06‏/05‏/2016

آلة موسيقية تتحدث إلى مسلم!

المقال الأول كان تحت عنوان ( حرمة تحريم الموسيقى والغناء ) ..
والثاني ( بل ستسمع الموسيقى والغناء رغم أنفك ) ..
وهذا هو الثالث نترك فيه آلة موسيقية تتحدث إلى مسلم متشدد يعتبرها مزمارا للشيطان ولو كانت تطرب لها الملائكة!
أوسلو في 3 يناير 2007
من حسن حظي أن الله تعالى لم يجعل الانسان قادرا على أن يغلق أذنيه تلقائيا كما يفعل مع العينين والفم، فأنا قد آتيك من أي مكان، وأتسلل إلى أذنيك صوتا خفيضا أو نغما خافتا أو من حيث لا تدري أينما كنت ومتى وُجِدت.
يقترب مني انسان مرهف الحِس، صافي السريرة، ويربت عليّ بحنان ومحبة ودفء كأنه في حالة حب وهيام وصبابة، لكن الحقيقة أن كلمات بديعة بحروف من نور نظمتها عبقرية مبدع هي التي جعلت هذا الفنان الموسيقى يزاوجني معها ، ويكملني بها، ويستخرج من التحامنا معا عملا رائعا لا يستأذن القلب وهو يقتحمه، ولا المشاعر وهو يسبح فيها باحثا عن نقطة التقاء بمركز الذاكرة المتصل بكل خلايا هذا الجسد الذي خلقه الله فسوّاه وأحسن صُنعه.
منذ نصف قرن عثر جورج موستاكي على كلمات ( ميلور) فجعلني نغما لكلماتها نَمُر من خلال أرق واجمل حبال صوتية آنئذ. كانت لـ (اديت بياف) فعشنا معا يكمل كل منا الآخر ولا أعرف حتى الآن أذنا واحدة رفضت الاصغاء إلى ( ميلور) أو لم تستحسن تلك الرائعة الفنية المُشَكّلة من الكلمة والصوت واللحن .
لماذا تَدّعي ظلما وبهتانا أنك تنفر مني، وأنني أدعوك لعصيان الله، بل تتهمني قائلا بأنني مزامير الشيطان؟
هل صحيح أنك تقضي يومك وليلك في صلاة دائمة، فإذا استمعت إلى أغنية في القطار أو الشارع أو البيت أو لدى صديق تعطلت شعائر الاسلام التي تقيمها، وانتقصت من كمالية العبادة؟
أليس في ذاكرتك مشهد مؤثر يعيدك لأم أو أب أو حبيب غائب أو جلسة عائلية أو طفولة في أحد الأحياء فآتي أنا كآلة موسيقية في فرقة أو بمفردي، لأقوم بإحياء المشهد المطمور، وتنظيفه، وتقديمه إليك ليقف مع تلك المشاعر السامية والراقية والدافئة التي تربطك بعالمك وعائلتك وأحبابك وماضيك؟
لماذا تكرهني وأنا أحبك؟
أنت تعرف أنني طوع بنان أي مبدع يتلقى من مبدع آخر كلمات فيُحييها، ثم ينفخ فيها تلك الروحَ التي تُحلق، وتنطلق عبر الأثير فتستقبلها ملايين الآذان في العالم كله، وتتشكل منظومة عاطفية لا تعرف كنهها؟
منذ ستين عاما اهتزت أفئدة الكثيرين من الحالمين بزيارة مكة المكرمة عندما غنت أسمهان ( عليك صلاة الله وسلامه)، وظلت تلك الأغنية تنتقل بحُرّية وانطلاقة وسعادة كأنها تأشيرة دخول لموسم الحج، أو هي طبق المشهيات قبل الوجبة الرئيسة.
تريد أن تقنع المسلمين أنني في أي صورة من الصور مزامير شيطانية تحرض على الفسق والفجور، وتُميت القلب، وتلهي عن ذكر الله، أليس كذلك؟
عندما احتضنني رياض السنباطي ووضع أمامه كلمات أمير الشعراء أحمد شوقي ثم حلق بروحه وأنامله إلى أعلى وأسمى درجات تصل إليها قوى الابداع، فكانت تلك الصيحة ( أبا الزهراء قد جاوزت قدري .. ) إلى أن يقول ( مدحت المالكين فزدت قدرا، وحين مدحتك اجتزت السحابا ) .
تراها أنت صرخات شيطانية تلهي عن ذكر الله، وتُميت القلب؟
ستقول لي بأن تجنب اللهو الذي أمر به القرآن الكريم يقصد به ابن مسعود وابن عباس الموسيقى والغناء.
وأنت أغلقت العقل الذي تكرهه وتبغضه وتتجنب استخدامه قدر الامكان وتركت غيرك يديرون لك شؤون حياتك وعواطفك وسلوكياتك، ويفكرون عنك، وينقلون إليك أو تنقل أنت عنهم ما تحدثوا به منذ مئات الأعوام كأنهم كانوا معك بالأمس القريب، وأكثرهم في الواقع لم يكن يتصور مشهدا واحدا قبل حدوثه بعدة سنوات، فما بالك بعالم جديد بعد مئات الأعوام.
هل تعلم لماذا لم يفسر النبي، صلوات الله وسلامه عليه، القرآن الكريم وترك للمسلمين حتى يوم القيامة تفسيره ليناسب الزمان والمكان والظروف والفهم والثقافة والخبرة؟
لم يفسره ليمنحك حرية رفض تفاسير الآخرين ويمنع تكبيل عقلك، ويؤكد لك أنه قرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو ليس نصا مقتصرا تفسيره وفهمه ونقله على الأولين، إنما هو لهم، وهو أيضا لنا.
لماذا تغالط نفسك وتجادل بغير علم وتكذب على عواطفك برفضي واعتباري مزمارا للشيطان يؤذي به الأذن، ويحرض على الاثم، ويوسوس للطيبيين فيعصون الله تعالى؟
لو تقدمت بفكرتك وقناعاتك إلى أناس في أي مكان في الدنيا، في الصين أو تشيلي أو منغوليا أو سلوفينيا أو زيمبابوي أو مالطا أو اليونان أو أوكرانيا وقلت بأنك تحمل لهم رسالة الاسلام ما حَرّم وما حلّل، وأن الحرام في الاسلام أن يستمع أطفالكم إلى الموسيقى والغناء، وينبغي اغلاق المعاهد الموسيقية، ومنع الأطفال من الدندنة، وكسر الآلات الموسيقية في المدارس، وأن تأثم الأم التي تغني لطفلها قبل النوم، ويجب حذف الموسيقى من كل أفلام الأطفال، وأن النشيد الوطني مخالف لتعليمات الاسلام الذي تحمله لهم، وتريد أن تعرفهم به!
أغلب الظن أن مستمعيك سيرجمونك بالبيض والطماطم، وربما يقوم أحدهم بالاتصال بالشرطة، فإذا أصررت أن هذا التحريم من صُلب الاسلام وأنه تلبية لتعاليم وتوجيهات وأوامر إلــَـه المسلمين فلعل مستمعيك ينفرون من دينك ما بقي لكل منهم من عمر، وتتحمل أنت اثم كراهية الناس لاسلامك الحنيف.
هل رأيتني من قبل في صورة عود أو كمان أو بيانو أو أورج أو ناي أو ماندولين أو جيتار؟
تريد أن تطلق النار علينا جميعا، نحن الآلات الموسيقية التي صنعتها عبقرية الابداع الانساني، وتحتفظ بالدف لأنك سمعت أنه كان الآلة الموسيقية المستخدمة في شبه جزيرة العرب منذ مئات الأعوام؟
لو كان لك قلب ينبض ويحب ويتسامح، ثم استمعت إلى كونسرتو البيانو الخامس لبيتهوفن لألقيت دفك من النافذة مودعا إياه إلى غير رجعة!
هل تصدق أن هذا الدين الذي أكمل به رب العزة رسالات السماء يحدد لآذان المسلمين حتى يوم القيامة ما تستحسنه، ويلقي في عُرض البحر والنسيان والرفض ما يخترع أو يكتشف الانسان من آلات تصنع أنغاما توافق الزمن واللغة والتقاليد والعادات والبيئة وثقافات الشعوب؟

قطعا لن أقنعك بأنني لست مزمارا للشيطان إلا بقدر عمل الانسان عندما ينصت إلي، فقد يستمع القاتل والقتيل، والظالم والمظلوم، والرقيق والقاسي، والمؤمن وغير المؤمن، والأمي والجاهل، لكن النفس الطيبة أو الشريرة هي التي تأخذ من النغم هواها، فيتأثر أدولف هتلر بموسيقى فاجنر فتزيده عنصرية، ويعبر أبطال أكتوبر خط النار ويحطموا بارليف وهم يرددون نشيد الله أكبر فوق كيد المعتدي.
ألهذا الحد كرهت العقل والمنطق والجمال والابداع وتريد أن تلغيني من ذاكرة الشعوب والأمم ظنا منك أن هذا يرضي خالقها ومصورها وصانع عواطفها، ومن أحسن من الله صنعا؟.
ثم إنك تكذب حين تزايد على الآخرين وتقول بأنك تمنع أي نغمة من الوصول إلى أذنيك ومن ثم قلبك، وأنا أتذكر هذا الذي بلغ أشده من التشدد والمزايدة فكتب يقول بأنه كلما مر أمام محل تصدر منه مزامير الشيطان، يقصد الموسيقى والأنغام، فإنه يسرع الخطى، ثم يجري لئلا تدنس الأغاني أذنيه!
وهذا يعني أنه لو دخل مركزا ضخما للتسوق وكانت مكبرات الصوت تذيغ موسيقى في كل أرجائه، فإن صاحبنا سيغشى عليه ويموت بالضربة القاضية من نغمة رقيقة.
آه أيها المتزمت الصخري لو استمعت لموسيقى فرقة كلاناد الايرلندية لتأسفت على وقت لم تتعرف فيه أذناك على تلك الأنغام الرائعة التي تخترق شغاف القلب ثم تنزل فيه كأنه دارها أو مستقرها ومستودعها.
تقول بأن الموسيقى والغناء تلهيك عن ذكر الله!
وماذا عن اللغو والعبث بالوقت وأحاديث الصغائر من الأمور وقراءة الكتب التافهة والصفراء التي تنقلك من عالمك الحي إلى عالم الأموات، أليس هذا إلهاءً عن ذكر الله؟
ذِكْرُ الله إنْ لم تكن تعرف هو في الدفاع عن الحق والعدل والمساواة، وهو في رفض طاعة ولي الأمر مادام في الوطن سجون ومعتقلات، وهو في القراءة واحترام الكتاب والتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى والعلوم الانسانية.
وأن تذكر اللهَ يعني أن تحب الآخرين كلهم بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم وأفكارهم التي قد تخالف أفكارك.
وأن تذكر الله يعني أن لا تُكِفّر أحدا فتجعل حساب الآخرة لله رب العالمين ولا تقترض منه لتحاسب غيرك.
الموسيقى والغناء حرام كما تراها أنت، وتفرضها على أهل بيتك، وتمنع طفلك الصغير من بهجة ومتعة بل وتعليم في النغم بحجة أن الموسيقى صرخات الشياطين، لكن الحقيقة أنك تصنع الانسان المفخخ، والقنبلة الشبابية المؤقتة، وتُفَرّغ النفسَ من أجمل ما فيها، أي مركز الذاكرة الذي يستعيد من الماضي مشاهد وصورا وأشخاصا وأصواتا ووجوها بفضل النغم، موسيقى وغناء.
أراك ضاغطا بقوة على أسنانك الخلفية وقد تطاير الشرر والغضب من عينيك، فأنت لا تقبل أن يتم تحليل الحرام، وترى حسابا عسيرا يوم القيامة أو حتى في عذاب القبر لكل من سَوَّلَتْ له نفسه الانتشاء بنغم، والاستمتاع بأغنية، والانصات لقصيدة حب كتبها أبو فراس الحمداني منذ ألف عام وجعلتها أنا، الآلة الموسيقية، نغما يسري بسهولة ويسر ودفء وحنان إلى أفئدة تريدها أنت حجارةً من سجيل ويريدها المتسامحون رحمة من رب العالمين.
موقفك لا يعبر عن الدين، ولا يمكن أن يكون أوامر إلهية، ويستحيل أن يتلاقى أو يتناغم أو حتى يستقيم مع الطبيعة، إنما هي حالة كراهية خرجت من صُلب التزمت والتحجر والارتماء في أحضان نصوص مرت عليها مئات الأعوام، كتبها أناس لزمنهم، فسرقها آخرون لزمن لا يعرفهم ولا يعرفونه.
والذي نفسي بيده لو بعث الله ابن مسعود الذي قال بأن اللهو هو الموسيقى والغناء، ثم ذهب لحضور حفل موسيقى كلاسيكي فيه مقتطفات من جريج وشوبيرت وشتراوس وعمر خيرت ودفورجاك وفيفالدي لخرج بعد العرض مؤكدا أن بعض الموسيقى هي أصوات الملائكة.
ولو طلبت من ابن مسعود أن يستمع إلى ( دعاء الشرق ) و ( ولد الهدى ) و ( أخي جاوز الظالمون المدى ) ثم سألته إن كان هذا لهوا يضل عن سبيل الله لظنك مجنونا أو هاربا من مستشفى الأمراض النفسية والعصبية.
معركتك ضدي ستخسرها ولو التف حول تحريم الموسيقى والغناء ملايين المسلمين الذين يحاربون في المكان الخطأ، ويتركون ساحة المعركة الحقيقية في جهاد النفس، أي مجابهة الظلم، وتحديد معنى الفساد، والالتزام بالعمل ستين دقيقة في الساعة، واحترام الكتاب والثقافة، وازدراء الأمية، ومقاطعة ضباط الأمن الذين يعذبون الأبرياء، وتوجيه كل قوى الأحزاب الدينية لمواجهة المخدرات والغش والاحتيال والنصب وفساد مواد البناء واعطاء العاملين حقوقهم المادية بغير ظلم مهما صغر.
تلك هي معركتك التي تغض الطرف عنها، وتقول بأن الموسيقى والغناء تلهيك عن ذكر الله.
هل تريد أن تقول بأن آباءكم وأجدادكم وعشرات من الأجيال السابقة في بقاع الأرض كلها التي استمعت للموسيقى والغناء آثمة وسيلقي بها العزيز الجبار في جحيم سَعَر الذي تَمَيّز ناره وتقول هل من مزيد؟
إنني أشفق عليك من ذلك الغبار الذي ران على قلبك، وإنْ تعجب فعجبٌ قولك أنني صوت الشيطان ولاتزال أنامل السنباطي الدافئة والبديعة تشعرني أنه معنا بعد رحيله، فقد أمسكني كأننا توأمان سياميان لا ينفصلان، وجعل يدندن، ويعيد، ويستعيد كلمات ( إله الكون سامحني أنا حيران. جلال الكون يقربني من الحرمان ) فخرجتْ بعد ولادة عسيرة تلك الأغنيةُ الخالدة التي تربط قوةَ السماء بضعف الأرض، ورحمةَ الله بحاجة الانسان.
لم أعرف مسلما يكرهني إلا وعرفت نصف أفكاره قبل أن اسمعها، فهو يكره المخالفين، ويريد أن يمزق وجوه الكفرة، ويُعلّق العلمانيين في مشانق بالمغارب والمشارق، ويرجم أصحابَ المذهب الآخر، ويطلق الرصاصَ على معتنقي الأديان الأخرى، ويقوم بتحريم السلام عليهم والزواج منهم وتهنئتهم في أعيادهم.
لو أنك سمعت عن تسميم المزروعات وإصابة ملايين من الأطفال بأمراض وبائية فلن يهتز لك جفن، ولو تناهى إلى سمعك أن مسلما شكك فقط في أن الحور العين هن أول ثواب تحصل عليه بعد الموت فإن غضبك يتحول إلى عاصفة من الأحكام السيفية أو المقصلية التي ترى موت مخالفك هو الطريق المُعَبّد الوحيد للوصول إلى جنة الخلد.
فَسّر ما شاء لك علماؤك، وانقل من كل الأرفف ما تراكم عليها لأكثر من ألف عام، واستعن بأناس فصلتهم عن زمنك حقب وأجيال، وتمسك برأي، واستند إلى حديث ضعيف، وحطم تلك المعجزة التي وضعها خالقك الرحمن الرحيم في جمجمتك لعلك تستخدمها، وتتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وتقول ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك.
حارب الموسيقى والغناء لكنني باقية ما بقي في الانسان روح، وفي القلب نبض يزداد خفقانا كلما أرسل إليه العقل رسالة تحمل نغمات صنعها مبدع بآلة موسيقية لو عرف الأولون مثلها لتمسكوا بها، فجاء مسلم العصر الحديث يبثها كراهيته، ويقوم بتأويل آيات الكتاب المجيد مدعيا أن اللهو هو المعازف والموسيقى والغناء.
لماذا أيها المسلم تحتقر نفسك، وتقلل من شأن خبرات الانسانية كلها التي أتتك طائعة مختارة فتنتقي منها ما تشاء وتضيف إليها ما تستطيع ، لكنك تنبذ العقل، وتقفز فوق قرون عدة، وتحاول أن تعيد الحياة لكتابات في زمن غير زمنك؟
ألم تسمع قول نبيك الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، وهو يقول: ستختلفون من بعدي فما جاءكم فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فهو مني. لماذا تزدري عقلك فتستعير عقول الآخرين لتفكر عنك؟
أليس الأجدى والأجدر والأنفع والأكثر توقيرا واحتراما أن تؤمن بأن القرآن الكريم لكل زمان ومكان، وتفسيره يقوم به المسلمون لزمانهم؟
معركتك ضدي خاسرة ولو أطلقتَ الرصاصَ على كل الآلات الموسيقية التي تراها، فأنا باقية ما بقي العقل والفؤاد والمنطق والتسامح والحب والايمان مراجع للبشر في التعرف على نعمة الخالق.
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج

أنا حمار لأنني صَدّقت الرئيس علي عبد الله صالح!

أرشيف
 
كنت أظن دائما أنني قادر على قراءة السطور وما بين السطور.
لم أصدّقه عندما قال لوفد كويتي بأنه واثق من عدم وجود حشود عراقية على حدود الدولة الجارة الصغيرة.
لم أكن في حاجة شديدة لاجهاد العقل حتى أكتشفت مسرحية الاتصال بصدام حسين قبيل الغزو العراقي للكويت، وبأنه تلقى تأكيدات من القائد المهيب بسكون القوات العراقية وصمتها وابتعادها كثيرا عن حدودها الجنوبية.
وهل كنت في حاجة لاستخدام المنطق والاستدلال المسبق لمعرفة موقف رئيس الوفد اليمني في مجلس الأمن الذي وقف موقفا عاريا ( من العار وليس من العري ) خلال تلك الفترة السوداء التي انشق فيها العرب بين مصفقين لشيطان بغداد، وبين خائفين على الصف العربي بعد يوم الغدر .. الثاني من أغسطس 1990.
 
كنت أجهل تماما أن القات قادر على رفع نسبة الذكاء والدهاء أضعافا مضاعفة، وأن تخزينه في فترة ما بعد الظهيرة يكسب صاحبه أسنانا صفراء، وقدرة على خداع الآخرين ولو كانت عقولهم آينشتانية.
كانت أموال الكويت تتدفق بسخاء شديد على اليمن السعيد، وتلقت جامعات اليمن وسدودها وزراعاتها وهيئاتها الخيرية والاسلامية وحكومتها هبات الشعب الكويتي الذي لا يعرف شماله ما أنفقت يمينه.
وكان من المفترض أن تصبح اليمن امتدادا للكويت فجر الثاني من أغسطس، وأن يعلن الرئيس مدى الحياة علي عبد الله صالح أن احتلال الكويت هو احتلال لليمن.
دهاء الرئيس علي عبد الله صالح لم يشهد مثله تاريخ اليمن الحديث، فظن الجنوبيون أنهم يستطيعون بما يملكون من خبرة ماركسية وتاريخ عريق في الأزمات أنهم سيقفون على قدم المساواة مع الشماليين إثر الوحدة الكبرى.
وفتح الرئيس كل الأبواب للقادة الجنوبيين، وجعلهم يحلمون بقيادة اليمن من صنعاء، وبأن كل واحد منهم سيصبح الأب الروحي للوحدة اليمنية، وربما يتنازل الرئيس علي عبد الله صالح لأحد قيادات عدن.
ودخل القادة الجنوبيون عش الزوجية، وتمتعوا بشهر العسل، وظنوا أنهم أصحاب البيت وليسوا ضيوفا.
وجاءت مذبحة المماليك على الطريقة اليمنية، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل صنعاء من باب عدن فهو أكثر آمنا، لكنه لن يخرج منها إلا إلى المنفى.
كان الرئيس قد أخفى كل اختبارات الذكاء خلف مظهر طيب وشبه ساذج فبدت الوحدة اليمنية للقادة الجنوبيين كأنها جلسة تخزين تنتهي قبل غروب الشمس، وينفض كل ضيف إلى حال سبيله.
كل الذين وقفوا مع الجنوبيين في حرية اختيارهم لفض الوحدة تراجعوا، واعترفوا بعاصمة واحدة ليمن واحد وزعيم أوحد لو بُعِثَت ملكة سبأ من جديد لقدمت له ولاءها وطاعتها دون حاجة لهدهد أو هدية يفرح بها رئيس الشمال والجنوب والشرق والغرب.
بدت مني ابتسامة تهكم عندما علمت بأن أعضاء حزب الغد(أيمن نور) توجهوا لسفارة اليمن في عاصمة المعز للتهنئة برفض قبول الرئيس علي عبد الله صالح تجديد الترشيح مهما كانت الظروف.
لم أصدق أن زعيما عربيا يمكن أن يقلد سوار الذهب فيتنحى، ويعود إلى أهله وجيرانه وبيته القديم، ويتسوق كبقية خلق الله، ويقف في الزحام، ويدفع فاتورة الماء والكهرباء والهاتف، ويشكو من ارتفاع الأسعار، ويبيع سيارته ليشتري سيارة رخيصة.
 
فجأة وجدت نفسي مشدودا أمام مؤتمر شعبي يجلس فيه الرئيس علي عبد الله صالح محاورا، وناهرا، وناهيا، وحاسما في كلماته بأنه لن يجدد لنفسه، ولن يترشح ولو شج كل يمني رأسه في الحائط حتى يتدفق الدم منه.
أخيرا صَدّقْت الرئيس!
لا يمكن أن يكذب، وكانت كلماته كأنها تنزيل من التنزيل.
من المستحيل أن تكون تلك مسرحية، فذكائي الذي أثق به يؤكد لي أن في كلمات الرئيس اصرارا عجيبا على عدم الترشح، فهو يبحث عن جيل جديد، ويعطي الفرصة لغيره، وهو رجل عهد ووعد خاصة وأن العالم كله يشهد هذا المؤتمر الذي يعطي فيه الرئيس اليمني لزعماء الدنيا درسا في اصرار سيد القصر على تسليم الحكم بعد ثمانية وعشرين عاما لآخرين لعل دماء جديدة تسري في شرايين الوطن .
حدثتني نفسي مازحة بأن الرجل قد يكون ممثلا ماهرا ومحترفا في مسرحية تصغر بجانبها ( الزعيم ) لعادل إمام.
أبعدت الفكرة فورا عن ذهني، وتسمرتُ أمام الشاشة الصغيرة كما يفعل المراهقون وهم يشاهدون مذيعات العربية والجزيرة والام بي سي خاصة إذا كان الصدر لبنانيا عاريا ( من العري وليس من العار )، ثم ألقيت بكل ثقتي على ما ظننته حتى تلك اللحظة ذكاء وخبرة ومتابعة للسياسة العربية.
قلت لمحدثي وكأنني أمسك اليقين كله بين شفتي: هذه المرة سيرفض فيها الرئيس علي عبد الله صالح كل الدعوات والاستجداءات بأن يستمر رئيسا لولاية جديدة ولو جرت دموع اليمنيين ليفيض بها سد مأرب.
تذكرت الرؤساء أحمد عبد الله صالح، وسيف الاسلام القذافي وجمال مبارك، لكنني واثق بأن زعيم اليمن لن يتزحزع قيد شعرة عن قراره واصراره وحسمه وحزمه.
طاردتني فكرة الظن السيء بسيد اليمنيــّــن، لكنني رفضت التوقف عندها لبرهة واحدة، فأنا لست حمارا يتابع فخامته ولا يفهم الجدَّ من الهزل.
وكالات الأنباء تتناقل الخبر كأنه نقلة حضارية عربية للامساك بركب الديمقراطية ولو بعد ثمانية وعشرين عاما. آه لو عرفتْ ملكة سبأ أن الجن والإنس والنمل ما كانوا يُكَذّبون الرئيس لو حضروا هذا المؤتمر.
وجاء الخبر الفصل، وأخرج الرئيس لسانه لي من الشاشة الصغيرة قائلا وهو يضحك ملء فمه: هل عرفت الآن أنك حمار؟
 
 محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 24 سبتمبر 2006

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...