23‏/04‏/2016

حوار بين زنزانتين في سجن عربي!

هذا المقال الذي كتبته، منذ ثلاث عشرة سنة، كل حرف فيه كان يوجعني، ونشرته، لكن لم تكن هناك جهة عربية واحدة، أو صحيفة معارضة أو مستأنسة، تقبل بنشره إلا بعد اقتطاع ما يغضب زعيم بلدها.
أعيد نشره، لعل الذكرى تنفع الصاميتن!

أوسلو في 15 نوفمبر 2003
حوار بين زنزانتين في سجن عربي
فجأة وبغير سابق إنذار تمكنت زنزانةٌ في سجن عربي من النطق حديثا عربيا فصيحاً دون أن تدري أنَّ جارتها الواقعة عن يمينها في الممر المظلم المؤدي إلى سرداب دراكيولي مخيف ينتهي بزنزانات انفرادية تنزل الرعب في كل أوصال إبليس لو اقترب منها، كانت تسمعها، فتبادلتا حوارا التقطنا نحواً من طرفه، فكان المشهد التالي ...
قالت الزنزانة الأولى وقد بدت على مُحَيّاها ملامحُ حزنٍ لو نزلتْ على جبل لرأيته خاشعا متصدعا: بعد منتصف ليل أمس بقليل جاء حارس وأيقظ أحد سجناء الرأي الذين أمضوا ثلاثة أضعاف فترة العقوبة المحكوم بها عليه من محكمة عسكرية استغرق الحكم فيها دقيقتين وعشرين ثانية دون أن يستمع القاضي لشهود أو دفاع.
قالت الزنزانة الثانية وهي تبدي دهشتها: وماذا في هذا الأمر؟ هل هذا سبب حزنك ووجومك طوال اليوم؟

قالت الأولى: لقد عاد السجين بعد أقل من ثلاث ساعات وقد تهشم وجهه، وتكسرت بعض أسنانه، وأطفأ أحد السجانين في عنقه سيجارة مشتعلة، ثم انتهكوا جسده النحيل والمريض، وسمع زملاؤه صراخه المتواصل المختلط بضحكات مهووسة من سجّانيه.
قاطعتها الزنزانة الثانية مستفسرة عن السبب العجيب الذي يجعل زبانية السجن يوقظون رجلا أقرب إلى الموت منه للحياة، ثم يصبّون عليه جَمّ غضبهم اللعين كأنهم حُمُر مستنفرة، فرّت من قسورة!
قالت الأولى: لقد ارتكب جريمة نكراء عندما طالب في خطاب تشك إدارة السجن أنه تسرب إلى منظمة حقوق الإنسان بالافراج عنه بعدما أمضى ثلاثة أضعاف المدة المحكوم بها عليه.
ردت الثانية بسرعة: كأنك تحدثينني عن سجين في سجن تدمر السوري إبان العصر الذهبي لزبانية التعذيب في الثمانينيات عندما قامت سرايا الدفاع بقيادة العقيد رفعت الأسد بقتل سبعمئة سجين، ثم تم دفنهم في مقبرة جماعية ابتلعت في جوفها من قبل دفعات متتالية من الجثث المهترئة والمحروقة الملتصقة برؤوسٍ جماجم مهشمة كأن مجنزرات ضلت الطريق لتحرير الجولان ففضّلت تحرير الوطن من مواطنيه.
سألتها الأولى قائلة: رفعت الأسد! أليس هذا الرجل شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد وهو صاحب القناة التلفزيونية شبكة الأخبار العربية التي تدافع عن المظلومين وتهتم بأخبار الانتفاضة الفلسطينية، وتُلقى دروسا على مشاهديها في الحرية والأخلاق والتسامح، والتي رفض الدكتور منصف المرزوقي الحقوقي التونسي وخصم زين العابدين بن علي أن تستضيفه؟
قالت الثانية: لم يجانبك الصواب في التعرف على الرجل وصفته ونَسَبه من الرئيس الراحل، أما دموع التماسيح على حقوق الإنسان فقد عرفها العالم العربي كله من القامشلي إلى أرض الصومال، ومن نواكشوط إلى حضرموت. لقد كان أمير المؤمنين الملك الحسن الثاني يلتقي في الدروس الحسنية بعلماء العالم الإسلامي ، ويخشع لذكر الله، ويقضي شهر رمضان المبارك في التعبد، ويقف الفقهاء والعلماء أمامه في خشوع كأنه يتلقى الوحي لكنه في الحقيقة كان منشغلا بدرجات التعذيب في سجونه، وكان يتحدى إبليس في عبقرية أفكار الشر حتى أن سجن تزمامارت يمكن أن يوصف بأنه قطعة من الجحيم الأخروي سقطت في المغرب واستقرت في هذا المكان اللعين الذي شهد أشد سفالات وحقارات وعفن ونتن الإنسان عندما يصبح أسفل سافلين ويستخرج من مكنونات هذا العفن أفكارا تعجز كل الشياطين عن الإتيان بمثلها ، حتى أن الملك أمر بسجن طفل في الثالثة من عمره وخرج من جحيم تزمامارت وقد بلغ الثالثة والعشرين من عمره الافتراضي، فاليوم التزمامارتي بخمسين سنة من سنوات السجون العربية الأخرى.

قالت الزنزانة الأولى وقد بدا عليها التأثر الشديد: تريدين أن تقنعينني أن سجون الحسن الثاني كانت أكثر عددا، وأشَدّ وطأة من السجون السورية؟ هل تعرفين أن عدد السجون السورية التي مر عليها أكثر من نصف مليون مواطن حتى الآن يعادل أضعاف ما بناه أمير المؤمنين على أرض المغرب، فهناك في سوريا .. قلعة النضال ضد الاستعمار الصهيوني سجن الحلبوني التابع للاستخبارت العسكرية، ومركز اعتقال القلبون، ومركز سوسة للمخابرات العامة، ومركز اعتقال الروضة، وسجن المخابرات الجوية، والسجن الايطالي، وفرع التحقيق العسكري بالجمارك، وسجن الزبداني، والسجن المركزي في حلب، وفرع التحقيق العسكري قرب محطة بغداد التابع للاستخبارات العسكرية، وسجن هنانو، وسجن الأمن السياسي بالجميلية، ومركز التحقيق الجنائي بالعزيزية، وعشرات غيرها؟
قالت الزنزانة الثانية: إن العبرة ليست بالعدد، ولكن بوسائل التعذيب المستخدمة في السجون والمعتقلات. ثم إنك تقولين بأن سجني سوسة والعزيزية في سوريا وأنا أظن أن الأول في تونس والثاني في جماهيرية العقيد بالقرب من طرابلس الغرب، أليس كذلك؟
قالت الزنزانة الأولى وهي تصحح لزميلتها معلوماتها عن أسماء ومواقع السجون العربية: الحقيقة أن سجن سوسة السوري غير سجن سوسة التونسي، فالأول يفتخر القائمون عليه بأن به أكثر من عشرين طريقة لتعذيب المعتقلين وتلقينهم آداب العبودية، أما الثاني فلم يشاهده أبو القاسم الشابي وهو يمتدح في أصيل سوسة، كما أنه قريب من كلية الطب التي حاضر فيها الدكتور منصف المرزوقي قبل أن يعلن نفسه مرشحا لرئاسة الجمهورية منافسا بذلك الرئيس مدى الحياة زين العابدين بن علي فدفع ثمنا غاليا، وانتهى به المطاف إلى عاصمة النور ، فالرئيس التونسي يعتبر رعاياه تحت حذائه، وسجونه ومعتقلاته وأجهزة استخباراته تنافس في قسوتها وظلمها وظلامها جيرانه ذات اليمين وذات الشمال، أعني الجزائر وليبيا.
بدا أن الزنزانة الثانية تريد أن تستزيد من علم جارتها، فسألتها بسذاجة: هل صحيح أن السجون السورية تُنافسَنا في قسوة الحراس وزبانية التعذيب والطرق الجحيمية الشيطانية لقهر السجين؟

لم تبتسم الزنزانة الأولى، ونظرت لصاحبتها بغضب شديد، ثم قالت لها: أزعم أنك ساذجة إلى حد البلاهة، فأنت وأنا لا نساوي ذرة واحدة في عالم الرعب العربي، وإذا كنتِ تظنين أن سجون صدام حسين قبل أن يختبيء كالجرذان في جحره، ويتكاثر القمل والبراغيث والحشرات في رأسه الأشعث الأغبر كانت أكثر عددا وهلعا ورعبا وسرية فعليك بمراجعة شاملة لمعلوماتك، وقبل أن أحدثك عن معتقل الجفرا الأردني أو معتقل طره المصري أو أبو سليم الليبي أو كوبر السوداني فسأسرد عليك وسائل التعذيب في السجون السورية كما بينتها اللجنة السورية لحقوق الإنسان وهي الضرب في جميع أنحاء الجسد وبكل الوسائل الممكنة من صفع وركل واستخدام أحزمة وأسلاك وعصي. والدولاب وهي ثني الجسم بحيث يوضع رأس السجين وقدماه في الإطار في وضع مقوس ويضرب على رجليه بالأسلاك أو السياط. وبساط الريح وهي صلب المعتقل على قطعة خشب على شكل جسم الإنسان وضربه وتعريضه لصدمات كهربية. والشبح وهي ربط يدي المعتقل خلف ظهره وتعليقه منهما أو من قدميه وفي كلتا الحالتين يستخدم الضرب أو الصدمات الكهربية. العبد الأسود وهي شد المعتقل إلى جهاز عندما يتم تشغيله تدخل قطعة معدنية حامية في فتحة الشرج. والكرسي الألماني ( وهي بالمناسبة وسيلة تعذيب كان يستخدمها شياطين الإنس في عهد الحسن الثاني ملك المغرب لتأديب من يناهضون حكم سليل الأشراف )، وهو كرسي معدني بأجزاء متحركة تربط قدما المعتقل ويداه، ويثنى بقية الكرسي إلى الخلف ليحدث ضغطا كبيرا على الرقبة والأوصال، ويضيق التنفس، ثم يصاب السجين بالاغماء.
أما الغسالة فهي برميل يشبه شكل الغسّالة من الداخل ويجبر المعتقل على وضع ذراعيه فيه بحيث تنسحق اليدان أو الأصابع. أما حرق مناطق من الجسم كالظهر والرجلين والأعضاء التناسلية فيتم باستخدام سخانات كهربائية أو مكواة.
والحرق بالنار يبدأ بوضع قطعة قطن على جسم السجين وهي مبللة بالكيروسين، ثم اشعال النار بها، أو صب الكيروسين فوق القدمين واشعال النار فيهما. وهناك غرس قضيب مدبب ساخن في ظهر السجين أو صدره. توجيه صعقات كهربية عن طريق وصل الأسلاك بأجزاء حساسة من الجسم خاصة الأعضاء التناسلية. وضع مواد مالحة أو حامضة على جروح المعتقل لمضاعفة الآلام. تعليق المعتقل بمروحة تدور في السقف وضربه أثناء دورانها. نتف شعر المعتقل باستخدام كماشة. اقتلاع أظافر اليدين والقدمين. الاعتداء الجنسي. اجبار المعتقل على الجلوس فوق زجاجة وادخال عنقها في فتحة شرجه. تهديد المعتقل باغتصاب وتعذيب أهله وأسرته, واستخدام مكبرات الصوت لازعاجه، وعزله في غرفة مظلمة لعدة أيام دون أي اتصال بالعالم الخارجي، وتعذيب زملائه أمامه، ومنع المعتقل من النوم أو قضاء الحاجة أو وسائل النظافة.
حاولت الزنزانة الثانية اخفاء تأثرها ودهشتها باعتبار أن ما ذكرته زميلتها قليل مما يحدث في سجون عربية أخرى، ثم قالت لها:إنك تقصّين علي من نبأ أشياء تتكرر في العالم العربي من بحره إلى أنهاره كلها، المسروق منها المياه أو المحجوزة أو المحوّلة لخصوم العرب.

ثم حاولت استعراض معلوماتها أمام زميلتها الزنزانة والمعروف عنها أن من دخلها حيا تنبض فيه روح الأمل، لا يخرج منها إلا للقبر أو معاقا ما بقي له من عمر قصير، فقالت لها:
أما التعذيب بالملح فهو اختراع الجنرال محمد أوفقير لادخال البهجة على مولاه وسيده أمير المؤمنين الحسن الثاني، حتى قيل بأن الملك المغربي الراحل كان يدلف إلى زنزانات في معتقلات مغربية مخيفة ويشاهد بنفسه عمليات التعذيب.
في كتاب ( صديقي الملك) للصحفي الفرنسي جيل بيرو يقول بأن هناك سبعة طقوس متدرجة في الشدة لتعذيب الذين لا يرضى عنهم الملك.في الدرجة الثالثة يتم تغطيس وجه السجين في حوض مملوء ببول السجناء. كان هناك رجل في نحو الخمسين من عمره يقضي عامه الثالث لأنه شتم الحسن الثاني. وكان الجنرال أوفقير قد قتل أمامه زوجته الحامل فغدا الرجل مجنونا، وكان الملك يأتي بين الحين والآخر ويشاهد السجين المجنون الكهل وهو يقوم بحركات مخجلة ويطلق وابلا من الشتائم.
الدرجة الخامسة ذات بساطة مذهلة. يربط السجين إلى عمود, ويشق الجانب الأيسر من ظهره، ثم يتم غرز قطعة من الملح في الجرح، وتغطى بعد ذلك بلصقة مشمعة. والنتيجة لا تستغرق وقتا طويلا.
يتصبب السجين عرقا، ويجف ريقه، ويخيل إليه قرب احتضاره، ويكون مستعدا أن يقدم عينيه مقابل رشفة ماء واحدة.
الدرجة السابعة كان أوفقير يفتخر بها، وعندما أحضروا له النقيب صقلي من القوات المسلحة الملكية، وأحد قدامي المقاومين. قطع وجهه إربا: مزق شفتيه، أخرج إحدى أذنيه، فالأذن الأخرى، وجدع أنفه. أخيرا غرز خنجره في عنقه، ثم قال : تلك هي الدرجة السابعة التي لا يخرج أحد منها حيا، ثم حول وجهه ليتقيأ( كتاب صديقي الملك ).

صمتت الزنزانة الأولى لبعض الوقت وهي ترهف السمع الذي تناهي إليه صوت سجين كأنه همس الجنون، فقد فعلت إدارة السجن معه مثلما تفعل إدارة سجن الوادي الجديد في مصر عندما ينتظر السجين عدة أسابيع قبل أن تقوم عائلته بزيارته. ويسرق حلما ليس من حقه في عُرف السجون المصرية، ويستبق الزيارةَ بتخيل وجه الأم، ولمسات الأب، وأحضان الأخ، ودفء عيون الأخت الصغيرة، فإذا بالأسرة تقف على الناحية الأخرى، ويحول حاجز بينها وبين ابنها الحبيب، وقبل أن تسمع الأم كلمات ابنها السجين يأمر الحراس الأهالي بالانصراف فورا، فالزيارة انتهت واستغرقت ثلاث دقائق بالتمام والكمال، وتحقق هدف زبانية التعذيب، فالقهر والمهانة والاذلال وفيضانات الأحزان الداخلية ستجعل السجين يلعن يوم مولده.
سألتها الزنزانة الثانية إن كان الأمر نفسه يحدث في سجون طرة وأبوزعبل والقلعة والأخيرة وصفها أحمد فؤاد نجم بملتقى عشاق الوطن، وهل لازال هناك معتقلون في عهد الرئيس حسني مبارك؟

كأن زلزالا بأقصى درجات ريختر هز الزنزانة الأولى، ثم انفجرت في البكاء وهي التي شهدت آلافا من عمليات التعذيب السادية التي يتبرأ منها إبليس نفسه، وربما يكرر يوم الحشر قولته: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟
قالت لصاحبتها: هل تعرفين أن ربع مليون مصري مروا في عهد الرئيس حسني مبارك على زنزانات مصر كلها، وأن وسائل التعذيب لا قبل لأحد بها، وأن الرئيس ينتشى سعادة كلما عرف أن كرامة مواطنيه تحت حذائه؟ وهل تعرفين أن هناك في السجون المصرية ثلاثين ألف معتقل وسجين رأي يرفض سيد القصر الجمهوري بعابدين أن يعيدهم لأهلهم وحريتهم ومواطنتهم الكاملة؟
وهل تعرفين أن أقسام الشرطة المنتشرة من صعيد مصر إلى ثغرها يقوم على أكثرها ضباط ساديون يعاونهم مخبرون ومرشدون ينحدرون من سلالة من الذئاب وهم على استعداد لمنافسة كل زبانية السجون والمعتقلات في الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة؟
في قسم الشرطة يعلق المواطن من رجليه في سقف غرفة المأمور، وقد يأتون له بأخته أو أمه أو أبيه، ويملك الضابط الحق في اشعال النار في جسد المواطن، أو حرقه بسيجارة، أو الطلب من بعض المسجلين خطرين أن ينتهكوا حرمة المواطن، ويغتصبوه في وضح النار، أو يضع المخبر قطعة معدنية مدببة في فتحة شرج المسكين، وتنطلق في أرجاء قسم الشرطة ضحكات كأنها صرخات شياطين، ويصل صداها وأخبارها وتفصيلاتها إلى الرجل الوحيد القادر على ايقافها، لكنه يصمت، ثم يبتسم، ثم يوميء برأسه موافقا، فالمصريون كما يراهم الرئيس حسني مبارك نجس من العبيد، عليهم الطاعة والصبر وتقديم واجب الشكر لأن سيادته لم يرسلهم إلى المشرحة ثم القبر.
قالت الثانية: كأنك تحدثينني عن بيوت الأشباح في عهد الرئيس السوداني عمر حسن البشير، وأخص بالذكر معتقل ( كوبر ) وهو السجن الذي شهد في مارس عام 1985 حشدا من السياسيين المناهضين للارهابي الرئيس جعفر النميري تماما مثلما فعل السادات في سبتمبر عام 1981 وألقى في السجون بكل الرموز الوطنية.
وفي 5 أبريل عام 1985 أعلن الفريق عبد الرحمن سوار الذهب عن بدء عهد ديمقراطي، فتولت الجماهير فتح أبواب معتقل ( كوبر ) وخرج السجناء الأبرياء إلى الحرية.
لكنها لم تدم أكثر من أربعة أعوام حتى قفز على كرسي السلطة ارهابي أكثر قسوة من النميري، ولعب لعبة الدين والسياسة مع حسن الترابي أمين عام الجبهة الاسلامية، ومنذ ذلك الحين عرف السودانيون الحروب والمجاعات والمعتقلات وزيارة بيوت الأشباح ودغدغة المشاعر الدينية عندما يتم قطع أطراف أطفال أو نساء جائعات في الخرطوم وأم درمان وغيرها بتهمة سرقة أشياء لا قيمة لها، في مقابل براءة اللصوص الكبار وعلى رأسهم عمر حسن البشير سارق الوطن السجن.

استعجلتها الزنزانة الأولى وسألتها إن كانت تذكر يوميات أحد السجناء في واحد من بيوت الأشباح في السودان.
خيم صمت طويل كأن الزمن استدعى قطعة من القبور واستبدلها بالسجن حتى لا يتناهى إلى الزنزانتين أنين السجناء الذي ينطلق بغير ارادتهم وهم يغطون في نوم باحثين في أحلامه عن أي نهاية لهذا العذاب حتى لو كانت كفنا رخيصا وحفرة متربة في عمق أرض مزدحمة ببقايا أموات سابقين كانت لهم نفس الأحلام.
ثم برقت في ذهن الزنزانة الثانية يوميات سجين سوداني، وتذكرت منها تلك المقاطع:" ..عندما أوشكت السيارة على دخول المكان، طُلب منا تحت تهديد السلاح والضرب والركل والانبطاح على أرضية العربة، ثم وضع الجلادون أحذيتهم الثقيلة فوق رقابنا. بعد ذلك بدأت حفلة التشريفة ( وهي تقريبا متشابهة في معظم سجون الوطن العربي ) فانهالوا علينا بالصفع المتواصل والضرب بأعقاب البنادق حتى دخلنا في حالة اعياء شديد أعقبه إغماء.
تم وضعي في مكان عال وأنا معصوب العينين، وقيل لي بأنه صدر الحكم علي بالاعدام وينبغي أداء الشهادة.
وبعد لحظات انتظار كأنها الدهر وعَمّ صمت ثقيل على المكان وانتظرت أن يتدلى حبل المشنقة حول عنقي لينهي المهزلة فالموت في بعض اللحظات يكون الخيار الأفضل.
يقول السجين بعد أن انتهت المسرحية:( وجدت نفسي في زنزانة مع عدد كبير من المهتمين بالعمل السياسي مفترشين الأرض المتسخة بالزيوت وأجساد الجميع مضرجة بالدماء والعرق. طلبوا منا الوقوف حتى اليوم التالي. كان الأمر شاقا وكنا نتحايل بعد انشغال الحراس بالجلوس بالتناوب ، وكم كان ليلا طويلا وحزينا).
(في منتصف الليل دوى طرق متواصل على باب الزنزانة وأمرنا بعَصْب أعيننا والوقوف على الحائط وقام أحد السجّانين بقراءة أسماء معتقلين، ثم تم ترحيلهم إلى المجهول. وفي اليوم التالي بشّرنا الجلادون بأن رفاقنا تم اعدامهم بمعسكر الشجرة وعلينا أن نستعد لدورنا).

قالت الزنزانة الأولى: الغريب أن قضاء الحاجة يرتبط لدى الجلادين بمزيد من التعذيب والحط من الكرامة، لذا ففي حكاية عضو الحزب الشيوعي في بيوت الأشباح السودانية يسمح للسجين بالذهاب مرة واحدة سريعة مع طرق متواصل على باب دورة المياه لتشتيت الذهن، حتى أن أحدهم رفضوا خروجه من الزنزانة فاضطر زملاؤه لمساعدته واحضروا كيس بلاستيك ليقضي فيه حاجته. نفس الأمر ينسحب على سجن تزمامارت المغربي الذي وصف فيه أحمد الرزوقي الزنزانة رقم عشرة، وحكى عن زميل له قضى عامين كاملين على ظهره لا يتحرك، ويقضي حاجته، ويلتصق البراز بجسده ثم يتجمد مع ملابسه، وتصبح الرائحة كريهة لدرجة تعذيب أنوف من يقتربون من زنزاته، وتصل حدة مهانته إلى أقصى ما يمكن أن لا يستوعبه الشيطان نفسه.
وفي سجن تدمر السوري كان يسمح للسجين بدقيقتين فقط لقضاء حاجته وسط ضرب مبرح، فإن عَصَتْهُ بطنه وطلبتْ الانتظار ثوان أخرى فَقَدَ الحدّ المسموح به، وعليه الانتظار ليوم آخر. سألتها الزنزانة الثانية عن رأيها في تصنيف الجلادين وهل هم ينتمون دائما إلى فئة بعينها؟

ردت الأولى بثقة اليقين قائلة: لقد علمتنا تجارب السنوات الطويلة، وخبراتنا مع كل سجون العالم العربي وهي أكثر عددا من المعاهد العلمية ومراكز البحوث والمكتبات أن لا جنسية أو دين أو مذهب، فالجلاد يمكن أن يصل إلى أشرس درجات السادية وهو مسلم أو مسيحي أو يهودي، ناصري أو ساداتي أو مباركي أو شيوعي أو يساري أو وفدي أو من الاخوان المسلمين، شيعي أو سُنــّـي او كردي أو بهائي أو قادياني أو لا ديني، مؤمن أو ملحد أو لا علاقة له بأي تيار ديني أو سياسي أو اجتماعي أو فكري، متعلم أو مثقف أو أمي أو موغل في الجهل.
السلطة هي التي تحدد زبانيتها، فيتحول الانسان الذي كرّمه الله ونَعَّمَه وأسبغ عليه ظاهر الخير وباطنه إلى ذئب أشرّ، وحيوان مفترس، وإبليس يملك قدرة فائقة على إيذاء وإيلام وتعذيب الآخرين.

والجلادون لا علاقة لهم بالجنسية والبلد والمذهب والموقع والمكان وأكثر المتحضرين والمتمدنين يتحولون بين ليلة وأخرى إلى جلادين تم انتزاع قلوبهم من صدورهم ووضع جمرات خبيثة من نار جهنم بدلا منها.
عندما دخل الخمير الحمر العاصمة الكمبودية بنوم بنه تحولوا إلى وحوش كاسرة قضت على ثلث عدد السكان حتى أن من كان يرتدي نظارة طبية قد تنم عن اهتمامه بالثقافة يتم ذبحه فورا، وتمكن بول بوت بسهولة ويسر من العثور على جلادين من أبناء شعبه.
الفاشية الايطالية لم تكن تُفَرّق بين التعذيب في سجون ايطاليا أو في سجون مستعمرتها الليبية من الناحية الأخرى للبحر المتوسط، والنازيون في ألمانيا الهتلرية تحولوا أيضا إلى وحوش كاسرة تحرق، وتعذب، وتقطع الأطراف، وتبيد قرى بأكملها.
الجنود الأمريكيون الذين يدافعون عن حقوق المواطنة في بلادهم، ويحترمون الدستور، ويلتهبون حماسا لقضاء واجب الاقتراع في مجتمع ديمقراطي ، يتحولون أيضا إلى شياطين مردة، وقتلة قساة، وساديين يتعاملون بنفس القدر من الوحشية مع أطفال في فيتنام، ومع سجناء معصوبي الأعين في جوانتانامو الكوبية، ومع معتقلين عراقيين حتى أن شهادة جندي كانت تؤكد أنهم كانوا يتبولون على وجوه المعتقلين العراقيين، ويمكن لأحدهم أن يلعب في طائرته ويدمر قرية أفغانية فوق رؤوس أهلها الحفاة العراة والجوعى.

الحياة في السجون التي يصبح الموت معها تمنيات لا قبل لأحد من السجناء بمتعة الوصول إليها ولو قضى سنوات يستجدي ملك الموت أن يقبض روحه متشابهة إلى حد كبير، ونشوة اللذة المحرمة في التعذيب لدى سجّان جلف وأحمق وغليظ القلب في معتقل أردني أو سوري أو تونسي أو جزائري أو مصري أو ليبي أو موريتاني لا علاقة لها من قريب أو من بعيد بفكر تعتنقه السلطة، فالاخوان المسلمون في سجون مصر في نهاية الستينيات تعرضوا لما تعرض له زملاؤهم في السجون السورية في أوائل الثمانينيات، لكن المعتقلين الشيوعيين في بيوت الأشباح السودانية ذاقوا أمر العذاب على أيدي الجبهة الاسلامية، وجنرالات الجيش في السودان يملكون قلوبا لا تقل قيد شعرة في قسوتها عن القلوب التي تضمها صدور الاسلاميين والوطنيين والمستقلين وغيرهم.

كل علماء العالم الاسلامي لم يستطيعوا أن يلينوا قلب الملك الراحل الحسن الثاني فكان يشتهي لحظات يومية يتأمل فيها عبيده المغاربة وهم يصرخون من العذاب اليومي في معتقلات المملكة الممتدة من الأطلسي إلى الحدود الجزائرية.
قاطعتها الزنزانة الثانية مستفسرة عن سبب عدم ذكر صاحبتها للسجون البعثية في عهد طاغية العراق الأسير والتي حوّل فيها العراق إلى جمهورية رعب حقيقية، وصدرت عشرات الكتب تشرح بتفصيل أدق التفاصيل داخل وخارج مائتي سجن ومعتقل اختفى في جوفها أو في مقابر جماعية قريبة ربع مليون مواطن وسط صمت عربي ودولي واسلامي مخزٍ ومؤسف كأنه تواطؤ ضمني مع شيطان بغداد!

ردّت الأولى بزفرة كادت تقتلع عشرات السجناء داخلها وتلقيهم في فناء السجن الرهيب: لأن سجون ومعتقلات جمهورية الرعب العراقية حالة تستحق أن أتفرغ لك عنها، وأقص عليك من أنباء تقشعر لها جلود الغلاظ أنفسهم، وتنشطر قلوبهم ولو كانت من حجارة صخرية لا تلين ولا تنكسر.
سارعت الثانية طالبة منها تأجيل الحديث عن جمهورية الرعب وسألتها عما تعرفه عن سجن ( فتح ) اليمني؟
قالت الزنزانة الأولى: لقد دكّ الرئيس اليمني علي عبد الله صالح أسوار السجن في 20 يوليو عام 1994 والذي أقامته بريطانيا بين جبلين ليكون معسكرا فحوّله الثوريون الذين أطاحوا بأول رئيس يمني جنوبي ( قحطان الشعبي ) إلى سجن وأودعوا فيه علي عبد العليم أول رئيس لمحكمة الشعب بعد الاستقلال كأول سجين سياسي.
إنه سجن تم تدريب سجّانيه على أيدي المخابرات الألمانية الشرقية ( آنئذ)، وتعرّف الرفاق اليمنيون على طرق ( ستازي )، أي مخابرات ألمانيا الديمقراطية في طرق التعذيب وشهد بعد ذلك أكثر فتراته ظلمة ووحشية عندما زج الرفاق بأنصار الرئيس علي ناصر محمد.
ثم أردفت قائلة:ولكن تظل السجون المغربية هي الأكثر عطاء لأقلام سجنائها الذين حالفهم الحظ ولم يتواروا تحت ترابها أو في سراديب الرهبة المعجونة بأنين الموجوعين، فهناك ( السجن المركزي ) في القنيطرة، و ( وسجن لعلو ) في الرباط، و ( معتقل درب مولاي الشريف ) و( تزمامارت) الواقع في الراشيدية.
ثم أكملت: لا أستطيع أن أتذكر الآن كل من التفاصيل الدقيقة لما كان يحدث داخل السجون المغربية فقد أصبحت أنا الزنزانة مثل السجناء والسجانين ندور في عجلة مثبتة على ظهر حمار معصوب العينين. إنني استمتع أحيانا برفاهية النسيان التي يفتش عنها كل سجين، ويتمناها بعد أول ليلة في تشريفة السجن.
في كتاب ( تلك العتمة الباهرة ) للطاهر بن جلون وهي حكايات مستوحاة من معتقلين في سجن تزمامارت وصف للجحيم الأرضي بكل سفالته وعنفوانه وقسوته وغلظته.
لم تتركها الزنزانة الثانية تكمل حديثها وحاولت أن تشاركها في مداعبة الذاكرة وقالت: لعلك نسيت ( السجينة ) لمالكة أوفقير و ( حدائق الملك) لفاطمة أوفقير، وماذا عن يوميات جواد أمديدش وهي ذكريات سوداء في معتقل مولاي الشريف بالدار البيضاء؟
قالت الزنزانة الأولى وكأنها حسمت موضوع القسوة لصالح مكان آخر: لقد تذكرت الآن بيوت أشباح تنافس السجون السودانية والمغربية والسورية وهي التي أقامها الرئيس زين العابدين بن علي، فإذا كانت المخابرات العراقية في عهد صدام حسين اعتقلت وعذّبت امرأة لأنها خفضت صوت المذياع خلال إذاعة خطبة للطاغية، واعتقلت طالبا في الجامعة لأن ورقة سقطت منه على الأرض فاعتبرتها استخبارات قصيّ صدام حسين إشارة للمعارضة، وإذا كانت المخابرات السورية عذّبت مواطنا سأل بأدب استرقاقي جَمّ عن سبب التحقيق معه، فإن الملك الحسن الثاني قام بتعنيف وتأنيب مالكة أوفقير لأنها غطت جسدها شبه العاري عندما مر الملك أمامها وهي في حمام السباحة واعتبرها إهانة، أما أجهزة أمن الرئيس التونسي فقد اعتقلت عشرين مواطنا تصفحوا، ربما عن غير قصد، مواقع إسلامية على شبكة الانترنيت، واعتقلوا مواطنا لأنه كان يُضيء غرفته عند صلاة الفجر لعدة أيام متوالية مما يعني أن نداء الدين في قلبه قد يجعل منه متطرفا يهدد نظام الحكم.
ردت الثانية بعفوية: وماذا عن سجن ( الاستئناف ) المصري؟
ابتسمت الزنزانة الأولى ونادرا ما تفعل ذلك من هول ما يجري في داخلها، وما سمعته جدرانها من أنين وصراخ، وقالت: أنت ساذجة حقا، فــ ( سجن الاستئناف ) المصري محطة خلال الاعتقال العشوائي في قوانين الطواريء التي صنعها الرئيس حسني مبارك وبين معتقلات أخرى وأهمها ( طرة ) الذي يقع فوق خمسمئة فدان، ولم يمر يوم في عهد مبارك لا تسمع فيه صرخات المعذبين والمتألمين والمرضى الأبرياء الذين وقعوا بين براثن ذئاب السجون المصرية.
قالت الزنزانة الأولى: لم أنس ( السجن المركزي ) في المغرب ولا حتى( سجن لعلو ) الذي استبدلت به السلطات سجن ( سلا ) الواقع على الطريق إلى مكناس، لكنني أردت فقط أن أحدثك عن بعض مذكرات سجناء لبنانيين تقول لينا غريب :( وصلت سيارة تحوي خمسة رجال. ترجلوا منها، وبدأوا في الضرب دون أي اعتبار لكوننا فتيات.
في اليوم الثالث للتحقيق وكنا أربعة، تم منعنا من دخول الحمام، ومنع النوم عنا، ووضعنا في زنزانة مساحتها مترا مربعا واحدا، ودخلوا علينا وأمرني أحدهم أن أخلع ملابسي، وعندما رفضت هجموا علي وشرعوا بسحب البنطلون ...)
ويقول أطناسيو: ( عندما طلبت منهم التروي بين الصرخة والأخرى، انصرف سبعة مسلحين لضربي بأعقاب بنادقهم، وحاولت أن أحمي كليتي الوحيدة، فهشموا أربعة ضلوع وأصبح من المستحيل وقف نزيف العينين.)
( كنت أحتاج لثلاثة أرباع الساعة كي أذهب لقضاء حاجتي بمساعدة الزملاء، وارتفع ضغط دمي، وأصبحت أتبول دما. وبعد نقلي إلى مكان آخر تمت تعريتي تماما وبحثوا في مؤخرتي عن أشياء ربما أكون قد خبئتها، ونفس الأمر حدث مع الفتيات)!
هنا تبادر لذهن الزنزانة الثانية حديث كان قد جرى بين سجينين في داخلها عما يحدث في السجون والمعتقلات الجزائرية والموريتانية والفلسطينية وهي لا تقل بشاعة عن كل سجون العالم العربي، فحاولت أن تقص عليها ماحكاه السجينان، لكن الزنزانة الأولى قاطعتها قائلة: لست في حاجة لسماع أي شيء عن السجون الجزائرية فهي ستظل أكثر رحمة من عمليات ذبح وقطع رؤوس الأطفال وجز الرقاب وسلخ الأجساد التي قام بها الاسلاميون وجنرالات الجيش في عمليات قذرة ومفزعة يتم فيها تبادل الأدوار، ومع ذلك فالرئيس بوتفليقة يغمض عينيه وضميره مقابل البقاء في السلطة، والذين يتفننون في استخراج عبقرية السادية من النفوس العفنة في عمليات الترهيب والذبح والقتل الجماعية يمكنهم أن يجعلوا سجون ومعتقلات الجزائر أكثر قسوة من كل سنوات الرعب التي قتل فيها الفرنسيون المحتلون مليونا ونصف مليون من المواطنين الجزائريين المدافعين عن وطنهم.
أما حديثك عن السجون الموريتانية فيمكن ارجاؤه إلى وقت آخر فأنا أعلم من سجناء كانوا داخلي ومروا على زنزانات في نواكشوط بأن سجناء الضمير والمدافعين عن حقوق الإنسان لا يحتاجون لإذن قضائي بالقبض عليهم، فمخابرات النظام الموريتاني تبدأ عملياتها بالخطف كما تفعل أجهزة الأمن الليبية، وعندما عاد المعارض الموريتاني البارز ورئيس منبر الاصلاح والديمقراطية محمد جميل بن منصور، قامت سلطات الأمن باختطافه في المطار والتوجه به إلى سجن ( بيلة ) وهو معتقل لا يقل شهرة في فنون التعذيب داخله عن كل سجون شمال أفريقيا. في موريتانيا ليس هناك وقت لانتظار أن يموت السجين، فالتصفية الجسدية كفيلة بجعل ملك الموت مشغولا في كل وقت لزيارات متكررة. والخطف على الحدود ابتكرته السلطات الأردنية فأجهزة أمنها تستطيع أن تحتفظ بملفات مواطنين وعرب وأجانب لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، وعلى الحدود الأردنية مع القادمين من الخليج والمتجهين إلى سوريا تستطيع أجهزة استخبارت العائلة الهاشمية أن تجعل المستجوب متهما حتى ولو سب النظام الأردني في غرفة مغلقة قبل نحو عشرين عاما وفي مكان مجهول.
والملك الحسين بن طلال، رحمه الله، صنع نظاما أمنيا يراقب كل عربي وأردني، لكنه لا يقترب من إسرائيل أو موسادها، وعندما كانت المخابرات الأردنية تعذب وتهين المواطنين المصريين العابرين أرضها، كان الرئيس حسني مبارك يصم أذنيه، فهو يرى أن من حق أي نظام عربي، خاصة الأردني والعراقي والليبي، أن يُنسي المواطن المصري اسم أبيه وأمه تحت وطأة التعذيب أو يرسله في نعوش طائرة. قالت الزنزانة الثانية: لقد أدركنا الوقت ولم نتحدث عن السجون في الخليج، وعن تفاصيل مقابر الموت الجماعية في عهد صدام حسين، وعن بيوت الأشباح البحرينية قبل أن يأتي الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وعن الاغتيالات وكاتم الصوت والكلاب الضالة والمعارضة والسحل والاغتصاب وآلاف من طرق التعذيب في السجون العربية. وهنا سمعت الزنزانتان طَرْقا متواصلا على الأبواب فعرفتا أن وجبة من تعذيب السجناء في طريقها لتكملة كتابة تاريخ العرب الحديث، أما الشعوب العربية فلا يزال البحث جاريا عنها!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 15 نوفمبر 2003

حوار بين إعلامي عربي و .. مواطن خليجي!


في أحد فنادق عاصمة دولة عربية خليجية التقى مواطنٌ خليجي بأحدّ المثقفين الإعلاميين الذي كان قد صاحبه في سنوات الدراسة الجامعية بعاصمة مشرقية ثورية.
دار بين الرجلين حوارٌ على مائدة العشاء في المطعم الأنيق بالطابق الأرضي، والتقطنا شطرا منه ..
المواطن الخليجي: أرى ملامحك قد تغيّرت قليلا، وبدأتَ تميل نحو السمنة، وفقدت بعضا من رشاقتك التي عرفناك بها خلال سنوات الزمن الجميل في الجامعة!
الإعلامي العربي: وأنا كدت لا أعرفك بعقالك ودشداشتك، ولا أدرى إنْ كان الشيب قد غزا مفرقك وترك خصلات بيضاء تمتد بطول شعر رأسك، ولكن ما أراه أن طفرة البترول، التي أطلق عليها نزار قباني زيت الكاز، قد بدت على المشهد برمته.
المواطن الخليجي: هل قابلتَ أحدا من زملائنا القدامى؟
الإعلامي العربي: لا أرى أكثرهم إلا في مناسبات متفرقة، فمنهم من شدَّ رحاله إلى دول الخليج العربية، ومنهم من هاجر إلى أوروبا وأمريكا، أما منْ بقيَّ في البلد فهو يصارع الحياة اليومية فتصرعه تارة، ويتحداها من جديد فيصبر على الغبن، ويصمت على الظلم، ويهادن السلطة، فهي في بلدنا تتحكم في مأكله ومشربه وحريته ومستقبله، فإذا تحرك لسانه بغير هواها، تحرك سوطُها على غير رضاه.
المواطن الخليجي: هل ستقضي معنا عدة أيام لعلنا نلتقي على مائدة خليجية في منزلي الجديد القريب من الشاطيء؟
الإعلامي العربي: إنني هنا في مؤتمر ثقافي يناقش قضايا الحرية الإعلامية في العالم العربي ، وبعد إنتهاء جلسات المؤتمر أختطف ساعة أو بعض الساعة للتسوق في المول الجديد.
المواطن الخليجي: وماذا ستفعلون بنتائج المؤتمر؟
الإعلامي العربي: سيتم وضعها في أرشيف داخل مجلدات ضخمة عليها أتربة، ولن يستفيد منها أحد!
المواطن الخليجي: لماذا إذاً قبلت الدعوة لحضور مؤتمر لن يضيف إلى بلاط صاحبة الجلالة السلطة الرابعة قوة، بل قد ينتقص مما لديها؟
الإعلامي العربي: لقد أصبح الخليج العربي قِبْلَتنا، وفنادقُه نحلم بالاقامة فيها كأننا نعتمر، ونستنشق رائحة الحرية رغم أننا في بلادنا الثورية نسخر من الخليجيين، ونتهمهم بأنهم من نسل أبي جهل الذي اشترى فليت ستريت.
إذا لم نذهب إليكم زائرين وعاملين وإعلاميين، فنحن ننتظركم سائحين أو داعمين لمؤسسات خيرية.
المواطن الخليجي: ولكنكم تنتسبون لدول تعاقبت على أرضها حضارات رائعة، ولديكم كثافة سكانية هائلة، وجامعاتكم ومعاهدكم العلمية وطلابكم وأطباؤكم وخبراؤكم يستطيعون أن يحققوا المعجزات، والنفط ليس مقتصرا علينا، ولديكم الماء والأنهار والأرض الزراعية، بل يمكنكم أن تجعلوا بلادكم حلما يهاجر إليها المواطن الخليجي!
الإعلامي العربي: لأننا نأكل شعارات، ونقيم مصانع للطغاة في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا وشوارعنا.
في بلادنا الثورية نحارب طواحين الهواء، ونكتم الأنفاس باسم إزالة آثار العدوان، ونقطع الألسن دفاعا عن الفلسطينيين، لكننا نلقي بهم في سجوننا الممتدة من الحدود إلى الحدود، ونعاملهم في مطاراتنا كأنهم جرب نجس جاء يدنس أرض الثورة المباركة.
في بلادنا ملوك يحملون أسماء ثورية، وورثة من أولادهم تتحرك سطور الدستور وفقا لأهوائهم، ولو أراد الزعيم أن يورث ابنه الحكم وهو حيوان منوي لم يُخَصّب بويضةً بعد فإن رؤساء تحرير الصحف الكبرى قادرون على وضع التاج على رأسه والحديث عن عبقريته قبل أن يولد بتسعة اشهر.
إنني هنا أستنشق عبير الحرية لعدة أيام قبل أن أعود إلى السجن!
المواطن الخليجي: ومن قال لك بأن خليجنا تجري من تحته الأنهار، ويسكنه ملائكة فقط، وتحكمه عبقريات تجري فيها جينات آينشتانية؟
إننا أيضا نعاني من مشاكل، ولدينا تركيبة سكانية تجعلك أحيانا لا تعرف إن كنت في كلكتا أو دلهي الجديدة أو لاهور أو مدينة خليجية تنتصب فيها الأبراج كأنها تناطح السحاب أو تهرب من الأرض.
ولدينا أيضا أحاديث في الخفاء والعلن عن الطائفية، ويعمل على أرضنا طابور خامس طويل من شرق الخليج وغربه، ومن شمال البحر المتوسط وجنوبه، ومن مريدي بن لادن وحجاج البيت الأبيض، ومن نسل إيللي كوهين وموظفي السفارات العربية والفنادق الكبرى وجواسيسها.
ونحن سنهاجر إلى بلادكم إن تم فجأة اكتشاف بديل للنفط، فَقِلةٌ من دول الخليج مَنْ صنعت للذهب الأسود بدائل ولو على استحياء، وأكثر سياسيينا لم يتبينوا بعد خطورة الطرح الطائفي.
لكنني أعترف لك بأن القمع والقهر والتعذيب ومطاردة المعارضين وتصفيتهم لم تستطيعوا أن تصدّروها لنا إلا بكمية تسمح فقط لهيـّـبة السلطة أن ترفع صوتها أو تلوّح بسوطها!
في بلادنا ملوك وأمراء قضوا مئات السنوات يحكموننا وهم ليسوا غرباء عنا، وبيننا وبينهم ميثاق وعهد، وفي بلادكم ملوك في قصور الرؤساء، وأمراء يرتدون الجينس، وسلاطين بربطة عنق أنيقة.
أنا أضمن لنفسي أن لا يستدعيني رجل استخبارات في مطار بلدي ليسألني عمن قابلت في ملتقى إعلامي بعاصمة أخرى، أما أنت فمضطر، في كثير من الأحيان، أن تضمن لنفسك كفاف يومها بكتابة تقرير لجهاز الأمن عن زملائك الذين يعارضون الملك الرئيس، أو الذين التقوا بمعارضين ولو كان اللقاء على مائدة طعام كبيرة لا يسمع فيها أحدٌ أحدا!
أنا أبتسم في وجه ضابط أمن المطار لدى العودة وأقول له: حيّاك الله، فيرد التحية!
أما أنت فترتعش يداك، وتنفصل مفاصل ركبتيك، ويرتفع الكولسترول في دمك عندما تقوم بتسليم جواز سفرك لضابط أمن المطار، فأنت متهم حتى يعيده إليك، وتشكره لأنه لا يشكرك، بل قد يلقى في وجهك بوثيقة سفرك كأنه يتوعدك بيوم آخر !
الإعلامي العربي: ولكن لا يمكن غض الطرف عن الدور الذي قامت به دولنا العربية المشرقية في تطور الخليج، وتقدمه، وحتى في إعلامه المسموع والمرئي، وصحافته، وأحسب أنني لا أسبب لك حرجا إن قلت وحتى في تحرير دوله إنْ جاءها خطر خارجي.
المواطن الخليجي: ونحن لم ننكر مطلقا الدور الايجابي الذي لعبه أشقاؤنا، ومع ذلك فهي لم تكن علاقة أخذ وعطاء، لكن حقيقتها تكمن في كونها تبادل مصالح ومنافع ولو غلّفتها دغدغة مشاعر الجماهير عن الأُخُوّة والعروبة والتواصل الديني.
هل سمعت عن بعثة عربية مشرقية جاءت للعمل تطوعا ومجانا ودون أي أجر مباشر أو غير مباشر؟
أما تحرير الكويت، إن كنت تقصد الإشارة إلى هذا الحدث، فكل من ساهم فيه حصل على أجره، وقامت الكويت باسقاط مليارات من الديون التي كانت تثقل اقتصاد ( الأشقاء ) الذين ساهموا في تحريرها، ولكن صعوبة أوضاعهم المادية ترجع إلى الفساد والنهب المنظم ولصوص السلطة.
لا نستطيع أن نقيم علاقات صحية بيننا وبين أشقائنا في المشرق العربي مادامت لغة المخاطبة تنطلق من هذا الاستعلاء السخيف الذي يقوم بتذكيرنا سبعين مرة في اليوم أن نهضتنا ستظل مدينة لسواعدكم وعقولكم وعلومكم، وأننا بدونكم كان مصيرنا سيصبح في ذمة هامش التاريخ والجغرافيا معا.
أنت هنا في مؤتمر إعلامي تستفيد بقدر ما تفيد، ولو لم تقم بحساب الربح والخسارة قبل سفرك، لما ترددت في أن تبقى في بلدك لا تغادرها إلا قبل التأكد من أن الربح يفوق الخسارة.
الإعلامي العربي: ولكنني هنا من أجلك، والملتقيات الفنية والعلمية والأدبية والإعلامية في الخليج لا تستقيم بدون الوجوه المشرقية والمغربية التي تمنح المؤتمر هويته العربية، وتتأصل فيه رموز الثقافة والتقدم في العالم العربي.
المواطن الخليجي: أنانية لا ينفع معها أحيانا حياؤنا وأدبنا ومراعاة مشاعركم.
وأنت هنا في يومك الثالث لم تكلف نفسك عناء الذهاب إلى مكتبة وشراء الصحف الخليجية اليومية، وربما لا تعرف أسماء أعضاء الحكومة في بلدي، ولن أطرح عليك سؤالا عن أدبائنا وشعرائنا ومراكز البحث العلمي والدراسات الخليجية.
أنت تقرأ الصحيفة التي تجدها معلقة على باب غرفتك في الفندق، وربما تبحث فيها عن أسماء مشرقية يتهلل لها وجهك، وتمر مَرّ الكرام على أخبارنا المحلية كأنها أحاديث عن الحياة اليومية لقبائل مهددة بالانقراض.
هل لك أن تذكر لي أسماء قارئي نشرات الأخبار الخليجيين في إذاعات وفضائيات الدول العربية المشرقية والمغربية؟
ستقول بأن الأجور لا تناسب الخليجي، لذا فهو يرفض العمل هناك!
والحقيقة أنها سياسة ممنهجة مغرورة تظن أننا لا نصلح للعمل لديكم.
لقد فرضنا اللهجة الخليجية بعد سنوات من العمل الشاق، والصبر الشديد.
الإعلامي العربي: لماذا لا تقيمون مؤتمرات خليجية بحتة، وتقتصر الدعوات فيها على العقال والدشداشة والشعر النبطي؟
المواطن الخليجي: يا سيدي، يمكنك أن تدلف إلى أرشيف أي مؤسسة إعلامية أو فكرية أو علمية أو جامعية أو صحيفة أو شركة وستجد طلبات العمل والالتحاق بها تزيد أضعافا مضاعفة عن عدد سكان الخليج برمته، وكلها قادمة من الدول العربية المشرقية والمغربية.
إن استقامة العلاقة لن تصل إلى درجة الشفافية دون الاعتراف بأنها تبادل مصالح ومنافع، ولا مانع مع ذلك من مشاعر الود والاحساس بالاستقرار والراحة.
نحن لسنا نفطا وصحراء وبدوا وجِمالا تبرك أمام ضيوفها الأعزاء المتحضرين.
ونحن نتحمل اضطرابات وقلاقل تأتون بها إلينا، وترسلون جواسيسكم للعمل في المؤسسات والفنادق، وأنت تظن أنه يخفى علينا ما يقوم به الطابور الخامس من تسريب أسرار الدولة وضيوفها ونشاطاتهم مباشرة لسفارات دول عربية مشرقية ومغربية، تحتل فيها الدبابة مكان القلم، والزنزانة محل الديوانية.
هل يستطيع زعيم دولة عربية مشرقية أو مغربية أن يغادر ومعه كل أعضاء حكومته لتقديم واجب خارج البلاد لعدة ساعات؟
أظن أن مبنى الإذاعة والتلفزيون سيتم احتلاله من المعارضة قبل أن تحلق طائرة زعيمكم في الأجواء المحلية!
الإعلامي العربي: أنت تحدثني كأن قصور حكامكم الفاخرة مقرات لجمعيات خيرية، وأن بيت مال الخليج لا يعرف من المتسولين غير أشقائكم في الدول العربية الثورية.
نحن أيضا نفقد حريتنا على أعتاب بلادكم، ويقيم الواحد منا عشرين عاما ويظن أنه أصبح واحدا منكم، فإذا جاء موعد تجديد الإقامة اكتشف أنه لو كان في الغرب لأصبح واحدا منهم دونما حاجة لعيون زرقاء وشعر ذهبي.
إن الواحد منا الذي يخيفه زائر الفجر في بلده، يفزعه تهديد الكفيل في بلادكم، وتهديد ضابط الأمن لدينا يعادل كلمة ( التفنيش ) عندكم.
المواطن الخليجي: ومع ذلك فلو منحت فرص عمل في الخليج لكل مواطني أقطارنا العربية الثورية لما بقي في بلادكم غير المنتفعين بالحكم الفاسد ولصوص الوطن.
وبلادنا لا تعرف المقابر الجماعية، ولا يتخلص فيها زعيم الدولة من عدة مئات من المعارضين دون أن يرتفع حاجب في وجه أحد صناع الكلمة والحرية.
إنكم تنظرون إلينا بنفس نظرة الأوروبي الجاهل بعاداتنا وتقاليدنا رغم أننا ننتمي لوطن واحد وأمة ذات رسالة خالدة، كما تقول أدبياتكم الثورية.
صحفكم مليئة بالتهكم علينا، ولو ظهر في عاصمة ثورية سفيه خليجي فإنكم تنهشون لحومنا قبل أن تتحرك تروس المطابع بجرائدكم الأكثر عددا من جمعيات حقوق الإنسان.
أتفق معك بأن قضايا الجنسية والتجديد والإقامة المهددة بالتفنيش وعدم المساواة في الأجور وجشع الكفيل تؤرق الشرفاء منا، وتقوم بتشويه صورة المواطن الخليجي، لكنها قضايا محلية نناضل من أجل وضع حلول متحضرة لها.
لم نقل بأننا صنعنا مجتمعات مثالية، لكننا غاضبون على مشاعركم المتأرجحة بين التعاطف إن رفع بئر النفط لدينا مستويات معيشتكم، وبين حجارة تلقونها علينا إن دافعنا عن كرامتنا في مواجهة يقينكم بأننا بدو استبدلوا بالجمل مرسيدس، وبالخيمة قصرا، وبالضيافة العربية الأصيلة كفيلا يلوح بالسوط وفي يده الأخرى حزمة من العملة الخضراء.
ثرائي ليس مرتبطا بالجهل، وقلمك ليس ملتصقا بالفقر. إننا في مركب واحد لو ثقبته في مسقط لغرق في أغادير، ولو احترق في اللاذقية لأبتلعه خليج هرمز. لو تعلّم كل منا قبول الآخر لكان لهذا الحوار شأن آخر.

محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
اوسلو النرويج

حوار بين حمار و .. زعيم عربي!



الدخولُ إلى باحة القصر مغامرةٌ لا بد أن تنتهي بصاحبها إلى زيارة للعالم الآخر، فإذا كان الزائرُ المتسللُ حِماراً فإن فرصةَ وجوده قريبا من أحد الشوارع المؤدية للقصر ضئيلةٌ للغاية.
لذا قرر حمارٌ أن ينتظر الزعيمَ في بيته، وتسلل بالفعل دون أن يشتبه به أيّ من رجال الأمن، ودخل غرفةَ مكتب القائد، وانتظر عودتَه الميمونة.
قُبَيل الحادية عشرة مساء، وبعد العشاء ومشاهدة نشرة الأخبار المتلفزة، دخل الزعيمُ إلى غرفة مكتبه وبيده مجموعة من الصحف والتقارير والأوراق الأخرى.
كانت المفاجأةُ كبيرةً، وقبل أن يرتفع صوتُ الزعيم مطالِباً الحرسَ الخاصَ باخراج هذا الحيوان من مكتبه، نظر إليه الحمارُ نظرةً مُذِلة وقال في مَسْكَنَة اعتاد الزعيمُ أن يراها في عيون المحيطين به:

سيدي، هل لك أن تستمع إلي قبل أن يطردني حرسك الخاص، فلديّ عرضٌ مثير للاهتمام يستفيد منه كلّ مِنّا حسب موقعه؟
وبدأ الهدوء يعود للزعيم، ثم جلس على مقعد مريح بعدما أغلق بابَ المكتب جيدا.

الزعيم: تكلم فليس لديّ وقتٌ، وقُلّ ما عندك رغم ثقتي بأن حمارا مثلك لا يمكن أن يكون لديه عرضٌ يُغريني بقبوله.
الحمار:أريد أن أعمل لديك مستشارا خاصا يفوق في كفاءاته وقدراته كلَ مستشاريك ومديري مكتبك السابقين والحاليين.

الزعيم: حمار وغبي وأيضا متخلف! كيف استبدل رجالي الذي صنعتهم من قاع العبودية، والذين لا يساوى الواحد منهم ورقة صغيرة تخرج من مكتبي فيجلس بعدها على مقهي أصحاب المعاشات يجتر ذكريات رضائي عنه؟
إن لدي رجالا في كل مكان من القصر إلى رئاسة تحرير أهم الصحف الرسمية، ومن الرجل الثاني إلى معظم وزرائي، وأنا أراهم أكثر منك طاعة، وأشدَّ قدرة على تحمل اهاناتي لهم، ويبتهجون بالمذلة، وتتقوص ظهورهم وهم يسيرون خلفي طالبين الرضا ونصفَ ابتسامة وإيماءةً مني ولو كانت احتقارا.
الحمار: لكنهم، سيدي الزعيم، سينضمون لأول حركة ناجحة تطيح بك، وسيبيعونك لمن يدفع أكثر، وسيبصقون على يديك إن طلب منهم الزعيمُ الجديدُ ذلك. أما أنا فلن أفعل أكثر من الطاعة للكرباج، والصمت على الآلام، والسكوت على خواء البطن ولو مت جوعا.

الزعيم: أنا لا أنكر أن فيك صفات تنطبق تماما على المواصفات المطلوبة لمن يخدمني، لكن المستشارين في القصر أصبحوا مركز قوة، بل إنني أكاد لا أعرف أحيانا ما يدور إلا من خلالهم، وأنا سعيد بهذا فهم يتذللون ويقومون بحمايتي، وأنا أستبد بهم وأتولى حمايتهم. إنها معادلة الطاغية والمستبد والديكتاتور والسيد على مدى التاريخ.
وهنا بدت نظرات الحزن والأسى في عيني الحمار، ولأول مرة يرق قلبُ الزعيم لمن يستجديه ولو صامتا.

الزعيم: هل تقبل أن تكون وزيرا للزراعة والري والثروة المائية؟
الحمار: معذرة سيدي الكريم فأنا لا أستطيع أن أنافس رجلك في الوزارة، فهو ظلك في الحكومة، وهو لسانك الذي تبطش به، وهو القادر على أن يحدد لرعيتك الأكل والشرب والسموم، وقد أبقيته بجانبك لأنه أكثر مني طاعة وتحملا.

الزعيم: ما رأيك في رئاسة مجلس إدارة شركة الطيران الوطنية، فهناك سرقة ونهب وأيضا عمولات على شراء طائرات، وحسابات مفتوحة، وأماكن مجهولة لا يعرفها ديوان المحاسبة؟
الحمار: صحيح أن منصبا كهذا لم تشترط سيادتك أي كفاءات على صاحبه، بل لو تطابقت صفاته مع صفاتي فإن رجالك وأقاربك ومعاونيك ومستشاريك يستطيعون أن ينالوا من كعكة شركة الطيران الوطنية، فهناك ميزانية بمئات الملايين، وعمولة واحدة تكفي المرء أن يعيش ما بقي له من عمر على حرير وثير، لكنني كحمار أرى أن منصبا أرفع من هذا يليق بي. أريد أن أكون أقرب إلى الرجل الثاني في الدولة، بل لا أخفي عليك، سيدي الزعيم، أنني أطمع في منصب أعلى من الرجل الثاني.

الزعيم: لكنك لن تستطيع أن تكون زعيما عربيا حتى لو قامت أجهزة الاستخبارات الأمريكية بوضعك عنوة في القصر.
الحمار: لكن هذا الاجحاف والظلم البَيّنَ والتمييزَ ليس أكثر من جهل بطبيعة الفروقات والتجانسات بيني وبين صاحب أعلى منصب في الدولة.
فالزعيم العربي بوجه عام ( إلا قلة نادرة ) لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم. وهو أقل ذكاء من معظم المحيطين به، ومايقوم به في شهر أقوم أنا به في أقل من يوم.
والزعيم العربي لا يحتاج للتفكير، فهناك من يفكرون له، ولا يكتب خطبته، وإذا صادف وأجرى حديثا تلفزيونيا فإن المونتاج قادر على تحويل خربشات الهُراء إلى عبقرية، والفراغ الفكري إلى تأمل، والسخافات إلى مزاح من القائد المتواضع.

الزعيم: ولكنك لا تستطيع أن تكون فيلسوفا، وروائيا، وقائدا مهيبا، وعسكريا فذا، فأنا أتحدث في كل شيء، ويمكنني الخوض في أمور أجهل فيها أصغر معلوماتها، لكنها تتحول بقدرة قادر إلى ثورة فكرية لا يماثلها فكر آخر على وجه الأرض.
الحمار: هل تعني، سيدي الزعيم، بأنني لو توليت الحكم واجتمعت بكبار المثقفين والاعلاميين ورجال المال والاعمال والأمن فلن يمتدحوا في عبقريتي؟

الزعيم: أنا لم أقل هذا الكلام، فأنت تستطيع أن تخوض الانتخابات كما أنت، بصفتك حمار، وستجد جماهير تندفع رافعة صورتك، وستندهش من الافتتاحية الرائعة في الصحيفة الرسمية وهي بقلم رئيس التحرير نفسه بأننا انتظرنا طويلا حاكما عادلا وقائدا محنكا كحمارنا، ونحن ينبغي أن نتمسك به من أجل مستقبل أولادنا واستقلال وطننا.
الحمار: لماذا لا تجعلني أمينا عاما للحركة الوطنية التي تحكم وستجدني طوع بنانك، أتحمل منك الاهانات والضربات ولو صفعتني على قفاي سبعين مرة في اليوم والليلة؟

الزعيم: هذا المنصب محجوز دائما لأكثر الخدم طاعة لي، وأشدهم قسوة على خصومي، وأمهرهم في التزوير، وأدناهم أخلاقا، وأضعفهم ضميرا.
الحمار: إنني أستطيع أن أقوم بتنظيم الإعلام، وتعيين حمقى في التلفزيون، وغض الطرف عن كل صور الفساد، وتكديس الشاشة الصغيرة بوجوه متخلفة عقليا وثقافيا ولغويا، والتعاون مع المتزلفين والمنافقين في الصحافة، واشتراط الضعف في اللغة العربية لكل من يتم تعيينه.

الزعيم: معذرة، عزيزي الحمار، فنحن هنا أمام آلة تلميع وتأهيل صورة الزعيم كلما بدت باهتة أو نَسيها الناسُ لساعة أو بعض الساعة، فيقوم إعلامنا بتذكير المواطنين بأن لهم سيّدا يطيعونه. هل تعرف أن في تلفزيون دولة عربية أخرى يقوم المشاهد المتصل باهداء الأغنية أولا في برنامج ما يطلبه المشاهدون إلى صديقي الزعيم، ثم تبدأ الإهداءات الحقيقية للأهل والأحباب والأصدقاء؟
ثم إنني أشترط في هذا المنصب ذكاء وحماقة في نفس الوقت.
الإعلام في بلدنا هو خط الدفاع عن الطغيان، وممارسة البغاء السياسي وحماية القصر من البيان رقم واحد الذي يتمنى الكثيرون إذاعته بُعَيّد وصول دبابتين وثلاث مدرعات إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون.
الحمار: لماذا لا تجعلني كاتب خُطَبك التي تُلقيها في المناسبات الرسمية والوطنية؟

الزعيم: أنا لا أنكر أن أيّ حمار يمكن أن يكتب خطبة ويلقيها الزعيم على الملأ وتتحول صباح اليوم التالي في مانشيتات الصحف الرسمية إلى أقوال كأنها من رحم فلسفة سبينوزا وعبقرية تشرشل والبيان البلاغي للرافعي، لكن كاتب خُطبي يعرف ما يدور في خلدي، ويقرأ أفكاري قبل أن ينطق بها لساني، ويتابع أجهزة الاستقبال العاطفية الساذجة في نفوس وقلوب أبناء شعبي، ويتجنب تماما المرور على العقل والمنطق والتاريخ والحقائق، فتأتي خطبتي كأنها أُمُّ البيانات.
ولكن ما رأيك في أن آمر بتعيينك كاتبا للمسلسلات التلفزيونية وهي بوجه عام مهنة، باستثناء بعض الأعمال النادرة، يجيدها كلُ حمار يرغب في الوصول إلى قلوب الحمقى، بل إن بعض المسلسلات يتأفف كاتبها الحمار من مشاهدتها مع أن لها شعبية كبيرة؟
الحمار: سيدي الزعيم، كأنك تهينني في كفاءاتي وقدراتي. إنني أبحث عن منصب أكبر بكثير استطيع من خلاله تعبيد كل الطرق المؤدية إلى استمرارك سيدا فوق رقاب عبيدك. لذا فربما يكون منصب مدير الأمن العام مناسبا لي!

الزعيم: هذا المنصب بالذات غير مناسب لك بالمرة، فأنت قد تصمت، وتنفذ أوامري حرفيا، لكن قلبك الرقيق الطيب لن يتحمل تقارير يومية تتكدس على مكتب مدير الأمن العام قبل أن يحيلها إلي وهي عن التعذيب في السجون والمعتقلات واغتصاب المواطنين وامتهان كرامتهم وتجريعهم الذل الُمْرّ.إنني منذ توليت السلطة قرأت ما تهتز له السماوات السبع ومن فيهن من تقارير عن سلوكيات رجال أمني وحمايتي مع أبناء شعبي، ولم تتحرك ذرة شفقة أو رحمة بين جوانحي، حتى من قضى منهم تحت التعذيب المستمر لكونهم من المعارضة أو من المشاغبين أو أكباش فداء لتعليم رعيتي أصول العبودية والسُخرة والتذلل والخوف مني.
فكيف استبدل بمسؤول الأمن في بلدي حمارا مثلك قد يشفق يوما ما على مواطن، أو يطلب من زبانية التعذيب التخفيف أو الاستجابة لأبسط الحاجات والمتطلبات الإنسانية.
إنني أبحث عن السادية في أعمق صورها وأشدها وحشية وبطشا.
وأنت، عزيزي الحمار، لا يمكن أن تستمر في هذا المنصب شهرا أو اثنين.
الحمار: هذا ظلم شديد، سيدي الزعيم، فأنا واثق في قدرتي على خدمة مصالحك أكثر من المحيطين بك، بل يمكنك أن تمنحني رتبة عسكرية ونياشين تثقل كتفيّ، وتجعلني أتحدث عن الحروب والانتصارات، وأتوعد إسرائيل وأمريكا والعالم كله بجهنم فوق ترابنا الوطني لو أقتربت أي من القوى المعادية من أرضنا الطاهرة.

الزعيم: ومن قال لك بأننا لا نملك من هؤلاء الرُتب أكثر من الهَمّ على القلب، وهم يستطيعون أن يضعوا خططا عسكرية لاحتلال روسيا وأمريكا والصين في أسبوعين لو طلبت منهم ذلك؟
الحمار: لماذا لا تجعلني كاتب الافتتاحية في واحدة من الصحف الرسمية التي تنفق عليها الدولة، ولا يقترب منها ديوان المحاسبة، وتحقق خسائر بالملايين، ولا يقرأها إلا أنصاف الأميين.

الزعيم: قد أفكر جديا في تعيينك رئيسا لتحرير أقرب الصحف الرسمية إلى فكري، وهي صحيفة تبدو كأنها خارجة لتوها من مكتب الإعلام التابع للقصر، وتحتقرها الرعية، والافتتاحية التي تعيد تلميعي وتأهيلي وتذكير العبيد بسيدهم تشترط في كاتبها أن يكون أقل ذكاء من كل القراء، وأن يرص كلمات غير مفهومة، وأن يضع بين كل ثلاث أو أربع فقرات اشارات عن توجيهاتي الحكيمة.
وستكون لك إمتيازات كبرى، ويتقرب منك الوزراء، ويدعوك كبار القوم لحفلات أعراس أبنائهم وبناتهم التي يـأتيها الطعام ساخنا بطائرة خاصة من محلات مكسيم في باريس، ويزورك السفير الأمريكي ويبحث معك العلاقات الثنائية بين البلدين.
بل إنك تستطيع أن تؤسس ورشة عمل من صغار الكُتّاب والصحفيين، وتشتري الملكيات الفكرية لأي إعلامي مسكين، ثم تضع عليها اسمك وتمهرها بتوقيعك بخط اليد كأنك كاتب حقيقي، ولا مانع من صورة أعلى مقالات الافتتاحية تبدو فيها كأنك تفكر!
الحمار: لماذا لا تجعلني وريث العرش والحُكم والحِكمة، وأنا أضمن لك أن رعيتك لن تحاكمك في المستقبل، وسأخفي تاريخ جرائمكم وتجاوزات أسرتك ومعاونيك وكل رجالك؟

الزعيم: هل تظن أن هذا المنصب الذي حلمت به طويلا يخرج عن أسرتي الشريفة؟
إننا نتقاسم الدولة كما يتقاسم اللصوص مغارة علي بابا، ويستطيع أيّ منا أن ينهب مصرفا بكامله، وأن يشارك أيَّ رجل أعمال دون أن ينبس الآخر ببنت شفة.
هل تصدق، عزيزي الحمار، أن شقيق أحد أصدقائي من الزعماء العرب كان يحصل على 51% من معظم المشروعات الكبرى في البلد وإلا فإن المشروع يتوقف.
هل تصدق أن مهاجرا قضى في كندا ربع قرن، وعاد إلى بلده العربي ليعيش ما بقي له من عمر، ويستثمر مبالغ طائلة في مشروع رائع، فجاءته مكالمة هاتفية قبيل اعتماد الموافقة النهائية بعد ثلاث سنوات من التعب والارهاق والبيروقراطية، وكان المتحدث على الطرف الآخر ابن الزعيم بشحمه ولحمه يطلب منه أن يكون شريكا بخمسين في المئة في مقابل الحصول على الموافقة النهائية؟
حتى لو ضمنت لي في الخمسين عاما القادمة عدم الاقتراب من تاريخي وتجاوزاتي وجرائمي ضد أبناء شعبي ، فإنني لا أتصور يوما واحد يتم فيه حُكمُ هذا البلد من زعيم لا يحمل اسم عائلتنا الكريمة.
الحمار: معنى ذلك أن ليس أمامي إلا تأسيس حركة معارضة ظاهريا، ومتعاونة مع نظامك في السر، تبدو في العلن كأنها تعترض فتمنح الحُكمَ شرعيةَ تعدد الآراء والمذاهب، ومنها يكتسب النظامُ، عربيا ودوليا،الشرعيةَ الشعبية.

الزعيم: لا أظن أن شعبنا ستنطلي عليه هذه اللعبة، ثم إن صفات الحمار لا تنطبق على حامل هذا اللقب أو صاحب المنصب ، فهو يحتاج للمكر والدهاء وطول النَفَس. إنها كالجاسوس المزدوج يلعب مع الخصمين بنفس القدر.
الحمار: لكنني لن أخرج من القصر قبل أن تأمر بتعييني في منصب هام، وأنا لا أستطيع العودة إلى اسرتي وأهلي وأحبابي واصدقائي في عالم الحمير وأبلغهم أنني فشلت في اقناعك.
إنني على استعداد لقبول منصب ثقافي كبير يتحكم في الرقابة على الفيلم والكتاب والتلفزيون والصحافة، ومن خلاله أتجول في معرض الكتاب بعد منع عشرات من الكتب بحجة مخالفتها لنظام الدولة، وأن أضع خطوطا حمراء على أي شيء يمس الثقافة والطباعة ومعارض الكتب دون إبداء الأسباب المعقولة، وأن أتلذذ بتعذيب اصحاب دور النشر الذين ينتظرون أياما طويلة قرار الافراج عن الكتب التي تحملوا طباعتها وشحنها على نفقتهم الخاصة.
إن الثقافة في بلدنا لا علاقة لها بالمعرفة والكتاب والعقل والمنطق. وهنا بدا أن الزعيم قرر تعيين الحمار في واحد من أهم مناصب الدولة التي يظن معظمُ الناس أن العبقرية هي الشرط الوحيد لتوليّه، لكن القائدَ الرمزَ كان يعرف تماما أن لا أحد في الدولة سيشير على صاحب هذا المنصب الرفيع ويقول بأنه حمار.
وتحركت تروس المطابع للصحف الرسمية استعدادا لنشر الخبر القنبلة الذي سيمنح أبناءَ الشعب آمالا كبيرة بتعيين الحمار في هذا المنصب الرفيع والحساس والسيادي من أجل رفعة الوطن ومستقبل أبنائه!

محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو  النرويج
Taeralshmal@gmail.com

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...