29‏/08‏/2009

رسالة غاضبة إلى قائد عسكري مصري!



رسالة غاضبة إلى قائد عسكري مصري!


الكرامةُ قبل اليونيفورم، وأنواطُ الشجاعةِ التي يمنحها طاغية إلىَ جنوده لا تصنع فرساناً نبلاء، والأوسمة التي تزيّن الصدرَ قد تكون حقيقية، وقد تكون رشوةً في مقابل الصمت على سرقةِ وطن!
في معظم بلادِ الدنيا يسير القائدُ العسكري بالقرب من ثكنته فيسمع سيّدُ القصر وقع خطواته، ويعرف أن الجيش لا يلعب، وأن الجنرالات لا تحجب امتيازاتهم الرؤية عما يحدث في الوطن، وأنهم ليسوا أحجاراً على رقعة الشطرنج.
لا أدري شيئا عن تنظيم مفردات الوطنية والأخلاق والكرامة والعزة والهيبة التي تمنحك الصورة المثالية كأحد حُماة الوطن، وصمّام الأمان لشعبنا، لكنني أعرف أن العبور الرائع كان حالة استثنائية أعقبتها عشرات الفرص لعبور أكبر داخل قلب مصر، وتصحيح الأوضاع، وحماية الأهالي الذين يستجيرون بالجيش البطل فإذا هو يتحرك بروموت كونترول في يد رجل مريض، عجوز، غليظ القلب،كاره لبلده ولشعبه، ويحيط به شرذمة من أحقر وأقذر مجرمي العصر!
خجل أنا منك ومن صمتك، وقبولك الامتيازات في مقابل سكوتك القبري على انتهاكات كرامة أهلك وأبنائك وجيرانك وأحبابك ومن أقسمت أمام الله أنك ستحميهم وتدافع عنهم.
خجل أنا من ملابسك العسكرية ونياشينك وأوسمتك التي تتراقص على كتفيك ومن حذائك الضخم الذي من المفترض أنْ ينام باطمئنان على وقعه كلُّ أبناء شعبك، فإذا هو كخف اللصوص لا يسمعه السكان، وإذا تناهى إلى سيد القصر قام بنقلك إلى معسكر آخر في مكان ناءٍ لا تراقبه إلا الطيور و أجهزة الأمن الاسرائيلية المصرية في تعاون لم يشهد مثله تاريخ الخيانات العربية في ستين عاما أو يزيد!
خجل أنا من أبطال العبور وقد انكمشوا، وتناقصوا، وتقزموا، واصطحكت أسنانهم، وارتعشهم أرجلهم، ولم يعودوا قادرين على حماية دجاجة شاردة يطاردها أحد أذناب مبارك، حتى وزير الدفاع أضحت مهمته السير مطأطيء الرأس، خفيض الصوت خلف الرئيس وهو يفتتح مشروعا وهميا أو يحضر حفلا تغني له فيه حناجر النفاق والتملق كأنها افتتاحيات الصحف القومية .. المسبب الأول لحالات القيء والغثيان في مصرنا الصابرة.
خجل أنا منك وقد أصفر لونك، واحتقن وجهك وأنت تشاهد كل صنوف الاعتداء الوحشي الهمجي لأجهزة أمن القائد الأعلى للقوات المسلحة وهي تؤدي مهمة البلطجة والسادية، وتغتصب الضعاف الذين من المفترض أنك تحميهم فإذا بك تحمي اللصوص الذين يمثلون عدوك الأول.
خجل أنا منك وقد شل المجرم يديك، وكتم أنفاسك، وقطع لسانك، وتحكم في سلاحك، وجعلك في خدمة عدو مصر والعالم العربي ومغتصب فلسطين، فأنت لا تستطيع أن تقترب لمسافة محددة من حدود مصر، ولو بكيت ليلا ونهارا وأنت تشاهد اختراقات العدو لحدود أرض أجدادك وأحفادك فلن يسمح لك مبارك بنصف كرامة تحلل بها نياشينك وأنواط الشجاعة التي يسخر منها الاسرائيليون.
الطاغية مبارك يشعر بلذة شديدة وهو يخترع أنواعا جديدة من صنوف المهانة لقادته ولكبار رجال الدولة وللسياسيين ورؤساء الأحزاب وكل من تطول قامته، لهذا اختار رئيس جهاز المخابرات وسيطا بين العدو وبين الفلسطينيين، واختار وزير الدفاع لينحني خلفه في مذلة ومسكنة ومهانة، واختار أمن الدولة لتناصب شعبنا العداء والخصومة فتنحاز إليه وتصبح مكملة لنظامه المهتريء!
تحرير الجيش البطل، وتحرير أجهزة المخابرات وهي حصن مصر المنيع وتاريخها المُشرّف، وتحرير أجهزة مباحث أمن الدولة فهي عيون مصر في الداخل التي تحمي الشعب والوطن من الدخلاء والأغراب وجواسيس السفارات .. كل هذه مهام يود الشعب أن يضطلع بها انقلاب عسكري شريف وطاهر ينهي عصر الديكتاتور، ويعيد مصر للمصريين، لكنك، أنت القائد العسكري، أصبحت سجينا في معسكرك، وذليلا للطاغية، وأصماً عما يحدث في بلدك، وأعمى لا يرى المشهد المصري الكارثي.
آلاف منكم في جيش قوامه أكثر من مليون من العسكر لا يستطيع عشرة أو عشرون من القادة الشرفاء الأطهار أن يتحركوا ومعكم عدة مئات من الجنود الملتزمين بتوجيهاتكم صوب عاصمة القهر والحزن، ويعلنوا البيان الأول، ويزيلوا سرطانا أهلك جسد الأمة، وأوجع شعب أم الحضارات لسبعة وعشرين عاماً!
ألم يعد فيكم شرفاء؟
ألستم أبناء النيل الخالد، وحاملي روح أكتوبر المجيد؟
لا أصدق، ولن أصدق أن مبارك قدّمَ لكم جميعا رشوة، وأن سوطه يلهب ظهوركم، وأن عيونه ترصد كل تحركاتكم، وأن آذان كلابه تسمع همساتكم، وأن أصدقاءه الاسرائيليين يبلغونه بأحلامكم قبل أن تستيقظوا، فأنا مؤمن، رغم كل مشاعر الاحباط واليأس والحزن والغضب، أن هناك .. في مكان ما على أرض مصر يجتمع ضباط أحرار، يخططون لانقاذ مصر من براثن هذا الهمجي الوحشي، ويحرروا ترابها الطاهر من لصوص أسرة مبارك.
يؤكد الجميع أن لا فائدة في مصر، وأن أرض الكنانة انتهت إلى الأبد، وأن الشعب المصري اكتسب سلوكيات فهلوية واحتيالية وغليظة وقاسية لم يعد ينفع معها دين أو أخلاق أو نصائح أو تعليم أو كتاب أو مسجد أو كنيسة أو كل تعاليم السماء والأرض، ويقسم لي كل مغترب زار مصر زيارة قصير أو طويلة أن المصريين على مرمى حجر من ثورة الجوعى ، وأن الفوضى ستندلع في كل أرجائها، وأن الضمير غاب أو مات منذ أكثر من عشر سنوات، وأن الفساد لم يترك شبرا واحدا أو مهنة إلا واخترقها.
واستيقظ بين الحين والآخر باحثا على شاشة فضائية تنقل لي خبر اعلان البيان الأول في مصر، فكابوس الظن أن كل قادة جيشنا جبناء وصامتون ومرتشون وخانعون وغير أكتوبريين هو كابوس حارق للصدر والقلب والأعصاب، لذا فأنا أترقب بيانكم الأول كعاشق لم يبلغ مرحلة اليأس بعد رغم أن الدلائل كلها تشير إلى العكس.
لا أنوقع أن تقرأ مقالي هذا بنفسك فأجهزة أمن الطاغية تتابع كل حركة وشاردة وواردة، لكن أملي كبير أن يقرأها لك شقيق أصغر أو ابن أو ابنة ، وتعيدها أنت على مسامع قائد آخر صامت وغاضب، كاره لمبارك ومقيد اليدين، خائف من زملائه أن يوشي أحدهم بأحلامه في الانقلاب على الطاغية.
رسالتي تلك تحريض لضميرك أن يستيقظ ، ولعقلك أن يخطط، ولصدرك أن يخفق بحب مصر، ولمشاعرك أن تستمد من الإيمان بالله والوطن شجاعة لم تعرفها مصر في خمسة وثلاثين عاما منذ العبور الأعظم، وأن تبدأ مع زملاء لك في تكوين خلية سرية شجاعة ووطنية في جيش مصرالبطل لعل المصريين يُقبّلون أيديكم الطاهرة.
أعود وأكرر بأن الكرامة قبل اليونيفورم، وأن الجيش الذي لا يحمي الشعب لا يستحق الحياة أو النصر، وأن التخطيط للانقلاب على مبارك داخل ثكنات الجيش هو أسمى صور الطهارة والوطنية والإيمان.
الخزي والعار لكل بدلة عسكرية يرتديها صامت، أما أحرار البيان رقم واحد فأكاد أراهم رؤي العين، بل لا أبالغ إن قلت بأنني أستعد لارسال تهنئة فور إذاعة الأناشيد الوطنية في القنوات والإذاعة المصرية قبيل استماعنا لصوت مصري حر وجميل ورخيم ومحب ومؤمن يعلن انتهاء حقبة النظام العفن والآثم والقذر والاجرامي والارهابي لأسرة مبارك.

أحفاد الرئيس لهم الجنة، وأطفالنا ولاد ستين ألف كلب!



أحفاد الرئيس لهم الجنة، وأطفالنا ولاد ستين ألف كلب!

أوسلو في 27 مايو 2009

رائع جدا أن يتكاتف المصريون للتعبير عن تلك المشاعر الانسانية الراقية، بل ويبكي بعضهم طفلا لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره في الوقت الذي تلعن خلجاتهم العهد الأسود للرئيس حسني مبارك!
أما أن للطفل الراحل الجنة فهذا لا يشك فيه لحظة واحدة أي مؤمن بأن الأطفال عيال الله، وأن الطفل ليس بالضرورة مع والديه، وأن أطفال المسلمين والأقباط واليهود والبهائيين والمجوس والبوذيين والملحدين والطغاة والسفاحين سيكونون في رحاب الجنة يتمتعون بنعمة الله وفضله.
أتفهم تماما أسباب انزلاق دمعتين على الوجه من أي مصري إثر الاستماع إلى خبر رحيل حفيد الرئيس جراء فيروس أو تسمم أو لوكيميا أومرض عضال، لكنني أشعر بالقرف الشديد والغثيان عندما تلطم الدولة كلها وجهها، وينخرط كبار رجالها في بكاء وعويل، ويأمر رئيس مجلس الشعب بوقف بحث قضايا الناس وهمومهم وأوجاعهم وتعطيل الجلسات رغم أن الأموال التي يحصل عليها أعضاء مجلس الشعب حرام وسُحت وسرقة واحتيال.
والرئيس مبارك قال بأنه يحتسب حفيده عند الله ولعل رحيله يشفع له عند خالقه، والحقيقة أن الرئيس آخر من يحق له الحديث عن رحمة الله وعفوه ورضوانه، فكتابه يوم القيامة والذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها سيحتاج لعصبة من الملائكة ليقرأوه على مسامعه.
هؤلاء المصريون الطيبون الساذجون الذين يظنون أن الرئيس ربما يتوب، ويستيقظ ضميره، لا يعرفون أن إبليس أقرب إلى التوبة من الرئيس المصري، ولو أراد التوبة فقد منحه الله ثلاثة عقود كاملة ليقتطع منها دقائق معدودة يبحث فيها عن شعبه، ويتحسس آلامه، ويعالج قضاياه، ويطارد لصوصه، ويحفظ كرامة أفراده، ويرفع من شأن دولة المؤسسات والقانون.
فقد الرئيس مبارك أعز ما لديه وهو على قيد الحياة، وانقطع أمل في أن يحكم مصرَ بعد جمال مبارك ابنُ أخيه، ووقف الطاغية عارياً وهو يتوجع فقد مضى زمن طويل لم ينبجس ماء من هذا الصنم، ولم تلن عضلة واحدة في وجهه، ولم يستيقظ ضميره دقائق قليلة فيما يناهز الثلاثة عقود.
طاغية يحزن على حفيده رغم أنَّ مشاعره البليدة والقاسية والجامدة والمتحجرة ظلت كجبل الجليد حتى أنه منح أنواط الشجاعة لثلاثة ضباط متهمين بتعذيب مواطنيه، وعندما ألقى ضابط الشرطة مواطنا مصريا من الطابق الرابع صمت الطاغية صمت الجبناء فالضحية واحد من ثمانين مليونا يحتقرهم الرئيس، ويعتبرهم كلابا إن يحمل عليها تلهث وإن يتركها تلهث.
ودَّع مبارك حفيده إلى الأبد فالطفل البريء ككل أطفال أهل الأرض في جنة الخلد والنعيم ولا تزر وازرة وزر أخرى، أما الطاغية فيعلم أن ذنوبه وجرائمه وأثامه في جحيم وكوارث وفواجع أم الدنيا ستجعل له أكثر الأماكن ظلمة وحُرقة وعذابا يوم الحشر الأعظم.
لعله لم يصدق أن للحزن وقعا شديدا على النفس والجسد إلى أن جاء ذلك اليوم الذي استعاد الباري عز وجل وديعته، فالرئيس مبارك كان يظن أن الأحزان والآلام والعذابات هي فقط من نصيب أبناء شعبه، أما هو وعائلته ففي حماية الشيطان.
مَنْ حَزن على محمد علاء مبارك وبكى رحيله ولم يتأثر لموت آلاف الأطفال بسبب تكبر وغطرسة وطاغوتية وحماقة واستبداد وقسوة وغلظة مبارك فإن حزنه على الطفل البريء مسرحية سخيفة ونفاق مقزز، فالأحزان لا تتجزأ.
رحيل الطفل حفيد الرئيس كشف عوراتنا جميعا، فنحن منافقون حتى النخاع، ويمكننا أن نبصق على أجساء أولادنا وأحفادنا حتى نسعد الطاغية الطاووسي المتغطرس بدموعنا على حفيده.
رحيل الطفل مزق هالة الهيبة التي يتدثر بها الكبار والوزراء ورؤساء التحرير والاعلاميون وقادة المؤسسات فقد تقزموا جميعا، وكانت دموعهم التماسيحية كأنها تلعن أولادهم وأحفادهم فالقيمة الوحيدة في أرض الكنانة ينبغي أن تحملها الأسرة ذات الدماء الزرقاء، أما أولاد وأحفاد المعتقلين الأبرياء والمرضى والفقراء والمعوزين والجوعى وشهداء التعذيب في سجون الطاغية فليس منهم من يستحق دمعة واحدة لأنهم من طينة العبيد ورقيق العهد المباركي المشؤوم.
أحفاد الرئيس لهم الجنة أما أولادنا وأحفادنا فهم ولاد ستين ألف كلب.

سيدي جمال مبارك .. الآن يمكنك أن تعتلي عرش مصر!



سيدي جمال مبارك .. الآن يمكنك أن تعتلي عرش مصر!


أوسلو في 7 يونيو 2009
لا أخشى على الشعوبِ من الطغاة أكثر من خشيتي عليها من أبنائهم، فهم مُفككون، مرضى نفسيون، كارهون لمن أعطوا ظهورَهم لسياط آبائهم، متمسكون بشرعية الاحتقار والازدراء ، مؤمنون أنَّ وراثة الحُكم تستلزم أيضا وراثة الأرض والناس والخيرات حتى التاريخ تعاد صياغته لصالحهم، وتنبت شجرة العائلة من جديد فينسبونها للأنبياء والرسل والمصلحين والأشراف والثوار.
عندما يمر في ذهني مشهد مصرنا في عهدك بعد رحيل والدك الطاغية الأكثر إيغالا في القسوة من طغاة العصر تقفز إلى ذهني حكايتان تكشف كل واحدة عن نوعية العلاقة المستقبلية بينك وبين رقيقك المتلذذين بكرباجك، فإذا كنتُ أنا أرى مصرَ تنهار في عهدك أبيك، فهي تنتهي، لا قدر الله، في عهدك، وتصبح قاعاً صفصفاً تذروه الرياح، وتَضْحىَ أمنية كل مصري أنْ تغرق به مركب قديم أمام شواطيء مالطا فالموت سيكون الحلمَ الورديَّ للمواطنِ المصري في عهد جمال مبارك.
الحكاية الأولى تلك التي حدثت في بورسعيد إثر ما سُمّي آنئذٍ بموكب السيد الرئيس عندما أسرعتَ أنتَ إلى استراحة الوزراء وقلتَ لهم غاضباً: يا ولاد الكلب الريس بتاعكم كان حيموت وانتم بتدلعوا هنا، فلما انبرى رئيس الوزراء مُهدئا من روعك، وقال لك بأنه مثل والدك فكيف توجه له هذه الشتائم، كان ردك المباركي الذي رباك عليك القصر وسيده: وانت كمان ابن كلب زيهم!
هنا انكشف المشهد المصري في مستقبل أم الدنيا عن جحيم سيجعل المصريين يلعنون يوم أن سقطوا من بطون أمهاتهم في عهد الوالد أو الابن، أو يلعنون يوم أن حمل القصرُ اسمَ مبارك فعجّل من يوم القيامة المصري!
الحكاية الثانية عندما أهداك وزيرُ الدفاعِ سيارةً مصفحةً مصنوعةً في الخارج خصّيصا لك، وحاول المسكينُ أنْ يجعلها مفاجأةً لعلك ترضىَ عنه، ولكن المفاجأة كانت من نصيبه وأنتَ تُلقى على الأرض مفتاحَ السيارة بميداليته الذهبية مُحتجا على لونها، فكأنك وضعت جيشَ العبور كله تحت حذائك، وكنتَ نموذجا مثاليا لتربية لقنكَ إياها الزعيمُ الطاغية، وانكشف المشهد المصري للمرة الثانية عن مدرسة لتعليم الطغاة في العالم برمته، فيأتوك أفرادا وجماعات لكي يتدربوا على يديك في كيفية قمع شعوبهم، تماما كما كان منيغستو هلامريم، النجاشي الأحمر، يتعلم من الرئيس الألماني الشرقي هونيكر، فكانت النتيجةُ نصفَ مليون قتيل إثيوبي في البلد المنكوب بالطاغية الشاب الذي قتل الطاغية الأكبر هيلاسلاسي خنقاً، ودفنه في حوض إسمنتي تحت أحد مراحيض القصر في أديس أبابا!
ثلاثة أرباع المليون من رجال الأمن سيقومون بحمايتك من غضب شعبٍ لا يغضب، وآلاف من الاعلاميين الذين تدخل بطونَهم أموالٌ حرام عليهم وعلى من يعولون سيتولون مهمة تلميعك، وتأهيلك، وتزييف أوراق الوطن، فالتعاون بين جهاز أمنك وأقلام المننتسبين للسلطة الرابعة جعل مقالات المنافقين والجبناء ومُحللي الحرام كأنها خرجت لتوها من مكتب ضابط أمن بعد أن وضعها في دبر مواطن ظن مباركاً الأبَ أو الابنَ ولياً للأمر، فإذا هما مُمثلا الشيطان في أرض الكنانة.
الطاغية الابن يزلزل كياني كله رعباً وفزعاً فالتوريث الجمهوري ليس نابعا عن حكومة ملكية، لكنه نقلُ مِلكية الشعب من رئيس منتخَب إلى رئيسٍ منتخَبٍ بفضل صناديق اقتراع تم تحديدُ النسبة التي يريدها الزعيم قبل فتحها بوقت طويل.
كيم إيل سونج يعطي رقبة الشعب إلى ابنه كيم يونج ايل، وعندما شعر الزعيم الابن بأن الوقت قد حان لتسليم العبيد إلى وريث جديد، أوحى إلى كل أجهزة الدولة أنْ تستعد لتقديم الولاء لحفيد كيم ايل سونج، فالأحفاد أيضا لهم حق الحلم بتحويل الوطن إلى كابوس، فكيم يونج أون سيكون الكيم الثالث الذي يحكم الدولة السجن!
أزعم أنك، سيدي الرئيس جمال مبارك، بعدما شاهدت الرئيسَ الشابَ أوباما يقفز صاعداً سلالم القصر ليعانق والدَك وقد تمكن الطبُ من جعله حياً نصفه موت لدقيقتين تمنيت أنت أن تكون مضيفَ زعيمِ البيت الأبيض، لكنه، لا ريب، يعرف مُسبقا أنك الحاكم الفعلي لأم الدنيا، ولعلك تذكرت الملك الراحل، الحسين بن طلال، عندما جعله الطب المتقدم الأمريكي ميتاً نصفه حياة ليومين أو أقل، فعاد ليُعَيّن ابنه وريثاً لعرش الهاشميين وسجونهم ومعتقلاتهم واتصالاتهم السرية والعلنية مع الموساد، ثم عاد أو أعيد لتفارقه الروح .
وأزعم أيضا معرفتك أن أعضاء مجلسي الشعب والشورى لا يساوي أيٌّ منهم في عُرفك صفعةً على الوجه من ضابطٍ صغيرٍ فيعرف أنه تحت قبةِ البرلمان شاهدُ زورٍ على ذبح وطن، وأن الذين غيرّوا الدستورَ في دمشق ليصبح ابنُ الرئيسِ الرئيسَ الابنَ في أقل من ربع الساعة هم القتلة الأكثر التصاقا بتاريخ أمم حكمها طغاة، وساعدها استعمار خارجي، وزوّر هويتها مثقفون وإعلاميون ومفكرون وأكاديميون وقضاة ومحامون وصفوة الشعب ونخبة القوم، وهؤلاء ستتورم أيديهم من التصفيق لك في أول خطاب تلقيه، ثم تبصق علينا جميعاً، فنسخةٌ جديدة من الدكتور أحمد فتحي سرور تستعد لتهبط بالمطرقة على مكتبه، وترمز بها للطرق على رؤوس ممثلي الشعب المخدوع في سلطة تشريعية تتلقى التوجيهات من القصر الجمهوري.
في عام 1970 تم تغيير الدستور في هاييتي لتخفيض سن الرئيس من أربعين إلى عشرين عاما حتى تتم تهيئة الأجواء ليصبح ابنُ الرئيسِ جان كلود دوفالييه رئيسا أبدياً للجزيرة، وعندما رحل الوالد الطاغية في 21 ابريل عام 1971 قفز الطفل المدلل وهو في التاسعة عشرة من عمره ليهلك الحرث والنسل ويكمل خراب بلده كما أوصاه والده!
ومع ذلك فأنت حالة خاصة، فوالدك قضى ربعَ قرنٍ في تحضير طبخة التوريث، وحجب أي تفكير في رجل ثان أو نائب له لئلا يظن مصريٌّ واحدٌ أننا نتساوى مع أحد من أسرة مبارك الارهابية، وأمسك والدك المجرمُ الطاغية ُكلَّ أطرافِ البلد بقبضة واحدة، وأنفق من ميزانية الفقراء مليارات على أمنه فهو يحمي نفسَه ويحميك في ربع قرن مشؤوم لمستقبل أكثر ظلما وظلاما من كل العهود السابقة في تاريخ مصر.
محاولات كثيرة للانقلاب العسكري باءت بالفشل، فالطاغية الوالد منصت جيد لأجهزة الأمن الاسرائيلية التي نجحت في كبح جماح القوى الوطنية داخل الثكنات العسكرية لأبطال العبور، فانتقمت تل أبيت منهم جميعا بحماية أبيك من غضبة الجنرالات، ولم يعد بامكان ثلاثة لواءات أن يجتمعوا دون أن يكون رابعهم شيطان من القصر، أو يتحادثوا سرا، أو يتزاوروا عائليا، أو يتابعوا الانترنيت، فالستار الحديدي جعل الدولة البوليسية مرهونة باشارة من قاتلي المصريين في إسرائيل، ولم يعد في قدرة أحد من أسرة مبارك أن يحتفظ بجاسوس يعمل لحساب الدولة العبرية لأكثر من بضعة اشهر حتى يخنع، ويبرك، ويفرج عنه!
الاشارات الخضراء بدأت في الظهور علانية، فهي من فنانين كبار وممثلين ومطربين ورؤساء تحرير صحف كبرى وصغرى، وهي من كل النقابات ومؤسسات الدولة والجامعات وأكثر الأحزاب، مؤكدين تمنياتهم أن يكون لسع سوطك على ظهورنا ومؤخراتنا أخف من كرباج أبيك ، لكن الحقيقة أننا جميعا مجرمون، ومشاركون في كارثة تدمير مصر، وجبناء، وبائعو وطن في سوق النخاسة، ومهرجون نلعب لعبة تبرير وصولك للحكم رغم أن اجرامك ودراكيوليتك وشغفك بدماء مواطنيك سيجعل المصريين يتمنون عودة الاغتصاب والتعذيب في عهد والدك.
الأغبياء الملعونون من السماء والأرض يطلبون مهلة لك، ووقتا تجريبياً لمعرفة نتيجة حقل التجارب على المصريين، في الوقت الذي التفت الشعب المصري المتدين حول قيمة وهمية كذبوا على الله وقالوا بأنها صلب الدين، وهي طاعة الطاغية والتلذذ باغتصابه إيانا، والصمت على احراق وطن، والسكوت على نهبه، وتحويل الصبر من توكل على الله إلى تمديد في عمر المستبد.
خمسة محاور لو كان للشعب المصري نصيب منها لما كان حلم أبيك في توريثك مصرنا أكثر من أضغاث أحلام أو زهايمر سياسي :
الأول : الجيش الذي كان بطلا، ففرّقته هذه الأسرة اللعينة، وجعلته كأنه مُخدّر بعد هزيمة، ونائم بعد نكبة، وضعيف بعد أسْرٍ، وميّت بعدما انتزعتم الروحَ منه.
الثاني: أجهزة الأمن التي تبتلع ثلث ميزانية الدولة، وأصبح لكل أربعة مصريين بالغين رجل أمن يحميك منهم، وأعطاهم أبوك متنفساً للقهر، ففصلهم عن الشعب فصلا تاماً، وأصبحوا في صف خصومه. ورعب الزنزانة.
الثالت: اصحاب القلم واللسان من الإعلاميين الجبناء الذي خانوا القلم ونونه وما يسطرون، وأضحت صحفهم وفضائياتهم ومطبوعاتهم وندواتهم وملتقياتهم الاعلامية امتدادا لسلطة الأمن، وهراوة الرئيس ،
الرابع: التلفزيون والفضائيات المصرية والعربية والقادرة لو لم تخضع لتهديد مبارك على التمهيد لثورة والاطاحة به في وقت قياس.
الخامس: رجال الدين، الاسلامي والمسيحي، والقوى الدينية في المسجد والكنيسة، والجماعات الدينية المحظورة والمسموح لها، ولو علّم هؤلاء أتباعهم كراهية الاستبداد، وأن رضا الله عنهم مرهون بمقاومتهم الطغيان، لانتهى اسم مبارك من تاريخنا الحديث إلى الأبد.
سيدي الرئيس جمال مبارك،
الآن يمكنك أن تطل علينا من شرفة قصر عابدين أو العروبة أو شرم الشيخ أو برج العرب، وتجمع بصقة كبيرة وتقذفها في وجوهنا جميعاً فنحن لم نحافظ على مصرنا منكم، وبررنا ارهابكم، وأعطيناكم الكرباج لتسلخوا أقفيتنا به، وفتحنا صفحات مطبوعاتنا لتلمعيكم، وقرأنا واستمعنا لعشرات الآلاف من الحكايات الموثقة والمعروفة للقاصي والداني عن عفن هذه الأسرة التي لم يكره مصر والمصريين منذ خمسة آلاف عام أحد مثلما فعلت أسرة مبارك، ومع ذلك فنحن ننام، ونستيقظ، ونأكل، ونشرب، ونربي أولادنا، ونشاهد مسرحيات ومسلسلات، ونكذب على الله، ويكره بعضنا بعضا في دينه أو مذهبه أو طائفته أو طبقته الاجتماعية أو خلافه الفكري، ولو أن كراهيتنا تلك توجهت للمجرم الحقيقي لما بقي والدك في الحكم أكثر من ولايتين ليدفنه التاريخ في هوامشه.
لم أعد أصدق برنامجا أو تحليلا سياسيا أو صلاة لمسلم أو قبطي أو جمعة يتيمة أو قداسا في أحد الآحاد، ولا أصدق القضاة أو المحامين أو أساتذة الجامعات أو المعترضين أو المحتجين أو دور النشر أو أصحاب القلم أو اسياد النت الجدد.
لا أصدق أي خبر يأتيني من هناك ولو كان ذبح الخنازير، أو جولتك بين الفقراء، أو قدرة الرئيس المحتضر على تجميع أفكاره، أو استعراض عسكري، أو رفض زيارة ليبرمان، أو صفقة اليونسكو لفاروق حسني أو ضيوف البيت بيتك أو الحوارات السياسية الملمعة لك من الزعيم صاحب مدرسة المشاغبين وشاهد ما شافش حاجة.
ترتعش الآن كل شعيرات جسدي وخلاياه عندما أتصور المشهد المصري وأنت على رأسه، وقد جاءك المصريون بأكبادهم المريضة، وفقرهم المدقع، وتدينهم الزائف، وعلمائهم المنافقين، وفضائييهم الكاذبين، ونخبتهم الفاسدة، وصفوتهم الجبناء، وربع مليون مصري من القضاة والمحامين والأكاديميين وجنرالات الجيش ولواءات الشرطة وقد أحنوا رؤوسهم، واصطكت أسنانهم، وارتعشت ركبهم، وقدموا لك وثيقة تتملك بموجبها رقابهم لربع قرن جديد لن تصل مصر إلى ربعه قبل أن تكون قد دفنت ربعها في مقابر جماعية.
أعترف لك بأنني ألعن في يقظتي ومنامي كل من يؤيدك وأيد أباك حيا وميتا، ولن أحيد ما حييت عن قناعاتي بأن مصر في جانب وأسرة مبارك في جانب آخر، ومن يحب الوطنَ وأرضَه وترابَه وتاريخه وشعبَه وأهله لا يمكن أن ينحاز لك أو لأبيك، بل لعلي لا أبالغ إنْ قلت والصمت أيضا على جرائمكم كالتعاون مع إسرائيل.
سألني مصري التقيت به مؤخرا: لماذا تكره الرئيسَ مبارك كأنه عدوك الوحيد؟
قلت له: كان عليك أن توجه السؤال لمبارك نفسه: لماذا يكره المصريين كل تلك الكراهية العمياء كأنه أقسم أن ينهي مصر إلى الأبد في عهده الأسود أو عهد ابنه المشؤوم؟
سيدي الرئيس جمال مبارك،
أكرهك كما كرهت أباك وأسرتك ولصوصكم وناهبي خيرات بلدي ومعذبي أبنائهم ومخربي كل ركن فيها والمساهمين في انحدارها وانحسار دورها والتمهيد لاهالة التراب عليها وجعلها دولة فقيرة متسولة يتمنى أبناؤها أن يكونوا مثل أفقر دول أفريقيا.
أكرهك وأباك لأنني أحب مصر وجيشها وشعبها وشرفاءها وترابها وأرضها وتاريخها ومساجدها وكنائسها، وسيظل قلمي ما شاء الله شوكة في عيونكم، وتحريضا ضدكم، وقصيدة حب في مصرنا ولو بدت للحمقى من قسوتها كأنها كراهية.
أنتظر بصبر أيوبي نافد البيان رقم واحد، وأستعد برسالة تهنئة لمصريين أحرار وشرفاء ووطنيين لم يستطيعوا على طغيانكم صبرا!
لكن هذا لا يمنع أن دموعي ستغرق وجهي كله عندما تلقي خطابك الأول، خاصة وأن المصفقين لك والمهللين لن يصدقوا أنك بصقت عليهم وعلينا في نهاية الخطاب.
أبناء الطغاة لا يرحمون، ولو كان سيف الاسلام القذافي أو أحمد علي عبد الله صالح أو حتى عدي صدام حسين، لو كان حيا، لفعلوا مثلما تفعل أنت!
أيها الرئيس المصري القادم
الشرفاء لا يمزحون، والأحرار لا تظهر رؤوسهم قبل البيان رقم واحد، وما لا تراه في رسالتي التشاؤمية لا يشاهده إلا عشاق لمصر يستعدون لتحريرها منكم!
وعلى المصريين الاختيار الحر ما بين الموت سحقا تحت حذائك أو الحياة شرفا في التعاون والتكاتف والتسامح والخروج شعبا وجيشا وأحرارا لانهاء عصر مبارك الذي دنس أرض الله الشريفة، فهل يختار المصريون الحياة أم يفضلون .. الموت؟

برونتو .. العقيد في إيطاليا!



برونتو .. العقيد في إيطاليا!


أوسلو في 18 يونيو 2009

الجماهيرية العظمى هي اللا دولة الوحيدة في العالم التي لا يستطيع أحدٌ أنْ يُمَيّز فيها بين الدراما الكوميديةِ والملهاة التراجيديةِ،فالعقيدُ يلعب كلَّ الأدوار علىَ خشبةِ المسرح، ثم يرفع الستارَ فجأةً، فإذا أسدله تحوّل المسرحُ إلىَ سيركٍ، والجماهيرُ تضحك حتى الثمالة، لكنَّ الحقيقة أنَّ صاحبَ كلِّ الأدوار هو الذي يضحك عليها، ويفرّغ جيوبَها، ويسخر مِنْ عقولِها، ويجعلها شاهدَ زورٍ علىَ أكبر عمليةِ قمعٍ لشعبٍ عربي دامتْ أربعة عقود!
كان من المفترض أنْ يكون تاريخُ الطغاةِ درساً نتعلم منه كيفية مواجهةِ هؤلاء الأوغاد الذين يحكموننا، فتعلمتْ شعوبٌ أخرى بعدما دفعتْ من دماءِ أبنائها الملايين بسبب السماح لملوَّثين ذهنياً، ومرضىَ عقلياً بالوثوبِ علىَ كرسي السلطة، فوقف موسوليني فوق دبابة متهكما على الفاتيكان، ومتسائلا عن عدد الدبابات التي يملكها الحبْرُ الأعظم!
وأوحى هتلر لشعبه أنه جاء ليمحو آثارَ هزيمةِ ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فإذا بهوسه، وعنصريته، وجنون العظمة الذي تجسد فيه يجعل أوروبا تدفع ستين مليونا من أبنائها إلى محرقة حرب عالمية جديدة، واختلط النضالُ في الدفاع عن الوطن بالقسوة والكراهية، فتحررت ألمانيا بهزيمتها من الطاغية، وقام المحررون باغتصاب مليون امرأة ألمانية، وكتب المنتصرون التاريخ، كالعادة، حتى إلى وقت قريب لم يكن أحد يعرف أن 12 ألف ضابط بولندي قتلهم الروس الأصدقاء المضيفون بدم بارد بعدما كتب التاريخ لعدة عقود أن الألمان هم الذي قاموا بتصفيتهم.
طغاة من نسل مصاصي الدماء كانوا يتناثرون في كل أوروبا، حتى في ألبانيا التي حكمها أنور خوجا، وقطع علاقاته بالغرب والشرق، وأجبر كلَّ مواطن أنْ يكتب السيرةَ الذاتية لنفسِه، وأنْ يُعدد أسماءَ الجيران، والأقارب، وأنْ يتهم بعضَهم بمعاداة الثورة، فإذا لم يعثر على متهم فعليه أنْ يتهم نفسَه!
طغاة كانوا مناضلين في الحركات الوطنية والمقاوِمة، فياروزلسكي البولندي كان من أوائل من دخلوا برلين بعد سقوط النازية، وهو نفس الشخص الذي أمر باطلاق الرصاص على المتظاهرين، واعتقل مئات الكُتّاب والصحفيين والمثقفين عام 1981، وأجبر مذيعي التلفزيون أن يرتدوا الزيَّ العسكري، ونيوكولاي تشاوشيسكو الروماني حوّل رومانيا إلى سجن كبير، وكانت زوجته تحكم من وراء الستار تماما كما فعلت زوجه أنور خوجا الديكتاتور الألباني.
إلا في عالمنا العربي فكأننا نعيش خارج الزمن والتاريخ، رغم أننا نملك كلَّ وسائل اسقاط أي طاغية، فملايين من العرب يتنفسون حريةً في الخارج، ويملكون من أدوات الاتصال والتحريض ما لم يكن حتى حلما في أذهان الغاضبين على مستبديهم في زمن مضى.
المواطن العربي الذي كان يحمل الجنسية المصرية أو الأردنية أو التونسية أو السورية أو الليبية أو غيرها ويقيم الآن في السويد أو أمريكا أو أستراليا أو في قرية مجهولة بجنوب النمسا أو في مزرعة بشمال بلجيكا أو يعمل في ميناء روتردام يحمل معه كل مشاعر الخوف والرعب كأن زائرَ الفجر سيحصل على تأشيرة دخول شينجن، ويصل إليه بطائرة خاصة، ويقوم باصطحابه من رقبته إلى واحد من سجون الزعيم!
والانترنيت شاهدٌ على صحة ما يظنه البعض مبالغات، فملايين من العرب المقموعين الذين يلعنون في غرف نومهم زعماءَ بلادهم يتحولون إلى قطط وديعة فوق الشبكة العنكبوتية، فعفريت الزعيم يتجول ليحصل على (آي بي ) لكل جهاز كمبيوتر يجلس أمام شاشته متمرد أو غاضب أو غيرُ راضٍ أو حتى عاتب على استحياء على جرائم سيد القصر.
العقيد معمر القذافي نموذج سيتدارسه تلاميذ المدارس في عقود قادمة عندما يدفن التاريخ في هوامشِه طغاة الوطن العربي، فهو يملك فلسفة في الطغيان لا نظير لها وهي حماية نفسه كمستبدٍ بجعل الاستبدادَ رديفا للبهلوانية، وأنْ يصبح الزعيمُ بلياتشو فلا تدري بعدها مَنْ الذي يضحك علىَ الآخر: قائد الثورة أم الشعب!
الذاكرة الأوروبية والأمريكية قوية إذا تعلق الأمر بتفاصيل الحرب العالمية الثانية، لكنها ضعيفة أمام طغاة العالم العربي شريطة أن لا يُغضب الزعيمُ الدولةَ العبرية، وأنْ لا يقطع ذهبَه الأسود عن البيت الأبيض، وأن يقترب مفهومه للارهاب من مفاهيم ناصعة البياض أوروبيا وأمريكيا!
هبط العقيد بصعوبةٍ بالغةٍ سلالمَ الطائرة وكان في انتظاره بالأحضان الدافئة ملكُ الإعلام .. رئيس الوزراء برلسكوني ( تذكرتُ كتابا قرأته بالفرنسية منذ ربع قرن يحمل عنوان: هؤلاء المرضى الذين يحكموننا!) ولم تكن دهشة رئيس الوزراء الايطالي الذي يستقبل ديكتاتورا مريضا أكثر من دهشة الرئيس الأمريكي الشاب الرياضي الذي استقبله في القاهرة مريض وديكتاتور آخر ، فالمرض في عالمنا العربي سر من أسرار الكون، وطبيب العائلة الحاكمة يحمل كفنه معه كلما أمسك الترمومتر لقياس حرارة سيدنا ( انظر كتاب الدكتور علاء بشير: كنت طبيبا لصدام حسين)، أما طبيب الأسنان لديكتاتور ألبانيا أنور خوجة فقد تم اختطافه ليحل محل الزعيم المريض .. طريح الفراش ريثما تقوم الزعيمة نيكسمي خوجا بإدارة شؤون البلاد والعباد ( من منا يتذكر أرملة زعيم عربي عندما كانت تعطي ضيوفها المغضوبَ عليهم بسكويتاً، ثم تلقي قطعة لكلبها لكي ترمز للضيوفِ أنها لا تفرّق بينهم وبين الكلابِ في حُسن الضيافة؟).
جرائم العقيد في ليبيا طوال أربعة عقود سقطت من الذاكرتين الغربية و .. العربية، فأموال الشعب المسكين بين اصبعين من أصابعه، يدفع منها تعويضات لجرائمه، ويسدد ديونَ النوادي الرياضية المتعثرة ماديا شريطة أنْ يرتدي لاعبوها فانيلات عليها صورة الكتاب الأخضر، أو يُسكت بها ألسنة وأقلامَ زملائِنا في السلطة الرابعة، أو يقوم بتبذيرها في مشاريع فاشلة، فكيف تكون هناك توشكى في مصر دون أن يخترق النهر الاصطناعي العظيم الصحراء الليبية، فميزانية الوطن يتحكم فيها شخص واحد؟
عذابات الشعب الليبي وأوجاعه وفقره وكل صور القمع مسؤول عنها كل من يعترف بالعقيد، ويدعمه، ويصمت عن جرائمه، ويساهم في مَدِّ الروح في نظامه المتخلف المستبد، ونحن لا نستثني أحداً هنا سواء كانت دولا عربية أو غربية أو أفريقية أو أسياد البيت الأبيض.
أول ما يفعله الطاغية هو التخلص من زملاء الثورة، ومن المقربين كما فعل العقيد مع آدم الحواس وموسى أحمد وعمر المحيشي وبشيرهوادي، ثم أعدم 22 ضابطا إثر اتهامهم بمحاولة الانقلاب ( حسني مبارك لا يعلن عن محاولات الانقلاب، إنما يتخلص من الضباط في صمت، وحافظ الأسد لم يكتف بالاعدام لكنه أمر بتدمير مدينة حماة على رؤوس أبنائها، أما صدام حسين فلم يكن في حاجة إلى هذه الوجبات الصغيرة من الاعدامات فهي لا تناسب منصبه المهيب، فقتل نصفَ مليون عراقي منذ توليه السلطة، وأكمل المهمةَ بعده الاحتلالُ الأمريكي، وبعدما كان سجن أبو غريب بعثيا أصبح يانكياً، ثم تسلمته حكومة المنطقة الخضراء لتعلّم العراقيين أنْ مَنْ سبقها كان لطيفا مقارنة بالحُكم الوطني!).
في فترة الثمانينيات كانت شراسة العقيد خليطا من جنون بوكاسا، وغطرسة بينوشيه، وتخلف عيدي أمين دادا، ودموية منجستو هيلامريام، وقسوة ستالين، وجهل هيلاسلاسي، فجعل يطارد معارضيه وحرَمَهم من لقب المعارضة فأطلق عليهم ( الكلاب الضالة) وسط صمت دولي وعربي مخجل، فالعرب كانوا يرسلون إليه من يستجديه أنْ لا ينسحب من جامعة الدول العربية، والأفارقة يطمعون في المال الذي تحت يديه، والغرب يعرف أنه ظاهرة صوتية وستعود إن عاجلا أو آجلا إلى تقبيل الأيدي والأرجل.
تأخر ساعتين عن حضور مجلس النواب الايطالي، فتم الغاء الجلسة، وكانت حجة العقيد أن صلاة الجمعة أهم لديه من الالتزام بالمواعيد، أما أعضاء السفارة الليبية فلا يعرفون مواعيد الصلاة حتى ينبهوا زعيمهم، ففي عالمنا العربي ينتظر الناس قائدَهم ولو طال الانتظار لفجر اليوم التالي، وليس من حق أحد أن يتبرم أو حتى تبهت ابتسامته، فالزمن غير موجود في حياة الزعيم، وعلىَ عقارب الساعة أنْ تتحرك وفقا لرغباته ونزواته.
في عالمنا العربي يتم اغلاق الشارع قبل مرور الزعيم بعدة ساعات، وتتعطل مصالح الناس ولو مرّت سيارة اسعاف أو مطافيء فالويل لمن سمح بالمرور، وعلى كل أجهزة الدولة أن تخضع لتوجيهات الأمن، فالقائد لا يُسْئَل عما يفعل، والسيد قبل العبيد، والقصر قبل الكوخ!
علّق العقيدُ علىَ صدره صورة للمناضل عمر المختار في مشهد كوميدي تهريجي ارتدى فيه قائد ثورة الفاتح من سبتمبر ملابس كأنه كلوشار فرنسي ظن نفسه جنرالا في الجيش الأحمر وقد أثقلت صدرَه نياشين من صفيح وأنواط وهمية، وكان على العقيد أن يضع صورة لألف ومئتي سجين ليبي أمر بتصفيتهم في سجن أبي سليم لنرى كيف ستكون ردة فعل ملك الصحافة الايطالية .. وَزيرُ نسائها!
خيمة العقيد التي تكلف الدولة ملايين من أموال الشعب، فتنقلها طائرات خاصة، ويتم نصبها في أي مكان تصل إليه أقدام العقيد، وتقوم اتفاقات، وتحصل الدولة المضيفة على تصريحات من وزارة الصحة ومن البيئة ويتم تجنيد عشرات العاملين للكهرباء ودورات المياة والحمامات والفضلات ، ودفع تعويضات لاستئجار قطعة الأرض قبل تخريبها بالأوتاد والحفر، ثم يجلس العقيد كأنه مضيف وليس ضيفاً، وبعد ساعات تتم عملية التفكيك، وينهب من ميزانية الخيمة كل من يتسول على مائدة العقيد، وتعود الطائرات إلى الجماهيرية محملة بخيمة يستبدلها قائد الثورة ليشتري غيرها!
المشهد القذافي في أربعين عاما كان يجب أن تكون مناسبته الاحتفال بأطول عملية استحمار لشعب في القرنين الأخيرين، حتى جان بيدل بوكاسا، إمبراطور أفريقيا الوسطى، لم يجد في ميزانية دولته ما يكفي الاحتفال بتتويجه عام 1977 إمبراطورا لدولة الفقراء، فأرسلت إليه فرنسا 22 مليونا من الدولارات ليشتري بها ملابس الاحتفال لآلاف الضيوف، وستين سيارة مرسيدس تم شحنها من ألمانيا إلى الكاميرون، ومنها إلى غابات ( بنجي) حيث أصيب الامبراطور بهوس الطاووسية، فاعتذر الجنرال الاسباني فرانكو، والامبراطور الياباني هيروهيتو عن الحضور، فبوكاسا مجنون بكل المقاييس.
أربعون عاما بدت أربعين قرنا كادت تعيد الليبيين إلى العصر الحجري، ولم أندهش عندما قرأت عن الطاعون فقد تذكرت شكاوى الليبيين من أن الكلاب الضالة ( الحقيقية وليست المعارضة في الثمانينيات) تقوم بنهش لحوم الموتى في المدافن الليبية، ولا أعرف كيف تحمّل شعبنا الليبي المسكين الذي لا يعرف ثمانون بالمئة من سكانه غير العقيد زعيما وقائدا وسيّداً هذه المسرحية القذرة والنتنة لمهرج مستبد، وسفاح مجرم، ومجنون متخلف، وسادي متغطرس!
إذا صمت الليبيون عامين آخرين على حُكم العقيد فإن الطاعون القادمَ لن يكون أخفَّ ضررا من أي موّت أسّوَد مَرّ على شعب من الشعوب، فليبيا على حافة الانهيار التام، ولو قرأ أي عاقل تاريخ الطغاة لما أخطأ تحديد موعد نهاية واحد من اثنين: إما العقيد أو الشعب!
الليبيون لا يحتاجون لبكائنا عليهم أو لضحكاتنا على مهرجهم، لكنهم في أمس الحاجة لوقوفنا معهم بالكلمة ومواقع النت وفضح أكاذيب الديكتاتور، وتحريض الليبيين في الداخل على العصيان المدني!
ألم يأن الوقت أن نتوقف عن الضحك قليلا ونحن نتابع المشهد الليبي، ونفكر في كيفية دعم أبناء شعبنا الليبي قبل أن نصبح مشتركين في جريمة ابادته؟
أيها الليبيون، قلبي معكم، وقلمي يحمل أوجاعكم، ودموع عيوني تنزف دما من أجلكم، وأشعر مع ذلك بأنني واحد من كل المجرمين الصامتين على ما حدث لكم خلال أربعين عاما طاعونية سوداء اكتفينا جميعا بالضحك، والقاء النكات، والسخرية، ثم نعود إلى أحضان الشياطين نطمئنها أننا تخلينا عنكم.
أيها الليبيون أحفاد عمر المختار،
وأنتم أيضا مطالبون بالغضب ولو لمرة واحدة، فهل تفعلون؟






ولكن جمال مبارك ليس مواطناً!




ولكن جمال مبارك ليس مواطناً!

أوسلو في 9 يوليو 2009
يصدر مدير السجن أمرا باجراء انتخابات لتنصيب من سيأتي بعده رئيسا للمعتقل الكبير، لكن ابنه الذي تم اعداده لسنوات طويلة يقرر الترشح أمام منافسَيّن أو ثلاثة بعد اعطائهم حرية الحركة خارج الزنزانة لتكتمل الصورة الهزلية لمسرحيةِ ديمقراطيةِ المعتقلين!
ويكاد يُجمع المعتقلون أنَّ ابنَ مديرِ السجن واحدٌ منهم، وأنه يملك الحقَ المطلقَ بحُكْم المواطنة الزنزانية، وجردل الماء والبول، ومشاركة السجناء في غسل المراحيض، وتلقيه معهم ضربات من كرباج الشاويش ذي الشارب الكث، والكف الغليظة، والعينين الحمراوتين، ولم يبق إلا أن يقولوا بأن المديرَ الشابَ القادمَ لديه أيضا بيجاما حمراء في حالة وقوفه أمام عشماوي!
هذا هو المشهد المصري المغرَق في الكوميديا السوداء فلا تدري إنْ كنتَ في سرادق عزاء لوطن أم أنك تحضر مسابقة أجمل نكتة والتي تقام فوق المقابر !
جمال مبارك ليس مواطنا مثل أبناء مصر، ولا يجلس باكيا يوم السابع من كل شهر لأن مرتبه نفد ولا يستطيع شراء الزيت والسكر والحليب، وهو مضطر لاستخدام لمبة الجاز بعدما تم قطع الكهرباء لعدم قدرته على السداد!
جمال مبارك ليس مواطنا، لكنه سيد، والأسياد لا يترشحون أمام العبيد، وهو الذي يحاسب الآخرين ولا تستطيع جهة واحدة في مصر كلها من باخرتها الغارقة إلى مسرحها المحترَق، ومن مُقَطمها الجاثم فوق أبناء القهر والفقر والبؤس إلى مدافنها التي يحسد أحياؤها أمواتها على الهدوء والسلام أنْ ترفع اصبعها احتجاجا أو تذمُرا أو تلجأ إلى القانون والدستور وشرعة حقوق الانسان، فالرجل الكبير يملك مصر، برا وبحرا وجوا، وهو شريك لله، تعالى، في العبودية، غير أن الله، سبحانه، يرحم ويعفو ويصفح، أما مالك مصر ورقاب شعبها فقد تلقى من المديح والولاء والثناء والاستجداء والاستغفار أكثر مما تلقى العلي القدير حتى لو تنقبت أو تحجبت كل نساء مصر والتحى أبناؤها وكحّلوا عيونهم وضاعفوا صلاة التراويح سبعين ضعفا، فالعبودية عبوديتان، واحدة شكلية لخالق الكون، والأخرى واقعية لسيد القصر وابنه ومن يحملون اسمه!
جمال مبارك ليس مواطنا يقدم الاقرار الضريبي، ولا يستطيع وزير المالية أو الجهاز المركزي للمحاسبات أن يمنع عنه طلبا باستئجار فنادق وسيارات وطائرات ليحتفل بدخوله عش الزوجية، على نفقة الدولة، ولو أراد اصطحاب الأسطول البحري كله معه في رحلة صيد لقال له وزير الدفاع: طلباتك أوامر يا فندم!
لو سافر جمال مبارك إلى أمريكا والمكسيك، وصافح كل مرضى أنفلونزا الخنازير، ثم عانقهم وعاد بعدها إلى مصر فلا يستطيع وزير الصحة أن يطلب منه في مطار القاهرة الدولي الخضوع لفحص طبي، ولو طلب منه ذلك وغضب ابن الرئيس فيمكنه أن يغلق كل مستشفيات مصر، ويلقي بالمرضى والأطباء والممرضات إلى الشارع أو يعتقلهم بغير محاكمة.
جمال مبارك ليس مواطنا مثل أهل مصر، وجواز سفره ممنوع رؤيته على كل أجهزة الأمن والمخابرات، وهو لا يقوم بتجديده مثل بقية خلق الله من المصريين، ولا يذهب إلى البنك ليضع مرتبه في حسابه، إنما يأتي إليه البنك ومديره!
جمال مبارك فوق القانون والدستور، ولا يقف أمام هيئة محكمة ليدلي بشهادته أو يدافع عن نفسه، ولو استدعته محكمة مصرية فإن وزير العدل سيجلس في بيته آخر اليوم تكفكف له زوجته دموعا دافئة على منصب احتفظ به مادام السيّدُ ابنُ السيدِ راضيا عنه، وفقده عندما تصور أن ابنَ الرئيس يتساوى مع المصريين!
صديق لي كان يعمل شقيقه الأكبر في كندا لأكثر من ربع قرن، وكَوّن ثروة لا بأس بها، ثم عاد إلى مصر بفكرة مشروع كبير ومنتج وسيُدِرّ عليه وعلى الدولة أرباحا يسيل لها لعابُ أي رجل أعمال. قضى الرجل ثلاثة أعوام يتنقل ما بين توقيع لموظف وشهادة من هيئة أو مؤسسة اسكانية ويقف عند عشرات التصريحات التي لا يُذيّلها قلم مرتش.
وبعد أن تمّت كل الاجرات القاتلة، وكادت الموافقة النهائية تسقط فوق مكتب المهاجر العائد الذي كان متفائلا، حتى رن الهاتف الأنيق عن يمينه، فإذا المتحدث هو ابن الرئيس، شحما ولحما وصوتا: الآن يمكنك أن تبدأ مشروعَك، وستصلك الموافقة النهائية شريطة أن نتقاسم 50%!
كانت المفاجأة على الرجل كبيرة، فحزم أمتعته، وعاد إلى كندا بعدما أقسم برب العزة أن لا يعود إلى مصر مادام حياً!
جمال مبارك رضع احتقار المصريين في قصر للشياطين، وهو ابن طاغية مجرم دَمّرَ واحدة من أجمل بلاد الدنيا وأكثرها عراقة وضربا في جذور التاريخ، ويعرفها تلميذ الابتدائي في أي مدرسة في العالم، من ريجا إلى بكين، ومن طوكيو إلى بونس آيرس، ومن هلسنكي إلى هراري.
قرأت مؤخرا مقالا لــ ( محمد الباز) عن الدراسة التي صدرت بوصف مشهد قاع المجتمع المصري، ولم أصدق ما يحدث في مصر، فجريمة هتك عرض وطن، ثم نهب خيراته، وتغيير سلوكيات أبنائه، وتوسعة نطاق الفقر حتى بلغت نسبة المصريين تحت خط الفقر87% وهي نفس النسبة التي حصل عليها الرئيس في انتخابات ولايته الخامسة، مكتملة الأركان، ويستحق مبارك الاعدام مئات المرات، وكلما أوشكت الروح على ترك جسده، أعيد مشهد الاعدام حتى يصل إلى عدد أطفال الشوارع الذين أفرزهم العهد الأسود لهذه الأسرة الارهابية.
ماذا تبَقّىَ في مصر؟
ملايين من العاطلين عن العمل، وأطفال الشوارع، والمتسولين، والمسجلين خطرين، ومليون وأربعمئة ألف رجل أمن للحفاظ على عصابة مبارك فوق رؤوسنا، ومرضى الكبد الوبائي، وأشباه الموتى المنهكين تحت خط العوز وقرب هامش المجاعة، ونصف مليون مدمن مخدرات، ومياه ملوثة، وهواء يسمم الرئتين، ومزروعات مسرطنة، ورشوة لا يتحرك مواطن من مكان إلى آخر إلا بعد نفحة اكرامية الفساد، ثم نتحدث عن حق المواطن جمال مبارك في الترشح أمام نفسه مع وجود خيال المآتة كما فعل أبوه الطاغية عندما استدعي عدة متخلفين عقلياً لينافسوه وقال أحدهم بأنه لو نجح فسيهدي النجاحَ للرئيس، وقال ثان بأنه يريد أن يرشح نفسَه حتى يتشرف بمصافحةِ السيد الرئيس، وقال ثالث بأنَّ أهم خطوة في برنامجه لاصلاح مصر هي عودة الطربوش فوق رؤوس ذكور الأمة!
جمال مبارك في حقيقة الأمر سارق لكرسي الحكم، ومتآمر مع والده ووالدته لابعاد المصريين الأكفاء، ثم اعداده ليتسلم عرش أم الدنيا، وتضمن الأسرة الارهابية عدم محاكمة مباركها على كل جرائمه.
جمال مبارك ليس مواطنا، ولا يحق له الترشح ولو خرجت مصر كلها تؤيده، ومكانه الطبيعي مع والده داخل قفص مُحْكَم في محكمة شعبية عادلة يتلو خلالها عشرات القضاة بالتناوب تفاصيل جرائم لثمانية وعشرين عاما لو تفرّغ إبليس بنفسه لتدمير مصر لما فعل نصف ما قام به المجرم الأكبر وابنه.
مصر على شفا بركان، والجيش ينتظر غضبة الشعب، والشعب مُخَدّر بأحاديث وفتاوى فقهاء السلطة، وبوجع الفقر، وبرعشة الخوف، وبأكاذيب السلطة الرابعة، ونفاق السلطة التشريعية، وجبن السلطة القضائية، وصمت أبطال العبور، ومع ذلك فلا يزال جمال مبارك مُصِرّا على أن يقف في شرفة قصر العروبة، وينزل سرواله، ويطرطر علينا جميعا!
قلمي ينزف كما لم ينزف من قبل، ولم أعد أعرف الفارق بين الحبر والدم، وغاضب أشد الغضب على الذين يطلبون مني أن أخفف من حدة كلامي، وأن استعين بمفردات ضادية تكون حانية، ورحيمة، تجمع بين الغزل والهجاء، ولطيفة مع قوات الاحتلال الوطني لبلدي، ومع عصابة تتحرك بثبات لتنهي إلى غير رجعة العصرَ المصري، وتجعل بوركينا فاسو وأوغندا وبنين وجزر القمُر دولا عملاقة مقارنة بأرض الكنانة.
في قلمي وأناملي فوق الكي بورد شحنات غضب جمرية على كل شيء، من الصامتين إلى مبرري جرائم مبارك، ومن زملائي أصحاب مهنة الابتعاد عن المتاعب(!) إلى المحامين والقضاة والأكاديميين والعسكريين وكل رجال الدين الاسلامي والمسيحي، فالأمر لا يحتمل صمتا لشهرين أو لثلاثة أو لنهاية العام، فإما أن نبيع شرفنا وأعراضنا وكرامتنا وديننا ووطنيتنا وأولادنا بثمن بخس، أو نقف مرة واحدة أمام الله مؤكدين له، سبحانه، أننا نستحق نفخة الروح فينا، ثم ننظر في عيون أولادنا ونعيد لهم بلدهم ومستقبلهم وأحلامهم وآمالهم.
هل نحن بلهاء إلى هذا الحد الذي يجعلنا ننتظر(!) حتى تتضح أمامنا معالم مسرحية توريث السلطة، رغم أن الستار تم رفعه منذ سنوات طويلة، ولم يبق على انتهاء المشهد الأخير من الفصل النهائي غير جملة أو جملتين في وجود أو غياب المُلقن؟
تحَدثوننا عن المواطن جمال مبارك، ونحن نحدثكم عن الهاربَيّن من العدالة، جمال مبارك ووالده!
هل صحيح أن الله عندما خلق المشاعر الانسانية في آدم وبنيه جعل الغضب حراما على المصريين ولو من أجل الكرامة ولقمة العيش والشرف والحق والعدل؟
أعياني البحث لأقل قليلا من نصف عمري عن كلمة السر التي يغضب إثرها المصريون، ولا زال البحث جاريا عنها، وأخشى أن أكتشف أنني أبحث عن المصريين أنفسهم!

أيامي في المستشفى .. وماذا عن الآخرين؟



أيامي في المستشفى .. وماذا عن الآخرين؟


أوسلو في 16 يوليو 2009
أولويات حقوق الانسان تختلف من شخص إلى آخر، والاختلافات تنسحب على الشعوب، والحكومات، والأجناس، والجماعات، والطوائف، والمناطق الجغرافية، والأزمنة التاريخية، وغيرها ..
لو أنني أمسكت ورقة وقلما الآن لأضع الأولويات فلا ريب أنني سأعيد ترتيبها مرات كثيرة وفقا لرؤيتي الآنية، أو حالتي النفسية، أو الانفعالات الداخلية، أو الظروف الخارجية، أو الضغوطات الذاتية التي يتعرض لها العقل والنفس والعواطف، وفي هذه الحالة قد يتراجع العقل إلى الخلف قليلا، وربما تتقدم العاطفة حاملة منطقا أحسب حينئذ أنه الحق، وربما أضع ترتيبات لا يوافق على أكثرها أكثر الناس ولو عدلت، أو زعمت أنني عادل!
لو طرحت السؤالَ على قبيلة في تشاد فسيُجمع كل أفرادها على أن الأولوية للماء الصالح للشرب، وإذا طرحت السؤالَ على رجل أعمال يملك عدة فنادق في شرم الشيخ فسيردّ على الفور بأن حرية انتقال رؤوس الأموال والاعفاء من الضرائب لعشر سنوات لهما الأولوية، وإذا سمعك عضو في جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن يتواني في التمسك بأهم الثوابت وهي اخفاء المرأة بقدر المستطاع عن الرجل ولو كانت داخل سبعين مترا من الصوف الثقيل الأسود!
سيقول لك رجل استخبارات عربي بأن أهمية الأمن تأتي في المقدمة ومنها احترام كل من تثقل كتفيه نجومٌ ودبابير وصقور ونسور، وستقول لك ربة الأسرة بأنها لا تكترث إلا باكتفاء أولادها ماديا حتى نهاية الشهر، وستختلف الردود مئات المرات وفقا لرؤية صاحب كل منها: من أهمية اللحية إلى الافراج عن المعتقلين الأبرياء، ومن صرف معاش الأرملة قبل الخامس من الشهر إلى مساهمة الدولة في القضاء على العنوسة، ومن الاشراف القضائي على الانتخابات إلى حرية نشر الكتب، ومن جواز سفر وعقد عمل في الخارج إلى محاكمة الضابط الذي مارس التعذيب، ومن المساواة بين طوائف ومذاهب وأديان المجتمع إلى علاج ابن أو أخ أو أخت أو والدة من مرض عضال.
كلما استطاع المجتمع احتضان أمنيات وأماني وآمال وطموحات وأحلام أفراد الشعب، اقترب من الخط الفاصل بين التقدم والتحضر .. وبين قيمة الانسان المكرَّم والمعزز و .. قيمته في عالم من القهر والقمع والمجاعة والفقر والبطالة والقسوة والغلظة والنفاق !
في ذهني ترتيب ما أنفك يتراقص صعودا وهبوطا، فيحل المركز الثاني مكان السابع، ويعود الثامن إلى الثالث، ويحتل العاشر مكان الخامس، لكن كرامة المرء في السجون والمعتقلات وأقسام الشرطة ومع الأمن والمحاكم العادلة والكلمة الحرة ظلت طوال سنوات امساكي بالقلم تقف منتصبة في المقدمة، وجعلتني أخسر الأصدقاء، ويتجنبني الزملاء، ولا أستطيع السفر لست عشرة دولة عربية أغضبت كتاباتي أسياد قصورها، فانتقل الغضب فورا إلى أصحاب اليونيفورم الذين يقومون بزيارة المواطن قبيل صلاة الفجر!
الحرية لمعتقل الضمير والرأي، مسكن لائق لكل أسرة، طعام جيد لكل فم، مياه غير ملوثة، مساحة خضراء تتنفس فيها الروح لتمنح الجسد قوة جديدة، انتهاء آخر أميّ لا يستطيع أن يقرأ رسالة من الدولة أو يكتب خطابا لأمه، إدارة سليمة وذكية وشريفة تنهي عصر الموظفين الموميائيين القساة، حرية دينية تجعل المواطن يتوجه إلى الله بارادة حرة وليس بعصا غليظة فوق ظهره، مساواة كاملة بين كل الأديان والطوائف والمذاهب، حرية الخروج من الوطن والدخول إليه ولو سبعين مرة في اليوم، معاش كريم لكل مُسِنّ، مستشفيات نظيفة، أطباء رحماء وممرضات لهن أجنحة ملائكة، أسعار مواد استهلاكية ضرورية لا تثقل كاهل الفقير، تذويب للفوارق بين الطبقات، رجال دين يعيشون العصر الحديث ويستخدمون عقولهم فينقلون المواطن إلى القرن الثاني والعشرين بدلا من اعادته إلى القرن السابع، وسائل اعلام تمارس المصداقية والشفافية والشرف والنزاهة، مشروع قومي ينهي كل قطعة بانجو وحشيش ومخدرات وهيروين مع علاج المدمنين الذين افترستهم وحشية مهربي وتجار السموم البيضاء، قضاء تام على العنوسة وانهاء آلام وأوجاع ملايين من أولياء الأمور في عالمنا العربي الذين تتحول دموع بناتهم إلى جمرات يتقلب الآباء والأمهات عليها، دواء لكل مريض، وطبيب يلهث إليك قبل أن تضع سماعة الهاتف فقيمتك الانسانية بين يديه، ضمان اجتماعي لكل من لا يستطيع أن يعول نفسه أو أسرته، ومئات .. بل آلاف من الأشياء التي يطاردني التفكير فيها عندما يأتيني الوطن، في يقظتي ومنامي، فأشعر أن الغربة ليست في الابتعاد عنه ولكن في حمله معي فلا أدري بعدها إن كنت أعيش هنا وأتنفس هناك، أم أنني خسرت الاثنين معا!
فجأة قفزتْ إلى الصدارة أولوية ما كان لها أن تتقدم صفوف المطالبات الوطنية لكرامة المواطن في عالمنا العربي لولا بضعة أيام قضيتها أوائل هذا الأسبوع في مستشفى ريكس هوسبيتالا بالعاصمة النرويجية أوسلو!
إنها العلاج المجاني والكريم والتام لكل مريض!
قلت لطبيبي الخاص ( لكل مواطن في النرويج طبيب ثابت يختاره بنفسه أو تختاره له الدولة ) بأنني أشعر بآلام في الرقبة ، وأن تورّما بدا ظاهرا في جانبيها. قام على الفور بعمل كشف مبدئي، وكانت يداه ترتعشان قليلا لأن ذهنه كان منشغلا باحتمال اصابتي بمرض السرطان.
اتصل على الفور بالمستشفى، وطلب كشفا عاجلا في القسم الجديد والمجهز بأحدث تقنيات الكشف ومعالجة الأورام السرطانية، ثم قام بعمل تحليل للدم لم يجد فيه شيئا يثير الاشتباه.
في الموعد المحدد تم الكشف الكامل فلم يعثروا على أي دليل، فعدت إليهم لتحليل جديد في خلايا الرقبة لعله يهديهم إلى معرفة المرض.
بعد شهرين من كل أنواع الكشف والتحليل، جاء موعدي مع طبيب جراح وهو الدكتور أولاف يتليند الذي استقبلني بحفاوة، وسألني عن مسقط رأسي، وبدأ يتحدث عن أن مكتشف كروية الأرض عالم ليبي كان يعيش في الاسكندرية.
قال لي بلهجة الخبير بأنه ليس هناك في جسدي أي أثر لمرض السرطان، وأن هذا تضخم في الغدة الدرقية مضت عليه سنوات دون أن أنتبه إليه، وأنه يفضل اجراء عمليه جراحية لاستئصاله، ولعلها تكون في نهاية الصيف، وسيجريها لي بنفسه.
طلبت منه أن يُعَجّل قدر المستطاع، فكتب في ملفي الصحي عن رغبتي في التعجيل بالجراحة.
بعد فترة قصيرة تسلمت ثلاثة خطابات من المستشفى: الأول بتحديد موعد العملية الجراحية، والثاني يسبقه وهو لعمل أشعة مقطعية لتسهيل الأمر على الطبيب الجراح، وبينهما موعد لبحث الحالة الصحية لي لتكون جاهزة قبل العملية تجنبا لأي خطأ في التخدير أو الحساسية أو ردود فعل الجسد غير المتوقعة حينما أرقد تحت مشرط الجراح!
في كل زيارة يكون هناك تحليل للدم، ويكون هناك جورنال، أي ملفي الصحي، كاملا على الكمبيوتر، فالدولة مؤسسات متكاملة ومتصلة ببعضها، ولعلك لن تكون بحاجة لشرح زيارة لطبيب أو عملية جراحية سابقة أو حساسية ضد دواء، فملفك الصحي مفتوح في دائرة الكترونية صغيرة لا يطلع عليه إلا الأطباء .
الطبيب المساعد قام في يوم بحث الحالة الصحية بكشف دقيق على أجهزة الجسم الذي سيكون بين ايديهم في خلال بضعة ايام: الأنف والأذن والحنجرة والجهاز التنفسي وتحليل الدم ونبضات القلب والضغط وأي دواء لمرض آخر قد يتصادم مع الجراحة، وشرح لي احتمالات الخطورة.
كان شابا عراقيا وسيما ومهذبا، وسألني بأي لغة أفضل الحديث معه! قلت باللغة النرويجية في وجود الممرضة السكرتيرة وبالعربية عندما نكون بمفردنا.
قال لي بأننا في العراق نقول للمريض بأن كل الأمور ستجري على ما يرام، وأن الأمر بسيط للغاية، ولن تكون هناك بإذن الله أي مضاعفات، أما هنا فلدي تعليمات من الادارة الطبية النرويجية أن نقول الحقيقة كاملة دون لف أو دوران ولو كانت صادمة، ثم أكمل شارحا لي الخطورة وهي خطأ من طبيب التخدير، أو نزيف داخلي غير متوقع، أو مكروه يحدث للحبال الصوتية بحكم اقتراب التضخم منها، ثم أردف قائلا: وهذا ليس ورما خبيثا أو حميدا، لكنها تغييرات حدثت في الغدة الدرقية جعلتها تتضخم إلى الداخل.
ثم قال لي بأن العملية ستجرى قبل موعدها بيوم واحد، والطبيب الجراح ماهر جدا وقام باجراء عمليات مشابهة مئات المرات، فلما سألت عن اسمه علمت بأنه جراح آخر غير الدكتور أولاف يتليند الذي ترك لدي انطباعا حسنا، وراحة نفسية.
سألت عن امكانية أن يجريها لي الدكتور أولاف يتليند، فقامت الممرضة بالاتصال به فورا قائلة بأن المريض يريدك أنت أن تجري العملية، فوافق على الفور شريطة تأجيلها يومين فقط!
في دقائق معدودة كان الموعد قد تغيّر، ورغبتي تحققت في اختيار الطبيب الجراح، وطاقم العملية تم تحديده مسبقا، ولم تبق غير أربعة أيام أستعد فيها نفسيا لفتح رقبتي، واستئصال ما يراه الطبيب الجراح ضروريا.
الرسالة تحتوي على كل التعليمات التي ينبغي لي تنفيذها قبل موعد اجراء الجراحة بنصف يوم، وأهمها الصيام عن الطعام والشراب قبل منتصف ليل اليوم الموعود، وفعلا كنت في المستشفى قبل السابعة من صباح الجمعة 10 يوليو.
هنا يصافحك كل من يقابلك للمرة الأولى حتى لو كانت ممرضة تعطيك مسكنات، أو مساعدا يرشدك إلى التعليمات ويضع أمامك ملابس نظيفة ومفتاحا لخزنة تضع فيها أشياءك الخاصة، أو ممرضة ستقود فراشك الوثير إلى غرفة طبيب التخدير.
صافحني طبيب التخدير، وبعدها بدقيقتين كنت بين أيدي ثمانية من ملائكة الرحمة: أربعة أطباء بمساعدة ممرضتين ومعهم طبيب التخدير وممرضة التخدير أيضا.
استغرقت العملية ساعتين ونصف تقريبا، ولما استيقظت كانت أمامي ممرضة سويدية تهنئني بنجاح الجراحة، ثم جاءت زميلة لها لتقود الفراش في ردهات المستشفى إلى غرفتي.
جاء الطبيب الجراح لتهنئتي، وقال لي بأنه رأي أهمية استئصال الجزء الأيسر والمتضخم جدا حتى يجنبني أي أدوية لاحقة إن قام باستئصال الجانبين، وكانت فرحتي غامرة لأن الحبال الصوتية سليمة.
الغرفة نظيفة وبها كل ما يحتاجه المريض، وعندما علمت الممرضة بأن الفراش لم يكن بالراحة المطلوبة، أسرعت على الفور وجاءت لي بفراش يعمل بالريموت كونترول، صعودا وهبوطا وتعديلا حتى تكتمل راحتي.
كان عالما جديدا أزعم أن من وضع الخطوط التفصيلية واللمسات الفنية للمستشفى لم يترك صغيرة أو كبيرة إلا وضعها في هذا المكان الذي لا تدري إن كان فندقا راقيا أم إعدادا نفسيا لشفاء المريض قبل أن تمسه يد الطبيب!
فجأة وأنا في قمة سعادتي هبط اكتئاب شديد كأنه جبل يثقل صدري، فتدفقت أحزان الدنيا كما يفعل الاعصار بكومة قش لو هبت عليها ريح خفيفة لبعثرتها في كل مكان!
وماذا عن الآخرين في عالمي العربي؟
ملايين يعتبرون عملية غسيل الكلى رفاهية وكأنك تعرض على جامع قمامة أن يشارك بيل جيتس قصره ، ومستشفيات تعج بالصارخين ألما،ً وأطباء تتسع ابتسامة كل منهم وفقا لسعة جيبك، ومع ذلك فسيقول قائل بأن المستشفيات الخاصة في عالمنا العربي والاستثمارية تجد فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وهذا ليس صحيحا بالمرة.
العلاج يبدأ من هنا .. من الشعور بأنك ابن الوطن، وأن السلطة التي تحكمك خادمة لديك فتقوم بتوزيع ايرادات الدولة بعدالة تامة، وأن حاكما ينام ملء جفونه وأحد أبناء رعيته لا يجد ثمن دواء، ولا يستطيع اجراء عملية جراحية في القلب أو الرئتين أو الظهر أو العينين ، فليتبوأ هذا الحاكمُ مقعده من النار!
قضيت أيامي في المستشفى لا أعرف إن كنت فرحا بنجاح الجراحة أم تعيسا بالمقارنة مع أبناء قومي.
في الوطن العربي ثروات ونفط وممرات مائية وأراض زراعية وتصدير واحتياطي عملات أجنبية وتحويلات من الخارج ودعم مالي من الدول الأكثر ثراء ومليارات تدرها السياحة في الوقت الذي تهتز السماوات العلا بنحيب الملايين الذي يعتبرون أن ملك الموت أقرب إليهم من رفاهية العلاج.
خرجت من المستشفى ولم أدفع كرونة واحدة، فأنا دافع ضرائب يعيش منذ 32 عاماً في كنف دولة تتعهد لي حكومتها بالحفاظ على كرامتي، أمنا وحرية وسلامة وعلاجا وتعليما وتأمينا وضمانا اجتماعيا، فكل ايرادات الدولة عائدة للمواطن في أي صورة من الصور.
أتذكر يوم أن طلبت السيدة جرو هارلم برنتلاند رئيسة الوزراء من البرلمان النرويجي لأكثر من عشرين عاما خلت حارسا شخصيا لها، فقامت الدنيا ولم تقعد، وعاتبها أعضاء كثيرون في البرلمان لأنها تريد أن تتميز، فنحن دولة لا يحرس فيها أحد .. أحدا!
ثم كيف تتجرأ رئيسة الوزراء وتطلب حارسا سيكلف الدولة مبلغا سنويا، وانتهى النقاش لصالحها لأنها امرأة تحتاج في تنقلاتها إلى حارس واحد فقط لحمايتها من أي موقف حرج!
أيامي في المستشفى جعلتني أضع العلاج المجاني والكريم والتام في صدارة أولويات التقدم والتحضر والانسانية.
في عالمنا العربي تستفتي طبيبة شيخا عن حرمة توسعة فتحتي النقاب حتى ترى مريضها بوضوح، ومع ذلك ففي مستشفياتنا الحكومية لا تميز أحيانا قبل الجراحة بين المريض و .. خروف العيد، ولا تعرف الفارق بين المشرط وسكين الجزار، ونظافة فراشك تحددها الاكرامية، أما طهارة الحقنة فحدّث ولا حرج.
في مستشفياتنا الحكومية يجلس موظف أمام سجل مكتوب بخط اليد، ويطرح عليك عشرين سؤالا وأنت تنزف، ثم تسدد مبلغا استدنته من جارك أو صديقك أو سلفة من العمل فالموظف يعرف أن الداخل إلى مديرية الأمن أو المستشفى ينبغي أن يقوم بتوديع أهله، فالدخول هو نصف الطريق إلى الموت!
أيامي في المستشفى جعلتني لا أرى عدلا أو انسانية أو كرامة أو وطنية أو دينا أو صلاة أو رحمة إلا أن تكون مرتبطة بالعلاج المجاني حتى لو كانت جراحة عاجلة تكلف الدولة نصف ما ينفقه أحد أثريائها على تجهيز حمام السباحة المودرن الخاص داخل فيلته!
لو أرسل الله نبيا الآن وشاهد فاجعة المرضى والمتألمين والموجوعين لكانت أولى أوامر العلي القدير العلاج .. العلاج .. العلاج فهو الشرط الوحيد للعبادة الصحيحة، والدولة التي لا تعالج أبناءها، حكامُها بعيدون عن الله ولو صلوا وصاموا.
تذكرت وأنا صغير جارتي التي كان يصلني صراخها طوال الليل، وآلام قلبها لو تم توزيعها على سكان مدينة لأوجعتهم جميعا، وبعد عشر سنوات من صراخ مستمر انتقلت إلى المستشفى، ثم لم يمر وقت طويل حتى استراحت إلى الأبد في سن السادسة والعشرين فالموت كان أقصى أمانيها كما هو اليوم يمثل رفاهية في التمنيات لدى ملايين من أبناء عالمي العربي الممتد من الماء .. إلى الماء!
الادارة السليمة والذكية والشريفة والمخلصة تستطيع ولو بموارد محدودة من وضع خطة قومية عاجلة يكون فيها الملف الصحي لكل مواطن مُخزنا في جهاز كمبيوتر، وتستقطع السلطة من الميزانية العامة والتبرعات أموالا لا يقترب منها أحد، وتبني مستشفيات ، ومصانع للدواء، وشركات لاستيراد ما تعجز عن توفيره، وتكون، كما في النرويج، زيارة الطبيب لأي طفل تحت سن 12 عاما مجانا، أما العمليات الجراحية فكلها عاجلة، وأي يوم يمر يصرخ فيه مواطن رافعا يده إلى السماء فكل صرخة تنتقص من شرعية السلطة الحاكمة.
ليس لي فضل في أنني التقيت بملائكة الرحمة خلال أيامي في المستشفى، ولكنها المصادفة فقد كان من الممكن أن أكون مريضا ينزف حتى الموت في بلد عربي لأن الطبيب المسؤول عن وردية الليل لم يأت بعد، أو أن غرفة الدواء ليس بها حقن للتخدير، أو أنني لم أتمكن من توفير المبلغ المطلوب في ساعة متأخرة من الليل، أو أنني في قرية لا تعرف الحكومة موقعها على الخريطة، أو أن بعض أعضاء جسدي قاموا بسرقتها تحت التخدير!
خلال أيامي في المستشفى كانت كل ممرضة كأنها طبيب ماهر، وتستطيع أن تجيب على كل الأسئلة أو تعتذر بلطف حتى يأتي الطبيب.
لن أتحدث عن النظافة، والتجهيزات في الغرفة وخارجها، وكانت كل ممرضة تتسلم ورديتها تأتي لتصافح باليد، وتؤكد لك أنها رهن اشارتك خلال الساعات السبع القادمة، فتظن أنك واحد من المميزين، لكن الحقيقة أن كل مواطن يمثل حالة من التمييز، فالدولة كلها، وليس فقط الطبيب أو الممرضة، رهن اشارتك، وتلك هي لعمري المواطنة التي بحثت عنها في عالمي العربي فأعياني البحث.
العلاج المجاني يحتاج لقدر من الانسانية، وقناعة المواطن أنه حق له، وإيمان السلطة أنه واجب عليها.
أيامي في المستشفى قلبت أولوياتي في ترتيب قائمة حقوق الانسان، فأضحيت على يقين من أن تخفيف آلام البشر، وتوفير سبل العلاج المجاني، واعتبار كل من يحتاج لعملية جراحية على وشك الدخول إلى غرفة العمليات حتى لو أنفقت الدولة من ميزانية كل المؤسسات الأخرى.
التقدم والتحضر والانسانية والتمدن تبدأ كلها من هنا .. من حيث يستقبلك طاقم طبي كامل كأنهم يعملون لديك، وتشعر بأنك صاحب الأرض والبلد، وأن الحكومة خادمة تحت قدميك، وأن العلاج المجاني لكل مواطن ليس مِنّة أو فضلا أو مكرمة من السيد، لكنه حق لك كالماء والهواء.
لا أريد أن اسهب في الحديث خشية أن يصيبني جنون فأدعو إلى عقد مؤتمر قمة عربي لجعل العلاج المجاني حقا لكل مواطن إن أخلت أو نكثت به حكومة فقد انتهت شرعيتها الحاكمة.
أيها المرضى والموجوعون والمتألمون جهرا أو صمتا،
كنت معكم خلال أيامي في المستشفى، ولازلت أفكر فيكم ولم أفك الخياطة في رقبتي بعد، كأنني أراكم جميعا رؤي العين، وقد أضفتم إلى قلمي جمرات جديدة من الغضب على كل من كان باستطاعته تخفيف آلامكم ولم يفعل.

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...