28‏/04‏/2016

حوار بين سمكتين في قاع البحر!

هذا هو الحوار رقم 30 في سلسلة حواراتي المنشورة!


التقتْ سمكتان في قاع البحر، الأولى صغيرة مُلونة كألوان الطيف، والأخرى كبيرة وذات لونين فقط، ودار بينهما حوار التقطناه بصعوبة بالغة، لكنه كان واضحاً للغاية.
قالت السمكة الكبيرة : أراكِ ترتعشين كأنكِ هاربةٌ من شبكة صياد ضــَيــَّــقَ فتحاتـِـها فــَـبــَـدَتْ ملائمة لأسماك خرجت لتوها من بيض مفقوس!
قالت السمكة الصغرى وهي تتقدم وتتراجع: هل أنا آمنةٌ لديك أمْ أنَّ مُستقري في جوفك قبل أنْ نــُـكـْمــِـل حوارَنا؟
السمكة الكبيرة: لا تخافي، وصارحيني بما يعتمل في نفسك، فأنتِ وأنا، في مياه واحدة، وشبكة الصياد لا تــُـفَرِّق بيننا، وصنارتــُـه تجرح كلينا بنفس القــَـدْر.
السمكة الصغيرة: لقد قابلتُ بالأمس صديقة لي وكانت تسبح علىَ غير هــَــدْي، ففهمتُ أنها في أزمة، واستسبـَـحــْـتُها لبعض الوقت، فحــَــكتْ لي عن الخطر الذي حاق بها عندما حاولت العيش في البحر الأحمر بالقرب من سفاجا، ووجدتْ هناك أسماك قرش ترتع، وتلعب وتنتظر منذ وقت طويل (عــَــبـَّـارَةً) لعلها تغرق في العهد الثالث بعد مبارك الذي أهداها رجاله أكثر من ألف غريق مصري فكانت مأدبة العُمر.
قالت السمكة الكبيرة وهي تحاول تعليمها أصول الشك في نوايا الإنسان: ومع ذلك فأسماك القرش أرحم علينا من جنون البشر، وهو غير جنون البقر. لقد سمعت هنا في مياه الخليج الدافئة عن أم الكوارث التي أنجبتها أم المعارك عندما أحرق صدام حسين أكثر من سبعمئة بثر نفط في الكويت، وبدا تلوث المياه وقتها مفزعا من البر، فما بالك بالأسماك والطيور التي عاشت آمنة، تأكل، وتسبح دون وجود مراكب الصيد الكبرى المجهزة بماكينات لا فرق لديها بين الصغير والكبير، فقانون الصيد الدولي يُحرم صيد، وتعليب الأسماك الصغيرة جداً.
ابتسمت السمكة الصغيرة وقالت لها: أنا أعرف مقصدك، فأنت تشيرين إلى المراكب الروسية الكبرى التي تصطاد أسماكاً صغيرة في المياه الاقليمية المغربية بالمحيط الأطلسي الذي كان العرب يطلقون عليه في غابر الأزمان بحر الظلمات، وتقوم بتعليبها فنختنق قبل وبعد موتنا.
لكنني لا أخاف شيئا خوفي من تسرب مخلفات المصانع الكيميائية فتتلوث المياه بالأملاح السامة كالزرنيخ والزئبق، وأملاح المعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم!
لقد بحثت رغم صغر سني عن مكان آمن لي من شر الإنسان وهو أحيانا أغلظ وأشرس من شر الوسواس الخناس، فلم أجد، وقد قيل لي بأن الهجرة إلى مياه المحيط الهادي ستجعلني مثل ساكن عشش الصفيح الذي انتقل فجأة إلى قصر منيف يطل على بحر الشمال في بقعة لم يمسسها من قبل إنس ولا جان.

دارت السمكة الكبيرة حولها دورتين ثم اقتربت أكثر وقالت لها: خبرتي الطويلة في قاع البحارعلمتني أن الإنسان طاغية فوق سطح البحر وفي أعماقه، وهو يلوث البيئة بيديه ثم يقيم معاهد بحث علمي للوصول إلى الحل الأنجع لتنقية ما لوثته يداه!
أما الهجرة إلى مياه المحيط الهادي فهي أضغاث أحلام من وضع ثقته فيمن هبط من الجنة إلى الأرض بعد المعصية، فأحسب أن أجدادك كانوا صغاراً عندما تسرب النفط من بئر في عام 1969 خارج المياه الاقليمية لولاية كاليفورنيا الأمريكية، وطاردَ في أيام قلائل ثمانون ألف برميل شقيقاتنا من أسماك آمنة وبعيدة عن الشاطيء والصيادين، فقتلت ملايين من الأسماك الصغيرة والكبيرة في مساحة تسعين كيلومتراً، وضاع لحم طري كان يكفي أهل قرية تأكل من خيرات البحر سنوات فجاءت حماقة الإنسان لتضع القبح الأسود في المياه الصافية.
قالت السمكة الصغيرة: هذا يعني أن لا مكان لنا غير المياه العربية الدافئة والواقعة بين جزيرة ليلى المغربية وجزيرة حنيش اليمنية، وبين اللاذقية السورية ومنطقة القراصنة الصوماليين في البحر الأحمر، وهي شواطيء يتحدث صيادوها وسبــَّـاحوها وشراعوها وقباطنتها في أربعة وعشرين ألف كيلومتراً اللغة العربية.

بدا أن مهمة السمكة الكبيرةِ.. كبيرةٌ، فهي في كل اجابة مــَــدْرسة للتعليم، فقالت لها بصوت خفيض مسموع بشق الأنفس: بحارنا وأنهارنا العربية ليست فقط مصائد، لكنها مصائب، ولا فرق لديها بين مالحٍ عاتية أمواجه، وعذبٍ نائحة أفواجه. مياهٌ إنْ لم يلوّثها أصحابها سرقها جيرانها، وإنْ أحتاج عربــُــها لمزيد منها نهضتْ سدودُ جيرانهم لتحجبها عنهم.
الأملح الميّــت فيها تتحدث مياهه العبرية رغم أن منبعه نهر الأردن ولا تعيش فيه كائنات حية فيطوف على سطحه سياح كأنهم موتى، وفــُــراته الحزين ينبع نصفه في أرمينيا، والنصف الآخر في تركيا، ويمر على قلب العروبة الذي كان نابضاً فأهلكه أسدان، أب وشبل، فلما ثار الشعب العظيم اختلط بهم غزاة ومقاومون، شرفاء ولصوص، عشاق وكوهينيون، فعرفتْ سوريا لأول مرة أن أهلها سنيون وشيعة وعلويون ومسيحيون وأرمن وأكراد وكتائب وعروبيون وجواسيس، واحتفلت الجماعات الدينية بالسقوط الثالث قبل اقامة خلافتهم على أنقاض خلافاتهم.
ثم أردفت قائلة: مياه دجلة لونتها بالأحمر القاني جثث عراقية وإيرانية لثمان سنوات، ثم زاد احمرارها في انتقام مهيبها من معارضيه، وبعثها من مُخالفيه، وجاء شباب يانكيٌ يلوكون العلكة من أقصى الأرض و يلعبون بأزرار في طائراتهم الشبحية غير المرئية فتحولت مياه دجلة إلى بديل للمقابر الجماعية الأرضية، وأخيرا جاء غزاة في ملابس وطنية وسكنوا منطقة خضراء الاسم، صفراء الوجه، سوداء القلب، حمراء اليدين، تحدَّت صدام والخوميني وبوش أنها ستجعل من العراق مقراً دائما لإبليس إلى يوم القيامة.
كأن الخوف جعل ألوان السمكة الصغيرة تبهت فجأة من هول ما سمعت، فقالت وفي صوتها حشرجة رعب: سأنتقل من المالح إلى العذب رغم استحالته، وسأجد في مياه النيل أمنا وسلاما وأُصاحــِـبُ أسماكا من كل الأنواع تــَــمـُـرُّعلى أحد عشر بلداً، فهو نهر يُغنـّـي له شاربوه، ويسكر من مياهه الحلوة عاشقوه، وينعكس الضوء الفضي في منتصف الشهور القمرية على سطحه فتخفق القلوب التي في الصدور ولو كانت من حجر.

ضحكت السمكة الكبيرة على سذاجتها وأكملت دروسَها لها قائلة: آه، كَمْ الحياة خبرة ومصاعب ومعاناة وهروب دائم من الإنسان وغضب الطبيعة وتلوث البيئة و .. أسماك القرش.
أخشى أن تكون نهايتك في جوف تمساح يتهادى في بحيرة فيكتوريا، أو من جراء قنابل يتبادلها الجنوبيون السودانيون مع الشماليين فتنفجر في النهر وتقتل منا ما يسدّ رمق جائعين على شواطئه وفي قراه القريبة.
لا يغرنك غزل النيليين في نهرهم الخالد، فهم يلقون فيه أوساخهم ومخلفاتهم وفضلاتهم وكيماوياتهم، ويختلس صاحب المصنع في قاهرتهم نظرة ذات اليمين وذات الشمال ثم يأمر عماله بتسميم النيل بكل الدهون والأحماض والقلويات والأصباغ والنفط والزيت والمنظفات الصناعية حاملة البكتريا الضارة.
إلى أين ستهربين في نهر كان هبة الله لمن يمر عليهم، فأصبح لعنة الصراعات والسدود والكراهية وبــُــغـْـض الإنسان للطبيعة والبيئة والجمال والسحر.
إذا كان الله قد جعل من الماء كل شيء حيّ، فالانسان جعل الموت والتسمم والقذارة رديفا للماء الحيّ.
أخاف عليكِ أن تنحشري خلف سدّ يــُــكــَــلــِّـف الفقراء الإثيوبيين مليارات تساهم فيها خزينة الدولة العبرية، فإذا كان جعفر النميري عرَّابا للفلاشا السمر فقام بنقلهم إلى إسرائيل، فالهارب من العدالة الدولية، البشير، سيقف مع أحفاد النجاشي للتحكم في عدد نقاط الماء التي يشربها أو يغتسل بها أو تروي حقول من يصُبُّ النهر مياهه، أو بعض مياهه لديهم.
هنا قررتْ السمكة الصغيرة مُصارحة معلمتها حيث لا يسمع هذا السر غير دلافين تسبح بالقرب منهما: لقد فكرت في بحر الشمال، لكنني تذكرت ناقلة النفط التي غرقت أمام سواحل اسكوتلاندا وقضت على حياة ملايين الأسماك، ثم فكرت في التجول على شواطيء الأزرق الكبير الذي حلم نيكولاي ساركوزي أن يكون قبطانه وأمينه فيمنع المهاجرين الفقراء السمر من الابحار نحو جنوب أوروبا الذي يعاني من مشاكل متفاقمة، لكنني لا أتحمل مشهد شباب غرقوا وهم يهربون من مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب لعلهم ينعمون باللجوء لمالطا أو اليونان أو ايطاليا أو إسبانيا، فكانوا طعاماً دسما لأسماك القرش رغم ندرتها في البحر المتوسط. ليس هذا فقط فهناك مئة وعشرون مدينة ساحلية في حوض البحر المتوسط تصب مخلفاتها ومجاريها بدون معالجة مما يجعل مياه البحر ومياه الصرف الصحي متساويتين في الاضرار بنا.
أمامي عشرات الفرص في بحار ومحيطات وبحيرات وخلجان وإذا ضاقت بي المياه بما رحبت فأمامي فرصة الهجرة إلى خليج المكسيك أو بحر سيبريا رغم فزعي من التجمد أو البحر الأسود أو بحر إيجة أو البحر الأصفر.

لم تــُـرِدْ السمكة الكبيرة أن تصارحها بالحقيقة المُرّة وهي أن الهروب من الإنسان شبه مستحيل، فحتى التجارب النووية إذا لم يجد فرصة حرب لتجربتها ألقاها علينا في عمق المياه، وإذا اصطادنا بغير الشبكة خدعنا بالصنارة ليرفعنا إلى الأعلى وهو يهلل بهجة وسعادة ونحن نصرخ ألما ووجعاً، لو تعرض الإنسان لذرّة منه لسقط مغشياً عليه.
ودَّعــَــتها، وألقتْ قبل ذلك عليها بعض النصائح في تجنب الشواطيء، وشبكات الصيد، وأسماك القرش التي لا تختلف كثيرا في طريقة افتراسها عن افتراس الإنسان لأخيه وحليفه السابق وخصمه اللاحق.
تركتها تتعلم فالهروب من الأسماك الكبيرة أسهل كثيرا من الفرار من حيلة البشر وهم يتفنون في القتل برا وبحرا وجواً.
كانت تختزن مئات الحكايات عن الخطر في حياة قصيرة قد تنتهي في جوف سمكة أكبر أو على طبق شهي يلتهمه جائع، أو يتلذذ الإنسان بها قبل أن يستوي شواؤها فوق نار هادئة.
ألقت عليها نظرة حزينة وهي تسبح مبتعدة وألوانها الجميلة والغنية والطيفية تتلالأ في العيون، خاصة عيون البشر التي تنبهر بجمالها ثم تنتهي المسكينة الصغيرة في معدة إنسان لا يكون بالضرورة جائعا، فالرغبة في أكل الأسماك لدى البشر لا ترتبط بالحاجة أكثر من ارتباطها بلذة الافتراس، أليس هذا ما يقوم الإنسان نحو أخيه الإنسان؟
محمد عبد المجيد
عضو إتحاد الصحفيين النرويجيين
طائر الشمال
أوسلو  النرويج

حُرمة تحريم الموسيقى والغناء!

أرشيف

لو كنتُ واحداً من الذين وضعوا كتاباً رائعاً قرأه معظمُنا في شبابه وكان تحت عنوان ( اللهُ يتجلّى في عصر العلم )، لوضعت ُالمشاعر والأحاسيسَ وتشابكاتها المعقدة مع الذاكرة والعقل والجَمال والطباع كواحدة من معجزات خالق الكون جلّ شأنه.
جهاز استقبال تم صُنعه بعناية ربّانية ويعمل بكفاءة عشرين ضعفا من مليارات الخلايا التي يتركب منها ذلك الجسد المعجزة والذي نفخ الله تعالى فيه من روحه وطلب من الملائكة أن يسجدوا له، ليس شِرْكاً بالله، كما تَصَوّر إبليس لدى رفضه فأبى أن يسجد ( لمن خلقت طينا)، ولكن تقديرا لهذا العمل البديع رغم اصرار كثيرين من نسل آدم أن يكونوا في أسفل السافلين.
يجتهد كثير من المسلمين في تفريغ كل مَوَاطن الجَمال داخل النفس، بل وارجاع أسباب هذا الهدم إلى أوامر الله، عز وجل، وتأتي الموسيقى والغناء في مقدمة الأعداء لأعداء الجَمال!
تراثٌ للانسانية على مدى مئات السنين، يشترك فيه البشر ولو تخاصموا وتقاتلوا وتذابحوا بينهم فإن الموسيقى والغناء قادرة على التسلل جهرا أو خفية، وهي لا تحمل شِعارا دينيا أو طائفيا أو معاديا، وترحل بدون حدود، وتبقى آمنة وادعةً في أرَقّ مَوَاطن عمق النفس البشرية تحاول أن تستميل الطباع إلى السلام، فتفشل أحيانا وتنجح في أحايين كثيرة.
تستدر دمعتين تنزلقان على الوجه فلا تعرف لهما سبباً، ولا تَدُلّ على ضعف لكن نقاء جهاز عصبي يستطيع أن يتعرف على أعمال جدية ومبدعة تضيف إلى تراث الانسانية ما يزيده ثراءً.
المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى المطربة اليونانية فيكي لياندروس كانت في أوائل السبعينيات عندما غنت ضد الحكم العسكري الديكتاتوري ( دَعّ شعبي يمر ) فأحسست أنها صرخة في وجه كل طغاة الأرض وأحذية العسكر، وعندما زرتُ أثينا بعدها بأكثر من عشرين عاما بحثت عن تلك الأغنية فلم أجدها، وقال لي رجل يوناني متقدم في العمر بأنَّ تلك الأغنية كانت أحد أسباب الثورة والتمرد ضد الحكم الديكتاتوري.
تراثٌ يحتضنك أينما كنتَ، ويعرف طريقه إلى جهاز استقبالك العاطفي، وقد يستأذنك أو يدخل عُنوة حتى لو كان بينك وبين موطنه الأصلي بُعْدُ المشرقين.
لازلت أحتفظ بمجموعة من أغنيات تيريزا تنج الصينية ولا أفهم كلمة واحدة منها لكنني تأثرت وقتها بصوتها الرخيم الرائع، وأول أمس أعطاني صديق ألماني مجموعةً من أغاني مطربة فنلندية تغني باللغة السويدية فتقرع جنبات النفس كأنها تغني لمستمعها بصفة شخصية في مكان منعزل لا يعرفه غيرهما.
مَنْ يستطيع أن يقول بأن هناك جنسية وجواز سفر وتأشيرة دخول أي مكان في العالم لكونسرتو بيانو الخامس لبيتهوفن أو الفصول الأربعة لفيفالدي أو العالم الجديد لدفورجاك أو بير جينت للنرويجي ادفارد جريج؟
عندما أصغي السمعَ لأغنية ( الاسكندرية ) لجورج موستاكي وهو يحكي عن طفولته في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثلثُ سكانها في أوائل القرن الماضي من اليونان وايطاليا وفرنسا أشعر بحنين جارف لمسقط رأسي وأراها لا تختلف عن الاسكندرية بصوت الشيخ إمام أو كلود فرانسوا أو وصفها بقلم إدوارد الخراط أو كاميرا يوسف شاهين.
المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى ( حديث الروح ) للشاعر الباكستاني المجدد محمد إقبال كنت في العشرين من عمري ، وغنتها أم كلثوم وحَلّقَ لحنُ السنباطي في السماء قبل أن يهبط علينا بتلك الكلمات الرائعة ( أمسيتُ في الماضي أعيش كأنما .. قطع الزمان طريق أمسي عن غد .. ) .
وتستطيع هذه الأغنية أن تفعل مثل الروائح التي تظل حاضرة في الذاكرة، وكلما اقتربت من الأنف رائحةٌ مثلها استدعت كل المكان والزمان والأشخاص والألوان والأحباب وكل ما أحاط بنا في تلك اللحظة التي فتح الوجدان خلالها أوسع أبوابه لذلك النغم.
فتحملني الأغنية معها في ( المعَدّية ) من بورسعيد إلى بورفؤاد حينما استمعت إليها أول مرة منذ أربعين عاما أو أكثر.
والنغم ليس مرتبطا بالضرورة كما يروّج خصومه بفسق وفجور ولهو، لكنه لغة العواطف كما تدخل الثقافة إلى العقل فإن الموسيقى والغناء تلمس الروح دون أن يعرف صاحبها عن كنهها شيئا.
تنقلني ( أهل الهوى ) و ( سهران لوحدي ) دون غيرهما لأدق تفاصيل فترة طويلة من طفولتي ومقتبل شبابي، وعندما كنت أطل من منزلنا فتناديني جارتي في البيت المجاور قُبيل الفجر قائلة إن أباها يريدني أن اصطحبه إلى صلاة الفجر.
كان والدها الشيخ علي حلمي إمام مسجد البوصيري، وكان رحمه الله، كفيفاً، فأسير معه، وأستمع إليه، ويُصَحّح لغتي، وأقرأ له بين ألفينة والأخرى. ينتهي من صلاة الفجر، ونعود أدراجنا على مَهَلٍ وهو يتأبط ذراعي، وتهب نسمةٌ رقيقة تحمل معها ملوحة الميناء الشرقي في الأنفوشي فتُنعش الوجهَ وتقاومها رغبةٌ في النوم ساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة.
كنوز البشرية التي أبدعتها معجزة ذلك السر الرهيب الذي أودعه الخالق الرحمن الرحيم فسميناها مشاعر وعواطف ووجدانًا وفؤادًا وقلبًا، لكنها تتجمع كلها عند مصب الحب في أنظف وأطهر وأرق مكان داخل النفس الانسانية.
من الذي يحاول تفريغ النفس وإفقارها والقاءَ كنوز احتفظتْ بها في عالم النسيان بحجة أنها أوامر إلهية وأن الموسيقى حرام، وأن الصوت عورة، وأن الدين مناهض للابداع الجمالي الذي يمثله النغم؟
هل يقف المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون أمام رب العزة فيسأله العزيز الوهاب عن ذنوبه عندما استمع إلى ( وطني حبيبي الوطن الأكبر ) و( النهر الخالد) و ( زهرة المدائن ) و ( وهمسة حائرة ) و ( كونسرتو بيانو رقم واحد لتشايكوفسكي ) و ( السيمفونية الأربعين لموتسارت) و عزف منفرد على العود لأيوب طارش وأمستردام للبلجيكي جاك بريل وليه يا بنفسج لصالح عبد الحيّ؟
ما هو وجه التعارض والتناقض والتضاد في أن تقرأ آيات من كتاب الله ثم تستمع بعدها إلى عبد الحليم حافظ أو لطفي بوشناق أو ميري ماتيو أو إديت بياف أو عبد الله الرويشد أو صباح فخري ؟
هل ستُحْسَب عليك في ميزان سيئاتك تلك اللحظات الروحية المؤثرة التي تحمل معها ( حَبْلَ السُرّة ) بعدما ظننت أنه فَصَلَك عن والدتك، فتستمع إلى ( ست الحبايب ) تغنيها فايزة أحمد، وتبتسم لك أمُك ولو كانت على مبعدة ألف ميل أو حتى في قبرها الطاهر( أنام وتسهري، وتباتي تفكري، وتصحي من الآذان وتقومي تشقري)، ثم تكتشف فجأة أن صوت المرأة عورة، وأن الموسيقى حرام، وأن الغناء هو صوت الشيطان!
أي خَبَل هذا وهُراء وجفاء ووحشية تلك التي تحاول أن تقنعنا بأنَّ دين الجمال حَرّمَ الجمال، وأنّ دينَ الإبداعِ ناهض الإبداعَ، وأن دينَ الرحمة يحاربها في كل مكان؟
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا.
فتقرأ كتابك، ولكن مسلمي العصر الحديث من عشاق الفتاوى المهلهلة والفجة والسادية والقاسية والجافة يؤكدون لك أن من ضمن ذنوبك أن أذنيك بعثتا برسالة رقيقة إلى قلبك يحملها عزف بيانو أو كَمَان أو عود أو ناي أو حتى ماندولين يوناني أو تركي، ويؤكدون لك أن مشاعرك إن أرادت نغما مختوما عليه ( حلال ) فيجب أن يكون الدفّ ويشترطون عدم تزيينه بما يضيف إليه نغمات جديدة !
وتقرأ كتابك يوم الحشر ....
فيقسمون لك أن نشيد ( الله أكبر فوق كيد المعتدي ) المصاحب بموسيقى هو صرخات الشيطان، وأن حنينك لأغنية تُذَكِرك بوالدك أو شقيقتك أو حتى زميلتك في الجامعة سيُحْسَب عليك يوم القيامة، وأن عُلماء القرون الأولى أفتوا لمسلمي القرون الأخيرة وحددوا مقياس الحلال والحرام فيما تستقبل آذانهم بعد ألف عام أو أكثر.
يرفعون المصاحف فوق السيوف، ويستخرجون عنوة من الأحاديث ما يؤكدون فيه أن نبي الرحمة أرسله رب العزة ليُحَرّم علينا النغم والموسيقى، ويضع للأمة طوال تاريخها المستقبلي ولمليارات من المسلمين ما ينبغي أن يستحسنوه، أيا كانت لغاتهم وجنسياتهم وألوانهم وثقافاتهم، فهو دفٌ شرعي تسمعه أذُن المسلم الاندونيسي والصيني والسويدي والاثيوبي والبوتسواني والبرازيلي والعربي والتركي والمجري والروسي والمكسيكي فتطرب له، ولتذهب ثقافات الشعوب وتراثها وموسيقاها ونغماتها ومارشاتها وأوبراتها وفولكلورها الشعبي إلى الجحيم، فهناك عالِمٌ منذ مئات الأعوام قرر في مجلسه البعيد عن الدنيا زمنا ومكانا أن الموسيقى صوت الشيطان!
آه أيها الشيطان الرجيم كم كنتَ مخطئاً عندما ذهب بك التكَبّر والغطرسة والغرور وظـننتَ أنك بمفردك ستوسوس للانسان، وستكذب عليه، فتفَوّق عليك بأكاذيبه، ونافَسَك في القسوة، وأقام حروبا ومذابح وسَفَكَ الدماء وأغرق الأرض بجرائمه.
هل صحيح أن ( نهج البردة) و( يا ليلة العيد آنستينا) لأم كلثوم و( لحن الوفاء ) لعبد الحليم و ( عايز جواباتك ) لنجاح سلام و ( باحبك يا لبنان ) لفيروز و و( إله الكون سامحني ) لرياض السنباطي و ( الربيع ) لفريد الأطرش هي نغمات الشيطان وسيحاسبنا عليها في ميزان سيئاتنا رب العرش العظيم؟
لماذا وصل مسلمون إلى تلك النتيجة المأساوية والكارثية باعتدائهم على أخص خصوصيات المنطقة المحرمة عليهم في النفس الانسانية، أي المشاعر والعواطف والوجدانات والأحاسيس، فتلك بين اصبعين من أصابع الرحمن؟
أظن أن السببَ الوحيدَ، وِفقا لقناعاتي، أن مسلمين كثيرين لم يفهموا، ولم يستوعبوا بَعْد المعنى المتضمن لأصل الايمان المتمثل في ( الله أكبر ).
لو أن المسلم تعمّقَ في فهم المعاني اللانهائية لــ ( الله أكبر ) لقام هذا الفهم بتحصينه ضد صغائر الأمور، وحَماه من مصادرة الدين لحساب أباطرة الفتوى الذين يعتمدون في عرض بضاعتهم على إيمان غير مقصود من جماهير المسلمين أن الله أصغر ( معاذ الله )، وأنه، جل شأنه، ينتظر عشرات المليارات من المسلمين يوم الحساب ليقرأوا أمامه ذنوبهم، وسيكون منها الاستماع للموسيقى، وكشف المرأة المنقبة وجهها أمام ابن عمها، وحديث المرأة بصوت كله عورة حتى لو رَدّتْ السلام على زميلها أو طالبَت بحقوقها أو مارست حقَ المواطنة.
كارثتنا ومصيبتنا وضَعفُنا وهَوَانُنَا أمام تُجّار صكوك الغفران بدأت من هنا .. من تَصَوّر غير صحي للذات الإلهية، ومِنْ خيال لم يستوعب أنَّ اللهَ أكبر، ومن عقل آمن وترسّخَ هذا يقيناً في وجدانه أن ربَّ الكون العظيم أصغر من كل الكائنات، وأنه سيُحاسب المسلمَ الذي انتشى بنغم، وتفاعل مع كلمات راقية وشِعْر بديع زَيّنته موسيقى ساحرة وعَبّرَ عنه صوتٌ ملائكي في حنجرة مطرب أو مطربة.
حلٌّ سحري ناجع وعبقري وسهل ويجعلك أكبرَ من كل أباطرة الفتوى وتُجّار الاجابات الفجّة على الأسئلة الحمقاء وهو التأمل في معجزة المعجزات وهي ( الله أكبر ) لتعرف كَمْ ابتعد المسلمون عنها، وكيف تم تزييفُ الدين وتزوير تعاليمه لخدمة الغباء والتخلف الذهني وتصغير نور السماوات والأرض لتَقْبَل العقولُ طاعةَ عصا كل من قام بتفسير الدين ليصب في خدمة أباطرة الفتوى.
أعود للموسيقى والغناء ومعي خط الدفاع الأول عن قناعاتي ، أي ( الله أكبر )، مؤكدا لنفسي قبل الآخرين أنَّ المشاعر والأحاسيس والوجدان والفؤاد والقلب والذاكرة تحتاج كلها إلى عملية تنظيف وتطهير بانسياب روائع النغم، موسيقى وأغنيات، لتجري حول الروح كما تجري الدماء في الشرايين.
تحريم الموسيقى والغناء حرام، واعتداء على خصوصية الانسان، وتفريغ مركز الذاكرة في العقل من تلك الوشائج الجميلة التي تربط الماضي بالحاضر وتُمَهّد لمستقبل تلعب فيه استدعاءات تلك الأشياء دورا هاما في استقرار العواطف وشحن الذاكرة بالوجوه والأماكن والأحباب والحوادث ومئات الآلاف من الأشياء الصغيرة التي تقابلنا فتحتفظ بها الأنغام والموسيقى ليسهل استرجاعها في أي وقت.
أيها المسلمون: لا تصدقوا من يقول لكم بأن خاتم الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليه، كان خصماً للموسيقى والأنغام والصوت الجميل، ولا تُصَدّقوا من يقول لكم بأنَّ ربَّ الكون العظيم، اللهَ الأكبرَ، سيحاسبكم على رقة عواطفكم، وعلى رهافة أحاسيسكم، وحرام أن تُحَرّموا على أنفسكم الطيبات من رزق الروح، فالله أكبر
محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويج
طائر الشمال
Oslo Norway
 

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...