07‏/05‏/2016

حوار بين قملتين في شعر رأس صدام حسين!

أرشيف
مقال ينبغي أنْ يُنظــَــر إليه بتاريخ نشره.
طائر الشمال في فبراير 2004

التقت قملتان في شعر رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين وجرى بينهما حوار طويل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وكل شؤون وهموم عراق الرافدين، والتقطنا بصعوبة بالغة جزءًا من حوار القملتين، فالقاذورات والأوساخ في الشعر الأشعث للرئيس الأسير حجبت الكثيرَ من حديثهما.

قالت الأولى بعد أن امتصت نقطة دم مليئة ببقايا نيكوتين السيجار الكوبي الفاخر الذي اعتاد المهيب أن ينفثه في وجوه ضيوفه قبل التاسع من أبريل: ما هذه الضجة والأضواء المسلطة على مساكننا منذ الصباح الباكر؟
قالت الثانية وهي تجاهد لعبور ممر بين شعرتين لزجتين لم تعرفا الماءَ منذ وقت طويل: أظن أن كاميرات تصوير أمريكية يتم نصبها لاخراج مسرحية يعجز الجن والانس عن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا!
ردت الأولى وقد تملكها الفضول: هل سيغسلون شعر الرئيس ونغرق نحن وأولادنا وأقاربنا الذين شعروا بالأمان منذ عدة شهور، فلا ماء يزيحنا، ولا صابون يقضي علينا، ولا منظفات تقتلنا أو أسنان مشط تطاردنا في جذور هذا الشعر الأشعث القذر؟
قالت الثانية: الأمر بمنتهى البساطة أن الأمريكيين سيلتقطون مئات أو آلاف من الصور للرأس البائسة التي نعيش فوقها منذ عدة أشهر، وسيختارون من بينها عدة لقطات خاطفة تضرب كل العصافير بحجر واحد.

قالت الأولى وقد ازداد فضولها: هل تقصدين أن الامتهان والاذلال لن يكونا فقط من نصيب صدام حسين، ولكن الخبراء الأمريكيين سيتعمدون أن يقرأ الرسالة كل من يهمه الأمر، ويظن أنها موجهة له على وجه الخصوص؟
ردت الثانية بابتسامة ذات مغزى: نعم، هذا هو المطلوب، وحتى العراقيون الذين سيخرجون مبتهجين باعتقال شيطان بغداد كما يخرج الليبيون تماما كلما أوغل العقيد في اذلالهم، لن يفهموا الرسالة قبل وقت طويل. فأمريكا سرقت منهم النصر، ولم تخلصهم فقط من صدام حسين، لكنها منعت عنهم مشاعر البهجة الحقيقية عندما يقع صدام حسين بين أيديهم بدلا من أن يدوس فوقه جندى أمريكي بحذاء عتيق وهو يمضع العلكة، ويلعب دور رامبو في حادث سيظل لقرون لاحقة مطاردًا خيال كل من يقرأ التاريخ بعيون جديدة.

قالت الأولى: ولكن القصة الحقيقية لعملية القبض على صدام حسين لا يعرف عنها شيئـًـا المؤيدون والمعارضون على حد سواء، وستظل لغزا محيرا لن يفكه إلا فصل هام في كتاب قد يصدره واحد من الذين اشتركوا في اخراج المسرحية، سواء كان من الجنرالات أو رجال المخابرات الأمريكية، وحتى ذلك الحين فالرواية الأمريكية هي الوحيدة المعترَف بها إعلاميا وعسكريا وحتى الفضائيات العربية لا تستطيع أن تقص على مشاهديها جوانب أخرى، فالصور التي تم توزيعها على كل ركن من أركان الأرض والأقمار الصناعية آتت أكلها ضعفين.
قالت الثانية: أيا كانت الحقيقة التي لا يعرفها إلا الجانب الأمريكي، فإن المشهد الجرذي لرجل كان إلى عهد قريب على استعداد لأن يظن حقا أنه في مرتبة أرفع قدرا من البشر الآخرين قد دخل التاريخ من باب أسوأ من الباب الذي دخل منه أبوعبد الله الصغير منذ خمسة قرون أو يزيد في غرناطة.

قالت الأولى: هل تظنين أن العراقيين قادرون على إعادة تأهيل جمهورية الخوف وجعلها نموذجا للديمقراطية والعدالة والمساواة في العالم العربي؟
فضحكت القملة الثانية حتى سمعت قهقهتها كل الحشرات التي اتخذت من رأس الزعيم ملاذا لها وقالت: لقد سمعتُ بالفعل أن المثقفين العراقيين أغرقوا صفحات الصحف والمجالات بمقالات تبدو كأنها دروس في تعليم العرب أصول الديمقراطية، وبأن العراق الجديد سيصبح أول دولة عربية تلقن أبناء الضاد أصول الحرية والعدالة والأمن والسلام والعلم والادارة، وبأن حالة من التعالي والفوقية سادت أحاديث العراقيين وكأن لهم فضلا واحدا في اسقاط حكم شيطان بغداد.

وهزت القملة الأولى رأسها الصغير مبتسمة ثم قالت: ولكن الوضع الآن بدأ يتجه في الناحية المعاكسة، فجمهورية الخوف لم تكن حالة خاصة بصدام حسين في عهده فقط، لكنه تمكن من العبث في النفوس والعواطف، وألقى بذرة الطائفية لعلها تزرع فتنة بعد غيابه، وجعل الرعب والشك والعنف ورائحة الدماء ورغبات الانتقام مشاعر تتقدم ما عداها من مشاعر وأحاسيس أخرى.
قاطعتها الثانية لتسأل عن عبقرية المقاومة التي لم تظهر في عهد صدام حسين، ولم يعرف العراقيون فلسفة الانتحار من أجل الوطن، فأين كانت تلك الشجاعة عندما جثم الشيطان أكثر من ثلاثة عقود فوق صدر الشعب العراقي؟
نظرت القملة الأولىَ خلفها ثم همست قائلة: لقد خَفَّتْ كثيرا حدة الصيحات العراقية الموجهة ضد العرب والتي كانت تتوعدهم بالويل والثبور إن لم ينتهجوا نهج العراقيين، وكأن قرار ازالة النظام البائد جاء بتوجيهات من السيد الدكتور أحمد الجلبي المطلوب للعدالة الأردنية بتهمة النصب والاحتيال، أو من مضر شوكت نائبه الذي يطالب بمنافذ بحرية عراقية من الكويت الحرة والمستقلة منبها إلى أن كوابيس الهوس بضم المحافظة التاسعة عشرة إلى جمهورية الفوضى والعنف لا تزال تحلق في خيالات الطامعين في الدولة الصغيرة الآمنة والمسالمة.

ظهر الفزع على القملتين من جراء الهرش المتواصل للرئيس صدام حسين بأظافره الطويلة القذرة، لكنهما لم تصابا بأي أذى، ثم أردفت الثانية بعد هنيهة من الصمت: لماذا يقبل العراقيون كل أنواع الاذلال والمهانة والقمع والقهر من جانب جنود الاحتلال؟

تحركت القملة الأولى حركة دائرية باحثة في غابة من القاذورات اللزجة عمن يتنصت على حديثها، ثم ظهر على وجهها عبوس قمطرير وقالت لصاحبتها: إنها المعضلة الأكثر تعقيدا وتشابكا في النفس العراقية، فطول فترة الحكم البعثي، وسيطرة العوجيين التكارتة على كل زفرة نفس تطلقها رئة عراقي مسكين جعلت العراقيين يوزعون حلوى في الشوارع ترحيبا بالاستعمار الجديد، فكل أنواع الذل تهون بجانب سنوات حُكم الرجل الذي نسكن الآن في شعر رأسه، ونتغذى من دمائه.
فقاطعتها صاحبتها متسائلة عن معنى العوجيين وهل هم العلوج؟
تبسمت القملة الأولى ضاحكة من قولها وقالت لها: العوجيون نسبة إلى القرية التي خرجت من بطن واحدة من نسائها رأس الرئيس الأسير، أما العلوج فهو تعبير استخدمه جوبلز النظام محمد سعيد الصحاف وهو سارق حكايات ( أبو لمعة ) التي كان يقصها على الخواجة بيجو منذ عدة عقود.
وهنا برقت فكرة جهنمية في ذهن القملة الثانية فقالت لصاحبتها: لماذا لا ننتقل إلى شعر رأس محمد سعيد الصحاف فربما يكون مكانا خصبا ونجد فيه أقارب لنا من القمل ومعارفهم من الحشرات الأولى؟

ردت القملة الأولى على الفور قائلة: وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف المجرم والمسؤول عن مذابح عديدة، والذي كان يملك أسرار مأساة الرهائن الكويتيين في العراق والذين قام الرئيس الأسير بتصفيتهم، ضيف عزيز في مكان آخر.
صمتت القملة الأولى قليلا وظهر على ملامحها خوف شديد عندما سمعت خرير ماء فظنت أن الرئيس الأسير سيغسل شعر رأسه، لكنها عرفت أنه يتناول كوبا من البلاستيك غير النظيف به ماء لعله يروي به بعض عطشه.

قالت القملة الثانية ولا تزال الدهشة تعلو وجهها: وهل هي الصفقة القذرة الوحيدة في حرب إزالة النظام؟ إن الأسرار التي لم يتم الكشف عنها منذ بداية الغزو العراقي للكويت وحتى هذه اللحظة تملأ مجلدات بطول شط العرب وعرضه، وما رآه الناس حتى الآن ليس إلا سطح جبل الجليد.
قالت الأولى: هل تعرفين أين نحن الآن، في سجن مطار بغداد، أم في قاعدة أمريكية بالدوحة، أم في مكان بعيد تماما عن المنطقة؟
ردت الثانية: ليس المهم المكان، لكن الأهم هو أن يوحي الأمريكيون إلى العراقيين بتثبيت مشاعر الدونية والشكر الدائم لتخليصهم من شيطان بغداد، وبأنهم لا يملكون حقا من الحقوق ما لم يحظَ على الرضا الأمريكي، أو يأتي مـِـنـَّـة أو منحة أو عطاء مهينا لشعب الرافدين وسليل ثاني أقدم حضارات الأرض!

بدا أن القملة الأولى لم تستوعب ما تعنيه صاحبتها، ففهمت الثانية أنها تريد المزيد من الايضاحات فأردفت قائلة: هل قُدّر لك مشاهدة صور اللقاءات الأمريكية العراقية سواء كانت لدى تفتيش بيت به أطفال ونساء وشيوخ مسنـّـين، أو اعتقال بعض المارة، أو تقييد الأيدي والأرجل وتغطية الوجه بأكياس بلاستيك، أو ترك العراقيين على بطونهم فوق رمال حارقة، أو حتى الصورة التي نشرتها صحيفة ( داج بلادا ) النرويجية لجنود أمريكيين يسخرون من ثلاثة عراقيين وهم يقفون أمامهم في شارع مكتظ بالمارة وقد أمروا بخلع ملابسهم كلها ووقفوا يغطون عوراتهم بأيديهم وجنود اليانكي يتغامزون ويتضاحكون؟

قالت القملة الأولى وقد بدا عليها التأثر: إنها إذاً عملية ترويض العراقيين، وكسر شوكة الرافضين، وإعادة صناعة الاستعمار على نهج جديد يذكرنا بتاريخ جلب السود من مواطنهم الأفريقية، وتعليمهم فكرة الاستعباد والاسترقاق والعلاقة بين السيد والخادم، أليس كذلك؟
لم تقتنع القملة الثانية بطرح صاحبتها، زميلة المشاركة في شعر رأس الرئيس الأسير، وقالت لها: ولكن الأمريكيين حرروا العراق من أشرس الأنظمة المستبدة طغيانا وكفرا، وأكثر العراقيين مولعون بجنة العم سام، ومتيمون حبا بالمُخَلّص في بيته الأبيض ومكتبه البيضاوي، وتسعة من كل عشرة عراقيين يتعاونون مع قوات التحرير والاحتلال ( وهل هناك فارق ؟) ويتمسكون بالوجود الأمريكي فضلا عن حالة من الانسجام في الجنوب بين قوات الاحتلال البريطانية وسكان المناطق المحتلة!
في هذه اللحظة بالذات سُمع دوي عنيف قادم من ناحية الضفة الأخرى لنهر دجلة، فسرت قشعريرة رعب في الجسدين النحيلين، ولكن القملة الثانية تجشمت عناء الحديث وهي ترتعش وقالت لصاحبتها وهي تحاورها: هذه هي العملية الثامنة منذ صباح اليوم الباكر، والأمريكيون يقولون بأن المقاومة تقوم بأكثر من عشرين عملية مضادة ضد قواتهم تتراوح بين اسقاط طائرات هليكوبتر وتفجير سيارات وذبح جنود وهم يقفون على قارعة الطريق واطلاق صواريخ على ثكناتهم، ويبدو أن النعوش الطائرة التي تسجى داخلها جثث الجنود الأمريكيين ستجبر الشعب الأمريكي على فتح كشف حساب مع حكومته لمعرفة حقيقة الخسائر، وهل يستحق تحرير العراقيين الثمن الباهظ الذي يدفعه الشباب الأمريكي من أجل محاربة الارهاب وتسخين صناديق الانتخابات المقسمة بين الديمقراطيين والجمهوريين؟

قالت القملة الأولى بعد أن هدأت قليلا: كيف ذهب الظن بك أن ليس هناك عشرات من أسباب التدخل الأمريكي بعد سنوات طويلة من الحصار والجوع والمرض والفقر وإطالة عمر النظام والقضاء على انتفاضة مارس عام واحد وتسعين؟
ألم تكن واشنطون تعرف أن رأس الرئيس الأسير التي نعيش فوقها الآن أوهن من بيت العنكبوت، وأن جيشه الذي انسحب من الكويت كان من ورق مقوى ولا يحمل أي من أفراده ولاء للزعيم المهيب؟
ردت الثانية قبل أن تدخل صاحبتها في متاهات لا حصر لها: هل لك أن تذكري لي بعض الأسباب التي تشكك في نوايا التدخل الأمريكي بعد أن عجزت كل الأنظمة الأخرى والمعارضة العراقية وأربعة ملايين مغترب وجامعة الدول العربية وكل جيران العراق؟

ابتسمت القملة الأولى ابتسامة فيها مزيج من السخرية والدهشة على جهل صاحبتها بالنوايا الأمريكية غير المعلنة وقالت لها: ألا يكفي وضع اليد على ثاني أكبر مخزون نفطي في العالم ليكون مقدمة لعشرات الأسباب الأخرى؟
لقد انتهت إلى الأبد أسطورة سلاح النفط، ومن يتابع الافراج عن الوثائق البريطانية بعد ثلاثين عاما لا يخالجه أدنى شك في أنها ليست عملية عبثية، لكنها مرتبطة بالمصالح البريطانية الآنية، وعندما أفرجت عن وثائق مؤخرا تؤكد التفكير الأمريكي الجدي في احتلال السعودية والكويت عقب استخدام سلاح النفط خلال حرب أكتوبر عام 73، كانت الرسالة موجهة إلى كل زعماء المنطقة، فأمريكا لا تفقد مئات من شبابها وتنفق مليارات من اقتصاد يعاني العجز، وتقنع الادارة الحاكمةُ أعضاءَ مجلس الشيوخ بأهمية الحرب على مبعدة آلاف الأميال من مركز التجارة العالمي المنهار إلا إذا كانت المصالح الأمريكية تعادل عشرات الأضعاف من الخسائر التي يتكبدها الجيش والخزانة العامة ودافع الضرائب.

تنفست القملة الأولى قليلا ثم أكملت قائلة: العراق هو المكان السحري والمناسب للتواجد الأمريكي ولو خسرت واشنطون عشرة أو عشرين ألفا من أفضل شبابها وشاباتها، فالأمريكيون على مرمى حجر من الجمهورية الاسلامية التي ستهدد إن عاجلا أو آجلا أمن إسرائيل، وطهران ستتلقى فوق رؤوس أهلها قذائف وحمم من أحدث ترسانات السلاح الأمريكي، وسيحلف الايرانيون برحمة الزلازل المدمرة والأكثر رأفة من قسوة اليانكي، وسوريا ستتعلم الدرس العراقي منا نحن القمل والحشرات التي تعيش وتتغذى في شعر رأس أمين القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي فرع بغداد المنحل، وأنقرة لا تكترث لأمر آخر غير منع قيام دولة كردية على حدودها تثير المتاعب، وتكون الملاذ الآمن للأكراد في تركيا، والعصر الصهيوني سيبدأ هيمنته على مقدرات العالم العربي وسيقوم زعماء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة( مع الاعتذار لروح ميشيل عفلق ) بالوقوف صفا واحدا أمام الكنيست يقدمون فروض الطاعة والولاء، ويطلبون من الدولة العبرية أن تعلمهم مباديء الديمقراطية والحرية وكرامة المواطنين بطلب من موظف صغير في وزارة الخارجية الأمريكية.

أردفت القملة الأولى بعد أن أرهقها اجترار ذكريات مُرَّة عن تاريخ التدخل الأمريكي في لبنان والصومال وفيتنام وكوريا وبنما ونيكاراجوا وعشرات غيرها من الأماكن المحتقنة في العالم: اختلاط الحلم الأمريكي بالكابوس جعل العراقيين غير قادرين على التمييز بينهما أو فصلهما فالعراقي المعارض للاحتلال يعرف أن الأكثر سوءا ينتظره في حالة الانسحاب الفجائي لمحرريهم ومحتليهم، والعراقي المتيم بحب المارينز والهامبورجر والجرين كارد وتمثال الحرية يعلم أن مقدرات وطنه لم تعد في يده، وأن كرامته يحددها شخص غريب قادم من العالم الآخر وأن سجن أبو غريب في عهد الطاغية اللعين لا يقل عن جوانتانامو في كوبا أو العراق في عهد الحرية التي بشر بها جورج بوش الابن.
قالت لها القملة الثانية وهي تعبث بنقطة دم خارجة من جرح إثر الهرش المتواصل للرئيس الأسير في فروة رأسه: لكن الحرية في أن يحكم العراقيون أنفسهم بأنفسهم!
ردت عليها صاحبتها وقد احتدت غاضبة: يبدو أن طول فترة وجودك في شعر الرئيس، التي لا يعرفها أي عربي من البحر إلى البحر، قد أنستك التركيبة العشائرية والطائفية في العراق والتي اختلطت بمظالم وقعت على كل الأطراف، بنسب متفاوتة، لكنها صبت في النهاية في خدمة الطائفية دون أن يحتاج العراقيون للجنة دستورية لبنانية تعلمهم كيفية تقسيم الوطن بين شركائه على أسس عنكبوتية واهية وهشة وضعيفة.

ثم أردفت القملة الأولى بعد أن أخذت شهيقا طويلا: هل خطر في ذهنك حوار لحظات ما قبل تفجير سيارة قبالة مسجد بُعيد صلاة الجمعة وهو يدور في عقل ونفس وفكر القاتل المسلم العراقي؟ تلك واحدة من آلاف الجرائم الكبيرة والصغيرة التي قام بها عراقيون ضد عراقيين في أحلك فترات عصرهم الحديث!
.. إنه نفاذ إلى أعماق العدم الأعمى ليقرر الجزء الأكثر عفونة في النفس البشرية وهي في لحظات أسفل السافلين أن دماء المصلين والأبرياء والمارة والأطفال والنساء حلال سفحها على مذبح الوطن، وامعانا في الازدراء يقرر القاتل عدم الافصاح عن نفسه أو وجهه أو أيديولوجيته أو أهدافه.
قالت لها القملة الثانية محاولة تهدئتها: أرجوك يا زميلة شعر الرئيس التخفيف من ثورتك وغضبك العارم فالمقاومة العراقية حق مشروع وقد أنزلت بقوات الاحتلال خسائر فادحة حتى الآن، ولعله قد بلغك أن نسبة الانتحار بين الجنود الأمريكيين قد بلغت ذروتها، وأن ليس كل مقاوم مؤيدا لصدام حسين أو عضوا سابقا في حزب البعث العربي الاشتراكي أو له مصالح خاصة في عودة جمهورية الرعب.

ردت الأولى وقد خفت حدة انفعالاتها قليلا: لم نختلف في حق المقاومة، لكنها عملية إبادة يقوم بها مواطنون ضد مواطنين، فإذا كان الهدف جنديا أمريكيا فلا حاجة لقتل عشرة عراقيين يمرون بجانبه. ثم إن السيارات المفخخة تأخذ أيضا طابعا طائفيا وكأن ملك الموت مضطر لاصطحاب زبائنه من أبناء طائفة بعينها، اليس كذلك؟
قالت صاحبتها وقد قرأت ما بين السطور قبل أن تكمل القملة الأولى الجملة ...
أزعم أنك تقصدين شيعة العراق الذين وقع عليهم ظلم فادح، وتم تجفيف أهوارهم، واخماد ثورتهم الرائعة في مارس عام واحد وتسعين بعد أن قام جنود الطاغية بما يخجل منه هولاكو وبول بوت، فقد كانوا يلقون الأطفال الرضع من فوق مآذن المساجد، ويلعبون الكرة برؤوس الأطفال أمام أمهاتهم، وقام النظام الفاشي وأغلبه من أتباع المذهب السني بأغلظ وأقسى وأشرس المذابح ضد الشيعة والأكراد.

قالت القملة الأولى بسرعة خشية أن يذهب الطرح الطائفي في غير محله: لكن المقابر الجماعية لم تفرق بين العراقيين وفقا لمذاهبهم، والنظام التكريتي لا يقيم وزنا للدين والمذهب والخلافات في الفهم العقائدي، وضحاياه من السُنّة لا يقلون بأي حال من الأحوال عن أعداد ضحاياه الشيعة والأكراد والتركمان وغيرهم.
قالت الثانية: لماذا إذاً قبل العراقيون في مجلس الحكم الانتقالي الذي يحركه بول بريمير بسبابته أو خنصره أو طرف عينه تقسيما طائفيا يكرس مستقبلا مظلما لوطن تولى فيه الرئاسة لبعض الوقت محتال شهير ( وفقا لأجهزة العدالة الأردنية ) وقامت قوات الاحتلال التي تحميه بتهيئة زيارته للمجرم صدام حسين في سجنه وكأن الوطن المذبوح يحتاج لمشهد مستقبلي بأثر رجعي ليتعرف العراقيون عما ينتظرهم؟

تحركت القملة الأولى للخلف قليلا وكأنها خائفة من أظافر الرئيس الأسير وهي تعبث بشعر رأسه الذي يشبه الكلوشاريين في محطات مترو أنفاق باريس، ثم عادت لتقترب من صاحبتها وهمست قائلة: لقد اختار العراقيون أن لا يختاروا، فكان لابد من أن ينصتوا إلى رئيس الادارة المدنية، ويطيعوه كأنهم ليسوا مواطنين أو اصحاب حضارة، وهو الذي يحدد لهم نسب المشاركة الطائفية والقبلية والدينية، وأن لا ينبس أحد من رجاله الجدد في المناصب القيادية ( ظاهريا ) ببنت شفة فيما يتعلق بالاذلال والقمع والقهر والسجون والظلم الواقع على الشعب من جراء قسوة وغلظة واستعلاء جنود الاحتلال.
إنها، يا عزيزتي، صفقة خسر فيها كل العراقيين الوطن والمستقبل والثروة والأمن والأمان والاستقلال، وربحت فيها أمريكا بعد سنوات طويلة من الحصار والتجويع وقتل الأطفال موقع قدم ثابت في نفط العراق، وضرب منظمة أوبك على قفاها، وتثبيت الدولار المنهار كعملة خضراء مريضة مقابل الذهب الأسود، وتعليم الحكام العرب بأن من لم يجثو على ركبتيه أمام سيد البيت الأبيض يتلقى درسا مباشرا، أو بالوكالة من تل أبيب ( وهي غير الوكالة لمحمد البرادعي )، وهكذا ظهر مهرج الخيمة وهو يتعرى ويرجو الأمريكيين أن يفعلوا ببقايا جماهيريته ما يشاؤون شريطة أن يتركوه عميلا وقحا يقدم لهم أسرار العرب والأفارقة والمنظمات الثورية وأصدقائه ومن وثقوا به!
قالت الثانية متعجلة مزيدا من شروحات صاحبتها: أليس هناك بصيص أمل ونور في نهاية النفق المظلم؟

اعتدلت القملة الأولى وهي تجلس فوق جذر شعرة ثابتة في رأس الرئيس الأسير: هل تعرفين مالك بن نبي؟
إنه مفكر جزائري رحل عام ثلاثة وسبعين وكانت له مؤلفات عن شروط النهضة ومنها ( فكرة كومنولث إسلامي) و ( مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي )و ( مذكرات شاهد قرن )و ( في مهب الريح )، وكان أهمها على الاطلاق كتابه ( الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) والذي نبه فيه إلى أهم قضيتين لا تزالا غائبتين عن الوعي الشعبي والفكر الثقافي وهما صناعة البطل، والقابلية للاستعمار. هتفت القملة الثانية بسرعة وكأنها تريد أن تثبت لصاحبتها أنها تستوعب ما تقوله: تقصدين أن صناعة صدام حسين قام بها الاستعمار، وأن البطل المصنوع تولى بنفسه تثبيت مشاعر القابلية للاستعمار لدى الشعب العراقي؟

ابتسمت القملة الأولى وتحركت بحذر فوق نقطة دم حديثة لا يدري المرء إن كانت من آثار جرح أو أظافر الرئيس الأسير أو بثور جرب من جراء الأسر الطويل ( وفقا لبعض الروايات غير اليانكية) أو قذارة الجحر الجرذي( حسب الروايات الأمريكية التي تتناقلها الفضائيات ووكالات الأنباء الببغاوية كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من أنوار الكتب المقدسة)، وقالت: هذا بالضبط ما أعنيه، فالعراقيون كلهم على اختلاف مشاربهم وقواهم وقربهم أو بعدهم من الوطن الأم من مثقفين ومغتربين وجنرالات حرب ومفكرين وأكاديميين ورجال دين متمردين وصانعي سيارات مفخخة ومقاومين ومجرمين وقتلة ومخلصين وشجعان قد أجمعوا كأنهم في استفتاء ( نعم ) لاعادة انتخاب زعيم عربي أو ابنه أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا تزال هي القوة العظمى والوحيدة القادرة على ازاحة الفاشي التكريتي ونظامه، وتلك مشيئة سيد البيت الأبيض ولا راد لقضائه!
اعتدلت القملة الثانية في وقفتها وسألت صاحبتها وكأنها تريد أن تطرح آلاف الأسئلة قبل أن يغسلوا للرئيس الأسير شعره بمنظفات تنهي حياة كل القمل والحشرات التي سكنته منذ وقت طويل: لقد لاحظت أن كل العراقيين المغتربين والذين كانوا مفعمين بالأمال والأحلام لمستقبل عراقي مضيء ومشرق، عادوا بعد زياراتهم للوطن المحرر المحتل وهم يتحدثون عن سراب الحرية، وانفلات الأمن، واهدار آدمية العراقيين من قبل قوات الاحتلال، وانفجار مخزون الغيظ والغضب واليأس والكراهية فكان العبث بسلام العراق، وحروب التصفيات الطائفية، واكتساح الفكر الاستعلائي الديني على أصحاب الديانات الأخرى فقام متطرفون بمطاردة وقتل عائلات مسيحية بأكملها، وتولى آخرون مهمة اكتشاف الاسلام من جديد في النقاب والحجاب واغلاق دور السينما ومطاردة الفنون وغض الطرف عن مئات الالاف من التجاوزات الأخرى، فالتطرف الديني لم يستطع في كل البلاد والأوقات والظروف أن يجد مدخلا آخر له غير التدين الجنسي، وحصر الاسلام الحنيف في مشكلة المرأة والاختلاط وتغطية شعرها.

قالت الأولى: ذلك مختصر للمشهد العراقي، لكن التفاصيل الحياتية اليومية ستجعل المشهد المستقبلي جحيما لا يطاق ولو نقلوا البيت الأبيض إلى قلب بغداد، والواضح أن ملايين العراقيين المغتربين صرفوا النظر عن حلم العودة واستعدوا لاقامات طويلة ودائمة في غربة صنعها لهم النظام الشيطاني لصدام حسين.
فسألتها القملة الثانية محاولة ايجاد موضوعات أخرى لعل فيها بصيص أمل لمستقبل الوطن: ما رأيك في العلاقات الكويتية/العراقية؟
اهتز صدر القملة الأولى، وزفرت زفرة ألم اهتزت لها شعرتان متجذرتان في فروة الرئيس الأسير، ثم قالت: لم تدفع دولة في المنطقة ثمن كل مصائب وكوارث وتهورات وحروب الجيران كما فعلت الكويت!
فتأخر الديمقراطية في دول الخليج جعل الكويت مضطرة لسنوات طويلة لكبح جماح الحرية التي تجري في دماء أبنائها، والحرب المجنونة المسعورة بين طهران وبغداد دفعت الكويت ثمن جزء كبير منها سواء بالانحياز الاضطراري لجانب الجار العربي الذي بدأ العدوان على إيران، أو بالخوف من هوس حراس الثورة الاسلامية الذين توغلت في صدورهم روح خلخالي المشبعة بالرغبة في الانتقام، فكان التلويح بتصدير ايديولوجية الثورة لتطيح بحكومات دول الخليج، ثم جاء الثاني من أغسطس المشؤوم عام تسعين وقام المجرم صدام حسين بمكافئة الكويتيين على مواقفهم المشرفة، فاستباح أرضهم ودماءهم وأموالهم وخيراتهم ونفطهم وألغى دولتهم وضمها لجمهورية الرعب، ثم جاء التحرير بعد سبعة أشهر جحيمية لتعود الكويت لأبنائها وشرعيتها لكنها تفقد ثلثي ثروتها في التحرير واعادة الاعمار وقبلهما النهب المنظم من اللصوص أشاوسة النظام الفاشي، ثم حدثت هجمة معاكسة لتطور الدول والأنظمة والأفكار والثقافات في عالم العولمة الجديد، وبدلا من أن تقوم الكويت بتصدير الاستنارة والانفتاح، استورد رجالها من المطاوعة وطالبان أفكارا معادية للمرأة، ورفضوا أمرا ساميا أميريا بمنحها حقوقها الشرعية والمواطنية بعد أن أثبتت لرجال الديرة أنها شريكة التحرير، وفخر الدولة، وكان جنود الاحتلال يخشونها كخشيتهم رجال المقاومة الكويتية تماما.
ثم أردفت قائلة: هل تريدين المزيد عن الثمن الذي دفعته الكويت؟ لقد فتحت أرضها وسماءها وبحرها لاستقبال ربع مليون جندي أمريكي في حرب ازالة النظام العراقي الذي لم تعد الحياة بجواره تحمل أدنى قدر من الأمان، والكويتيون أصحاب فهم سياسي عميق، وديوانيات يطرح فيها كل شيء، وشرعية تعرف كيف تحمي شعبها ووطنها، لذا لم يكن أمام الكويت غير فتح أرضها في حرب يعلم الجميع أنها ليست تحرير العراق، إنما ازالة النظام الارهابي فيها، وكان لدى أبناء الديرة أمل صغير في العثور على الأسرى والمرتهنين والمختطفين فكان قرار الموافقة، ويعلم الجميع أنه بدون هذا القرار المؤلم لم تكن الكويت تستطيع أن تأمن على مستقبلها، فكانت قطر ستستضيف القوات الأمريكية والبريطانية، أو تركيا، أو إسرائيل، أوآخرون لا نعلمهم، الله يعلمهم!
تستفسرين عن العلاقات الكويتية/العراقية، أليس كذلك؟
إنها مزيج من كل شيء! فرحة كويتية بازالة النظام ومساعدة العراقيين، وشكر عميق من عراقيين كثيرين لما تحملته الكويت، لكن أيضا كراهية شديدة من الذين دفعوا ثمن الغطرسة الأمريكية والحصار الطويل وموت مئات الآلاف من الأطفال، فأختلطت على نفوسهم مشاعر متباينة ولم يتبينوا الخيط الرفيع الفاصل بين القاتل والمنقذ.

حماقة القوات الأمريكية يدفع ثمنها أيضا الكويتيون لأنها توغر صدور العراقيين، أو تجعل الطامعين يزدادون عددا وعدة، ولعل أحاديث اسقاط الديون، والمنافذ البحرية، ومطاردة السيارات الكويتية، واختطاف رجال أعمال كويتيين في العراق، وأساليب الطمع والجشع والابتزاز العاطفي من مثقفين ومسؤولين واعلاميين عراقيين رغبة في سماع حفيف أوراق الدينار الكويتي، تؤكد أن التهور والهرولة والاندفاع في الأحضان والقبلات يعادل تماما مثيله في الخشية والتراجع والشكوك، ويبقى الأمل الكبير في صوت العقل الكويتي لمد يد المساعدة للشعب العراقي، ولكن ليس كل من يمتدح الكويتيين يحمل بين جنبيه حبا لهم، وغراما بهم، وخوفا عليهم، وإيمانا بقضاياهم العادلة وهمومهم.
قالت القملة الثانية وفد استسلمت لحكمة صاحبتها وخبرتها: هل سينسحب الأمريكيون والبريطانيون من العراق؟
قالت لها صاحبتها وهي تتقدم خطوتين للامام وتتراجع واحدة: أمريكا هي اللاعب الوحيد على الأرض ، أعني في رقعة الشطرنج، وقد ربحت بعد اعتقال صدام حسين عبيدا كثرا، وركع لها الكبير قبل الصغير، فليس في المنطقة الدافئة من العالم العربي مهاتير محمد، وكان رد فعل المتخلف المستبد صاحب النظرية العالمية الثالثة انتصارا هائلا لآلة السحق الأمريكية، وأحسب أن شارون اتصل بسيد البيت الأبيض مساء يوم المهانة الليبية وقال له: ألم أقل لك أن العرب يشبهون تماما حكاية القرود التي كان يضربها صاحبها كلما اقترب واحد منها من الطعام، فلما تعلمت الدرس قامت هي بضرب أي واحد منها يقترب من الطعام حتى تحمي نفسها؟

طالبان أثبتت أنها حركة ارهابية من ورق هش، وأكثر زعمائنا العرب يتبرعون بأنفسهم للكشف عن أسرار المنظمات والقيادات الأخرى والأسلحة والأصدقاء، وصدام حسين القائد المهيب قدمته أمريكا في ثلاث كلمات تقطر كل منها بحارا من الاذلال والاهانة والعبودية والازدراء والاحتقار: سيداتي سادتي .. لقد قبضنا عليه!

والعقيد معمر القذافي على استعداد لأن يبيع ملابسه وخيمته وشعبه وتاريخ عمر المختار من أجل عدم وضعه في قفص كالقرود مثل عبد الله أوجالان أو نورييجا أو صدام حسين.
قاطعتها صاحبتها: أعيد السؤال مرة أخرى، هل سيشهد هذا العام انسحاب آخر جندي أمريكي أو بريطاني من العراق؟ قالت القملة الأولى: ليس قبل ضمان السيطرة الكاملة على النفط لمئة عام قادمة، ووضع نظام طائفي يضمن عودة الاحتلال الأمريكي على الطريقة البريطانية ( فرق تسُدْ )، وتحقيق الأمن الاسرائيلي في سوريا الجديدة والمسالمة والمطيعة للكيان الصهيوني، وربما ضرب إيران ضربة موجعة أشد عنفا وقسوة ووحشية من كل حروب أمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق، ثم تغيير بعض الأنظمة في المنطقة، واستنزاف ثروات الخليج، وفتح الباب لآلاف الشركات الحيتانية الكبرى لنهب ما بقي من الوطن الممزق في مشروعات غير انتاجية...

حماقة العقل العربي تتجسد في المقارنة بين الاحتلال/التحرير الأمريكي وبين السنوات السوداء المظلمة لعهد صدام حسين، وذلك هو فخ نصبه أيضا دعاة تحرير العراق للشعب العراقي. إنه مشهد درامي مأساوي كقطع من الليل مظلمات، فيه يعجز العقل والقدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل من ملامح صباح جديد قد يكون مشرقا أو حزينا، وقد تتناثر فيه أشلاء العراقيين ويتمزق الوطن، أو تأتي معجزة من السماء. ولكن الأرض أيضا قادرة على صناعة المعجزات، فهل نفرح أم نحزن على العراق؟ وهنا سمعت القملتان خرير مياه فعرفتا أن عريفا أمريكيا يستعد لغسل شعر الرئيس الأسير!

محمد عبد المجيد
طائر الشمال 
أوسلو في فبراير 2004

الملائكة لا تمسك المطرقة في محاكم مصر!

 
أرشيف!


ليست لديَّ كما ذكرتُ مرات كثيرة من قبل أي ثقة في القضاء المصري، ولا أراه معبــِّـراً عن العدالة أو رضا السماء أو سعادة الأرض أو.. مصلحة الشعب!
إن القضاء الذي يقرأ عشرات الآلاف من الصفحات الموثقة عن جرائم طاغية مصر السابق، ويغمض عينيه عن ثلاثين عاما من الحُكم، ويتفق ضمنا مع النيابة على تقديم اثباتات عن ثمانية عشرة يوما فقط، يتضامن مع الظلم الفادح، ويتوحد ضد أماني الشعب، ويفرج عن أخطر الإرهابيين من مبارك وأهله وجماعته، لا يمكن أن يحكم بالعدل على دجاجة أو سارق غسيل من فوق السطوح!


الحُكم بتبرئة محمد مرسي من تهم القتل العمد والاكتفاء باستعراض القوة أمام قصر الاتحادية، وهو أمر طبيعي لأنه كان رئيساً، هو توطئة لتبرئته تماما في وقت لاحق ليلحق بمبارك. القول بأن القضاء غير مُسيــّـس عبث في الحديث وتهكم على شعب ثار في 25 يناير 2011 ثورة أراد أن يطيح بالفساد فإذا بالقضاء يعيد الفساد ولا يقترب من ملياراته.
 
كنت سأصفق لأي حكم يصدره القاضي المصري إذا كان قد عاقب مبارك على ثلاثة عقود لم يشهد لها تاريخ مصر مثيلا في الفساد واللصوصية والتزوير والتزييف والتهريب والارهاب. كلهم أوغاد، من مبارك ورجاله إلى مرسي ومريديه، وأتوقع أن تتم تبرئة مرسي في مصالحة وطنية يتم فيها العفو عن القتلة، ومسح آثار دماء لوثت أيديهم. إن ترك قيادات الاخوان ولو كانت في زنزانات مشيــّـدة هي رسالة لمن بأيديهم السلطة والقوة والقانون الدولي والضغوطات والصفقات في الخارج أن يتفاوضوا لاحقا على تبرئة من حكم عليهم القضاء المصري عليهم بعشرين عاما مشددة.


هل تتذكرون الحُكم على مبارك بالمؤبد، ثم الحُكم بتبرئته رغم أن الحُكميــّـن ، حسبما زعم مهووسو الظن بأنه قضاء شامخ ؟ معذرة، فأنا لا أقبل أن يتم صفعي على قفاي مرتين!
إما أن يتشرف حبل المشنقة بالالتفاف حول عنق مبارك ورقبة مرسي، بنفس القدْر والشدة، أو ينطلقان في شوارع القاهرة احتفالا بتبرئتهما والحُكم على الشعب. الفساد صنع قوانين العدالة ليمر من خلالها، قانونيا وعدليا وقضائيا، وتــبرئة مرسي ورجاله من القتل العمد هي تمهيد لمساومات الكبار مع الكبار عن كيفية لعق الصغار لأحذيتهم حتى لو تم اعدام قيادات الإخوان في جلسات قادمة فالإعدام والسجن المشدُد والبراءة وجه واحد لقبح لا يتطهر إلا بإعدام مبارك وابنيه ورجالهم. أخشى أن أقول بأن صوت المطرقة هو معزوفات الشـــيطان


محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 21 ابريل 2015

مصر والإرهاب الديني .. كلنا قــَــتـَـلـَـة!

أرشيف

يا إلــَــهي، مرة أخرى، فقد مضت ثلاث عشرون سنة على كتابتي هذا المقال، وأنا الآن أعيد نشره لنفسي قبل أن يقرأه آخرون في محاولة لسد الثغرات فيه، والتعرف على المشهد الحالي من الماضي، واستدعاء الماضي لأراه بعيون الحاضر.مصر والإرهاب الديني .. كلنا قــَــتـَـلـَـة!
أوسلو في سبتمبر 1993

الإرهاب الديني بدا يوم بدأت المزايدة الشعبية على الإسلام، فكانت الهوية الدينية تساهم إلى حد كبير في تغطية كل الجرائم والآثام. فوالد ...
الفتاة المصرية التي يتقدم لها شاب يشترط فيه أن يكون متدينا، لا يعرف غير المسجد والبيت، أما الأمور الأخريات كالثقافة والعدل والرحمة والأمانة ودور هذا الشاب في مجتمعه فلا تهم في قليل أو كثير، إنما المهم أن يراه كل من يعرفه مؤديا الصلوات الخمس في المسجد. ورب الأسرة يشترط على أولاده مصاحبة الشباب المتدين فقط، أي الذي تبدو على ظاهره أمور الورع والتقوى، لكن رب الأسرة هذا لا يسعى لمعرفة أبعد من الظاهر، وهو يعلم تماما أن هذه الأشياء هي الأسهل تمثيلا، وهي المخرج من مصاعب ومشاكل قد يتعرض لها أي شخص.
والكُتّاب الإسلاميون تسابقوا في العقد الأخير لوصف الصحوة الدينية، مبشرين الأمة الإسلامية بالانتصار على الأعداء، واكتساح العالم الغربي الذي سيأتيهم راكعا مسبحا بحمد الله( كما كتب عبود الزمر في صحيفة الأحرار من معتقله في القاهرة). سباق محموم غريب اشترك فيه تقريبا كل الكتاب الإسلاميين، أو المحسوبين على الصحوة الدينية، تمهيدا لحجز أماكن لهم في المجتمع الجديد، المجتمع الذي وصفه سيد قطب بنواة الأمة الإسلامية عندما يتم القضاء على الطاغوت وتسليم الحكم لله، بعد انتزاعه من أيدي الجاهلية الجديدة.

لا يهم بعد ذلك من الذي سيحكم؛ فالخطوات واحدة في كل مكان. وجعفر النميري كان لا يرحم صغيرا أو عجوزا أو امرأة، لكن إعلانه بأنه يحكم بما أنزل الله، ويقطع أيدي اللصوص ( الذين تقتلهم المجاعة) كان كفيلا أن يلجم الأعداء (!!) والمهووسين الذين يطالبون بالديمقراطية والانتخابات العادلة والنزيهة، وحقوق المواطن. وعندما جاء إلى السلطة قاتل جديد، وبلطجي معروف، كان لا بد من تغطية دينية ظاهرية تمده بطاقة الاستمرار في السلطة والإمساك برقاب شعبه واستنزاف ثروته، فقرر" أسلمة" القوانين السودانية وقطع أيدي بعض عجائز الخرطوم وأم درمان، وجلد نساء ضعيفات خرجن من بيوتهن بعد الساعة الثامنة مساء.
حينئذ وجد عمر البشير الجماعات الدينية بكل أنواعها، الترابية والأفغانية والإخوانية والتميمية، وتؤيده وتشد من أزره، وتتولى إعلاميا الدفاع عنه، حتى أن صحيفة " الشعب" المصرية المعارضة لولا بقية من حياء لجعلت منه خليفة المسلمين.
في مصر كان إطعام الوحش الديني يجري على قدم وساق، ودخلت السباقَ كلُ فئات الشعب. فالسيدة كاملة صاحبة عمارة الموت كانت محجبة وتؤدي العمرة كل عام. والريان، أكبر لصوص القرن العشرين في مصر، يقاطع المحكمة ليؤذن للصلاة وهو خلف قفص الاتهام، فتنتظره هيئة المحكمة، وتخشع القاعة بكل من فيها لأن الريان يؤدي الصلاة ولا يستطيع تأجيلها نصف ساعة حتى تنتهي المحكمة. ودار الزهراء للنشر تدخل السباق بعشرات من الكتاب والإعلاميين وأنصاف المثقفين وأرباع الأميين من أجل إغراق الأسواق بكتب غريبة يقف على رأسها أول دفاع علني عن الإرهاب واللصوص في مصر، بقلم الكاتب الماركسي الإسلامي محمد جلال كشك تحت عنوان"مذبحة شركات توظيف الأموال".
ويزداد عدد المشتركين في المزاد الديني، فيدخل فيه الفنانون والراقصات والهاربات من مباحث الآداب والأميون ومضيفات شارع الهرم، والصحفيون المحترمون وتجار وكالة البلح وأعضاء المجالس النيابية والرياضيون، وكل فئات الشعب تقريبا.
المهم أن يحصل كل مشترك على الهوية الدينية، فتتفتح له الأبواب والنوافذ ويدخل مغارة علي بابا.
أحد لاعبي كرة القدم المصريين وجد طريقة سهلة لدخول المزاد، عندما استدعاه التلفزيون لعقد لقاء يتحدث فيه عن فن اللعب، فاشترط أن ترتدي مقدمة البرنامج التي ستستضيفه الحجاب.
ولأن المجتمع كله تساهل في الإرهاب الصغير، فقد دفعت مصر ثمنا غاليا عندما كبر وتوحش وامتد إلى كل مكان، من معابد الأقصر إلى الأبرياء الجالسين في مقهى وادي النيل، ومن السياح الذين أتوا إلى بلد الأمن والسلام، إلى تلاميذ المدارس الذين لم يبلغوا الحلم بعد، ومن أمراء الجهاد المهووسين بالعنف والجنس إلى آلاف من المساجد الأهلية التي تحولت إلى قلاع للإرهاب، بدلا من ان تكون بيوتا يذكر فيها اسم الله، ويتوجه المؤمنون إليه سبحانه بالشكر والتسبيح.
حتى أساتذة الجامعات، المفترض فيهم العقلانية والاستنارة، أدلوا بدلوهم، واتخذ معظمهم موقفا متعاطفا مع القوى الظلامية، فيدخل أحدهم قاعة المحاضرات التي ألقى فيها مئات المحاضرات من قبل، ثم فجأة ينزل عليه وحي الشيخ عمر عبد الرحمن ويرفض إلقاء المحاضرة قبل أن تنقسم القاعة إلى طالبات على اليسار وطلاب على اليمين، ووضع حاجز بينهم! الهدف الواضح والصريح الذي يرمي إليه البروفيسور المحترم هو الإيحاء للجماعات الدينية التي استولت على مقاعد اتحادات الطلاب وهيئة التدريس أنه منهم، وأن رضاءهم عنه أهم من أي مبدأ كان يعتنقه من قبل، فمن يدري فربما كان لهم نصيب( لا قدر الله) في حكم مصر!!
وترتفع درجة حرارة المزاد الديني، فترفض مجموعة كبيرة من الفنانين المصرين الاشتراك في مسلسل تلفزيوني يدين الإرهاب، فهم من ناحية جبناء ومن ناحية أخرى يتوقعون أن تصل الجماعات الغوغائية إلى كل شبر من أرض مصر الطاهرة حينئذ لن يكون لهم موطئ قدم في عالم الفن. حنى الصحف القومية، التي من المفترض وقوفها ضد قوى التخلف والرجعية، ترفض نشر مقالات كثيرة لأنها حادة وقاسية ضد الجماعات الدينية المتطرفة. وباستثناء " المصور" و " روز اليوسف" و " صباح الخير" فإن جميع الصحف والمجلات المصرية تهادن بدرجات متفاوتة، وبعضها يقف علانية مع قوى الإرهاب ضد مستقبل بلده وأولاده وتراب وطنه.
في قاعة المحكمة، وعلى مسمع من كل وسائل الإعلام العالمية، يصرح المتطرفون أنهم كانوا وراء اغتيال فرج فودة ورفعت المحجوب ومحاولات اغتيالات أخرى، وكان التصريح تهديدا لشعب بأكمله، وتأكيدا على أن أيديهم ستصل إلى من تسول له نفسه الاقتراب من حرماتهم.

عندما يسأل سائق سيارة الأجرة الراكب إن كان مسلما أم لا، فإن الأمر يصبح خطيرا ولا يمكن السكوت عليه.
لكن الواقع أن هذه الظاهرة المقيتة انتشرت إلى حد كبير. وقس على هذا كل صور التخلف والإعلان عن الهوية الإسلامية، وكأن كل شخص يقوم بتقديم رشوة علنية حتى يسمح له المجتمع أن يكون فردا صالحا فيه !!
في الفيلم الرائع ( الطوفان) الذي كتب له السيناريو وأخرجه بشير الديك، مشهد للعمدة الذي يرتكب كل الموبقات لكنه قرر بعد عملية تزوير كبيرة أن يتبرع بمبلغ كبير للفقراء بعد نجاح العملية، فردت عليه السيدة الفاضلة المؤمنة، التي كانت ترمز في الفيلم إلى مصر قائلة: حتى الله تعالى تريد أن تقدم له رشوة!!
الحقيقة أن ما يحدث في مصر الآن كان متوقعا خلال السنوات العشر الأخيرة، عندما بدأ السباق المحموم في تقديم " الرشوة" الدينية. فالميكروفونات التي يقول عنها أطباء الأذن والمتخصصون أنها ستصيب الشعب كله بالصمم بعد سنوات قليلة ممنوعة بحكم القانون، لكنها تنتشر بالآلاف في طول مصر وعرضها، فمن يتجرأ على الاعتراض؟ حتى عند صلاة الفجر، التي لا يرتاد أي مسجد لأدائها غير عدد محدود من الأفراد، ينطلق هدير الميكروفونات فيوقظ العجوز ويفزع الطفل ويقلق المريض، ويحيل حياة الكثيرين إلى الجحيم، فإذا اعترضت فالرد جاهز: هل تريد أن تمنع وصول كلام الله إلى عباده المؤمنين؟
في مصر تحدد موعدا مع ضيفك فيقول لك: آتيك بعد صلاة المغرب! لكنه لا يحدد وقتا معينا، المهم هي الهوية الدينية.
وقد يضيف قائلا: هل أصلي العشاء في المسجد أم في بيتك؟(!!).
هل هناك صحوة دينية في مصر؟ عشرات من الكتاب والمفكرين والإعلاميين ورجال الدين كتبوا ونشروا مقالات وألقوا محاضرات عن الصحوة الدينية التي تبشر بكل خير، وجند كبار الكتاب أقلامهم واصفين " الصحوة الدينية" بأنها عودة إلى أصول الإسلام النقي، واكتفاء بما لدى المسلم، واختيار أخير بعد سقوط الشيوعية وقرب انهيار الرأسمالية.

إنها مأساة بكل المقاييس عندما يتحول الدين العظيم الذي اختاره لنا رب العزة ليكون خاتم الأديان، وآخر الرسالات السماوية، إلى قشور ومظاهر تخفي خلفها جبالا من الفساد والموبقات والاعتداء على حريات الآخرين والتخلف بكل صوره.
كيف تكون صحوة دينية مرتبطة بالإرهاب والتطرف والاعتداء على الآخرين؟
كيف تكون صحوة دينية، ومعها يزداد الفساد، وتنتشر الرشوة، ويعبد" المؤمنون الجدد" المال أكثر من عبادتهم للواحد القهار؟!
كيف تكون صحوة دينية، ومعها الكسل والبطالة والسرقة والاغتصاب، ويخيم على البلد العظيم صاحب الحضارات وحامل لواء الإسلام ومركز الإشعاع الديني، ظلم المسلم لأخيه وأبيه وأمه ووطنه، وتزداد الأمية فلا تتقدم جماعة دينية واحدة بمشروع مساعدة الدولة في محوها؟! كيف تكون صحوة دينية، في حين ترتبط صور السرقات الكبرى، سرقات العصر، بأكثر الناس تمسكا بمظاهرها، من الريان إلى أشرف السعد، ومن أصحاب أبراج الموت إلى مهربي المخدرات؟! كيف تكون صحوة دينية وفي نفس الوقت يكره أصحابها كل صور الجمال والفن والإبداع من موسيقى وسينما ومسرح وأوبرا وتلفزيون و.. غيرها، ويقفون منها موقف العداء؟!

الصحوة الدينية يقظة وليست غيابا عن الوعي، وما نشاهده ونسمعه ونلمسه الآن لا علاقة له البتة بيقظة المسلم وفهمه للإسلام، واستمداده طاقة وحيوية ونشاطا وعقلانية وإيمانا صادقا من تعاليمه السمحاء.
يخوضون في الحديث عن محاسن الصحوة الدينية، فيقعون في مأزق كبير لأنهم يعلمون علم اليقين أن هناك تناسبا طرديا بين التمسك بالعقيدة السمحاء لخاتم الأديان و.. توسعة رقعة الأخلاق الحميدة والعمل والتقدم والصدق والتوازن النفسي والعلاقات الاجتماعية الصحيحة. ولو تأملت التفاصيل الدقيقة لأحد أيام مواطن مصري مسلم في عصر الصحوة الدينية لوجدتها بعيدة تماما عن الحياة التي تمنيناها، وكان لنا في رسول الله أسوة حسنة.
... فهو يستيقظ من نومه مرتين، الأولى عندما يفزعه صوت الميكروفون الموجه من المسجد القريب من منزله في صلاة الفجر، فيزلزل المنازل المتصدعة، ويسمعه الآلاف من نساء وأطفال وعجائز ومرضى، ثم يتوجه إلى المسجد عشرون شخصا يتجه معظمهم إلى أعمالهم بَعَيْدَ الصلاة. ويستيقظ مرة ثانية، ثم يتوجه إلى عمله متأخرا أو" يزوغ" من العمل، أو يستقل سيارة أجرة فيكتشف أن سائق السيارة رفع صوت الكاسيت على تسجيل لآيات القرآن الكريم تسمع المارين بالناحية الأخرى من الشارع(!!)، ولا يحتج، فهي لعبة القط والفأر. الأول يمهد لسرقة الراكب في رفع الأجرة، ويقود سيارة لم ينظفها منذ سنوات. والثاني لا يطلب خفض الصوت لئلا يتهم بالعداء للدين، وهي تهمة أسهل من إلقاء تحية الصباح، وأكثر سهولة من القبض على مائة شخص بدون تهمة في أحد شوارع الخرطوم أو طهران أو إسلام آباد...!
ويصل إلى عمله، فإن كان يعمل في القطاع العام أو الحكومة فقد ارتكب في كل يوم من الذنوب ما يثقل ميزان خطاياه، من تكاسل وغياب ونكث بالوعود والكذب على أصحاب الحاجات...الخ ، وإن كان يعمل في القطاع الخاص، فالرشوة والمحسوبية والتحايل على الآخرين وامتصاص دماء الضعفاء سمة مميزة لأغلب العاملين في هذا القطاع.
في المساء يجلس في المقهى ساعات طويلة يخوض في أحاديث اللغو والغيبة والنميمة، ويترك زوجته وأولاده في المنزل؛ فهو ليس مسؤولا عن التربية إنما تنحصر مسؤوليته في اللهو والضحك مع الأصدقاء وسهرات السمر والأنس.
أليست هذه يوميات" طبق الأصل" لمئات الآلاف من المسلمين في زمن الصحوة الدينية؟! الم ترتفع نسبة مدمني المخدرات بكل أنواعها إلى عشر أمثالها في أقل من سبع سنوات؟ هل أدت الصحوة الدينية إلى زيادة المثقفين؟ وهل زاد الإقبال على الكتاب؟

المدرس غير الأمين الذي لا يتقي الله في تلاميذه حتى يضطروا إلى طلب دروس خصوصية، هل هو حالة فردية، أم إنه في عصر الصحوة الدينية أصح كالإيدز في إفريقيا، ينتشر فيها انتشار المتطرفين في مزارع القصب؟! الحكاية بكل بساطة أن الصحوة الدينية هي عنوان لتمنيات وأحلام المسلم الصادق، المدرك لرسالة الإسلام الحقيقية، لكنها ليست عنوانا لواقع قائم.
الصحوة الدينية التي يخوض في الحديث عنها شيوخنا وعلماؤنا الأفاضل وكتابنا ومثقفونا هي ردة دينية، وابتعاد عن الإسلام العظيم الذي ارتضاه لنا خالق الكون سبحانه وتعالى ليكون كلمة الفصل لبني آدم حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أما" الصحوة الدينية" التي مظاهرها في كل مكان ـ تقريبا ـ فهي مزاد للنفاق والفساد، وفهم معوج لتعاليم مستقيمة.

لهذا كان من السهل لأي شخص أن ينخرط فيها لأنها لا تتطلب الكثير من الأعباء والتكاليف: حجاب أو نقاب أو لحية، وشراء بعض الكتب عن عذاب القبر ونظرة الإسلام للمرأة والتبرج، وكتاب عن الغزو الفكري لأنور الجندي، وتفسير سورة النور للمودودي، وكتاب معركة التقاليد لمحمد قطب، و مائة شريط للشيخ عبد الحميد كشك تحتوي على شتائمه وسخرياته من الفن والفنانين والصحافة، ثم بعض الدروس في مساجد أهلية بناها مقاولون انفتاحيون تحت عمارات مغشوشة مواد بنائها حتى يسهل التهرب من الضرائب.
شاب صغير السن لم يعمل منذ تخرجه، يكاد يقتله الجنس الذي يجري في دمائه كالسم الزعاف. يجلس محاطا بأتباع من الشباب الصغار ويحدثهم عن قرب عودة الخلافة، ويسهب في الحديث عن الفساد في أوروبا والانحلال والتفكك الأسري، ويمنيهم في كل مرة أن الإسلام سيقود أتباعه قريبا إلى سحق قوى الظلم في الغرب المنحل.
ويعود صاحبنا إلى البيت وقد امتلك الدنيا كلها بين إصبعين من أصابعه، فيقرأ قبل أن ينام بضع صفحات في كتاب" جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب ليزداد اقتناعه بالمهمة العظيمة الملقاة على عاتقه، ثم يخلد إلى نوم غير عميق. فدوره الرائد والعظيم لم يمنعه من التفكير في تدبير لقمة العيش ومصروفات الزواج والاستمتاع بزوجة في الحلال بعد أن أنهكه التفكير في الجنس!!
إن للتطرف طرقا كثيرة، كلها تقريبا تؤدي إلى نفس النتائج، لكن أوسعها انتشارا ووضوحا وتأثيرا كان ومازال هو التدين الزائف، والمزايدة على حمل الهوية الدينية، والنفاق الاجتماعي الذي يسمح بوضع قشرة مقدسة فوق الفساد.
إذن فالواقع يؤكد أنها جريمة في حق الدين والوطن ومستقبل مصر، يشترك فيها الشعب قبل السلطة، وأن جماهير المسلمين تدعم الإرهاب الديني في الوقت الذي تسعى فيه السلطة للقضاء عليه.

الدعم الجماهيري يأخذ صورا عدة أهمها تقديم الدين السمح في صورة دفاع عن الظلم والفساد والتخلف والأمية والجهل، والإشهار عن الهوية الدينية صبحا ومساء، في العمل والمدرسة والمصنع والسوق والشارع والتاكسي؛ فصلاتهم لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
عندما كنا صغارا كانت شعائر الإسلام وفروضه تمثل علاقة خاصة بين العبد وربه، فإن صادف وكنت لدى صديق أو كنت مدعوا وحان موعد آذان العشاء، فكان بالإمكان الانتظار حتى العودة إلى المنزل، خاصة أن سماحة الإسلام ويسره قد جعل توقيتها مفتوحا إلى ما قبل صلاة الفجر. أما الآن فإن المسلم الحديث، مسلم الصحوة الدينية، لا يرضى لنفسه أن يكون الله تعالى شاهدا وحيدا على حسن إيمانه وإسلامه، فهو يبحث عن أكبر عدد ممكن من أفراد المجتمع يؤكدون تمسكه بتعاليم الدين وفضائل الأخلاق.
فصاحب المقهى يعرف أن لا أحد من عشرات الجالسين الذين يلعبون " الطاولة" و " الكوتشينة" و " الدومينو" ويتناقشون في كل الأمور الدينية والدنيوية يستمع إلى ترتيل آيات القرآن الكريم التي تنطلق من مذياع أو كاسيت داخل المقهى.
ونفس الأمر ينسحب على المحلات الخاصة وسيارات الأجرة. فالقرآن الكريم الذي من المفترض إذا تلي على المؤمنين خشعت قلوبهم لذكر الله، والذي إذا أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، يجعلون منه بضاعة رخيصة، وإعلانا مجانيا عن صلاح وتقوى وأمانة صاحبه، أعني صاحب الإعلان؛ أو الرشوة الدينية.
كلنا ساهمنا، مباشرة أو صراحة، في محاولات اغتيال مصر، وبدأت عمليات اغتيال الوطن عندما تحول الدين على أيدينا إلى إرهاب فكري، ورفض لحريات الآخرين، والاعتداء على خصوصياتهم، والتلويح بنار جهنم لكل من يخالفنا الرأي.
فالدكتور فرج فودة رفض النفاق باسم الهوية الإسلامية، وأكد ـ رحمه الله ـ عشرات المرات أنه لن يزايد على الإسلام، وفضح كل أنواع الكذب الرخيص، من النفاق الاجتماعي إلى شركات توظيف الأموال.
وجاءت رصاصات الغدر من أفراد الشعب الذين كان يدافع عنهم لتؤكد له ولغيره أن إعمال العقل مرفوض رفضا قطعيا.

مئات من الفنانات يدخلن حقل السينما والمسرح والتلفزيون فلا يثير دخولهن زوبعة أو ضوضاء في أي مكان، ولكن إذا قررت راقصة أو فنانة أو ممثلة اعتزال مجتمع الفن بعد أن أثارت شهوات ملايين الشباب طوال سنوات اختارت فيها عن طواعية أدوار الإغراء والجنس، فإن إشهار الهوية الجديدة يصبح أمرا مطلوبا، وهي لا تعتزل الفن قبل أن تربح مبالغ خيالية تسمح لها باستغلالها في مشروع استثماري يدر عليها أرباحا جديدة تناسب الدور الجديد في المجتمع.
أما أن تعتزل في هدوء، وتتفرغ لبيتها وزوجها فلن يفيد في شيء، لأن المطلوب إشهار الهوية الجديدة التي ترضي السادة الجدد في مجتمع الصحوة، والزواج من أحدهم أفضل عشرات المرات من زيجات مختلفة مع منتجين ومخرجين وفنانين كبار. فشركات توظيف الأموال ومافيا التصدير والاستيراد والمخدرات والرؤوس الكبيرة للفساد تحرك الشارع المصري دينيا، ما دام الدين ( الجديد) يستحي من الحديث عن الظلم والاستبداد والأمية والفقر والجهل.

أيها السادة؛ كلنا قتلة، ومسؤوليتنا في ما وصلت إليه الأوضاع في مصر الطيبة العظيمة، مسؤولية جماعية يتحملها الشعب الذي أصغى بشغف لصوت الإرهاب الديني وانصاع له. وكلنا قتلة لأننا نمنح الإرهاب قداسة، ونجعل المدخل الديني جواز مرور لكل السيئات والمفاسد والاعتداءات، ثم نطالب الحكومة أن تحمينا وتساعدنا وتوفر لنا الأمن والأمان والسلام الاجتماعي.
وكلنا قتلة لأننا لم نحافظ على أمن مصر، بل إننا ندافع عن التطرف، ونعيش في ازدواجية فكرية وسلوكية تسمح لنا أن نهادن الملائكة والشياطين في وقت واحد، فنطالب بالديمقراطية ونحن مستبدون، ونفرق بين العلم والإسلام، ونبني آلاف المساجد ثم نبخل على أنفسنا إذا تعلق الأمر بترميم مدرسة أو اثنتين.
كلنا قتلة لأننا سمحنا لقوى التخلف والظلام أن تسيطر على حياتنا.

طائر الشمال
محمد عبد المجيد
أوسلو في سبتمبر 1993

عودة إلى أماني الخياط والمصيدة الفاشلة!

أرشيف
 25 مارس 2015

مرَّ أسبوعان على برنامج أماني الخياط التي استضافتني فيه فكانت مضيفة شرسة لم تحترم شرف المهنة في أصغر صورها، وبقيت تساؤلاتي: ما هو السبب في الكراهية التي بدت من أول لحظة؟
ما هذا الاستعلاء والكبرياء نحو المصريين في الخارج كأننا نختطف اللقمة من أفواه أهلنا؟ هل لأنها قرأت بعض مؤلفاتي وأثارها دفاعي عن المغرب ضد احتقارها لشعبنا في هذا البلد الكريم؟
هل كان مبارك خطاً أحمر ينبغي أن لا تتجاوزه، خاصة أنني شككت في مصرية أي شخص لم تدمع عيناه إثر تبرئة الطاغية المخلوع؟
أم أن المشير طنطاوي هو "التابو" في التلفزيون المصري؟ أم أنها أرادت إيصال رسالة للرئيس السيسي أنها وحدها التي تملك حق مساندته؟ أم كانت شراستها للدفاع عن الفساد الذي طالبت أنا بالقضاء عليه قبل سنّ قوانين تحل محل قوانين الفساد؟

هل هو الخوف من أجهزة الأمن المتعاونة مع " القاهرة والناس"؟ أم الخشية من أصحاب القناة؟
لماذا قبلت استضافتي إذا كانت تعرف عني مسبقاً، وزعمت أنها لم تقرأ لي؟ لماذا سرقت ثلث وقتي قبل البرنامج في فتح الميكروفونات على مديح المشاهدين لها؟ أي مهنية تلك التي تعطي الإعلامي الحق في مقاطعة ضيفه، وعدم السماح له بتكملة جملة واحدة؟
هل كانت الحلقة لأماني الخياط مع نفسها؟ لماذا رفضت بجنون عرضي أي فكرة مكتملة على المشاهدين؟ لماذا اعتبرت حديث المصري المقيم في الخارج عن هموم وطنه تدخلا في شؤون الآخرين، أم هي لدعم فكرة عدم مشاركة مزدوجي الجنسية في الشأن المصري؟
لماذا انتفضت عندما تحدثتُ عن حزب النور السلفي، كذراع لداعش، وهل هي رسالة ضمنية بالتعاطف مع داعش إذا دخلت مصر، لا قدر الله؟ لماذا جازفت بكراهية المشاهدين لها، واختارت الانحياز للفساد وانتخابات هزيلة لمجلس النواب، وتحريم التطرق لتبرئة مبارك؟
لماذا قالت بأنها اختارت القضاء العادل كما هو ، رغم أنه لو نطقت السماوات والأرض والبحار لصرخت بأن القضاء المصري ظالم؟ لماذا وضعت على لساني كلمات لم تدر بذهني بحجة ( هل تقصد أن .. ) بدلا من مَنحي الفرصة لعرض أفكاري؟

هل هي بريئة، وأن الأمن في سماعة أذنيها هو الذي يملي عليها ما تقوله؟ أي إعلام هذا الذي يكذب، ويستضيف، ويصطاد ضيفه إلا أن يكون بلاغاً للأمن؟
لماذا تركت ضميرها وشرف المهنة خارج الاستديو، وأرسلت رسالة فضائية لمبارك لحمايتها لاحقاً عندما تعود له ولابنيه وللفلول السيطرة؟ لماذا تحاصر أماني الخياط الرئيس السيسي بمحبتها ظاهراً، وكراهيتها له باطناً؟

لماذا حذفت من اليوتيوب والنت والفيسبوك كل أثر للحلقة رغم أنها كانت المتحدثة شبه الوحيدة؟ هل مقالاتي التي قرأتها مسبقاً عن عفن الإعلام هي السبب؟ لماذا أنهت الحلقة قبل موعدها مع أنني لم أكن ضيفاً يؤذي كلامُه المشاهدين الكرام؟

لماذا كانت في سباق مع نفسها لإحراق الضيف على الهواء؟ هل الموضوعات التي سلمتها إياها قبل الحلقة بيوم واحد وقرأتها، ثم عرضتها على الجهات الأمنية أو القضائية هي التي جعلتها تستعد لعملية احراق واضحة؟ جبال البغضاء التي بدت من فمها كانت أكثر وضوحا من القناة نفسها، فما الذي أجبرها على ذلك؟
التهكم وضاعة، والسخرية انحدار، فأنا أكتب قبل أن تولد أماني الخياط، ولا أزايد في حب مصر، ولا أنافق في حملي هموم الوطن الأم. أماني الخياط أحرقت ضميرها وشرفها ومهنيتها أمام مشاهديها وأهلها وأحبابها من أجل ضمان الحماية، فقضية إهانتها المغرب لم تنته بعد. وسيبقى السؤال قائما: لماذا قامت بحشو المصيدة بخسة ودناءة وانتقام كأن بيني وبينها ثأراً، أو بينها وبين المصريين في الخارج أثأر مــنــه؟

من حُسن حظها أنني لست الضيف الذي يصرخ، وينسحب ، ويهين مضيفه، لكن كان سلوكي معها مكسباً لي. لا أنكر أنني غاضب حتى هذه اللحظة، ولكنني تأكدت بأن إعلامنا المصري الذي كتبت عنه عام 1977 بأنه يستحق أن نبكي عليه، ما يزال كما هو في كل العصور. إعلام معاق، ومتخلف، ويتلقى التوجيهات، ويرقص كالقرد ميمون لأي سلطة أو مؤسسة مالية. أماني الخياط استضافتني وعن يمينها مبارك، عن يسارها قاض، وخلفها أجهزة الأمن، وعلى كتفيها الخليفة أبو بكر البغدادي؟

الغدر دناءة، والخيانة خسة، واصطياد من لم يؤذ المضيف عمل جبان! يشفع لي أن كلماتي القليلة التي خرجت من بيت أطراف المصيدة وصلت إلى المشاهدين الشرفاء، وربما إلى الرئيس السيسي، وأن سخريتها من المصريين المهاجرين ليس فيها من النـــُـبل شيء، ومن الشهامة ذرة واحدة.

هل أرادت حجب ومنع المصريين في الخارج عن دعم مشروعات الرئيس السيسي؟
أماني الخياط قد تكون الرابحة على المدى القصير بفضل مبارك وطنطاوي والقضاء الظالم ومجلس النواب البرهامي القادم وفرحة الفساد الذي صنع قوانينه وأصحاب المليارات الذين ابتهجت الإعلامية بأن القضاء تولـَّــىَ تنظيفهم من جرائمهم، لكن الزبد يذهب جفاء، ويبقى في الأرض ما ينفع الناس. أماني الخياط كالدب الذي قتل صاحبه، والرئيس السيسي سيكتشف، إنْ عاجلا أو آجلا، من الذي يقف معه، ومن يعانقه ويطعنه في نفس الوقت.

تلك بعض كلمات الغضب في نفسي، وإذا أرادت أماني الخياط أن تستعيد بعضاً من ضميرها وشرفها وكرامتها ومهنيتها، فلتقف بشجاعة الفرسان في شاشتها الصغيرة وتعتذر لأنها بصقت على الضمير في لحظة ضعف. اعتذارها مكسب لها، وعزة نفسها بالإثم ستطاردها ما بقي لها من عُمر، وأنا سأعود إلى هذا الموضوع مرات و .. مرات، ما بقي لي من عُمر!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو
في 25 مارس 2015

سكوت .. فالمشير طنطاوي سيتحدث!

أرشيف .. أرشيف .. أرشيف!
أوسلو في 3 ديسمبر2011


سكت المصريون، وتسمرتْ العيون أمام الشاشة الصغيرة، وعلـَت الهمهمات تـُنبيء عن استمرار الناس في سباق العرّافين، وضاربي الوَدَع، وقارئــي الفنجان. ماذا سيقول المشير؟
أعضاءُ المجلس العسكري يجلسون ولا يستطيع أيٌّ منهم أن يرسم على وجهه ابتسامة، فالجنرالات لا يبتسمون، لكن لا مانع من أن تتراقص النجوم والنسور على الأكتاف، فكل كتفين يستندان على جسد جنرال أقسم لزوجته مساء اليوم السابق أنه رئيس الجمهورية أو .. أقرب!
سكوت، فالمشير سيتحدث!

أيها المواطنون،
وأخيرا، وبعدما أرهقتموني لأكثر من عشرة أشهر، جعلتكم تقفون صفوفا طويلة متراصة أمام مصيدة ما كان لي أن أضع أقدامــَكم فيها بدون دعم من صندوق الانتخاب!
عشرة أشهر ونحن نحاور، ونجادل، ونناور شبابَ الثورة، وكلما نصبنا لهم فخاً، أطلقوا دعوةً لمليونية جديدة، ويزداد سقفُ مطــالبــِهم التي يتحقق منها أقل القليل.
طالــَبوا بالقصاص للمئات من زملائهم الشهداء، فجعلناهـم ينتظرون شهورا عدة حتى يلحق النوفمبريون بالينايريين، ويصاب عدة آلاف، ويتعلم رجال الأمن طــُرقاً جديدة للتصويب، والعيون التي لم تفقأها بنادق أجهزة الأمن في الجزء الأول من الثورة تنفجر في الجزء الثاني.

قاموا بثورة لمحاكمة رئيسي السابق وسيدي القائد الأعلى للقوات المسلحة عن كل جرائمه، وأنا أعرف تفاصيــَلها أكثر من معرفتي أسماء أولادي وأحفادي، فاختصرناها لاتهامات ضد كائنات غير مرئية أتت من كواكب أخرى، فقتلتْ، وجرحتْ، وعذبتْ، وجاءت بالخيل والجــِمال والحمير في رابعة النهار، وتسلقت أسطــح المنازل لتتنافس في قنص الشباب.
تطالبون بمحاكمة رئيسي السابق وطاغيتكم البائد عن ثلاثين عاماً قضاها يستنزف خيراتكم، ويأمر حيتانــَه بنهب أموالكم، ومـَرَّ على معتقلاته في ثلاثة عقود أكثر من ربع مليون مصري، واختفى مصريون، وبلعت أقبية السجون أبرياءَ لم يتم عرضهم على القضاء فقضوا في غيابات الزنزانات سنوات طويلة محرومين من الحرية والأهل والعدالة و .. الوطن، فقررنا أن نحاكمه محاكمة صورية عن ثلاثة أسابيع، ولم تخرج مليونية يتيمة تطالب بثأر شعب لكل تلك السنوات.

أيها الاخوة المواطنون،
لم يكن أمامنا لادخالكم المصيدة غير هذا الحل، فظننتم أنها عملية ديمقراطية، وأنكم تشتركون في اختيار ممثليكم في البرلمان، وأن القضية هي التزييف والتزوير سابقاً، ونسيتم أن كارثة بلدكم تتمثل في وصول قوى التخلف والرجعية والذهنيات المعاقة إلى الحرم الديمقراطـــي نتيجة نظام الدوائر والاعلانات والأحزاب التي تملك المال والسطوة والجهات الخارجية التي يفتح لها النظام الانتخابي الساذج أبواباً ونوافذ لوصول رجالها إلى مقاعد مجلس الشعب، فضلا عن أنصاف الأميين والجهلة وهم الأغلبية الساحقة في نظام الدوائر، فيشتريهم أصحاب المال والسلطــة والفلول والمزايدون في الدين و.. خدم القوى الخارجية.
مصيدة استطاعت أن تستقطب الشعب برمته، وينضوي تحت لوائها مثقفون، وأساتذة جامعات، ورجال دين اسلامي ومسيحي، وكــُتــّاب الوطن، وجماعات وأحزاب ومرشحون للرئاسة، فأغمضوا عيونــَهم عن فاجعةٍ تصيب وطناً في مقتل، وتغتال ثورةً عظيمة وسط تصفيق حاد لعملية الاغتيال من القاتل والقتيل في نفس الوقت.

ما أبأس سذاجتكم وأنتم تفغرون أفواهــَكم بهجةً بالعملية الانتخابية، ولم تطرحوا السؤال الطبيعي عن قبضة الأمن والجيش في يومين فيعود البلطجية والقتلة وقنـّاصو العيون إلى بيوتهم للراحة خلال ساعات الانتخابات، ثم يعاودون نشاطــاتهم الاجرامية فور اغلاق صناديق الاقتراع، ألم يكن أمراً مستهجناً، أو غريباً، أو يحمل في أحشائه سبعين علامة استفهام؟

أيها الاخوة المواطنون،
وقفتم في طوابير طويلة أمام عدسات التصوير مادحين في ديمقراطية اليومين، وغابت الأحداثُ الجــِسام عن ألسنة كل الذين تحدثوا إلى مُراسلي الفضائيات، تماماً كما تهبّ عواصف وتكتسح أعاصير الأخضر واليابس فيصفها متضرر بأنها نسمة هواء منعشة!
المشهد أمامكم طوال عشرة أشهر يكاد يتحدث نيابة عن الشهداء، وأنتم تصمّون آذانــَكم، وتصكــّون وجوهــَكم، فلا حديث إلا همساً عن أموالكم المنهوبة والنائمة في عشرات من مصارف الشرق والغرب تنتظر شعباً أيقظته ثورة شبابية ليستردها، على الأقل يشتري بها طــعام العشاء لربع سكان الوطن المسكين، ولا حديث إلا صمتاً عن رجال الطاغية المخلوع، وماذا يفعلون؟ وهل هم حقاً في السجون والمعتقلات كأقرانهم من المجرمين؟ ومن يملك الحق في تبرئة السيدة سوزان مبارك مقابل التنازل عن مبلغ يعادل مصروف جيب لولديها، فتأمر النيابة باخلاء سبيلها، وتبصق على ثلاثين عاما من العفن النتن لعائلة مبارك!

حتى الفئران لو وضعنا أمامها مصيدة كصندوق الاقتراع لترددت مرة واثنتين قبل أن تلتهم قطــعة الجبن، أما أنتم، فمباشرة عقب عمليات قنص العيون أمام عيون الشعب، والقاء جثث شهدائكم في مقالب القمامة تتوجهون كالتلاميذ النجباء في مدرسة للبلهاء لتصطفوا ساعات طويلة زاعمين أنها ديمقراطية، فإذا هي ماكينة لاعادة انتاج مبارك، وتفريخ نواب الكيف والقروض وتجار الشنطــة مع اضافة نكهة دينية هذه المرة، والثمن مدفوع مسبقاً.

ماذا دهاكم وأعادكم إلى النوم مرة أخرى؟
لماذا صدّقتم شائعات تقول بأنني سأشهد أمام المستشار أحمد رفعت، وأقص حكايات يشيب لها شعر الجنين عن مبارك وابنيه وحبيب العادلي وزكريا عزمي وأحمد فتحي سرور وصفوت الشريف وأحمد عز وغيرهم؟
وكأن شهادتي كانت مفاجأة لكم، فلم تخرج ردودي عن: لا أعرف .. لا أعرف، فأنا لا أضحي برئيسي السابق وحاشيته حتى لو تنزلت الملائكة بوثائق تثبت أنهم قتلة، ومجرمون، وجزارون، ومهربون، ونهــّابون، وكارهون لكم، وأفسد من قاموا بحكم مصر منذ عهد أحمس الأول.

أليس فيكم رجل رشيد ينصحكم بحقوقكم، وينبهكم لمن يتربص بكم، ويُعــَلـّمكم طــُرق الحفاظ على ثورتكم الشبابية؟
طمعتْ نخبتكم في مقعد البرلمان فقررتْ الاشتراك في نفس السباق مع الأميين والجهلة والمزايدين دينياً فعثروا في النظام المهتريء لاختيار ممثليكم على مبررات نجاحهم المسبق، فزعموا أنهم فلاحون، وأدعوّا أنهم عمال، وانتسبوا لفئة الفئات، وهم يعلمون سلفاً أن مجلس الشعب ليس له سلطــة تشريعية، وأن سحب الثقة من الحكومة تحدده أحذية العسكر، فمجلس الشعب هو المبرر لكي يلهب سوط المجلس ظــهوركم، فأنتم اخترتم أعضاء البرلمان، ولم نضربكم على أصابعكم، والشعب كله ترك شرعية ميدان التحرير ليبصم على شرعية ديمقراطية مزيفة يقوم على ثلثها رجال مبارك، وعلى الثلث الثاني قوى دينية تعتبر الديمقراطية واقفة بين الحرام والكفر، لكن الغاية تبرر الوسيلة، ولو كان مكيافللي حياً لترشح في المرحلة الأولى عن الاخوان وفي الثانية عن السلفيين وفي الثالثة يــُقْسـِم أنه فلاح يربّي دواجن في غرفة نومه، ويزرع حوش داره بقلاً وقثاءً وفوماً وبصلا وعدساً، وعلى الثلث الثالث أعضاء يستقلون القطار إلى باب الحديد للمرة الأولى، ويجلسون في مكان يحتارون في تسميته: البولمان أم البرلمان!

أيها الاخوة المواطنون،
ضقتم ذرعاً بأولادكم، أليس كذلك؟ وبعتم زملاءهم الشهداء بالصمت تارة، وبالوقوف في ميدان العباسية تارة أخرى، وفي النهاية تقفون في صفوف طويلة لنزع شرعية ثورة شبابكم ووضعها في جيب وحساب وفـَم من لا يعرف الفارق بين مجلس الشعب والمجلس المحلي، أو بين الجيش والمجلس العسكري.

لم أتصور للحظــة واحدة، في يقظتي ومنامي، أن مثقفيكم، وعلماءكم، وفقهاءكم، ومفكريكم، وإعلامييكم، وكل القوى السياسية والحزبية والوطنية سيسقطون في الحفرة كالسائرين نياماً، وتكدست الفضائيات والصحف والندوات بآلاف المناقشات والحوارات عن تلك اللذة المازوخية العجيبة لدى السقوط في حفرة ما كان لها أن تصطاد الشعبَ لو أصررتم على مطالب ثورتــِكم، وحماية أولادكم، واسترداد ملياراتكم، ومحاكمة قاتلي فلذات أكبادكم، والتعجيل في وضع نهاية لمسرحية المحاكمة!

تريدون مني محاكمة ضباط الأمن الملوثة أيديهم بدماء الشباب، شهداء ومصابين، وتنتظرون أوهاماً وخزعبلات تأتيكم فتتمنون اعتقال كل رجال رئيسي السابق حسني مبارك، لكننا لن نفعل، وعليكم أن تشجّوا رؤوسكم في جدران بيوتكم، وسنترككم تتناحرون، وتتشاجرون، ويـُكـَفـِّر بعضكم بعضا، وتتمزقون بين معارضين لنا في ميدان التحرير، ومتزلفين جبناء في العباسية يستبدلون بأرواح الشهداء رضا المجلس العسكري.

مزقوا شرايينكم، وانتحروا حُزنا وكمدا وغضبا، لكننا لن نــُلقي القبض على البلطجية والمجرمين وسارقي السلاح والهاربين من السجون والمعتقلات وأصحاب السوابق، رغم أنني أستطيع أن أجمعهم في يومين اثنين كما يجمع ضباط الأمن وقناصة العيون جثث أولادكم لضمها إلى القمامة المتراكمة على الأرصفة.
مليونية تطالب بعزل رئيس الوزراء السابق الدكتور عصام شرف الذي كان يقف أمام أعضاء المجلس كما يقف التلميذ الخجول أمام مدير المدرسة في أول أيام الدراسة، فاستجبنا لهم، لكنني عنيد ككل الجنرالات، فبحثت في تاريخ رجال رئيسي السابق فإذا برجل سيحتفل بعيد ميلاده الثمانين بعد عامين، وكان مخلصا لمبارك، ومطيعا لأوامره، وخائفا من غضبه، وصامتا أمام اهانة ابن الرئيس له، وحاملا بصمات مشروعات فاشلة، فأخرجته من متحف التاريخ نكاية في شباب الثورة، ولم أكترث لأي مليونية ترفض رجال مبارك، فخريفنا أبقىَ من ربيع شبابكم!

أيها الاخوة المواطنون،
تحلمون بمشنقة تنتصب ليلتف حبلــُها الغليظ حول عنق رئيسي السابق، لكنني لن أترك الشعب ينتقم منه، ونحن، بفضل المستشار .. رجلنا في المحكمة، سنصبر تأجيلا، وتسويفاً، وعبثا، ولهواً، حتى يقوم مــَلــَك الموت بزيارته، ونقيم له جنازة عسكرية مهيبة، وندفنه مع زعماء مصر الكبار، أما شهداؤكم فلا عزاء فيهم، وإذا أردتم فاحتكموا للعلي الجبار يوم القيامة، ونحن نضمن أن مئات الآلاف من الاخوان المسلمين والسلفيين سيشهدون لصالح العسكر يوم الحشر الأكبر، فالصفقة معهم لا تتبدل، وقد حصلوا على ثمن الصمت وباعوا التحرير عباسياً وبرلمانياً!

هل سمعتم صراخ المعتقلين والمفقودين والمختطــَفين وهم يتوسلون إليكم أن تقفوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا؟ قطـعاً لم تسمعوا، فــ(مولد) التصويت يُغطــي علىَ أنــّاتِ المحرومين من الحرية، ويـَعْصــِب عيونكم، ويصـُمّ آذانــَكم؟

هل تظنون أننا لا نملك المقدرة الفائقة على عمل مناقصة عاجلة ومربحة لعدة شركات نظــافة فتجعل مصر كلها تبرق، وتلمع في شهرين حتى لو استفادت شركات التنظيف بعشرات الملايين في عمليات دوران القمامة والفضلات في قطــعة أرض بعيدة عن العمران قبل أن يهاجم الطاعون أولادكم؟

نحن لا نكترث لمليارات من أموال الشعب التي تقبع في مصارف غربية وعربية وأمريكية، ولكن جريمتكم أكبر لأنكم أكثر بلادة في التعامل مع خيراتكم المنهوبة، وعندما وقف الدكتور كمال الجنزوري أمام الصحفيين يتحدث عن عهد سيده السابق مبارك وقال بأنه اكتشف ضياع 87 مليار جنيه من صندوق الأجيال القادمة لم يرتفع حاجب واحد فوق عيـّن أحدكم، دهشة، وتعجباً، يعقبه غضب ومليونية، فمن الذي يتستر على الجريمة، نحن أم أنتم؟

الآن لنا رجالنا في برلمان لا يستطيع أعضاؤه الاعتراض على مشروع فاشل تـُقــَدّمه الحكومة، والحكومة لا تتنفس إلا بأمر المجلس العسكري، وأعضاء المجلس لا يحركون عضلات وجوههم، فرحا أو غضبا، قبل التأكد من موافقتي!
ما أسهل أن تــُهدد إسرائيل بالعودة لاحتلال سيناء بحجة أن حكومة من الاخوان المسلمين في القاهرة تقوم بتهريب السلاح إلى أشقائهم الحمساويين في غزة!
وما أسهل قبول طلبات المهاجرين الأقباط من بلدهم الذي استوطنوه قبل دخول الاسلام بمئات الأعوام، فكنا عنصراً واحدا لا يستطيع تشارلز داروين أن يميــّز بيننا، وإذا بلا فكر جديد يكتشف أن الآخر من أهل الذمة، وأن مواطــَنــَتـَه لا تساوي في فكر التكفير جناح بعوضة، وأنه أقل مرتبة من المسلمين الجدد حتى لو كان أكثر صدقا وشرفا وعـِلْما، وأن مصر ليست بلده، إنما هي حــِكْرٌ على أهل الاسلام فقط.

أيها المواطنون،
لقد كسبنا المعركة يوم أن أرهقتكم المليونيات في ميدان التحرير، وبدلا من أن تحتضنوا أولادكم الثوار، وتطــالبوا بالقصاص لدماء الشهداء، وتستعجلوا يوم صدور أحكام الاعدام على مبارك ورجاله، وتعتصمون في الميدان بكل فئاتكم، وأحزابكم، وجمعياتكم، ولا ينتهي الاعتصام أمام كل وكالات الأنباء والفضائيات قبل استرداد مليارات نهبها رئيسي السابق، تعاتبون أولادكم في الميدان لأنهم أوقفوا عجلة الانتاج، أو لأنهم يريدون تحريركم.
لقد كسبنا المعركة يوم أن ذهب الظن بكم أننا لا نعرف اسم كل قاتل، وقنــّاص عيون، ومنتهك حرمات بناتكم، فنحن نعرفهم فرداً .. فرداً، ولن نضحي بهم سواء كانوا من رجال الأمن أو من البلطجية والمسجلين كأصحاب السوابق والاجرام، وموتوا بغيظكم، أيها المصريون، فالنظــام الجديد قديم، وأموالكم في ذمة التاريخ، وعيون أولادكم ليست أغلى لدينا من فوهات بنادق ضباطنا.

قولوا لأولادكم في ميدان التحرير بأن صمت أهلهم لثلاثين عاما في عهد مبارك يحتاج لثلاثين عاما أخرى من اطراقة الخوف والخجل خلال حــُكم العسكر، وأن صفوة مفكريكم دفعوا بكم إلى مصيدة الانتخابات، وأن أعضاء مجلس الشعب سيـُشــَرّعون قوانينَ جديدة لطاعة ولي الأمر مادام يقيم فيهم الجمعة و.. العيدين!

أترككم الآن حتى أتصل بالسيد الرئيس في المستشفى وأقول له: تمام يا أفندم!


محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 3 ديسمبر2011

Taeralshmal@gmail.com

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...