18‏/08‏/2018

أوجاع المغتربين!

قراءة في فصول كتاب بقلمي منذ ربع قرن؛ نسيته في أوراقي و.. لم أكمله!
أصدرت 20 كتابا وبين يدي الكتاب رقم 21 قيد الطبع؛ وكذلك الرواية الأولىَ لي التي لم أنته منها بعد، وأحلم بوضع كتاب يحمل عنوان ( حياتي كنرويجي) أقص فيه حكايتي لأكثر من أربعة عقود هنا في النرويج، وأفكر في تكملة كتاب ( هموم المغتربين) .. وأحلامي الحقيقية لم تبدأ بعد رغم أنني أقترب حثيثا من عامي الثاني والسبعين!
أوجاع المغتربين!
الحلقة الأولىَ
غالبا ما تكون بدايةُ تحديدِ حُلمِ الهجرة محصورةً في حدثٍ مُعَيّن؛ قد يكون فكرةً طارئةً، أو حكايةً قَصَّها عائدٌ من جنةِ الخارج علىَ مُقيمٍ في جحيمِ الداخل، أو جملةً في روايةٍ عاطفيةٍ، أو حديثـًـا صحفيـًـا مع شخصِ حقق ثروةً طائلةً في بضع سنين بعد هجرتِه إلىَ وطنِه الجديد.
وقد تكون البدايةُ في خلافاتٍ عائليةٍ يقسم إثرها المرءُ أنْ يترك هذا البلدَ إلىَ غيرِ عودة. وقد تكون في ترسباتِ فكرةِ الهربِ من أزمةٍ اقتصاديةٍ، أو مطاردةِ الشرطة، أو التخلص من تبعاتِ الحِمْل العائلي، أو البحث عن السلام الداخلي!
وقد تكون البدايةُ محاولةَ الخروجِ من دائرةِ العملِ الروتيني القاتل، أو البحثِ عن مغامرةٍ عاطفيةٍ، أو الهروب من مغامرة عاطفية!
حُلم الهجرةِ لا يختلف في قليلٍ أو كثيرٍ عن التخدير البطيء الذي ينقل المرءَ بأسرع من صاحب سليمان، عليه السلام، الذي عنده علمٌ من الكتاب عن جنات الأرض والسماء دون أنْ يتحرك من موقعِه قيد شعرة.
عندما يسري هذا المُخَدِّر في الجسم والعقلِ معا؛ فقد أحْكَمَ لهما العقدةَ التي لا حَلَّ لها؛ عندئذٍ تصبح كلمةُ سفر أو مشتقاتُها عزيزةً علىَ النفسِ، قريبةً من القلبِ، مُلتصقةَ بالذهن. وإذا ذُكِرَتْ أمام صاحبِنا لا تتركه إلا علىَ حالةٍ من اثنتين: ميتٍ نصفه حياة، أو حيٍّ نصفه موت، وهو يتابع الكلمةَ وملحقاتِها وذيولـَها وأصحابَها كما يتابع العاشقُ العفيفُ بعينين نصفِ مُغلقتين اختفاءَ أثر حبيبتِه في الأفق وهي تبتعد رويدًا .. رويدًا!
وحُلمث الهجرةِ العربي إلىَ أوروبا والذي يراود ملايين من الشبابِ في المنام واليقظة، في الفقر والغِنىَ، في عُشش الصفيحِ وفي غرفِ نومِ أصحاب الملايين هو حُلْمٌ غيرُ قابلٍ، في غالب الأحيان، للكسرِ أو فُقدان البريق أو الاختفاء الكُلـّـي أو الجزئي.
حتى الذين يصبّون جَمَّ غضبِهم علىَ الغرب وانحلالـِـه الخُلقي وتحلـُّـل قـِـيَـمِه، وعنصريتِه البغيضة، وعصبيته الاستعلائية ضد شعوب العالم الثالث، وبرودة العلاقات الاجتماعية بين أفرادِه؛ حتى هؤلاء، يحلم كثيرٌ منهم بالهجرة. بل قد يكون أكثرَ تطرفــًــا في أحلامِه لأنَّ مبرراته في لعب دور المصلح المثقف الأكثر وعيـًـا، والقادر علىَ كبح جماح رغباته وشهواته تجعله مُقَدّما نفسَه علىَ الآخرين في أحقية السفر، سواء كان حُلما في الوطن أو واقعـًـا في بلد المهجر .. الوطن الجديد!
في نهاية الستينيات قرأتُ مقالا للكاتب الصحفي عبد الستار الطويلة في مجلة" روزا ليوسف" القاهرية يصف فيها الجدارَ السميكض الذي يفصل بين التمدُّن والتخلف، أو بين باريس عاصمةِ النور و.. القاهرة عاصمة الفاطميين. كان الكاتبُ الصحفي شاهدًا علىَ سيدة فرنسية شابة وجميلة تُهَرّول مسرعةً وبخفة الغزال إلىَ بابِ مترو الأنفاق في العاصمة الفرنسية. وقفزتْ المرأةُ قفزةً سريعة في الهواء قبل أنْ يغلق المترو أبوابــَـه، ثم التفتتْ إلىَ الوراءِ وهي تبتسم لطفلتها الصغيرة التي كانت تجري مسرعة نحو أمها! الأمُّ والطفلة تضحكان بصوت مرتفع عندما تتمكن الابنةُ من القفز داخل المترو، بعد أنْ بدأت فعلا الأبوابُ الأوتوماتيكية في التحرك. وينتقل عبد الستار الطويلة إلى القاهرة لأمٍّ تحمل طفلتــَــها فوق كتفيها وهي تَجُرّ ولدَيّن آخرين يبكيان، وكلهم مترددون في عبور الطريق إلى الناحية الأخرى.
ثم يصف الكاتبُ الصحفي بإسهاب صورَ التحضُّر في الغرب ونقيضَها من تخلف وانعدام الوعي وتفاقم الأمية والجهل في مصر!
هذا النموذج واحدٌ من عشرات الآلاف من النماذج التي ساعدتْ في تجسيد حُلم الهجرة والاغتراب بعيدًا عن الوطن. مئات من المقالات المدبلجة، والتحقيقات المُصَوَّرة، والأحاديث التي أجراها مقيمون مع عائدين ونشرتها الصحف مداعبةً خيالات الشباب، وجاعلةً أحلامهم كأنها قاب قوسين أو أدنى من التحقيق!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 18 أغسطس 2018
وإلى حلقة قادمة
Øverst i skjemaet

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...