المتواترةِ والحكاياتِ والمروياتِ والعنعنياتِ عَمّا يُلــْـصِق الهزلَ بصحيحِ الدين، والخوفَ من الحاكمِ بالخوفِ من اللهِ، وطاعةِ الخالق بطاعةِ المخلوق!
لذةُ العبوديةِ عاشها وعايشها وآمن بها ضعافُ النفوسِ، ومتأخرو العقولِ، والجهلاءُ لقيمة البشر، وكرامة الإنسان؛ وهؤلاء قد يكون انتماؤهم لصفوةِ المجتمع من إعلاميين ومثقفين وأكاديميين وباحثين وسياسيين ورأسماليين وفقهاء ودعاة لكل الأديان؛ لكنَّ فـِـقـْهَ الجُبْنِ أطاح بالنفس السوية وصنع بديلاً لها: رعشة في الفكر، والقلب، والروح؛ فيهجر صاحبُنا خَلـــْـقاً نفخ اللهُ فيه من روحــِه فسكنته الشجاعةُ والكرامةُ والتسامحُ في قالبٍ إنسانيٍ مكتمَل، ليرتمي في أحضانِ العبوديةِ الأقرب إلى حيواناتِ الغاب!
شغلتني طويلاً قضيةُ القابلية للعبودية، خاصة إذا تعَلــَــقـْتْ بجماعة من البشر ذاقتْ حلاوةَ التَحَضُّر في تاريخِها، وعرفتْ مركزيةَ التَمَدُّن لفتراتٍ زمنية، وكانت قِبلةَ التنوير؛ ثم هجمَ عليها رجالُ دينٍ أو عسكر أو دراويش أو حيوانات بشريةٌ فتناغم الأخذُ والعطاء لتختار الجماعةُ في النهايةِ طريقَ التخلف، والقسوة، والغـِـلــْـظة، والفساد، والاحتيال، والجُبْن، والوشاية، والكراهية، وترجع القهقري في سُلـَّمِ الحضارة ولا تتحسَّر علىَ ماضيها؛ إنما تفتخر بالذين دَمَّروها وهي تحسب أنهم يُحْسِنون صُنعا؟
لا طريقَ للنجاةِ إلا برفع القداسةِ عن الجميع؛ التاريخ، والبشر، والحُكــَّــام، والسلطات، والأفكار، والآراء، والنصوص حتى نقطع الطريقَ علىَ المسيطرين علينا و.. المتحَكـِّمين في سلوكياتــِــنا.
لا طريق للنجاةِ إلا بالشك، والريبة، والنقد ، فالشكوكُ صراعُ العادةِ مع العقل، ومحاولاتُ سيطرةِ (ما ألفينا عليه آباءَنا) على تطور الفكر!
لا طريق للنجاة قبل أنْ يتعلم الناسُ أنَّ الكرامةَ قبل الخُبز، وأنَّ الشجاعةَ قبـْـل العِلــْـمِ، وأنَّ الطريقَ للخلاصِ يبدأ بتصغير، وتحجيم، وتقزيم الكبار.
لا طريق للنجاةِ قبل تَساوي كلِّ الرؤوس، وصناعة مجتمعٍ جديد يقوم علىَ نَبْذِ كل القوانين التي صنعتْ الإنسانَ الدُمْية، أو العبْد، أو الذليل، والبدء في تلقين الناس مباديء الأخلاق القائمة علىَ تطور المجتمع إلىَ الأفضل؛ وليس علىَ آراء رجالٍ يلقنوننا من معابدِهم أصولَ علاقتِنا بالسماءِ و.. مع بعضِنا في الأرض.
لا طريق للنجاة قبل نَزْع الخوفِ من صدورِنا، ونزع الرغبة في الوشاية ضدنا من صدور القريبين مِنــّـا، واعتبار الواشي عدواً لكَ، وعدواً لي، وللمجتمع!
لا طريق للنجاة قبل استبدال ثقافة العقل بثقافة النقل، وإعادة الاعتبار للكتاب، وأنْ لا تزيد قراءاتــُك الدينية عن عُشْر قراءاتــِـك العِلـــْـمية، والإنسانية، والثقافية، والأدبية.
لا طريق للنجاة قبل احتقار، وازدراء، ونَبْذِ، وكراهية الحوارات الدينية الاستعلائية التي تُفاضِل بين ما تلقيناه عن أسلافِنا مما هو غيرُ مؤكدٍ مع ما تلقاه غيرُنا عن أسلافِهم مما هو ليس مؤكداً!
لا طريق للنجاة إلّا أنْ تنظر في المرآةِ قبل مغادرتِك بيتك، وتشهق شهقة الحرية، وتُقـْسِم لنفسِك أنك إنسانٌ حُرٌّ غيرُ مختومٍ علىَ قفاك من رجلِ الأمن، والعسكري، والدرويش، والحِمار الذي يحكُم بلدَك، ثم ترفع رأسَك في عِزة، ورفعة، وشجاعة و.. لو كنتَ أفقرَ من شحّاذ.
لا طريق للنجاة قبل أنْ تقتنع أنَّ الذي مات في السجن أمس، وأول أمس، وسيموت اليوم من التعذيب، ومن سيموت غداً من الظُلــْـمِ، والمرض، ونقـْصِ الدواءِ هو أخوك في الإنسانية أمام الله حتى لو غضَّ الناسُ الطرفَ عنه!
لا طريق للنجاة قبل الغضبِ فهو دينامو الإيمان، ومن يكتفي بالسخرية، والضحك، والمديح، والتزلـُّـف، والتمَلــُّـق، والخوف، والجُبْن، والصمْت؛ سيعيش ويموت مثل فأرٍ خُلــِقَ ليجري من جُحْرٍ إلىَ آخر لئلا يلمحه قِطٌّ هائِمٌ يبحث عن فريسة.
لا طريق للنجاة قبل التخلص من الشيطان الذي يتسلل لخمسة أماكن: قصر الرئاسة، أو يجلس تحت قبّة البرلمان، أو يلتصق بمطرقة القاضي، أو يصعد المنبر مع رجل الدين، أو يحشر رأسَه في سِنِّ قــَـلــَمِ الإعلامي.
لا طريق للنجاة قبل أن تقتنع، وتؤمن إيماناً صلباً، وراسخاً أنَّ رئيسَ الدولةِ، ورجلَ الأمنِ،والقواتِ المسلحةَ، والقاضي، والداعية الديني، والحكومةَ هُمْ في خدْمتِك، وليس العكس!
لا طريقَ للنجاةِ قبل أنْ تتحسس قفاك، وتصرخ في وجهِ من يقترب من كرامتِك، أو أنْ تنتظر حَفــَّارَ القبور ليلقي بكَ في حُفْرةٍ ضيقةٍ مكتوب عليها: عاش ومات و.. لم يصفع مُهينيه!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 15 أكتوبر 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق