22‏/04‏/2016

حوار بين كلب السلطة و .. كلب الشارع!

التقى كلبان على قارعة طريق خالية من المارة، فتنابحا، ثم تفرّسَ كل منهما في الآخر كأنهما من عالمين مختلفيّن.
كان الأول سمينا وتبدو عليه علائمُ الدلال والرفاهية والتخمة، فهو كلب السلطة، أما الثاني ففيه فقر المتشردين، تُغطيه أسمالٌ رثة من أوساخ الشارع فهو منه وإليه.
ودار بينهما حوار التقطنا شطرا منه...




قال كلب السلطة: ما الذي جاء بك إلى هذه المنطقة النظيفة، وإني لأظنك أخطأت الطريق إلى فضلات سكان عشش الصفيح فقادتك قدماك إلينا؟
كلب الشارع: أراك تتحدث كسَيّدِك ووليّ نِعْمتك الذي يُطعمك، ويُسَمّنك، ويحيل نباحك إلى تجرؤ وقح على وفاء عالم الكلاب 
!
لقد جئتُ هنا لأن كل شارع هو داري، وكل زاوية هي مرصدي، أطارد القطط كما يحلو لي، وأمارس حريتي في التنقل دون عصا سَيّد أو شراسة أبنائه.
كلب السلطة: أظن الفقرَ قد جعل منك فيلسوفاً، والأوساخَ التي عَلَقَتْ بك أنستك أن كلابنا المدللة تنفر منك، فنحن نغتسل بماء الخرطوم الذي يُمتعنا به سائق السيد وهو يغسل السيارة السوداء الفارهة التي لا أحسب أنها مرت في شوارعكم القذرة الضيقة التي يتنافس فيها الناس والكلاب والقطط على صندوق قمامة.
كلب الشارع: وأنا أظن أن أسيادك يدللونك كما يفعل الأطفال مع خروف العيد قبل ذبحه.
أنت تهزّ ذيلك عندما يضربك سيدك، وأنا أهزه فرحا عندما يربت طفل فقير فوق ظهري.
أنت لا تشم رائحةَ اللصوص فهي مثل رائحة سيدك، وأنا أطاردهم ولو كانوا يرتدون أفخر الثياب وتدوس أقدامهم على الأرض كأنهم ليسوا منها.
أنت تجلس هادئا بجوار سيدك وهو يعقد صفقات الشياطين مع ضيوفه، وتمر أصابعه في شعرك الكثيف النظيف فتصمت، ثم يأخذك نعاس المتخمين، أما أنا فأبحث عن لقمة عيشي، وأقفز فرحا إن عثرت على عظمة ألقاها فقير بعد أن مسح لسانُه بقايا ما كان فيها من لحم قليل.
أنت جبان ترجع خطوة للوراء إن لوّح أحد أمامك بقبضته، أما أنا فأتقدم خطوتين مواجها خصمي ولو كان يمسك عصا غليظة
كلب السلطة: وأنت تعيش وتموت دون أن تسير على بساط، أو تنام في فراش وثير، أو تلهث بجوار سيد يمارس رياضة الجري في أحد النوادي التي صنعها أثرياء العصر ليشاهد بعضهم بعضا، ويعقدون صفقات الأسياد.
كلب الشارع: بل أنت حارس للصوص الوطن، وناعم كأنك وُلِدت قَطة تَحَوّلتْ إلى كلب. أراك أحيانا داخل أسوار القصر وابنة سيدك تلقي بكرة اليد بعيدا فتسرع لتأتيها بها دون أية متعة أو سعادة.
أنت لم تعد رمزا للوفاء، لكنك تمثل الخنوع والخضوع وهزّ الذيل لمن يُلقي إليك ببقايا مائدة تحلّق حولها ضيوفُ لص القصر احتفالا بخضوعهم هم أيضا.
أنت كائن حَيّ هَرَبتْ منه روحُه، أما أنا فكلب حر طليق أنام في أي مكان، وأتدثر بسماء صافية أو ممطرة، ولا تخيفني وقع أقدام أشرس اللصوص وهو ينهب الأرض عائدا من سهرة، أوثملا ضل طريقه إلى موقف سيارته.
كلب السلطة: أما أنا فأعرف الحرير والطعام الشهي، ويربطني سيدي بسلسلة من فضة تتدلى منها قطعة معدنية مكتوب عليها اسمي وعنواني.
إن غبتُ دقائقَ عن عيون سيدي بحث عني في كل مكان حتى آتيه طوعاً أو كرهاً، أما أنت فحَسْبُك قمامة تلقيها سيدة من نافذة بيتها فتظنَ نفسَك قد ملكت الدنيا وما فيها.
كلب الشارع: ما تراه أنت حياة مُنَعّمة، أراها أنا قبحا ودمامة وصمتاً على السرقة وقيودا في رقبتك ولو كنت تجري في أرض خضراء استولى عليها سيدك من أفواه من يطعمونني في عشش الصفيح حتى لو كان طعامهم إياي لا يشبع فأرا مشردا أو بُلبلا وقف غير بعيد يُغرد للفقراء فلا تعرف إن كان يَسْعَد برؤيتهم أم يؤكد لهم أن حريته من حريتهم.
كلب السلطة: فلسفة الفقر لا تخدعني، ومنطق العوزّ لا ينطلي علي، وتبريرات الطبقة الدنيا من كلابنا لا تجعلني أفَضّل حريتَك المزعومة على قيودي الواقعية.
نعم، لقد أصبح نباحي خفيضا لا يسمعه لص، ولا يخشاه قاتل، ولا يزعج كُلَّ سكان القصر وضيوفَهم الأكارم.
إن سيدتي تأخذني على حِجْرِها الناعم، وتمر أناملها الرقيقة فوق ظهري، وتأمر السائقَ أن يتوجه سريعا لطبيب بيطري.
صحيح أننا ندخل عيادته فلا يعرف للوهلة الأولى مَنْ منّا الكلب، لكنه في النهاية ينحني لسيدتي، ويؤكد لها أن الأمر ليس خطيراً، وأن شهيتي للطعام التي خفتت ستعود مرة أخرى، ثم يقول لها: كلبُك ياسيدتي هو سيدنا،نحمله فوق رؤوسنا!
كلب الشارع: لعل وقتك الذي تقضيه نائما في حديقة القصر لا يسمح لك بتأمل الهدف من الحياة، وربما لا تعرف الفارق بينك وبين كلاب أخرى تسير على قدمين، تستعذب مهانة سيدك لها، وأحيانا تحمل فوق أكتافها نجوما، وعلى صدورها نياشين لامعة أوّسَمَها إياها سيّدُ القصر بعد أن نافستك في مطاردة مناهضيه في الشوارع وهم الذين تظاهروا طلبا لحريتهم المشروعة، فنهشتَ أنت وكلاب الزعيم أجسادهم الغضة البريئة.
أزعم أنك لم تسمع بقصيدة المأمون أبي شوشة وهو يقول:
مولاي لا تعبأ بهم
لا تكترث
كلاب
يصغر عقلهم عن فهم ما تبغي من الأحلاف
في قصرك المعمور بالخيرات يا ملكي كلاب
ثم ينهي قصيدته قائلا:
أو ليس شعبك أو كلابك كلهم مُلْكا حلال؟
كلب السلطة: تُضحكني فلسفتك في تبرير فقرك، وتبهجني متعتُك في لعق الأوساخ التي علقت بجسدك، ويروق لي بحثك عن طعام تتجشأه بطون أولاد أسيادي المرفهين.
اقرأ ما شاء لك وقتك في الفلسفة وحقوق الكلاب وأهمية الوفاء، أما أنا فأطيع ما أمرني سيدي وتاج رأسي، فيرسلني أحيانا إلى السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة لعلي أغرس أنيابي في أجساد المتمردين على أسياد البلد.
إنني لست بهذه النعومة التي تخدعك، فأنا أنافس كل رجال الزعيم في الشراسة والاعتداء على الناس ومطاردة الأبرياء وترك اللصوص يمرون أمامي مطمئنين كأن حاسة الشم قد انتزع منها سيدي ما يدلها على لصوص الوطن.
كلب الشارع: أما أنا فأرفض أن أتساوى بكلاب سيدك التي تحمل نياشينها ونجومها ، وتمشي في الأرض تبغي خرْقَها.
إنني أعلم أن هناك كلاباً تحمل الحصانة البرلمانية، أو تحمل حقيبة وزارية، أو تتولى أعلى المناصب في أحزاب وتجمعات تنام في فراش سيد القصر.
أصدقاؤك، ايها المدلل الذي خرج عن وفائنا الفطري، يمتصون دماء الأبرياء في المستشفيات الاستثمارية، وينتزعون اللقمة من أفواه الفقراء، ويُسَمّمون الطعام للغلابة والمساكين، وينهبون وطنهم بأوامر من سيدك.
أصدقاؤك، أيها المتعالي المتغطرس الذي تتبرأ منه كلاب الوفاء لا يحتاجون إلى كلب حراسة يحميهم، لكنهم في حاجة إلى الكلاب التي تقود العميان في شوارع المدن الحزينة المليئة تلوثا وغباراً وعوادم السيارات.
أصدقاؤك من كلاب النهب والهبر والسرقة والاختلاس والتزوير والنفاق والتزلف والتهريب والمخدرات ومافيا الاحتكار للمستهلك المسكين أشد خطرا على الوطن من كل الكلاب الضالة والشرسة التي تغرس أنيابها في ضحاياها.
أصدقاؤك الذين ربّاهم سيد القصر ومنحهم مفاتيح خزائن الوطن هربت منهم أرواحهم وحلت محلها أرواح شياطين تخجل الأرض مِنْ حَمْلهم، وسيتضاعف خجلُها عندما يعودون إليها عظاماً رميماً يشتهيه دود الأرض.
كلب السلطة: أراك تودي بنفسك إلى التهلكة، وتُعِد ظهرَك لعبيد سيدي يلهبونه، وتظن أنك مدافع عن قيم الخير في عالم الكلاب فتُناهضنا، وتُخاصمنا، وتُعارضنا، وتُحَرّض علينا هذه الحثالةَ المتمردةَ من فقراء الشوارع. إننا نعيش في كَنَفِ سيدنا وزعيمنا المبجل، ونطيعه ما أمَرَنا، ونضرب ممثلي العدالة بالأحذية، ويغتصب عبيدُ سيدنا بمرشديهم ومخبريهم في تخشيبات الشرطة وأقبية السجون كلَّ الشرفاء والأحرار والوطنيين.
أنتم نجس كما يؤمن بذلك سيدنا وتاج رؤوسنا وزعيمنا، ولدينا توجيهات منه أن نغرز بكل العنف والقسوة والوحشية أنيابنا في لحوم أبناء البلد، بل إنه أَمَرَ أصدقائي الكلابَ الذين يرتدون يونيفورماً أبيضاً في الصيف وأسوداً في الشتاء أن يغتصبوا هؤلاء الغوغاءَ الذين يحلمون بزعيم آخر، ويحتقرون طلعة سيدي البهية، ويبحثون عن الخلاص في غيره.
كلب الشارع: أصدقاؤك أكثر شَرّاً من كل مجرمي العالم. إنهم لا يملكون ضميرا، ولا يعرفون وَعْدَاً، ولا يحترمون ميثاقاً، ولا نأتمنهم نحن كلاب الشوارع على عِظامٍ مُلقاة في الشوارع الجانبية فهم يكدسون كل شيء، ويسرقون بيوت الله، ويدّعون أنهم ينتمون إلى الجنس الأرقى والأكرم والأنعم والأكثر تحضرا وتمدّنا.
لقد صنعهم سيدك وزعيم القصر لأنهم يلعقون حذاءه، ثم يضربون به أشراف القوم وممثلي الخير والعدل.سَيّدُك هو الذي جعلهم مسعورين ومفترسين. إنهم كارثة على الوطن، ونقمة على سطح الأديم، وهم أكثر تلوثا من الهواء والماء والأنهار والترع الراكدة ومياهها الآسنة الخضراء المتعفنة.
كلاب سيدك الذين أطلق أيديهم وأرجلهم كان من المفترض أن يكونوا من ذوات الأربع، معذرة فأنا لا يشرفني أن يكونوا مثلي.
إنني كلب هائم في الشوارع لكن كرامتي تسبقني، وأهاجم الأشرار فقط، ولا أهزّ ذيلي مثلما تفعل أنت لكل من يطلب منك الارتماء تحت قدميه.
عُد إلى قصر سيدك وقل له بأن يوم كلابه قادم لا محالة، وأن الذين ربّاهم وسمّنهم وأتخمهم ونزع الرحمةَ من قلوبهم وحشر السمومَ في نيوبهم الحادة سنجبرهم على أن ينزعوا الغلَّ من أعماقهم.
قل لسيدك بأن ايامه وأيام كلابه معدودة، وأن الحياة لا تستقيم إن اضحت كلها شَرّاً وإثما ودماء وظلما.
قل لسيدك أن يُعد حقائبَ هروبه، وأنْ يبلغ كلابَه المنتشرين في كل أرجاء الوطن البائس أن أشرافا يحملون أيضا نجوما ونياشين يستعدون في ثكناتهم لتطهير الوطن منكم جميعا.
قل لسيدك بأن طاهرا متطهرا سيخرج قريبا من مكان ما، ويحمل هموم وطنه، ويؤازره ثلة من المؤمنين بالحياة والجمال والخير والحب والتسامح والقيم.
قل لسيدك أننا اشرف من كلابه المبعثرين في الوزارات والهيئات الحكومية وتحت قبة البرلمان وفي مكاتب الصحف القومية الكبرى وفي الاعلام وفي أجهزة الأمن.
قل لسيدك أن أي كلب ضال في شوارع الفقراء والمظلومين والمهضومة حقوقهم أنبل وأكرم من الذين صنعهم، وأرضعتهم ذئاب قصره حليب المفسدين الشرسين والأوغاد.
كلب السلطة: لو لم يكن نباحي قد أصبح ضعيفاً كمواء القطط لجعلت كلَّ من في الوطن السجن يأتي ليسمع خرافاتك وخزعبلاتك وأوهامك وخيالاتك المريضة.
إننا نستعد لعصر جديد، ونسنّ أنيابَنا لعهد سنجعل الشرفاء والأحرار الذين تأمل أنت بهم خيرا أقل قيمة من جيفة القبور وهوامها.
إننا سنعلّمكم كيف تكون القيمة العليا لكلاب سيدنا، ولن نجعل طاهرا أو شريفا أو مؤمنا بالوطن يرفع رأسه.
إننا نخطط لابادة الشرفاء الذين تتحدث عنهم بالسموم والسرطانات والتلوث والفقر والمجاعة والمرض والفتنة الطائفية والغلاء والفساد، ونقوم بتصفية من نشاء تحت الأرض في سجون لا يعرف عنها أحَدٌّ شيئاً.
كلب الشارع: أراك تتحدث كسيدك، وتفكر مثله، وينتفخ غرورك كأن العالم كله آتاكم طائعا جاثيا مهينا.
عندما يخرج هذا البطل ذو الروح الطاهرة من ثكنته ومعه أبطال عاشقون للوطن والشرف فإن الصامتين الخائفين الضعفاء سينضمون إليه، وسيرفعون صورته، وسيدوسون على صورة سيدك.
إنه يوم قريب جدا، بل أقرب إلى الوطن من عبق زهرة تَحّتَكّْ بأرنبة أنفه.
إنه يعمل في احتياطات أمنية غاية في السرية والصعوبة، لكنه يسمع أنين أبناء وطنه، ونحيب نساء هؤلاء الرجال الذين ظن سيدكم أنهم لا يحلمون بمقصلة تهبط بسرعة الصوت فوق رأسه.
كلب السلطة: أراك تحتاج إلى راحة لعل أوّهَامك تزول، فسيدي الذي تظن أنه سيدُلّكم يوما ما على آثار جرائمه أعد للمستقبل كابوسا لكل مناهضيه، وزنزانات تحت الأرض لمن مرت بخياله سهوا فكرة معارضة حكمه، ومقابر جماعية تصغر بجانبها كل المقابر التي صنعها طغاة العصر وكل العصور.
لن يخرج من الجيش من ينقذ شعبه حتى يتحول البحر المالح إلى عذب.
لقد طال انتظار الضعفاء الذين تتباهى بقوة ايمانهم وعزيمة وصلابة قناعاتهم بغَدٍ مشرق ومبهج كمصابيح العرس الذي يجمع أبناء الوطن كلهم.
كلب الشارع: كما انتزع سيدك منك حاسةَ شَمّ اللصوص، فقد نزع عنك حكمةَ الهائمين على وجوههم مثلي، فيكفيك أن تجلس بجوار سيدة القصر تطعمك حتى تنام، وتتركك نائماًحتى تجوع. قل لسيدك بأن طائرة تنتظره وعليها طاقم كامل استعدادا للهروب. إنني جد فخور بابتعادي عن كلاب سيدك ولو كانوا يحملون فوق رؤوسهم وأكتافهم وصدورهم تيجان الدنيا ونياشينها وأوسمتها كلها.




كم أنا سعيد لأني كلب حقيقي يحتقر كلاباً صنعها سَيّدُك.


محمد عبد المجيد
عضو إتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com








حوار بين جاهل و .. مثقف!

  
      
في غرفةٍ صَغيرةٍ للمُدَخِنين مُلحَقة بقاعةِ الانتظار الكُبرىَ بمحطةِ القطارات التقيا!

   كان الأولُّ يتأبَط كِتاباً، وينفث دُخانَ سيجارهِ الكوبي مُتأمّلاً تصَاعُدَه الحَلزونيّ. والثاني لصَقَ سيجارَته بين شفتيه كأنه لا يعرف إنْ كان سيأكلها أو سيملأ رئتيه بنيكوتينها المسموم!

   اضطرّا لتبادل عباراتٍ ريثما ينتهي كلٌ منهما مِنْ آخر نفسٍ يلوّث الاثنين معا: الغرّفة و .. الصَدْرَ!

   ودار بينهما الحوارُ التالي:

   الجاهل: هل بقيَ وقتٌ طويلٌ علىَ موّعدِ وصول قطارِك؟

   المثقف: أقل من نصفِ ساعةٍ، لكنني أعْدَدْتُ نفسي بكتابٍ دَسِمٍ آمل أنْ أنتهي مِن نِصْفِهِ قبل وصولي، وأنتَ .. هل سيمضي بك الوقتُ بطيئاً أمْ ستمضي أنتَ به سريعاً؟

   الجاهل: أما الكتابُ فبيني وبينه خُصُومَة، يكرهني وأكرهه! هل تصَدّق أنني لمْ أقرأ خَمْسَ صَفحاتٍ منذ تخرجْت في الجامعةِ لسنواتٍ طويلةٍ خَلتّ؟ وقطعتُ علاقتي به فور خروجي مِنْ آخر إمتحان في اللجنةِ التي كانت تلهبها خيّمَة تحتضن حرارة الشمس و .. سخونة الأسئلة!

   الثقافة ليست كتاباً فقط، فأنا أتثقفُ من التلفزيون، ومن السهر مع أصدقاء الفرفشة على المقهىَ، وأذهب إلى السينما، وأستمع إلى رجل الدين في الحيّ الذي أقطن فيه، ولا يستطيع أحَدٌّ أنْ يُمَيّز بيني وبين قاريءٍ يلتهم كتاباً مع إشراقةِ كلِّ صباح، ويهضمه قبل أنْ يأوي إلىَ فِرَاشِه!

   المثقف: هذا زمنُ البؤس والطاعون حيث يتساوىَ العِلمُ بالجهل، والمَعْرفة بالأميّةِ، والكتابُ بالنرجيلةِ، والموسوعة بالمسلسل التلفزيوني، والمكتبة بالغرّزة!

   لو استضافتنا فضائية عربية في حِوار عن أكثر قضايا الوطن عُمْقاً، وأشدّها تعْقيداً، فإنك بسهولةٍ بالغةٍ سَترْديني قتيلاً بدماءٍ أثيريةٍ، وغالباً ستنحاز الجماهيرُ إليك، وربما تتلقفك لاحقاً فضائياتٌ حُرّة، ومُسْتقلة، ودينية، وثورية، وخليجية، وتصبح نجْماً لامعاً تمَزّق المراهقاتُ ملابسَك كأنهن أمام تامر حسني، وربما تتلقى طلباً للمساهمةِ في رَسْمِ مُستقبل الأمةِ!

   الجاهل: ثقافتك تجْعَلك تسْخَر مني، وعالمُ المعرفةِ الذي تعيش فيه، ويعشعش فيك يجعلك تظن أنَّ دورَك في الوطن أكبر من دوري.

   في عالمِنا العربيّ الذي تهَيّمِن علىَ أكثره ديكتاتورياتٌ جمهورية، ومَلكيّة، وثوريّة، ورجعيّة، وعلمانية، ودينية، يفسحون المجالَ أمامَ أعداءِ الكتابِ وخصُوم الثقافةِ، بلْ إنَّ ثمانية مِنْ كل عشرة زعماء عرب يقرأون خُطبَهم بصعوبةٍ بالغةٍ، أما قواعدُ اللغةِ فحَدّث ولا حَرَج!

   المثقف: لكنني أنا الذي أصنع الكتابَ والفنونَ، وأكتبُ التاريخَ والجغرافيا والعُلومَ!

   إذا أردتَ أنْ تعْرف فلا بُدّ أنْ تتلقى المَعْرفة مني، وأنا أتصدر الندوات والملتقيات والمؤتمرات الكبرى.

   أستطيعُ أنْ أبهر العالمَ حتى لو صنعت من اللاشيء كلمات منتقاة سابحاً بها في الفراغ، وأنا العقل الذي تستعين به الدولة ليرُدّ علىَ أعدائِها، ويفنِدَّ أكاذيبَ خصومِها.

   أنا الذي أكتب للزعيم خِطابَه فيقرأه بشِق الأنفس ولو شرَحْتُ له سبعين مَرّة ما خفيَ عليه في اللغةِ والمعاني.

   أنا أفسْرّ لك دينك، وأهَلّهل تفسيرات الجَهلةِ إنْ اقتربوا مِن كتابك المُقدّس.

   الجاهل: رغم ضخامةِ الأنا في حَديثِك، ونرجسيةِ كل إشارة إلأ أنَّ الحقيقة اختفتْ تماما من كلماتِك المزركشة!

   فأنت تصْنع الطاغِيَة، وتبررّ الاستبدادَ، وتعيش في دائرةِ مُغلقةٍ عليكم!

   عشراتُ الآلافِ مِنكم في العالم العربي لا يُحَرّكون ساكناً إلا قليلا، وتستطيع حِفنة صَغيرَة مِنْ الجَهَلةِ مِثلي أنْ تعيد الوطنَ كله إلىَ الخلفِ قبل يغشي الليل النهار!

   هل تعرف شاعرَكم الكبيرَ الذي يُصْدِر مِجلة شهرية أدَبية في مصر؟ إنه يطبع أربَعة آلافِ نسْخةٍ، ويبيع منها 25 نسخة فقط، أيّ أقل من نسخة واحدة لكل محافظة!

   لو أنني أصدرتُ مجلة تهتم بالملابس الداخلية لفتيات الشاشة الفضية، ونجمات الفن السابع، فلا تتعجب إنْ نفدَتْ أعدادُ المجلةِ قبل أنْ يفرشها علىَ الأرض بائعُ الصحفِ!

   لو أنني أنشأتُ موقعاً أو أحَدَ المنتديات علىَ النت، فلن تستطيع أنت أنْ تنشر إلا ما يروق لي، ولو جادلتَ أو قدّمْتَ احتجاجاً فسينهشك الأعضاءُ الآخرون.

   في هذه الحالة فأنا وزملائي الجهلاء وأنصاف الأميين نحَدِدّ قواعدَ النقاش، ونفسّر علىَ هوانا الدنيا والدين، ونسمح لأجهزةِ الأمن أنْ تجوس مع عملائِها في الموقع، ولأباطرةِ الفتاوىَ الفجّةِ أنْ يلعبوا بعقول الشباب، ويقنعونهم بعبقرية التخلف!

   في عالمِنا العربيّ يظل البقاءُ لي، فأنا ضابط شرطة، وعسكري، ومزارع، وطالب، وخرّيج جامعة، وموظف.

   وأنا أيضا عضو برلمان، وأحيانا أضع علىَ بابِ شقتي لقب دكتور رغم أنني لا أعرف اسمَ عاصمةِ موريتانيا، ولا مساحة مصر أو اسمَ مدينةٍ ساحليةٍ سورية، ولا أعرف أسماءَ الدول التي تطل حدودُها على تركيا!

   أنا الأغلبية الغالبة، وأنت الأقلية المهزومة!

   لو أنني في ندوةٍ لك تلقي علىَ مَسامع الحاضرين حَديثاً عن فلسفةِ سبينوزا، وكتابات كافكا، وتفسيرات وليم جيمس النفسية، وروائع هربرت ماركوز، ولامنتميات كولن ولسون، وتشرح علاقة هاملت بأمه، وتقتطع فقرات من قصة الحضارة لولّ ديورانت، ويبدو منطقك كأنك تلميذ لكانط، ثم قمت أنا بتسفيه حديثك علناً، وانتقاد آرائك، وزعمتُ أنَّ أقوالك غامضة، فإنَّ ثلثي الحاضرين سينحازون لي ولا يعرفون أن مكتبة بيتي ليس بها غيرُ عددين من مجلة حواء، ورواية واحدة لشارلوك هولمز!

   أنا لا أمثل خطراً علىَ السلطةِ، ولا يعبأ بي رجالُ الأمن، وأقضي عمري كله مع أسرتي دون أن أغيب يوما واحداً في غيابات السجن مثلك.

   لو تولىّ حِمارٌ قيادة الدولةِ فحياتي ستستمر دون أنَّ يعتريها أدنىَ تغييرٌ، ولعلي أصفق له، وأمتدح في عبقريته، وأضمن لنفسي حياة هانئة وآمنة.

   المثقف: ومع ذلك، ورغم حركةِ التقدم البطيئةِ في عالمِنا العربي فسيظل وجودي هو الذي يحميك، فأنا القوة غيرُ المؤثرة ظاهرياً، وأنا التغييرُ الذي لم يأت بعدُ، وأنا الماردُ المَحْبوسُ في القمقم، وأنا أصِف للعالم كله ولجمعيات حقوق الإنسان ما يفعله بك الطغاة رغم ادّعائِك أنك حُرّ، وسعيدٌ، ومواطن مطيع.

   أنا أقوم بتعليم أولادِك، وأنت تحَرّضهم علىَ الجهل.

   أنا أحاول تخليصَ رقبتِك من التعصّب، والتشدّد، وأشرح لك حقوقك وواجباتِك، وأكشف المتلاعبين بعقلِك في المنابر الإعلامية والدينية، ولجان الاقتراع، وبورصات المال، و ....

   أنا أحترق من أجلِك، وأنخرط في المعارضة لتحريرك، وحتى لو لم أكن معارضاً فلا تعاتبني لمعرفتي، ولا تناهضني لاختياري الكتاب صديقاً، وأنيساً، ومُرشِدَاً!

   الجاهل: وأنت تحتقر جهلي، ولا تحاول أنْ تجد لي عُذراً، ولا تتفهم كراهيتي للثقافة في وطن يرفع من شأني، ويَحُط مِنْ فِكرك.

   أنت لم تنتفع بثقافتِك وصعدتَ إلى برج مشيّد فلا يسمع صياحَك أحدٌ، وأنا وجدتُ بجهلي الطريقَ مُعَبّدا،والأبوابَ مفتوحة، والمناصبَ بجانبِ السلطةِ فاتحة أذرعها لي.

   أنت وأنا ضحيتان ولو كنا علىَ طرفي نقيض!

   سيجارُك وسيجارتي لا يلتقيان إلا في بيئة مُلوّثة، ومعرفتُك وجهلي يتصارعان دون معرفةِ الأسباب، وغرورُك وفراغ عقلي يتنافران، وصمْتك وسلبيتي يعملان لصالح الاستبداد.

   المثقف: وأنا غير واثق أنك تفهم حديثي، وعلىَ يقين أنَّ التلاعبَ بك أسهل من اليو يو، وأنَّ الجماهيرَ التي تنتمي أنت إليها تعين الظالمَ، وتعَرّي قفاك لصاحب الكفّ الأغلظ!

   بل إنَّ جهلك أكثر غروراً من معارفي كلها، وكراهيتك للكتابِ والثقافة والعلوم والآداب جعلتك في الجانب المُعادي لتقدم الأمة، وتطور الوطن، وتحرير الأرض.

   أنت تصُمّ أذنيك، وتزدري أقوالي، وتعَمّم ثقافة الفهلوةِ، وتضم إليك في كل التجمعات خصومَ خير جليسٍ في الزمان.

   أنت تظن أنَّ صُعودَك لي فيه مَشقة، وأنا على يقين من أن نزولي إليك تنازل يضرّ أكثر مما ينفع.

   نحن نتفاوض على مكاسب لكل مِنّا، والسلطة تراقبنا ضاحِكة، فكرّباجُها لا يفرّق بين ظهري وقفاك!

   محمد عبد المجيد
   رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
   أوسلو النرويج
   Taeralshmal@gmail.com

لماذا نحب السباب من وراء حجاب؟


شغلني كثيرا هذا الموضوع، فرغم أنها حالة مرضية تخفي تفسيرات عديدة، لكن تضخمها وتوسعتها والحفاظ على سريتها وخصوصيتها يزيد من استفحال المرض النفسي أو العقلي أو العاطفي.

إنها فروسية مزيفة ازدادت في السنوات القليلة المنصرمة أمام أجهزة الحاسوب بأسماء مستعارة، وكانت قد بدأت منذ وقت طويل عندما اتخذ فرسان الوقاحة صفوفهم خلف هواتف، فيشتمون أو يتغزلون أو يضايقون الغير، قبل أن يأتي نظام الأرقام المكشوفة.
ثم اقتحمنا عالم المنتديات على الإنترنيت وقد جاء حين من الوقت أصبحت المنتديات مرتعاً لعاشقي الشتائم تحت أسماء مستعارة أو شعارات أو ألقاب سياسية أو وطنية أو فنية أو دينية، وشهدت تلك الفترة ألسنة حداداً كأنها مغموسة في جمرات نار فوق نرجيلة داخل غرزة للمخدرات.


ثم انتقلنا إلى صفحات التواصل الإجتماعي التي جمعت العظيم والحقير، المثقف والجاهل، الرقيق والعدواني، الإنسان والحيوان، المصلح ورجل الأمن الإلكتروني، فانفجرَ فُجــْـرُ الفيسبوكيين والتويتريين وتقدموا كتائب الصغائر من الأمور.
لذة عجيبة يستمتع بها شخص مجهول وهو في أشد الحاجة إلى علاج نفسي، فيجلس في غرفته ويمرر أصابعه فوق الكيبورد، ويتحول إلى دون كيخوت فيحارب طواحين المخالفين له، والمعتنقين عقائد أخرى، والأغراب، وأصحاب المذاهب المختلفة، والوطنيين، والذين تجرأوا ففكروا، وفكروا فأشهروا معتنقاتهم، وخالفوا معارضيهم، ودسوا أنوفهم في المــُــقَدس.
لغة سقيمة ومريضة ونتنة تفوح منها رائحة الجهل يحارب بها صاحبنا الدنيا كلها بغير أن يقترب من كتاب أويفتح موسوعة أو يتصفح دورية، أو يغوص في تاريخ، أو يسبح في جغرافيا.
تقرأ، وتضرب كفاً بكف، فأنت لم تؤذه أو تسب أمه أو تلعن أباه أو تثأر منتقماً لإيذائه إياك، إنما قرأ لك سطراً أو اثنين، ورأس الموضوع وتوقيعك، فنزل عليك كالثور الهائج، ومرمط دينك وعقيدتك وحزبك ورأيك واقتراحك وتحليلك وفهمك، ثم ارتاب في نيتك، وشكك في وطنيتك، ولعن دينا لم تسألك أمك عنه وأنت في بطنها.



الإنترنيت أصبح ملاذ مرضى الشتائم، فلم تعد لذة لكنها شبق لعفن اللسان، يشتمك وهو في مخبئه الإلكتروني، ويصفك بأبشع الأوصاف، ولا يتأخر عن سحب هذه القباحات إلى أهلك وأختك ومعارفك ومن يتفقك معك.
من أين جاء هؤلاء التواصليون الحشاشون؟
لم يخرجوا من صفحات كتاب أو من صفوف ندوة أو من مدرج محاضرة، لكنهم نتاج طبيعي لإطلاقنا سراح مرضى يعيثون فسادا في الأرض، ويطلقون مفردات الكراهية البذيئة ، وتسمع منهم ما يعف اللصوص والمجرمون والقتلة عنه.



كلهم يملكون مفاتيح الإنترنيت، ويدخلون، ويمارسون الفاحشة اللغوية، ولا يكترثون أنك تعرفهم أو تجهلهم، أنهم أشخاص حقيقيون أو أنهم ذيول أجهزة الأمن.
على كل حال فهم جبناء، مختبئون في غرفهم وبين دخان يتصاعد فيخفي أفاعٍ تلدغ دون رحمة، وتلسع دون سابق معرفة.


محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 22 ابريل 2016                                    

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...