حوار بين قملتين في شعر رأس صدام حسين!
طائر الشمال في فبراير 2004هذا المقال قمت بنشره إثر القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأعيد نشره الآن في ضوء الأحداث المتلاحقة منذ كتابة المقال.
التقت قملتان في شعر رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين وجرى بينهما حوارٌ طويل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وكل شؤون وهموم عراق الرافدين, والتقطنا بصعوبة بالغة جزءاً من حوار القملتين, فالقاذورات والأوساخ في الشعر الأشعث للرئيس الأسير حجبت الكثير من حديثهما. قالت الأولى بعد أن امتصت نقطةَ دم مليئة ببقايا نيكوتين السيجار الكوبي الفاخر الذي اعتاد المهيب أن ينفثه في وجوه ضيوفه قبل التاسع من أبريل:ما هذه الضجة والأضواء المسلطة على مساكننا منذ الصباح الباكر؟ قالت الثانية وهي تجاهد لعبور ممر بين شعرتين لزجتين لم تعرفا الماء منذ وقت طويل:أظن أن كاميرات تصوير أمريكية يتم نصبها لاخراج مسرحية يعجز الجن والانس عن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا!
ردت الأولى وقد تملكها الفضول: هل سيغسلون شعر الرئيس ونغرق نحن وأولادنا وأقاربنا الذين شعروا بالأمان منذ عدة شهور, فلا ماء يزيحنا، ولا صابون يقضي علينا، ولا منظفات تقتلنا أو أسنان مشط تطاردنا في جذور هذا الشعر الأشعث القذر؟ قالت الثانية: الأمر بمنتهى البساطة أن الأمريكيين سيلتقطون مئات أو آلاف من الصور للرأس البائسة التي نعيش فوقها منذ عدة أشهر, وسيختارون من بينها عدة لقطات خاطفة تضرب كل العصافير بحجر واحد. قالت الأولى وقد ازداد فضولها: هل تقصدين أن الامتهان والاذلال لن يكونا فقط من نصيب صدام حسين، ولكن الخبراء الأمريكيين سيتعمدون أن يقرأ الرسالة كل من يهمه الأمر، ويظن أنها موجهة له على وجه الخصوص؟
ردت الثانية بابتسامة ذات مغزى: نعم ، هذا هو المطلوب, وحتى العراقيون الذين سيخرجون مبتهجين باعتقال شيطان بغداد كما يخرج الليبيون تماما كلما أوغل العقيد في اذلالهم، لن يفهموا الرسالة قبل وقت طويل. فأمريكا سرقت منهم النصر، ولم تخلصهم فقط من صدام حسين، لكنها منعت عنهم مشاعر البهجة الحقيقية عندما يقع صدام حسين بين أيديهم بدلا من أن يدوس فوقه جندى أمريكي بحذاء عتيق وهو يمضع العلكة, ويلعب دور رامبو في حادث سيظل لقرون لاحقة مطاردا خيال كل من يقرأ التاريخ بعيون جديدة. قالت الأولى: ولكن القصة الحقيقية لعملية القبض على صدام حسين لا يعرف عنها شيئا المؤيدون والمعارضون على حد سواء, وستظل لغزا محيرا لن يفكه إلا فصل هام في كتاب قد يصدره واحد من الذين اشتركوا في اخراج المسرحية, سواء كان من الجنرالات أو رجال المخابرات الأمريكية, وحتى ذلك الحين فالرواية الأمريكية هي الوحيدة المعترف بها إعلاميا وعسكريا وحتى الفضائيات العربية لا تستطيع أن تقص على مشاهديها جوانب أخرى، فالصور التي تم توزيعها على كل ركن من أركان الأرض والأقمار الصناعية آتت أكلها ضعفين. قالت الثانية: أيا كانت الحقيقة التي لا يعرفها إلا الجانب الأمريكي، فإن المشهد الجرذي لرجل كان إلى عهد قريب على استعداد لأن يظن حقا أنه في مرتبة أرفع قدرا من البشر الآخرين قد دخل التاريخ من باب أسوأ من الباب الذي دخل منه عبد الله الصغير منذ خمسة قرون أو يزيد.
قالت الأولى: هل تظنين أن العراقيين قادرون على إعادة تأهيل جمهورية الخوف وجعلها نموذجا للديمقراطية والعدالة والمساواة في العالم العربي؟ فضحكت القملة الثانية حتى سمعت قهقهتها كل الحشرات التي اتخذت من رأس الزعيم ملاذا لها وقالت: لقد سمعت بالفعل أن المثقفين العراقيين أغرقوا صفحات الصحف والمجلات بمقالات تبدو كأنها دروس في تعليم العرب أصول الديمقراطية، وبأن العراق الجديد سيصبح أول دولة عربية تلقن أبناء الضاد أصول الحرية والعدالة والأمن والسلام والعلم والادارة, وبأن حالة من التعالي والفوقية سادت أحاديث العراقيين وكأن لهم فضلا واحدا في اسقاط حكم شيطان بغداد.
وهزت القملة الأولى رأسها الصغير مبتسمة ثم قالت: ولكن الوضع الآن بدأ يتجه في الناحية المعاكسة, فجمهورية الخوف لم تكن حالة خاصة بصدام حسين في عهده فقط, لكنه تمكن من العبث في النفوس والعواطف, وألقى بذرة الطائفية لعلها تزرع فتنة بعد غيابه, وجعل الرعب والشك والعنف ورائحة الدماء ورغبات الانتقام مشاعر تتقدم ما عداها من مشاعر وأحاسيس أخرى. قاطعتها الثانية لتسأل عن عبقرية المقاومة التي لم تظهر في عهد صدام حسين, ولم يعرف العراقيون فلسفة الانتحار من أجل الوطن, فأين كانت تلك الشجاعة عندما جثم الشيطان أكثر من ثلاثة عقود فوق صدر الشعب العراقي؟
نظرت القملة الثانية خلفها ثم همست قائلة: لقد خَفَّتْ كثيرا حدة الصيحات العراقية الموجهة ضد العرب والتي كانت تتوعدهم بالويل والثبور إن لم يحذوا نهج العراقيين, وكأن قرار ازالة النظام البائد جاء بتوجيهات من السيد الدكتور أحمد الجلبي المطلوب للعدالة الأردنية بتهمة النصب والاحتيال, أو من مضر شوكت نائبه الذي يطالب بمنافذ بحرية عراقية من الكويت الحرة والمستقلة منبها إلى أن كوابيس الهوس بضم المحافظة التاسعة عشرة إلى جمهورية الفوضى والعنف لا تزال تحلق في خيالات الطامعين في الدولة الصغيرة الآمنة والمسالمة. ظهر الفزع على القملتين من جراء الهرش المتواصل للرئيس صدام حسين بأظافره الطويلة القذرة، لكنهما لم تصابا بأي أذى, ثم أردفت الثانية بعد هنيهة من الصمت: لماذا يقبل العراقيون كل أنواع الاذلال والمهانة والقمع والقهر من جانب جنود الاحتلال؟ تحركت القملة الأولى حركة دائرية باحثة في غابة من القاذورات اللزجة عمن يتنصت لحديثها, ثم ظهر على وجهها عبوس قمطرير وقالت لصاحبتها: إنها المعضلة الأكثر تعقيدا وتشابكا في النفس العراقية, فطول فترة الحكم البعثي, وسيطرة العوجيين التكارتة على كل زفرة نفس تطلقها رئة عراقي مسكين جعلت العراقيين يوزعون حلوى في الشوارع ترحيبا بالاستعمار الجديد, فكل أنواع الذل تهون بجانب سنوات حكم الرجل الذي نسكن الآن في شعر رأسه, ونتغذى من دمائه. فقاطعتها صاحبتها متسائلة عن معنى العوجيين وهل هم العلوج؟
صمتت القملة الأولى قليلا وظهر على ملامحها خوف شديد عندما سمعت خرير ماء فظنت أن الرئيس الأسير سيغسل شعر رأسه, لكنها عرفت أنه يتناول كوبا من البلاستيك غير النظيف به ماء لعله يروي به بعض عطشه. ثم انتفضت قائلة: هل تظنين بسذاجتك أن هبوط طائرة في مطار بغداد, وصعود رجل الإعلام الأول وعائلته وأموال نهبها ووثائق مهربة قد يكون بمعزل عن موافقة أمريكية في صفقة قذرة تهتز لها أرواح الشهداء من العراقيين والرهائن الكويتيين؟
قالت القملة الثانية ولا تزال الدهشة تعلو وجهها: وهل هي الصفقة القذرة الوحيدة في حرب إزالة النظام؟ إن الأسرار التي لم يتم الكشف عنها منذ بداية الغزو العراقي للكويت وحتى هذه اللحظة تملأ مجلدات بطول شط العرب وعرضه، وما رآه الناس حتى الآن ليس إلا سطح جبل الجليد. قالت الأولى: هل تعرفين أين نحن الآن، في سجن مطار بغداد، أم في قاعدة أمريكية بالدوحة، أم في مكان بعيد تماما عن المنطقة؟
ردت الثانية: ليس المهم المكان, لكن الأهم هو أن يوحي الأمريكيون إلى العراقيين بتثبيت مشاعر الدونية والشكر الدائم لتخليصهم من شيطان بغداد, وبأنهم لا يملكون حقا من الحقوق ما لم يحظى على الرضاء الأمريكي, أو يأتي مِنّة أو منحة أو عطاء مهينا لشعب الرافدين وسليل ثاني أقدم حضارات الأرض! بدا أن القملة الأولى لم تستوعب ما تعنيه صاحبتها, ففهمت الأولى أنها تريد المزيد من الايضاحات فأردفت قائلة: هل قُدّر لك مشاهدة صور اللقاءات الأمريكية العراقية سواء كانت لدى تفتيش بيت به أطفال ونساء وشيوخ مسنون، أو اعتقال بعض المارة، أو تقييد الأيدي والأرجل وتغطية الوجه بأكياس بلاستيك، أو ترك العراقيين على بطونهم فوق رمال حارقة، أو حتى الصورة التي نشرتها صحيفة ( داج بلادا ) النرويجية لجنود أمريكيين يسخرون من ثلاثة عراقيين وهم يقفون أمامهم في شارع مكتظ بالمارة وقد أمروا بخلع ملابسهم كلها ووقفوا يغطون عوراتهم بأيديهم وجنود اليانكي يتغامزون ويتضاحكون؟
قالت القملة الأولى وقد بدا عليها التأثر: إنها إذاً عملية ترويض العراقيين، وكسر شوكة الرافضين، وإعادة صناعة الاستعمار على نهج جديد يذكرنا بتاريخ جلب السود من مواطنهم الأفريقية, وتعليمهم فكرة الاستعباد والاسترقاق والعلاقة بين السيد والخادم, أليس كذلك؟ لم تقتنع القملة الأولى بطرح صاحبتها، زميلة المشاركة في شعر رأس الرئيس الأسير، وقالت لها: ولكن الأمريكيين حرروا العراق من أشرس الأنظمة المستبدة طغيانا وكفرا، وأكثر العراقيين مولعون بجنة العم سام، ومتيمون حبا بالمُخَلّص في بيته الأبيض ومكتبه البيضاوي، وتسعة من كل عشرة عراقيين يتعاونون مع قوات التحرير والاحتلال ( وهل هناك فارق ؟) ويتمسكون بالوجود الأمريكي فضلا عن حالة من الانسجام في الجنوب بين قوات الاحتلال البريطانية وسكان المناطق المحتلة! في هذه اللحظة بالذات سُمع دوي عنيف قادم من ناحية الضفة الأخرى لنهر دجلة، فسرت قشعريرة رعب في الجسدين النحيلين، ولكن القملة الثانية تجشمت عناء الحديث وهي ترتعش وقالت لصاحبتها وهي تحاورها: هذه هي العملية الثامنة منذ صباح اليوم الباكر، والأمريكيون يقولون بأن المقاومة تقوم بأكثر من عشرين عملية مضادة ضد قواتهم تتراوح بين اسقاط طائرات هليكوبتر وتفجير سيارات وذبح جنود وهم يقفون على قارعة الطريق واطلاق صواريخ على ثكناتهم، ويبدو أن النعوش الطائرة التي تسجى داخلها جثث الجنود الأمريكيين ستجبر الشعب الأمريكي على فتح كشف حساب مع حكومته لمعرفة حقيقة الخسائر، وهل يستحق تحرير العراقيين الثمن الباهظ الذي يدفعه الشباب الأمريكي من أجل محاربة الارهاب وتسخين صناديق الانتخابات المقسمة بين الديمقراطيين والجمهوريين؟
قالت القملة الأولى بعد أن هدأت قليلا: كيف ذهب الظن بك أن ليس هناك عشرات من أسباب التدخل الأمريكي بعد سنوات طويلة من الحصار والجوع والمرض والفقر وإطالة عمر النظام والقضاء على انتفاضة مارس عام واحد وتسعين؟
ألم تكن واشنطون تعرف أن رأس الرئيس الأسير التي نعيش فوقها الآن أوهن من بيت العنكبوت, وأن جيشه الذي انسحب من الكويت كان من ورق مقوى ولا يحمل أي من أفراده ولاء للزعيم المهيب؟ ردت الثانية قبل أن تدخل صاحبتها في متاهات لا حصر لها: هل لك أن تذكري لي بعض الأسباب التي تشكك في نوايا التدخل الأمريكي بعد أن عجزت كل الأنظمة الأخرى والمعارضة العراقية وأربعة ملايين مغترب وجامعة الدول العربية وكل جيران العراق؟ ابتسمت القملة الأولى ابتسامة فيها مزيج من السخرية والدهشة على جهل صاحبتها بالنوايا الأمريكية غير المعلنة وقالت لها:ألا يكفي وضع اليد على ثاني أكبر مخزون نفطي في العالم ليكون مقدمة لعشرات الأسباب الأخرى؟ لقد انتهت إلى الأبد أسطورة سلاح النفط، ومن يتابع الافراج عن الوثائق البريطانية بعد ثلاثين عاما لا يخالجه أدنى شك في أنها ليست عملية عبثية، لكنها مرتبطة بالمصالح البريطانية الآنية، وعندما أفرجت عن وثائق مؤخرا تؤكد التفكير الأمريكي الجدي في احتلال السعودية والكويت عقب استخدام سلاح النفط خلال حرب أكتوبر عام 73، كانت الرسالة موجهة إلى كل زعماء المنطقة، فأمريكا لا تفقد مئات من شبابها وتنفق مليارات من اقتصاد يعاني العجز، وتقنع الادارة الحاكمةُ أعضاءَ مجلس الشيوخ بأهمية الحرب على مبعدة آلاف الأميال من مركز التجارة العالمي المنهار إلا إذا كانت المصالح الأمريكية تعادل عشرات الأضعاف من الخسائر التي يتكبدها الجيش والخزانة العامة ودافع الضرائب.
تنفست القملة الأولى قليلا ثم أكملت قائلة:العراق هو المكان السحري والمناسب للتواجد الأمريكي ولو خسرت واشنطون عشرة أو عشرين ألفا من أفضل شبابها وشاباتها، فالأمريكيون على مرمى حجر من الجمهورية الاسلامية التي ستهدد إن عاجلا أو آجلا أمن إسرائيل، وطهران ستتلقى فوق رؤوس أهلها قذائف وحمم من أحدث ترسانات السلاح الأمريكي, وسيحلف الايرانيون برحمة الزلازل المدمرة والأكثر رأفة من قسوة اليانكي، وسوريا ستتعلم الدرس العراقي منا نحن القمل والحشرات التي تعيش وتتغذى في شعر رأس أمين القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي فرع بغداد المنحل، وأنقرة لا تكترث لأمر آخر غير منع قيام دولة كردية على حدودها تثير المتاعب، وتكون الملاذ الآمن للأكراد في تركيا، والعصر الصهيوني سيبدأ هيمنته على مقدرات العالم العربي وسيقوم زعماء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة( مع الاعتذار لروح ميشيل عفلق ) بالوقوف صفا واحدا أمام الكنيست يقدمون فروض الطاعة والولاء، ويطلبون من الدولة العبرية أن تعلمهم مباديء الديمقراطية والحرية وكرامة المواطنين بطلب من موظف صغير في وزارة الخارجية الأمريكية.
أردفت القملة الأولى بعد أن أرهقها اجترار ذكريات مُرَّة عن تاريخ التدخل الأمريكي في لبنان والصومال وفيتنام وكوريا وبنما ونيكاراجوا وعشرات غيرها من الأماكن المحتقنة في العالم: اختلاط الحلم الأمريكي بالكابوس جعل العراقيين غير قادرين على التمييز بينهما أو فصلهما فالعراقي المعارض للاحتلال يعرف أن الأكثر سوءا ينتظره في حالة الانسحاب الفجائي لمحرريهم ومحتليهم، والعراقي المتيم بحب المارينز والهامبورجر والجرين كارد وتمثال الحرية يعلم أن مقدرات وطنه لم تعد في يده، وأن كرامته يحددها شخص غريب قادم من العالم الآخر وأن سجن أبو غريب في عهد الطاغية اللعين لا يقل عن جوانتانامو في كوبا أو العراق في عهد الحرية التي بشر بها جورج بوش الابن. قالت لها القملة الثانية وهي تعبث بنقطة دم خارجة من جرح إثر الهرش المتواصل للرئيس الأسير في فروة ٍرأسه: لكن الحرية في أن يحكم العراقيون أنفسهم بأنفسهم! ردت عليها صاحبتها وقد احتدت غاضبة: يبدو أن طول فترة وجودك في شعر الرئيس، التي لا يعرفها أي عربي من البحر إلى البحر، قد أنستك التركيبة العشائرية والطائفية في العراق والتي اختلطت بمظالم وقعت على كل الأطراف، بنسب متفاوتة، لكنها صبت في النهاية في خدمة الطائفية دون أن يحتاج العراقيون للجنة دستورية لبنانية تعلمهم كيفية تقسيم الوطن بين شركائه على أسس عنكبوتية واهية وهشة وضعيفة.
ثم أردفت القملة الأولى بعد أن أخذت شهيقا طويلا: هل خطر في ذهنك حوار لحظات ما قبل تفجير سيارة قبالة مسجد بُعيد صلاة الجمعة وهو يدور في عقل ونفس وفكر القاتل المسلم العراقي؟ تلك واحدة من آلاف الجرائم الكبيرة والصغيرة التي قام بها عراقيون ضد عراقيين في أحلك فترات عصرهم الحديث! .. إنه نفاذ إلى أعماق العدم الأعمى ليقرر الجزء الأكثر عفونة في النفس البشرية وهي في لحظات أسفل السافلين أن دماء المصلين والأبرياء والمارة والأطفال والنساء حلال سفحها على مذبح الوطن، وامعانا في الازدراء يقرر القاتل عدم الافصاح عن نفسه أو وجهه أو أيديولوجيته أو أهدافه.
قالت لها القملة الثانية محاولة تهدئتها: أرجوك يا زميلة شعر الرئيس التخفيف من ثورتك وغضبك العارم فالمقاومة العراقية حق مشروع وقد أنزلت بقوات الاحتلال خسائر فادحة حتى الآن، ولعله قد بلغك أن نسبة الانتحار بين الجنود الأمريكيين قد بلغت ذروتها، وأن ليس كل مقاوم مؤيدا لصدام حسين أو عضوا سابقا في حزب البعث العربي الاشتراكي أو له مصالح خاصة في عودة جمهورية الرعب.
ردت الأولى وقد خفت حدة انفعالاتها قليلا: لم نختلف في حق المقاومة، لكنها عملية إبادة يقوم بها مواطنون ضد مواطنين، فإذا كان الهدف جنديا أمريكيا فلا حاجة لقتل عشرة عراقيين يمرون بجانبه. ثم إن السيارات المفخخة تأخذ أيضا طابعا طائفيا وكأن ملك الموت مضطر لاصطحاب زبائنه من أبناء طائفة بعينها، اليس كذلك؟ قالت صاحبتها وقد قرأت ما بين السطور قبل أن تكمل القملة الأولى الجملة ... أزعم أنك تقصدين شيعة العراق الذين وقع عليهم ظلم فادح، وتم تجفيف أهوارهم، واخماد ثورتهم الرائعة في مارس عام واحد وتسعين بعد أن قام جنود الطاغية بما يخجل منه هولاكو وبول بوت، فقد كانوا يلقون الأطفال الرضع من فوق مآذن المساجد، ويلعبون الكرة برؤوس الأطفال أمام أمهاتهم، وقام النظام الفاشي وأغلبه من أتباع المذهب السني بأغلظ وأقسى وأشرس المذابح ضد الشيعة والأكراد. قالت القملة الأولى بسرعة خشية أن يذهب الطرح الطائفي في غير محله: لكن المقابر الجماعية لم تفرق بين العراقيين وفقا لمذاهبهم، والنظام التكريتي لا يقيم وزنا للدين والمذهب والخلافات في الفهم العقائدي، وضحاياه من السُنّة لا يقلون بأي حال من الأحوال عن أعداد ضحاياه الشيعة والأكراد والتركمان وغيرهم.
قالت الثانية: لماذا إذاً قبل العراقيون في مجلس الحكم الانتقالي الذي يحركه بول بريمير بسبابته أو خنصره أو طرف عينه تقسيما طائفيا يكرس مستقبلا مظلما لوطن تولى فيه الرئاسة لبعض الوقت محتال شهير ( وفقا لأجهزة العدالة الأردنية ) وقامت قوات الاحتلال التي تحميه بتهيئة زيارته للمجرم صدام حسين في سجنه وكأن الوطن المذبوح يحتاج لمشهد مستقبلي بأثر رجعي ليتعرف العراقيون عما ينتظرهم؟ تحركت القملة الأولى للخلف قليلا وكأنها خائفة من أظافر الرئيس الأسير وهي تعبث بشعر رأسه الذي يشبه الكلوشاريين في محطات مترو أنفاق باريس، ثم عادت لتقترب من صاحبتها وهمست قائلة: لقد اختار العراقيون أن لا يختاروا، فكان لابد من أن ينصتوا إلى رئيس الادارة المدنية، ويطيعوه كأنهم ليسوا مواطنين أو اصحاب حضارة، وهو الذي يحدد لهم نسب المشاركة الطائفية والقبلية والدينية، وأن لا ينبس أحد من رجاله الجدد في المناصب القيادية ( ظاهريا ) ببنت شفة فيما يتعلق بالاذلال والقمع والقهر والسجون والظلم الواقع على الشعب من جراء قسوة وغلظة واستعلاء جنود الاحتلال.
إنها، يا عزيزتي، صفقة خسر فيها كل العراقيين الوطن والمستقبل والثروة والأمن والأمان والاستقلال ، وربحت فيها أمريكا بعد سنوات طويلة من الحصار والتجويع وقتل الأطفال موقع قدم ثابت في نفط العراق، وضرب منظمة أوبك على قفاها، وتثبيت الدولار المنهار كعملة خضراء مريضة مقابل الذهب الأسود، وتعليم الحكام العرب بأن من لم يجثو على ركبتيه أمام سيد البيت الأبيض يتلقى درسا مباشرا، أو بالوكالة من تل أبيب ( وهي غير الوكالة لمحمد البرادعي )، وهكذا ظهر مهرج الخيمة وهو يتعرى ويرجو الأمريكيين أن يفعلوا ببقايا جماهيريته ما يشاؤون شريطة أن يتركوه عميلا وقحا يقدم لهم أسرار العرب والأفارقة والمنظمات الثورية وأصدقائه ومن وثقوا به! قالت الثانية متعجلة مزيدا من شروحات صاحبتها: أليس هناك بصيص أمل ونور في نهاية النفق المظلم؟
اعتدلت القملة الأولى وهي تجلس فوق جذر شعرة ثابتة في رأس الرئيس الأسير: هل تعرفين مالك بن نبي؟ إنه مفكر جزائري رحل عام ثلاثة وسبعين وكانت له مؤلفات عن شروط النهضة ومنها ( فكرة كومنولث إسلامي) و ( مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي )و ( مذكرات شاهد قرن )و ( في مهب الريح )، وكان أهمها على الاطلاق كتابه ( الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) والذي نبه فيه إلى أهم قضيتين لا تزالا غائبتين عن الوعي الشعبي والفكر الثقافي وهما صناعة البطل، والقابلية للاستعمار. هتفت القملة الثانية بسرعة وكأنها تريد أن تثبت لصاحبتها أنها تستوعب ما تقوله: تقصدين أن صناعة صدام حسين قام بها الاستعمار، وأن البطل المصنوع تولى بنفسه تثبيت مشاعر القابلية للاستعمار لدى الشعب العراقي؟
ابتسمت القملة الأولى وتحركت بحذر فوق نقطة دم حديثة لا يدري المرء إن كانت من آثار جرح أو أظافر الرئيس الأسير أو بثور جرب من جراء الأسر الطويل ( وفقا لبعض الروايات غير اليانكية) أو قذارة الجحر الجرذي( حسب الروايات الأمريكية التي تتناقلها الفضائيات ووكالات الأنباء الببغاوية كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من أنوار الكتب المقدسة)، وقالت: هذا بالضبط ما أعنيه، فالعراقيون كلهم على اختلاف مشاربهم وقواهم وقربهم أو بعدهم من الوطن الأم من مثقفين ومغتربين وجنرالات حرب ومفكرين وأكاديميين ورجال دين متمردين وصانعي سيارات مفخخة ومقاومين ومجرمين وقتلة ومخلصين وشجعان قد أجمعوا كأنهم في استفتاء ( نعم ) لاعادة انتخاب زعيم عربي أو ابنه أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا تزال هي القوة العظمى والوحيدة القادرة على ازاحة الفاشي التكريتي ونظامه، وتلك مشيئة سيد البيت الأبيض ولا راد لقضائه! اعتدلت القملة الثانية في وقفتها وسألت صاحبتها وكأنها تريد أن تطرح آلاف الأسئلة قبل أن يغسلوا للرئيس الأسير شعره بمنظفات تنهي حياة كل القمل والحشرات التي سكنته منذ وقت طويل: لقد لاحظت أن كل العراقيين المغتربين والذي كانوا مفعمين بالأمال والأحلام لمستقبل عراقي مضيء ومشرق، عادوا بعد زياراتهم للوطن المحرر المحتل وهم يتحدثون عن سراب الحرية، وانفلات الأمن، واهدار آدمية العراقيين من قبل قوات الاحتلال، وانفجار مخزون الغيظ والغضب واليأس والكراهية فكان العبث بسلام العراق، وحروب التصفيات الطائفية، واكتساح الفكر الاستعلائي الديني على أصحاب الديانات الأخرى فقام متطرفون بمطاردة وقتل عائلات مسيحية بأكملها، وتولى آخرون مهمة اكتشاف الاسلام من جديد في النقاب والحجاب واغلاق دور السينما ومطاردة الفنون وغض الطرف عن مئات الالاف من التجاوزات الأخرى ، فالتطرف الديني لم يستطع في كل البلاد والأوقات والظروف أن يجد مدخلا آخر له غير التدين الجنسي، وحصر الاسلام الحنيف في مشكلة المرأة والاختلاط وتغطية شعرها.
قالت الأولى: ذلك مختصر للمشهد العراقي، لكن التفاصيل الحياتية اليومية ستجعل المشهد المستقبلي جحيما لا يطاق ولو نقلوا البيت الأبيض إلى قلب بغداد، والواضح أن ملايين العراقيين المغتربين صرفوا النظر عن حلم العودة واستعدوا لاقامات طويلة ودائمة في غربة صنعها لهم النظام الشيطاني لصدام حسين. فسألتها القملة الثانية محاولة ايجاد موضوعات أخرى لعل فيها بصيص أمل لمستقبل الوطن: ما رأيك في العلاقات الكويتية/العراقية؟
اهتز صدر القملة الأولى، وزفرت زفرة ألم اهتزت لها شعرتان متجذرتان في فروة الرئيس الأسير، ثم قالت: لم تدفع دولة في المنطقة ثمن كل مصائب وكوارث وتهورات وحروب الجيران كما فعلت الكويت! فتأخر الديمقراطية في دول الخليج جعل الكويت مضطرة لسنوات طويلة لكبح جماح الحرية التي تجري في دماء أبنائها، والحرب المجنونة المسعورة بين طهران وبغداد دفعت الكويت ثمن جزء كبير منها سواء بالانحياز الاضطراري لجانب الجار العربي الذي بدأ العدوان على إيران، أو بالخوف من هوس حراس الثورة الاسلامية الذين توغلت في صدورهم روح خلخالي المشبعة بالرغبة في الانتقام، فكان التلويح بتصدير ايديولوجية الثورة لتطيح بحكومات دول الخليج، ثم جاء الثاني من أغسطس المشؤوم عام تسعين وقام المجرم صدام حسين بمكافئة الكويتيين على مواقفهم المشرفة، فاستباح أرضهم ودماءهم وأموالهم وخيراتهم ونفطهم وألغى دولتهم وضمها لجمهورية الرعب، ثم جاء التحرير بعد سبعة أشهر جحيمية لتعود الكويت لأبنائها وشرعيتها لكنها تفقد ثلثي ثروتها في التحرير واعادة الاعمار وقبلهما النهب المنظم من اللصوص أشاوسة النظام الفاشي، ثم حدثت هجمة معاكسة لتطور الدول والأنظمة والأفكار والثقافات في عالم العولمة الجديد، وبدلا من أن تقوم الكويت بتصدير الاستنارة والانفتاح، استورد رجالها من المطاوعة في السعودية وطالبان أفكارا معادية للمرأة، ورفضوا أمرا ساميا أميريا بمنحها حقوقها الشرعية والمواطنية بعد أن أثبتت لرجال الديرة أنها شريكة التحرير، وفخر الدولة، وكان جنود الاحتلال يخشونها كخشيتهم رجال المقاومة الكويتية تماما.
ثم أردفت قائلة: هل تريدين المزيد عن الثمن الذي دفعته الكويت؟ لقد فتحت أرضها وسماءها وبحرها لاستقبال ربع مليون جندي أمريكي في حرب ازالة النظام العراقي الذي لم تعد الحياة بجواره تحمل أدنى قدر من الأمان، والكويتيون أصحاب فهم سياسي عميق، وديوانيات يطرح فيها كل شيء، وشرعية تعرف كيف تحمي شعبها ووطنها، لذا لم يكن أمام الكويت غير فتح أرضها في حرب يعلم الجميع أنها ليست تحرير العراق، إنما ازالة النظام الارهابي فيها، وكان لدى أبناء الديرة أمل صغير في العثور على الأسرى والمرتهنين والمختطفين فكان قرار الموافقة، ويعلم الجميع أنه بدون هذا القرار المؤلم لم تكن الكويت تستطيع أن تأمن على مستقبلها.
تستفسرين عن العلاقات الكويتية/العراقية، أليس كذلك؟ إنها مزيج من كل شيء! فرحة كويتية بازالة النظام ومساعدة العراقيين، وشكر عميق من عراقيين كثيرين لما تحملته الكويت، لكن أيضا كراهية شديدة من الذين دفعوا ثمن الغطرسة الأمريكية والحصار الطويل وموت مئات الآلاف من الأطفال، فأختلطت على نفوسهم مشاعر متباينة ولم يتبينوا الخيط الرفيع الفاصل بين القاتل والمنقذ. حماقة القوات الأمريكية يدفع ثمنها أيضا الكويتيون لأنها توغر صدور العراقيين، أو تجعل الطامعين يزدادون عددا وعدة، ولعل أحاديث اسقاط الديون، والمنافذ البحرية، ومطاردة السيارات الكويتية، واختطاف رجال أعمال كويتيين في العراق، وأساليب الطمع والجشع والابتزاز العاطفي من مثقفين ومسؤولين واعلاميين عراقيين رغبة في سماع حفيف أوراق الدينار الكويتي، تؤكد أن التهور والهرولة والاندفاع في الأحضان والقبلات يعادل تماما مثيله في الخشية والتراجع والشكوك، ويبقى الأمل الكبير في صوت العقل الكويتي لمد يد المساعدة للشعب العراقي، ولكن ليس كل من يمتدح الكويتيين يحمل بين جنبيه حبا لهم، وغراما بهم، وخوفا عليهم، وإيمانا بقضاياهم العادلة وهمومهم.
قالت القملة الثانية وفد استسلمت لحكمة صاحبتها وخبرتها: هل سينسحب الأمريكيون والبريطانيون من العراق؟ قالت لها صاحبتها وهي تتقدم خطوتين للامام وتتراجع واحدة: أمريكا هي اللاعب الوحيد على الأرض ، أعني في رقعة الشطرنج، وقد ربحت بعد اعتقال صدام حسين عبيدا كثرا، وركع لها الكبير قبل الصغير، فليس في المنطقة الدافئة من العالم العربي مهاتير محمد، وكان رد فعل المتخلف المستبد صاحب النظرية العالمية الثالثة انتصارا هائلا لآلة السحق الأمريكية، وأحسب أن شارون اتصل بسيد البيت الأبيض مساء يوم المهانة الليبية وقال له: ألم أقل لك أن العرب يشبهون تماما حكاية القرود التي كان يضربها صاحبها كلما اقترب واحد منها من الطعام، فلما تعلمت الدرس قامت هي بضرب أي واحد منها يقترب من الطعام حتى تحمي نفسها؟
طالبان أثبتت أنها حركة ارهابية من ورق هش، وأكثر زعمائنا العرب يتبرعون بأنفسهم للكشف عن أسرار المنظمات والقيادات الأخرى والأسلحة والأصدقاء، وصدام حسين القائد المهيب قدمته أمريكا في ثلاث كلمات تقطر كل منها بحارا من الاذلال والاهانة والعبودية والازدراء والاحتقار: سيداتي سادتي .. لقد قبضنا عليه!
والعقيد معمر القذافي على استعداد لأن يبيع ملابسه وخيمته وشعبه وتاريخ عمر المختار من أجل عدم وضعه في قفص كالقرود مثل عبد الله أوجالان أو نورييجا أو صدام حسين. قاطعتها صاحبتها: أعيد السؤال مرة أخرى، هل سيشهد هذا العام انسحاب آخر جندي أمريكي أو بريطاني من العراق؟ قالت القملة الأولى: ليس قبل ضمان السيطرة الكاملة على النفط لمئة عام قادمة، ووضع نظام طائفي يضمن عودة الاحتلال الأمريكي على الطريقة البريطانية ( فرق تَسُدْ )، وتحقيق الأمن الاسرائيلي في سوريا الجديدة والمسالمة والمطيعة للكيان الصهيوني، وربما ضرب إيران ضربة موجعة أشد عنفا وقسوة ووحشية من كل حروب أمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق، ثم تغيير بعض الأنظمة في المنطقة، واستنزاف ثروات الخليج، وفتح الباب لآلاف الشركات الحيتانية الكبرى لنهب ما بقي من الوطن الممزق في مشروعات غير انتاجية... حماقة العقل العربي تتجسد في المقارنة بين الاحتلال/التحرير الأمريكي وبين السنوات السوداء المظلمة لعهد صدام حسين، وذلك هو فخ نصبه أيضا دعاة تحرير العراق للشعب العراقي. إنه مشهد درامي مأساوي كقطع من الليل مظلمات، فيه يعجز العقل والقدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل من ملامح صباح جديد قد يكون مشرقا أو حزينا، وقد تتناثر فيه أشلاء العراقيين ويتمزق الوطن، أو تأتي معجزة من السماء. ولكن الأرض أيضا قادرة على صناعة المعجزات، فهل نفرح أم نحزن على العراق؟
وهنا سمعت القملتان خرير مياه فعرفتا أن عريفا أمريكيا يستعد لغسل شعر الرئيس الأسير!