21‏/01‏/2014

حوار بين قملتين في شعر رأس صدام حسين


طائر الشمال في فبراير 2004
التقت قملتان في شعر رأس الرئيس العراقي السابق صدام حسين وجرى بينهما حوار طويل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وكل شؤون وهموم عراق الرافدين, والتقطنا بصعوبة بالغة جزءا من حوار القملتين, فالقاذورات والأوساخ في الشعر الأشعث للرئيس الأسير حجبت الكثير من حديثهما. 


قالت الأولى بعد أن امتصت نقطة دم مليئة ببقايا نيكوتين السيجار الكوبي الفاخر الذي اعتاد المهيب أن ينفثه في وجوه ضيوفه قبل التاسع من أبريل:ما هذه الضجة والأضواء المسلطة على مساكننا منذ الصباح الباكر؟ 
قالت الثانية وهي تجاهد لعبور ممر بين شعرتين لزجتين لم تعرفا الماء منذ وقت طويل:أظن أن كاميرات تصوير أمريكية يتم نصبها لاخراج مسرحية يعجز الجن والانس عن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا! 
ردت الأولى وقد تملكها الفضول: هل سيغسلون شعر الرئيس ونغرق نحن وأولادنا وأقاربنا الذين شعروا بالأمان منذ عدة شهور, فلا ماء يزيحنا، ولا صابون يقضي علينا، ولا منظفات تقتلنا أو أسنان مشط تطاردنا في جذور هذا الشعر الأشعث القذر؟ 
قالت الثانية: الأمر بمنتهى البساطة أن الأمريكيين سيلتقطون مئات أو آلاف من الصور للرأس البائسة التي نعيش فوقها منذ عدة أشهر, وسيختارون من بينها عدة لقطات خاطفة تضرب كل العصافير بحجر واحد. 
قالت الأولى وقد ازداد فضولها: هل تقصدين أن الامتهان والاذلال لن يكونا فقط من نصيب صدام حسين، ولكن الخبراء الأمريكيين سيتعمدون أن يقرأ الرسالة كل من يهمه الأمر، ويظن أنها موجهة له على وجه الخصوص؟ 
ردت الثانية بابتسامة ذات مغزى: نعم ، هذا هو المطلوب, وحتى العراقيون الذين سيخرجون مبتهجين باعتقال شيطان بغداد كما يخرج الليبيون تماما كلما أوغل العقيد في اذلالهم، لن يفهموا الرسالة قبل وقت طويل. فأمريكا سرقت منهم النصر، ولم تخلصهم فقط من صدام حسين، لكنها منعت عنهم مشاعر البهجة الحقيقية عندما يقع صدام حسين بين أيديهم بدلا من أن يدوس فوقه جندى أمريكي بحذاء عتيق وهو يمضع العلكة, ويلعب دور رامبو في حادث سيظل لقرون لاحقة مطاردا خيال كل من يقرأ التاريخ بعيون جديدة. 
قالت الأولى: ولكن القصة الحقيقية لعملية القبض على صدام حسين لا يعرف عنها شيئا المؤيدون والمعارضون على حد سواء, وستظل لغزا محيرا لن يفكه إلا فصل هام في كتاب قد يصدره واحد من الذين اشتركوا في اخراج المسرحية, سواء كان من الجنرالات أو رجال المخابرات الأمريكية, وحتى ذلك الحين فالرواية الأمريكية هي الوحيدة المعترف بها إعلاميا وعسكريا وحتى الفضائيات العربية لا تستطيع أن تقص على مشاهديها جوانب أخرى، فالصور التي تم توزيعها على كل ركن من أركان الأرض والأقمار الصناعية آتت أكلها ضعفين. 

قالت الثانية: أيا كانت الحقيقة التي لا يعرفها إلا الجانب الأمريكي، فإن المشهد الجرذي لرجل كان إلى عهد قريب على استعداد لأن يظن حقا أنه في مرتبة أرفع قدرا من البشر الآخرين قد دخل التاريخ من باب أسوأ من الباب الذي دخل منه عبد الله الصغير منذ خمسة قرون أو يزيد. 
قالت الأولى: هل تظنين أن العراقيين قادرون على إعادة تأهيل جمهورية الخوف وجعلها نموذجا للديمقراطية والعدالة والمساواة في العالم العربي؟ 
فضحكت القملة الثانية حتى سمعت قهقهتها كل الحشرات التي اتخذت من رأس الزعيم ملاذا لها وقالت: لقد سمعت بالفعل أن المثقفين العراقيين أغرقوا صفحات الصحف والمجلات بمقالات تبدو كأنها دروس في تعليم العرب أصول الديمقراطية، وبأن العراق الجديد سيصبح أول دولة عربية تلقن أبناء الضاد أصول الحرية والعدالة والأمن والسلام والعلم والادارة, وبأن حالة من التعالي والفوقية سادت أحاديث العراقيين وكأن لهم فضلا واحدا في اسقاط حكم شيطان بغداد. 
وهزت القملة الأولى رأسها الصغير مبتسمة ثم قالت: ولكن الوضع الآن بدأ يتجه في الناحية المعاكسة, فجمهورية الخوف لم تكن حالة خاصة بصدام حسين في عهده فقط, لكنه تمكن من العبث في النفوس والعواطف, وألقى بذرة الطائفية لعلها تزرع فتنة بعد غيابه, وجعل الرعب والشك والعنف ورائحة الدماء ورغبات الانتقام مشاعر تتقدم ما عداها من مشاعر وأحاسيس أخرى. 
قاطعتها الثانية لتسأل عن عبقرية المقاومة التي لم تظهر في عهد صدام حسين, ولم يعرف العراقيون فلسفة الانتحار من أجل الوطن, فأين كانت تلك الشجاعة عندما جثم الشيطان أكثر من ثلاثة عقود فوق صدر الشعب العراقي؟ 
نظرت القملة الثانية خلفها ثم همست قائلة: لقد خَفَّتْ كثيرا حدة الصيحات العراقية الموجهة ضد العرب والتي كانت تتوعدهم بالويل والثبور إن لم يحذوا نهج العراقيين, وكأن قرار ازالة النظام البائد جاء بتوجيهات من السيد الدكتور أحمد الجلبي المطلوب للعدالة الأردنية بتهمة النصب والاحتيال, أو من مضر شوكت نائبه الذي يطالب بمنافذ بحرية عراقية من الكويت الحرة والمستقلة منبها إلى أن كوابيس الهوس بضم المحافظة التاسعة عشرة إلى جمهورية الفوضى والعنف لا تزال تحلق في خيالات الطامعين في الدولة الصغيرة الآمنة والمسالمة. 
ظهر الفزع على القملتين من جراء الهرش المتواصل للرئيس صدام حسين بأظافره الطويلة القذرة، لكنهما لم تصابا بأي أذى, ثم أردفت الثانية بعد هنيهة من الصمت: لماذا يقبل العراقيون كل أنواع الاذلال والمهانة والقمع والقهر من جانب جنود الاحتلال؟ 
تحركت القملة الأولى حركة دائرية باحثة في غابة من القاذورات اللزجة عمن يتنصت لحديثها, ثم ظهر على وجهها عبوس قمطرير وقالت لصاحبتها: إنها المعضلة الأكثر تعقيدا وتشابكا في النفس العراقية, فطول فترة الحكم البعثي, وسيطرة العوجيين التكارتة على كل زفرة نفس تطلقها رئة عراقي مسكين جعلت العراقيين يوزعون حلوى في الشوارع ترحيبا بالاستعمار الجديد, فكل أنواع الذل تهون بجانب سنوات حكم الرجل الذي نسكن الآن في شعر رأسه, ونتغذى من دمائه. 
فقاطعتها صاحبتها متسائلة عن معنى العوجيين وهل هم العلوج؟ 
تبسمت القملة الأولى ضاحكة من قولها وقالت لها: العوجيون نسبة إلى القرية التي خرجت من بطن واحدة من نسائها رأس الرئيس الأسير, أما العلوج فهو تعبير استخدمه جوبلز النظام محمد سعيد الصحاف وهو سارق حكايات ( أبو لمعة ) التي كان يقصها على الخواجة بيجو منذ عدة عقود. 
وهنا برقت فكرة جهنمية في ذهن القملة الثانية فقالت لصاحبتها: لماذا لا ننتقل إلى شعر رأس محمد سعيد الصحاف فربما يكون مكانا خصبا ونجد فيه أقارب لنا من القمل ومعارفهم من الحشرات الأولى؟ 

صمتت القملة الأولى قليلا وظهر على ملامحها خوف شديد عندما سمعت خرير ماء فظنت أن الرئيس الأسير سيغسل شعر رأسه, لكنها عرفت أنه يتناول كوبا من البلاستيك غير النظيف به ماء لعله يروي به بعض عطشه. 
ثم انتفضت قائلة: هل تظنين بسذاجتك أن هبوط طائرة في مطار بغداد, وصعود رجل الإعلام الأول وعائلته وأموال نهبها ووثائق مهربة قد يكون بمعزل عن موافقة أمريكية في صفقة قذرة تهتز لها أرواح الشهداء من العراقيين والرهائن الكويتيين؟ 
قالت القملة الثانية ولا تزال الدهشة تعلو وجهها: وهل هي الصفقة القذرة الوحيدة في حرب إزالة النظام؟ إن الأسرار التي لم يتم الكشف عنها منذ بداية الغزو العراقي للكويت وحتى هذه اللحظة تملأ مجلدات بطول شط العرب وعرضه، وما رآه الناس حتى الآن ليس إلا سطح جبل الجليد. 
قالت الأولى: هل تعرفين أين نحن الآن، في سجن مطار بغداد، أم في قاعدة أمريكية بالدوحة، أم في مكان بعيد تماما عن المنطقة؟ 
ردت الثانية: ليس المهم المكان, لكن الأهم هو أن يوحي الأمريكيون إلى العراقيين بتثبيت مشاعر الدونية والشكر الدائم لتخليصهم من شيطان بغداد, وبأنهم لا يملكون حقا من الحقوق ما لم يحظى على الرضا الأمريكي, أو يأتي منة أو منحة أو عطاء مهينا لشعب الرافدين وسليل ثاني أقدم حضارات الأرض! 
بدا أن القملة الأولى لم تستوعب ما تعنيه صاحبتها, ففهمت الأولى أنها تريد المزيد من الايضاحات فأردفت قائلة: هل قُدّر لك مشاهدة صور اللقاءات الأمريكية العراقية سواء كانت لدى تفتيش بيت به أطفال ونساء وشيوخ مسنون، أو اعتقال بعض المارة، أو تقييد الأيدي والأرجل وتغطية الوجه بأكياس بلاستيك، أو ترك العراقيين على بطونهم فوق رمال حارقة، أو حتى الصورة التي نشرتها صحيفة ( داج بلادا ) النرويجية لجنود أمريكيين يسخرون من ثلاثة عراقيين وهم يقفون أمامهم في شارع مكتظ بالمارة وقد أمروا بخلع ملابسهم كلها ووقفوا يغطون عوراتهم بأيديهم وجنود اليانكي يتغامزون ويتضاحكون؟ 
قالت القملة الأولى وقد بدا عليها التأثر: إنها إذاً عملية ترويض العراقيين، وكسر شوكة الرافضين، وإعادة صناعة الاستعمار على نهج جديد يذكرنا بتاريخ جلب السود من مواطنهم الأفريقية, وتعليمهم فكرة الاستعباد والاسترقاق والعلاقة بين السيد والخادم, أليس كذلك؟ 
لم تقتنع القملة الأولى بطرح صاحبتها، زميلة المشاركة في شعر رأس الرئيس الأسير، وقالت لها: ولكن الأمريكيين حرروا العراق من أشرس الأنظمة المستبدة طغيانا وكفرا، وأكثر العراقيين مولعون بجنة العم سام، ومتيمون حبا بالمُخَلّص في بيته الأبيض ومكتبه البيضاوي، وتسعة من كل عشرة عراقيين يتعاونون مع قوات التحرير والاحتلال ( وهل هناك فارق ؟) ويتمسكون بالوجود الأمريكي فضلا عن حالة من الانسجام في الجنوب بين قوات الاحتلال البريطانية وسكان المناطق المحتلة! 
في هذه اللحظة بالذات سُمع دوي عنيف قادم من ناحية الضفة الأخرى لنهر دجلة، فسرت قشعريرة رعب في الجسدين النحيلين، ولكن القملة الثانية تجشمت عناء الحديث وهي ترتعش وقالت لصاحبتها وهي تحاورها: هذه هي العملية الثامنة منذ صباح اليوم الباكر، والأمريكيون يقولون بأن المقاومة تقوم بأكثر من عشرين عملية مضادة ضد قواتهم تتراوح بين اسقاط طائرات هليكوبتر وتفجير سيارات وذبح جنود وهم يقفون على قارعة الطريق واطلاق صواريخ على ثكناتهم، ويبدو أن النعوش الطائرة التي تسجى داخلها جثث الجنود الأمريكيين ستجبر الشعب الأمريكي على فتح كشف حساب مع حكومته لمعرفة حقيقة الخسائر، وهل يستحق تحرير العراقيين الثمن الباهظ الذي يدفعه الشباب الأمريكي من أجل محاربة الارهاب وتسخين صناديق الانتخابات المقسمة بين الديمقراطيين والجمهوريين؟ 
قالت القملة الأولى بعد أن هدأت قليلا: كيف ذهب الظن بك أن ليس هناك عشرات من أسباب التدخل الأمريكي بعد سنوات طويلة من الحصار والجوع والمرض والفقر وإطالة عمر النظام والقضاء على انتفاضة مارس عام واحد وتسعين؟ 
ألم تكن واشنطون تعرف أن رأس الرئيس الأسير التي نعيش فوقها الآن أوهن من بيت العنكبوت, وأن جيشه الذي انسحب من الكويت كان من ورق مقوى ولا يحمل أي من أفراده ولاء للزعيم المهيب؟ 
ردت الثانية قبل أن تدخل صاحبتها في متاهات لا حصر لها: هل لك أن تذكري لي بعض الأسباب التي تشكك في نوايا التدخل الأمريكي بعد أن عجزت كل الأنظمة الأخرى والمعارضة العراقية وأربعة ملايين مغترب وجامعة الدول العربية وكل جيران العراق؟ 
ابتسمت القملة الأولى ابتسامة فيها مزيج من السخرية والدهشة على جهل صاحبتها بالنوايا الأمريكية غير المعلنة وقالت لها:ألا يكفي وضع اليد على ثاني أكبر مخزون نفطي في العالم ليكون مقدمة لعشرات الأسباب الأخرى؟ 
لقد انتهت إلى الأبد أسطورة سلاح النفط، ومن يتابع الافراج عن الوثائق البريطانية بعد ثلاثين عاما لا يخالجه أدنى شك في أنها ليست عملية عبثية، لكنها مرتبطة بالمصالح البريطانية الآنية، وعندما أفرجت عن وثائق مؤخرا تؤكد التفكير الأمريكي الجدي في احتلال السعودية والكويت عقب استخدام سلاح النفط خلال حرب أكتوبر عام 73، كانت الرسالة موجهة إلى كل زعماء المنطقة، فأمريكا لا تفقد مئات من شبابها وتنفق مليارات من اقتصاد يعاني العجز، وتقنع الادارة الحاكمةُ أعضاءَ مجلس الشيوخ بأهمية الحرب على مبعدة آلاف الأميال من مركز التجارة العالمي المنهار إلا إذا كانت المصالح الأمريكية تعادل عشرات الأضعاف من الخسائر التي يتكبدها الجيش والخزانة العامة ودافع الضرائب. 
تنفست القملة الأولى قليلا ثم أكملت قائلة:العراق هو المكان السحري والمناسب للتواجد الأمريكي ولو خسرت واشنطون عشرة أو عشرين ألفا من أفضل شبابها وشاباتها، فالأمريكيون على مرمى حجر من الجمهورية الاسلامية التي ستهدد إن عاجلا أو آجلا أمن إسرائيل، وطهران ستتلقى فوق رؤوس أهلها قذائف وحمم من أحدث ترسانات السلاح الأمريكي, وسيحلف الايرانيون برحمة الزلازل المدمرة والأكثر رأفة من قسوة اليانكي، وسوريا ستتعلم الدرس العراقي منا نحن القمل والحشرات التي تعيش وتتغذى في شعر رأس أمين القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي فرع بغداد المنحل، وأنقرة لا تكترث لأمر آخر غير منع قيام دولة كردية على حدودها تثير المتاعب، وتكون الملاذ الآمن للأكراد في تركيا، والعصر الصهيوني سيبدأ هيمنته على مقدرات العالم العربي وسيقوم زعماء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة( مع الاعتذار لروح ميشيل عفلق ) بالوقوف صفا واحدا أمام الكنيست يقدمون فروض الطاعة والولاء، ويطلبون من الدولة العبرية أن تعلمهم مباديء الديمقراطية والحرية وكرامة المواطنين بطلب من موظف صغير في وزارة الخارجية الأمريكية. 
أردفت القملة الأولى بعد أن أرهقها اجترار ذكريات مُرَّة عن تاريخ التدخل الأمريكي في لبنان والصومال وفيتنام وكوريا وبنما ونيكاراجوا وعشرات غيرها من الأماكن المحتقنة في العالم: اختلاط الحلم الأمريكي بالكابوس جعل العراقيين غير قادرين على التمييز بينهما أو فصلهما أو فالعراقي المعارض للاحتلال يعرف أن الأكثر سوءا ينتظره في حالة الانسحاب الفجائي لمحرريهم ومحتليهم، والعراقي المتيم بحب المارينز والهامبورجر والجرين كارد وتمثال الحرية يعلم أن مقدرات وطنه لم تعد في يده، وأن كرامته يحددها شخص غريب قادم من العالم الآخر وأن سجن أبو غريب في عهد الطاغية اللعين لا يقل عن جوانتانامو في كوبا أو العراق في عهد الحرية التي بشر بها جورج بوش الابن. 
قالت لها القملة الثانية وهي تعبث بنقطة دم خارجة من جرح إثر الهرش المتواصل للرئيس الأسير في فروة ٍرأسه: لكن الحرية في أن يحكم العراقيون أنفسهم بأنفسهم! 
ردت عليها صاحبتها وقد احتدت غاضبة: يبدو أن طول فترة وجودك في شعر الرئيس، التي لا يعرفها أي عربي من البحر إلى البحر، قد أنستك التركيبة العشائرية والطائفية في العراق والتي اختلطت بمظالم وقعت على كل الأطراف، بنسب متفاوتة، لكنها صبت في النهاية في خدمة الطائفية دون أن يحتاج العراقيون للجنة دستورية لبنانية تعلمهم كيفية تقسيم الوطن بين شركائه على أسس عنكبوتية واهية وهشة وضعيفة. 
ثم أردفت القملة الأولى بعد أن أخذت شهيقا طويلا: هل خطر في ذهنك حوار لحظات ما قبل تفجير سيارة قبالة مسجد بُعيد صلاة الجمعة وهو يدور في عقل ونفس وفكر القاتل المسلم العراقي؟ تلك واحدة من آلاف الجرائم الكبيرة والصغيرة التي قام بها عراقيون ضد عراقيين في أحلك فترات عصرهم الحديث! 
.. إنه نفاذ إلى أعماق العدم الأعمى ليقرر الجزء الأكثر عفونة في النفس البشرية وهي في لحظات أسفل السافلين أن دماء المصلين والأبرياء والمارة والأطفال والنساء حلال سفحها على مذبح الوطن، وامعانا في الازدراء يقرر القاتل عدم الافصاح عن نفسه أو وجهه أو أيديولوجيته أو أهدافه. 
قالت لها القملة الثانية محاولة تهدئتها: أرجوك يا زميلة شعر الرئيس التخفيف من ثورتك وغضبك العارم فالمقاومة العراقية حق مشروع وقد أنزلت بقوات الاحتلال خسائر فادحة حتى الآن، ولعله قد بلغك أن نسبة الانتحار بين الجنود الأمريكيين قد بلغت ذروتها، وأن ليس كل مقاوم مؤيدا لصدام حسين أو عضوا سابقا في حزب البعث العربي الاشتراكي أو له مصالح خاصة في عودة جمهورية الرعب. 
ردت الأولى وقد خفت حدة انفعالاتها قليلا: لم نختلف في حق المقاومة، لكنها عملية إبادة يقوم بها مواطنون ضد مواطنين، فإذا كان الهدف جنديا أمريكيا فلا حاجة لقتل عشرة عراقيين يمرون بجانبه. ثم إن السيارات المفخخة تأخذ أيضا طابعا طائفيا وكأن ملك الموت مضطر لاصطحاب زبائنه من أبناء طائفة بعينها، اليس كذلك؟ 
قالت صاحبتها وقد قرأت ما بين السطور قبل أن تكمل القملة الأولى الجملة ... 
أزعم أنك تقصدين شيعة العراق الذين وقع عليهم ظلم فادح، وتم تجفيف أهوارهم، واخماد ثورتهم الرائعة في مارس عام واحد وتسعين بعد أن قام جنود الطاغية بما يخجل منه هولاكو وبول بوت، فقد كانوا يلقون الأطفال الرضع من فوق مآذن المساجد، ويلعبون الكرة برؤوس الأطفال أمام أمهاتهم، وقام النظام الفاشي وأغلبه من أتباع المذهب السني بأغلظ وأقسى وأشرس المذابح ضد الشيعة والأكراد. 
قالت القملة الأولى بسرعة خشية أن يذهب الطرح الطائفي في غير محله: لكن المقابر الجماعية لم تفرق بين العراقيين وفقا لمذاهبهم، والنظام التكريتي لا يقيم وزنا للدين والمذهب والخلافات في الفهم العقائدي، وضحاياه من السُنّة لا يقلون بأي حال من الأحوال عن أعداد ضحاياه الشيعة والأكراد والتركمان وغيرهم.
قالت الثانية: لماذا إذاً قبل العراقيون في مجلس الحكم الانتقالي الذي يحركه بول بريمير بسبابته أو خنصره أو طرف عينه تقسيما طائفيا يكرس مستقبلا مظلما لوطن تولى فيه الرئاسة لبعض الوقت محتال شهير ( وفقا لأجهزة العدالة الأردنية ) وقامت قوات الاحتلال التي تحميه بتهيئة زيارته للمجرم صدام حسين في سجنه وكأن الوطن المذبوح يحتاج لمشهد مستقبلي بأثر رجعي ليتعرف العراقيون عما ينتظرهم؟ 
تحركت القملة الأولى للخلف قليلا وكأنها خائفة من أظافر الرئيس الأسير وهي تعبث بشعر رأسه الذي يشبه الكلوشاريين في محطات مترو أنفاق باريس، ثم عادت لتقترب من صاحبتها وهمست قائلة: لقد اختار العراقيون أن لا يختاروا، فكان لابد من أن ينصتوا إلى رئيس الادارة المدنية، ويطيعوه كأنهم ليسوا مواطنين أو اصحاب حضارة، وهو الذي يحدد لهم نسب المشاركة الطائفية والقبلية والدينية، وأن لا ينبس أحد من رجاله الجدد في المناصب القيادية ( ظاهريا ) ببنت شفة فيما يتعلق بالاذلال والقمع والقهر والسجون والظلم الواقع على الشعب من جراء قسوة وغلظة واستعلاء جنود الاحتلال. 
إنها، يا عزيزتي، صفقة خسر فيها كل العراقيين الوطن والمستقبل والثروة والأمن والأمان والاستقلال ، وربحت فيها أمريكا بعد سنوات طويلة من الحصار والتجويع وقتل الأطفال موقع قدم ثابت في نفط العراق، وضرب منظمة أوبك على قفاها، وتثبيت الدولار المنهار كعملة خضراء مريضة مقابل الذهب الأسود، وتعليم الحكام العرب بأن من لم يجثو على ركبتيه أمام سيد البيت الأبيض يتلقى درسا مباشرا، أو بالوكالة من تل أبيب ( وهي غير الوكالة لمحمد البرادعي )، وهكذا ظهر مهرج الخيمة وهو يتعرى ويرجو الأمريكيين أن يفعلوا ببقايا جماهيريته ما يشاؤون شريطة أن يتركوه عميلا وقحا يقدم لهم أسرار العرب والأفارقة والمنظمات الثورية وأصدقائه ومن وثقوا به! 
قالت الثانية متعجلة مزيدا من شروحات صاحبتها: أليس هناك بصيص أمل ونور في نهاية النفق المظلم؟ 
اعتدلت القملة الأولى وهي تجلس فوق جذر شعرة ثابتة في رأس الرئيس الأسير: هل تعرفين مالك بن نبي؟ 
إنه مفكر جزائري رحل عام ثلاثة وسبعين وكانت له مؤلفات عن شروط النهضة ومنها ( فكرة كومنولث إسلامي) و ( مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي )و ( مذكرات شاهد قرن )و ( في مهب الريح )، وكان أهمها على الاطلاق كتابه ( الصراع الفكري في البلاد المستعمرة) والذي نبه فيه إلى أهم قضيتين لا تزالا غائبتين عن الوعي الشعبي والفكر الثقافي وهما صناعة البطل، والقابلية للاستعمار. هتفت القملة الثانية بسرعة وكأنها تريد أن تثبت لصاحبتها أنها تستوعب ما تقوله: تقصدين أن صناعة صدام حسين قام بها الاستعمار، وأن البطل المصنوع تولى بنفسه تثبيت مشاعر القابلية للاستعمار لدى الشعب العراقي؟ 
ابتسمت القملة الأولى وتحركت بحذر فوق نقطة دم حديثة لا يدري المرء إن كانت من آثار جرح أو أظافر الرئيس الأسير أو بثور جرب من جراء الأسر الطويل ( وفقا لبعض الروايات غير اليانكية) أو قذارة الجحر الجرذي( حسب الروايات الأمريكية التي تتناقلها الفضائيات ووكالات الأنباء الببغاوية كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من أنوار الكتب المقدسة)، وقالت: هذا بالضبط ما أعنيه، فالعراقيون كلهم على اختلاف مشاربهم وقواهم وقربهم أو بعدهم من الوطن الأم من مثقفين ومغتربين وجنرالات حرب ومفكرين وأكاديميين ورجال دين متمردين وصانعي سيارات مفخخة ومقاومين ومجرمين وقتلة ومخلصين وشجعان قد أجمعوا كأنهم في استفتاء ( نعم ) لاعادة انتخاب زعيم عربي أو ابنه أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت ولا تزال هي القوة العظمى والوحيدة القادرة على ازاحة الفاشي التكريتي ونظامه، وتلك مشيئة سيد البيت الأبيض ولا راد لقضائه! 
اعتدلت القملة الثانية في وقفتها وسألت صاحبتها وكأنها تريد أن تطرح آلاف الأسئلة قبل أن يغسلوا للرئيس الأسير شعره بمنظفات تنهي حياة كل القمل والحشرات التي سكنته منذ وقت طويل: لقد لاحظت أن كل العراقيين المغتربين والذي كانوا مفعمين بالأمال والأحلام لمستقبل عراقي مضيء ومشرق، عادوا بعد زياراتهم للوطن المحرر المحتل وهم يتحدثون عن سراب الحرية، وانفلات الأمن، واهدار آدمية العراقيين من قبل قوات الاحتلال، وانفجار مخزون الغيظ والغضب واليأس والكراهية فكان العبث بسلام العراق، وحروب التصفيات الطائفية، واكتساح الفكر الاستعلائي الديني على أصحاب الديانات الأخرى فقام متطرفون بمطاردة وقتل عائلات مسيحية بأكملها، وتولى آخرون مهمة اكتشاف الاسلام من جديد في النقاب والحجاب واغلاق دور السينما ومطاردة الفنون وغض الطرف عن مئات الالاف من التجاوزات الأخرى ، فالتطرف الديني لم يستطع في كل البلاد والأوقات والظروف أن يجد مدخلا آخر له غير التدين الجنسي، وحصر الاسلام الحنيف في مشكلة المرأة والاختلاط وتغطية شعرها. 
قالت الأولى: ذلك مختصر للمشهد العراقي، لكن التفاصيل الحياتية اليومية ستجعل المشهد المستقبلي جحيما لا يطاق ولو نقلوا البيت الأبيض إلى قلب بغداد، والواضح أن ملايين العراقيين المغتربين صرفوا النظر عن حلم العودة واستعدوا لاقامات طويلة ودائمة في غربة صنعها لهم النظام الشيطاني لصدام حسين.
فسألتها القملة الثانية محاولة ايجاد موضوعات أخرى لعل فيها بصيص أمل لمستقبل الوطن: ما رأيك في العلاقات الكويتية/العراقية؟ 
اهتز صدر القملة الأولى، وزفرت زفرة ألم اهتزت لها شعرتان متجذرتان في فروة الرئيس الأسير، ثم قالت: لم تدفع دولة في المنطقة ثمن كل مصائب وكوارث وتهورات وحروب الجيران كما فعلت الكويت! 
فتأخر الديمقراطية في دول الخليج جعل الكويت مضطرة لسنوات طويلة لكبح جماح الحرية التي تجري في دماء أبنائها، والحرب المجنونة المسعورة بين طهران وبغداد دفعت الكويت ثمن جزء كبير منها سواء بالانحياز الاضطراري لجانب الجار العربي الذي بدأ العدوان على إيران، أو بالخوف من هوس حراس الثورة الاسلامية الذين توغلت في صدورهم روح خلخالي المشبعة بالرغبة في الانتقام، فكان التلويح بتصدير ايديولوجية الثورة لتطيح بحكومات دول الخليج، ثم جاء الثاني من أغسطس المشؤوم عام تسعين وقام المجرم صدام حسين بمكافئة الكويتيين على مواقفهم المشرفة، فاستباح أرضهم ودماءهم وأموالهم وخيراتهم ونفطهم وألغى دولتهم وضمها لجمهورية الرعب، ثم جاء التحرير بعد سبعة أشهر جحيمية لتعود الكويت لأبنائها وشرعيتها لكنها تفقد ثلثي ثروتها في التحرير واعادة الاعمار وقبلهما النهب المنظم من اللصوص أشاوسة النظام الفاشي، ثم حدثت هجمة معاكسة لتطور الدول والأنظمة والأفكار والثقافات في عالم العولمة الجديد، وبدلا من أن تقوم الكويت بتصدير الاستنارة والانفتاح، استورد رجالها من المطاوعة في السعودية وطالبان أفكارا معادية للمرأة، ورفضوا أمرا ساميا أميريا بمنحها حقوقها الشرعية والمواطنية بعد أن أثبتت لرجال الديرة أنها شريكة التحرير، وفخر الدولة، وكان جنود الاحتلال يخشونها كخشيتهم رجال المقاومة الكويتية تماما. 
ثم أردفت قائلة: هل تريدين المزيد عن الثمن الذي دفعته الكويت؟ لقد فتحت أرضها وسماءها وبحرها لاستقبال ربع مليون جندي أمريكي في حرب ازالة النظام العراقي الذي لم تعد الحياة بجواره تحمل أدنى قدر من الأمان، والكويتيون أصحاب فهم سياسي عميق، وديوانيات يطرح فيها كل شيء، وشرعية تعرف كيف تحمي شعبها ووطنها، لذا لم يكن أمام الكويت غير فتح أرضها في حرب يعلم الجميع أنها ليست تحرير العراق، إنما ازالة النظام الارهابي فيها، وكان لدى أبناء الديرة أمل صغير في العثور على الأسرى والمرتهنين والمختطفين فكان قرار الموافقة، ويعلم الجميع أنه بدون هذا القرار المؤلم لم تكن الكويت تستطيع أن تأمن على مستقبلها، فكانت قطر ستستضيف القوات الأمريكية والبريطانية ، أو تركيا، أو إسرائيل، أو دولة الامارات أو آخرون لا نعلمهم، الله يعلمهم! 
تستفسرين عن العلاقات الكويتية/العراقية، أليس كذلك؟ 
إنها مزيج من كل شيء! فرحة كويتية بازالة النظام ومساعدة العراقيين، وشكر عميق من عراقيين كثيرين لما تحملته الكويت، لكن أيضا كراهية شديدة من الذين دفعوا ثمن الغطرسة الأمريكية والحصار الطويل وموت مئات الآلاف من الأطفال، فأختلطت على نفوسهم مشاعر متباينة ولم يتبينوا الخيط الرفيع الفاصل بين القاتل والمنقذ. 
حماقة القوات الأمريكية يدفع ثمنها أيضا الكويتيون لأنها توغر صدور العراقيين، أو تجعل الطامعين يزدادون عددا وعدة، ولعل أحاديث اسقاط الديون، والمنافذ البحرية، ومطاردة السيارات الكويتية، واختطاف رجال أعمال كويتيين في العراق، وأساليب الطمع والجشع والابتزاز العاطفي من مثقفين ومسؤولين واعلاميين عراقيين رغبة في سماع حفيف أوراق الدينار الكويتي، تؤكد أن التهور والهرولة والاندفاع في الأحضان والقبلات يعادل تماما مثيله في الخشية والتراجع والشكوك، ويبقى الأمل الكبير في صوت العقل الكويتي لمد يد المساعدة للشعب العراقي، ولكن ليس كل من يمتدح الكويتيين يحمله بين جنبيه حبا لهم، وغراما بهم، وخوفا عليهم، وإيمانا بقضاياهم العادلة وهمومهم. 
قالت القملة الثانية وفد استسلمت لحكمة صاحبتها وخبرتها: هل سينسحب الأمريكيون والبريطانيون من العراق؟ 
قالت لها صاحبتها وهي تتقدم خطوتين للامام وتتراجع واحدة: أمريكا هي اللاعب الوحيد على الأرض ، أعني في رقعة الشطرنج، وقد ربحت بعد اعتقال صدام حسين عبيدا كثرا، وركع لها الكبير قبل الصغير، فليس في المنطقة الدافئة من العالم العربي مهاتير محمد، وكان رد فعل المتخلف المستبد صاحب النظرية العالمية الثالثة انتصارا هائلا لآلة السحق الأمريكية، وأحسب أن شارون اتصل بسيد البيت الأبيض مساء يوم المهانة الليبية وقال له: ألم أقل لك أن العرب يشبهون تماما حكاية القرود التي كان يضربها صاحبها كلما اقترب واحد منها من الطعام، فلما تعلمت الدرس قامت هي بضرب أي واحد منها يقترب من الطعام حتى تحمي نفسها؟ 
طالبان أثبتت أنها حركة ارهابية من ورق هش، وأكثر زعمائنا العرب يتبرعون بأنفسهم للكشف عن أسرار المنظمات والقيادات الأخرى والأسلحة والأصدقاء، وصدام حسين القائد المهيب قدمته أمريكا في ثلاث كلمات تقطر كل منها بحارا من الاذلال والاهانة والعبودية والازدراء والاحتقار: سيداتي سادتي .. لقد قبضنا عليه! 
والعقيد معمر القذافي على استعداد لأن يبيع ملابسه وخيمته وشعبه وتاريخ عمر المختار من أجل عدم وضعه في قفص كالقرود مثل عبد الله أوجالان أو نورييجا أو صدام حسين. 
قاطعتها صاحبتها: أعيد السؤال مرة أخرى، هل سيشهد هذا العام انسحاب آخر جندي أمريكي أو بريطاني من العراق؟ قالت القملة الأولى: ليس قبل ضمان السيطرة الكاملة على النفط لمئة عام قادم، ووضع نظام طائفي يضمن عودة الاحتلال الأمريكي على الطريقة البريطانية ( فرق تسد )، وتحقيق الأمن الاسرائيلي في سوريا الجديدة والمسالمة والمطيعة للكيان الصهيوني، وربما ضرب إيران ضربة موجعة أشد عنفا وقسوة ووحشية من كل حروب أمريكا في فيتنام وأفغانستان والعراق، ثم تغيير بعض الأنظمة في المنطقة، واستنزاف ثروات الخليج، وفتح الباب لآلاف الشركات الحيتانية الكبرى لنهب ما بقي من الوطن الممزق في مشروعات غير انتاجية... 
حماقة العقل العربي تتجسد في المقارنة بين الاحتلال/التحرير الأمريكي وبين السنوات السوداء المظلمة لعهد صدام حسين، وذلك هو فخ نصبه أيضا دعاة تحرير العراق للشعب العراقي. إنه مشهد درامي مأساوي كقطع من الليل مظلمات، فيه يعجز العقل والقدرة على التنبؤ واستشراف المستقبل من ملامح صباح جديد قد يكون مشرقا أو حزينا، وقد تتناثر فيه أشلاء العراقيين ويتمزق الوطن، أو تأتي معجزة من السماء. ولكن الأرض أيضا قادرة على صناعة المعجزات، فهل نفرح أم نحزن على العراق؟ وهنا سمعت القملتان خرير مياه فعرفتا أن عريفا أمريكيا يستعد لغسل شعر الرئيس الأسير! 

محمد عبد المجيد 
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال 
أوسلو النرويج 

مسح ذاكرة العراقيين .. سباق محموم لاغتيال وطن


ترى أين ستنفجر السيارة بعد لحظات؟ ربما أمام مسجد لحظة خروج المصلين، أو في شارع مزدحم خلال ساعات التسوق، أو على مشارف المنطقة الخضراء التي يتحصن بها الأمريكيون وتدير منها قوى الاحتلال التحريري ( !!) أمور وطن يعيش في نعش، وحكومة قام مستر بول بريمر بمنحها بركاته قبل أن يقفز في قلب مروحية!
وبعدما نقل ملك الموت مقره الرئيس إلى العراق، وغادرها إبليس وهو واثق من أن الأمريكيين والعراقيين معا سيتولون شؤونه بأمانة كاملة،
أوفى الجميع بالوعد، ولا يشرق صباح على دجلة، أو ينطلق صوت جميل من فوق مأذنة مسجد يقول: حي على الفلاح ، أو يتردد عاشقان قبل السير في أحد شوارع عاصمة الرشيد، حتى ينفجر جرح، أو تتناثر أشلاء لأجساد غضة طرية قد تكون لأطفال أو نساء أو تلاميذ مدارس، أو ربما تتحطم مروحية عسكرية أمريكية أو تطير دبابة بمن فيها من جنود اليانكي في الهواء، أو تحترق عربة مدرعة كانت تقل جنودا أمريكيين سرقوا لتوهم بعض بيوت عراقيين غلابة بعدما داهموا المساكن الآمنة، وروعوا الأطفال، ونقلوا معهم بعض الشباب لعل اغتصابهم في سجن أبو غريب أكثر سهولة من هتك عرضهم في بيوتهم.

يحتاج قاموس تصنيف المفردات في العراق إلى كل مجامع اللغة لوضع الكلمة في مكانها الصحيح، وشرح معناها بأمانة، وايصال المعنى إلى الباحث عنه.
والغريب أن كل المرادفات تصلح للحالة العراقية، فالأمريكيون قوى احتلال وتحرير، وشياطين عفنة تتفنن في التعذيب والاغتصاب والقمع، وهم ملائكة رحمة جاءوا للقضاء على النظام البائد، وبناء مدارس ومستشفيات، وتعيين حكومة وطنية، وحماية العراق من الحرب الأهلية!
والمقاومة العراقية الباسلة تفجر بوحشية بالغة الغلظة قنابلها في أكثر الأبرياء العراقيين ضعفا، وتختار أسواقا ومدارس ومساجد، وهي أيضا تحيل حياة قوى الاحتلال إلى جحيم.
أما الارهاب فيقوم بنفس الدور ويطارد الأمريكيين والحلفاء وأيضا الشعب العراقي .
في قاموس المترادفات أيضا تجد أكثر من معنى لكل كلمة في العراق، فتبحث عن أحمد الجلبي: مناضل، وطني، معارض للطاغية الأسير، عاشق للعراق، نصاب عالمي، متعاون مع أعداء وطنه، لص مصارف.
ثروة وطنية: في أيدي أهل البلد، تديرها قوات الاحتلال!
الشرطة العراقية: عراقيون يسعون لحماية شعبهم وأهلهم، مضطرون للعمل لكسب قوت أسرهم وأولادهم، متفائلون بمستقبل آمن للعراق، وطنيون مخلصون، عملاء لقوات الاحتلال، امتداد لصدام حسين، متعاونون في اعتقال المناضلين.
قناة الجزيرة: تغطي حقائق ما يحدث، 
تفضح انتهاكات حقوق المواطن التي تقوم بها القوات الأمريكية، تغطي المعارك مباشرة مثلما حدث في الفالوجة والنجف، تضع السم في العسل، تتعاطف مع النظام البائد، تستقطب أعداء الشعب العراقي، تهيج الرأي العام!
بول برمر: حاكم مدني افتتح مدارس ومستشفيات وساعد في تحرير العراق والقبض على صدام وزبانيته، وسلم الادارة ثم غادر،سرق وأهدر مليارات من أموال العراقيين، رهن خيرات العراق في ايدي حيتان المال الأمريكيين، كان يعلم بكل الانتهاكات في السجون العراقية.
قائمة لا تنتهي من كل شيء، وكل الأسماء تحمل أكثر من معنى، والحياة تسير وتقف ثم تعاود السير على عكازين الأول من الكذب والثاني من محاولات جادة لانقاذ الوطن.
حتى ملحمة النضال في الفالوجة كان لها وجهها القبيح والمتمثل في دويلة دينية متطرفة يحاكم فيها الملثمون أبناء بلدتهم منطلقين من فكر طالباني ارهابي فيعدمون، ويقطعون الرؤوس، ويحاربون الحرية الفردية، ويفرضون قيودا من تفسيرات دينية لا علاقة لها بالاسلام الحنيف المتسامح.
وكلما فتحت القبور الجماعية أفواهها لابتلاع مزيد من جثث العراقيين، زادت الألغاز حيرة، والطلاسم غموضا، والبغض عمقا في نفوس أذلها البعث الصدامي خمسة وثلاثين عاما، وتلقفها الاحتلال القذر ليعامل العراقيين ( كما وصفت صحيفة مورجن بلادا النرويجية ) كانهم أقل مرتبة من البشر وأرفع قليلا من الحيوانات المتوحشة.
في خضم دائرة العنف تمكن الكذب من اختراق النسيج المتماسك للحقائق، وغطت طبقة هشة من الحقائق عالم الكذب والافك والتزييف والتزوير في تاريخ وطن، وضاع العراقيون بين مؤيد للاحتلال، ومعارض للتحرير، ومتوعد للمتعاونين بالويل والثبور، وأصبحت أحلام العراقيين متناثرة مئة ألف قطعة من حكمة السيستاني مرورا بتهور مقتدى الصدر وخاطفي ضيوف العراق الذي يقطعون رؤوسهم ويفصلونها عن الجسد ويهللون الله أكبر، وليس انتهاء بالمقاومة الشريفة والحكومة الانتقالية المخلصة وبدء انسحاب قوات الاحتلال ومحاكمة صدام حسين.
وسقطت أهم جوهرة تحافظ عليها شعوب الأرض وهي ذاكرة الشعب، فلا يهم إن كان صدام حسين قد قتل ربع مليون أو نصف مليون عراقي ودمر بلده وأحال حياة شعبه إلى جحيم مقيم، فهو بعدما أصبح جرذا مختبئا في جحر، مناضلا عنيدا في قاعة المحكمة، والتفاصيل الأكثر خدشا للمشاعر، وجرحا للأحاسيس، وامتهانا لكرامة الانسان في سجون صدام حسين ثم بين أيدي الأمريكيين تسقط من ذاكرة العراقيين كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف، وكأن الأمر يبدو اعتياديا، ويستطيع العراقي أن يتأقلم مع كل الأشياء، العنف والسلام، الارهاب والمقاومة، القتل والرحمة، الاختطاف والتسامح، الكفر والايمان، الاحتلال والتحرير، البغاء والفضيلة دون أن يرف له جفن، حتى أن عشرات المواقع على الانترنيت تنشر ما لا عين رأت أو أذن سمعت عن امتهان الكرامة واغتصاب العراقيات من جنود أمريكيين، ومثلها تنشر مواقع أخرى، بنفس المنطق، وذات القوة والحماسة عن العراق الجيد المفعم بالأمل، والمحرر أمريكيا، وعن حكومة الياور وعلاوي. الآن يستعد عراقيو المنفى الذين سرق منهم الأمريكيون والارهابيون والمتعاونون الوطن باعلان حكومة منفى للتحرير الثاني للعراق، ومع اختفاء مجلس الحكم العراقي، وخفوت وهج الملكية الدستورية العراقية التي كانت ثلاثية الحلم الموزع بين الشريف علي بن الحسين والأمير الحسن بن طلال والأمير زيد بن رعد، ومع التأكيد الأمريكي بأن جنود العم سام لن يخرجوا إلا بعد عشر سنوات أو يزيد، ومع قائمة طويلة من الاغتيالات المجهولة المصدر والتي قد تصل إلى عجيل الياور وإياد علاوي وأحمد الجلبي وإبراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وجلال الطالباني ومسعود البرزاني، فإن تحرير العراق يصبح أكبر خرافات الوهم وضوحا. التعتيم جزء من اغتيال الوطن، ونحن لا نعرف من هي المقاومة ومن هم الارهابيون، وهل القادمون من خارج العراق قادرون على التخفي والاختباء وتفجير السيارات ومقاومة أكبر جيش في العالم؟ ما هي تقسيمات المقاومة بين الشرعية والارهاب، ولماذا هذه البلبلة والحيرة في الاشارة إلى مصدر المقاومة، فمرة من البعثيين، وثانية من السُنّة، وثالثة من جيران العراق الذين تسللوا وكأنهم عفاريت غير مرئية، ورابعة من شبح الزرقاوي، وخامسة من القاعدة، وسابعة من شرفاء الوطن، وثامنة من أعداء العراق...
والتعتيم يشمل كل العراق، فلا يستطيع أحد أن يجيب عن سؤال يتعلق بالخسائر الأمريكية، وأموال النفط، ونسبة العراقيين في المشاركة باعادة البناء، ونتائج التحقيق مع المشتبه بهم، ودور الحكومة الانتقالية في مراقبة السجون والمعتقلات والحفاظ على كرامة مواطنيها ، والأقليات في العراق، وكيف يعيش المسيحيون العراقيون في مناطق تهيمن عليها جماعات التطرف والتزمت، وأخيرا ماذا يريد الأمريكيون من العراقيين؟ مع انبلاج كل فجر جديد على أرض الرافدين يتم مسح كل ما تختزنه ذاكرة العراقيين عن يوم مضى، ولا يعرف المرء إن كان السبب رغبة في حياة جديدة، أو نزوحا إلى جمهورية الموت! من يقتل من في العراق، ولماذا لا تقوم المقاومة الشريفة بمطاردة الارهابيين الذين يشوهون صورة العراقي والاسلام. من منا لم تقهره الأحزان وهو يرى مواطنا بريئا من كوريا أو اليابان أو الفيلبين أو بلغاريا وهو يصرخ طلبا للحياة، ولكن الحكم كان قد صدر بفصل رأسه عن جسده؟ الأمريكيون يقتلون العراقيين، والعراقيون يقتلون الأمريكيين والعراقيين، والحيرة تقتلنا جميعا. ملك الموت يشكو ربه من ارهاق العمل في العراق، وإبليس يستلقي على قفاه من الضحك!

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج

وقائع محاكمة العقيد معمر القذافي

رأيت فيما يرى النائم بذهن أكثر حضورا من وعي اليقظ طرفا من وقائع محاكمة بدا لي فيها خلف قفص الاتهام العقيد الليبي معمر القذافي.
أما رئيس المحكمة والمستشارون فكانوا كلهم من الليبيين ولم أذكر أنني رأيت جنودا أمريكيين أو بريطانيين أو حتى مراقبين زرق العيون عليها أوجه بيض!
ظهر المتهم ذليلا كسيرا وقد أحاط به اثنان من حراس المحكمة وهو الذي اعتاد أن تحيط به حارسات من فدائيات القائد كما كان الحال مع المحيطين بشيطان بغداد من فدائيي صدام.
كان الجو حارا، وقاعة المحكمة تكتظ عن آخرها بأقرباء المتهم وعائلته وقبيلته وبعض من بقايا قيادات اللجان الثورية ورهط من الفضوليين والصحفيين وثلاثة أو أربعة من أعضاء جبهة الانقاذ الوطني.
تسللت نسمة هواء على استحياء لتبلغنا أن مبنى المحكمة ليس بعيدا عن شاطيء البحر، ربما في طرابلس الغرب أو بنغازي أو طبرق أو مصراته.
المتهم يكاد يختنق من اقتراب جدران المبنى الخرساني المسلح ولكن مهانة الوقوف خلف القفص منعته من التعبير عن تمنياته بأن ينتقل الجميع إلى خيمة ملونة أشرف عليها بنفسه قبيل ساعات قليلة من القاء القبض عليه.
بعد عشر دقائق من الاجراءات الروتينية لانعقاد الجلسة الأولى ونداء الحاجب وانحسار الهمهمات والهمسات وتحريك بعض المقاعد من الخلف إلى المقدمة، بدأ التاريخ الليبي الجديد بسؤال القاضي للمتهم الماثل أمام عدالة المحكمة: اسمك ووظيفتك؟
المتهم: معمر القذافي، قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم!
القاضي: لا تبدأ اجابتك على أسئلة المحكمة بهذا الهزل، وأنت تعلم ما أعني.
المتهم: رئيس ليبيا سابقا!
القاضي: كيف تسلمت الحكم؟
المتهم: في الأول من سبتمبر عام 1969 قمت مع مجموعة من الشباب الليبي المتحمس والمتأثر بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر بثورة ضد الملك إدريس السنوسي لاقامة نظام حكم وطني.
القاضي: هل كانت لديك أفكار مسبقة عن نظام الحكم الوطني والرؤى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدينية، وكيفية تحقيق مجتمع الأمن والرفاهية والسلام؟
المتهم: لم تكن لدي أدنى فكرة عن الدولة الحديثة والادارة ومصالح الوطن، لكن المفاجأة التي عقدت لساني لبعض الوقت هي التفاف الجماهير حولي وهي ظاهرة غريبة في عالمنا الثالث، ولو قام مهرج أمي بانقلاب عسكري أو مدني مسالم، وأصدر البيان رقم واحد، ووعد الجماهير المطحونة والمقهورة بالمن والسلوى فستخرج كلها خلفه تبايعه، ويلتف حوله المنافقون والأفاقون وسماسرة القصر.
ثم أكمل المتهم العقيد معمر القذافي شرح رؤيته التي نزلت كالصاعقة على رؤوس الحاضرين قائلا: صدقني، سيدي القاضي، لو قام حمار حقيقي بدمه ولحمه وشحمه وأذنيه بانقلاب على القصر، واستولى على الاذاعة والتلفزيون وأصدر البيان رقم واحد فاحتمالات الالتفاف حوله لا تزال كبيرة، بل ربما زاد الملتفون خلفه عن الملتفين حول زعيم وطني ومثقف وذكي ومؤمن باشراقة النور في مستقبل بلده.
القاضي: كنت مستبدا طوال فترة حكمك، وقتلت بدم بارد عشرات الالاف من أبناء شعبك في جرائم يخجل منها الطغاة الآخرون، لماذا ارتكبت كل تلك الجرائم والحماقات؟
المتهم: نحن الطغاة نتلقى دروسا من بعضنا، ويعلمنا التاريخ أن ذاكرة الشعوب ضعيفة، وأنا لم اختلف عن غيري من الطغاة في عالمنا الثالث، والفارق الوحيد هو أنني تركتهم يسخرون مني ويتناقلون روايات عني وكأنها حكايات للاضحاك ولم يتنبه إلا القلة عن حجم البكاء والحزن فيها.
القاضي: أين ذهب أعضاء الثورة من زملائك الذين قاموا معك بانقلاب الفاتح؟
المتهم: تخلصت من بعضهم، وأنفض الآخرون عن القيادة وغابوا، أعني قمت بتغييبهم عن أعين الشعب، فتولى الصمت مهمة دفنهم أحياء.
القاضي: منذ عام 1969 وأنت تهدر أموال الشعب، ألم يدر بخلدك أن تلك الأموال ليست ملكا خالصا لك، وأنك أمين عليها؟
المتهم: يا سيدي، أنا لست مجرما كما يصورني بيان الاتهام من النيابة، لكنني شخص متمرد، وثوري، ولم أكن عندما قمت بالثورة أفقه في الاقتصاد والسياسة والفلسفة والأخلاقيات والدين، فلما تجمعت السلطة في يدي فاجئني العبيد برقابهم، وابتهجوا بالذل، واغتبطوا بالمهانة، حتى أنني وصفت شعبي في حفل عام بأنهم كالماعز فصفقوا لي.
القاضي: ولكنك قمت بتصفية الالاف من أبناء شعبك، وصنعت جماهيرية الرعب، وجعلت من ليبيا سجنا أكثر توحشا من سجون ومعتقلات زملائك من الزعماء الرعب، ألم يكن أمرا طبيعيا أن يخشاك مواطنوك؟
المتهم: حتى قبل التوسع في بناء المعتقلات والسجون كانت الجماهير مهيئة لكل أشكال القمع والقهر.
وضعت لهم ( الكتاب الأخضر) وهو مجموعة من التعاليم الساذجة والتي يخجل طفل في المرحلة الابتدائية من كتابتها، فجعلوه كتابا مقدسا، وتم تأسيس مركز الكتاب الأخضر، وأنفقت من أموال الشعب مئات الملايين التي تم نهب أكثرها بحجة تعريف العالم بفكر رسول الصحراء.
قمت بتبديل التاريخ الهجري ليستخدم الشعب تاريخ وفاة النبي، فتهافت مثقفو ليبيا ومعهم عدد هائل من المنافقين والمتزلفين على تبرير قراري.
ضربت الدبلوماسية في مقتل، وصنعت مكاتب شعبية في الخارج كانت مسرحا للتهريج والسيرك الدبلوماسي، فعثرت على الملايين يؤيدونني ويطيعونني.
أقمت مؤتمرات بعدد حبات رمال الصحراء للبحث في فكري، واستخراج العبقرية من قراراتي المفاجئة وغير المتوازنة، فكانت المكاتب الشعبية الليبية في الخارج تستقبل آلافا من مفكري الأمة وعلمائها وفقهائها ومثقفيها وضمير شعوبها يطلبون السفر إلى الجماهيرية، ويشتركون في حوار أحمق عن سذاجة فكرية، فتخرج قرارات وتوصيات ومديح لم يحصل على مثلها نبي من أنبياء الله منذ آدم عليه السلام.
حتى هزيمة جيشي في تشاد وعودة جنودي في نعوش عبر الصحراء الليبية بعد انتصار القبائل التشادية المسلحة ببنادق من بقايا الاستعمار تحولت إلى مظاهرات فرح.
القاضي: ما هي حكاية التعويضات في قضية لوكربي؟
المتهم: لقا تم اسقاط الطائرة في الفترة الخصبة التي طاردت فيها بأموال شعبي الكلاب الضالة، وقتلت الأبرياء، وحولت أجهزة الأمن إلى مطاردة كل من يخالفني الرأي، فكانت خطتي بقتل ركاب الطائرة التي انفجرت فوق المدينة الاسكوتلندية الهادئة، ثم كان الحصار الذي استمر سنوات طويلة فجعلت الشعب يؤمن أننا في الجماهيرية نقف في خندق الصمود ضد قوى البغي, وفي النهاية اضطررت لتسديد أقل من ثلاثة مليارات دولار لأهالي الضحايا شريطة أن لا تتم محاكمتي كمجرم حرب.
القاضي: ولكنك فعلا مجرم حرب ومجرم سلام، فكيف نجوت من محاكمة دولية؟
المتهم: لأنني أعرف أن مصالح الدول الكبرى ، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تحدد قيم العدالة في الغرب، لذا دفعت صاغرا التعويضات، وقمت بتسليم الادارة الأمريكية آلاف الوثائق والمستندات الخاصة بالمنظمات العربية والاسلامية والدولية، وكشفت كل أسرار من ظن أنها في صدري ولن أبيعها لخصومهم، وأهديت للحكومة البريطانية أسرار الجيش الجمهوري الايرلندي!

القاضي: .. وبعت أيضا الفلسطينيين، أليس كذلك؟
المتهم: عشرات المرات وبعضهم لا يزال يعلق آمالا كبيرة على وعودي!
في حصار بيروت حجبتُ عنهم السلاح، وطلبت منهم الانتحار..
وكان كثيرون منهم يعملون في الجماهيرية، فلما شعروا بالأمن، طلبت من أجهزة أمني أن يلقوهم في صحراء السلوم، ويسرقوا ممتلكاتهم ومتاعهم وأموالهم..
وقمت ببيع وثائقهم واسرارهم ومستنداتهم لرجال الرئيس في أمريكا في مقابل أن يرضى عني البيت الأبيض.
القاضي: هل ظننت أن خزينة الدولة السجن كانت ستكتفي بدفع تعويضات لكل من أضرتهم أعمالك الارهابية؟
المتهم: حتى لو تسول الليبيون من بعدي في شوارع تشاد وأوغندا والسودان وسوازيلاند، فلم يكن هذا يمنعني من دفع مليارت الدولارات لكل من يرفع قضايا تعويض ضدي، فالألمان لهم نصيبهم من أموال شعبي بسبب حادث البار في برلين، والفرنسيون غرفوا من أموال البترول تعويضا عن اسقاط الطائرة فوق النيجر، حتى أبناء الاستعمار الايطالي كانوا يستعدون للحصول على تعويضات مني.
القاضي: ما هي حكاية الخيمة التي تنتقل بها في كل مكان، وتسبب حرجا لمضيفيك، وتنصبها في حديقة قصر المضيف، وتكلف الدولة المفلسة ملايين في كل مرة، وتصطحب معك ناقتين وعشرات من الأشخاص الذين تنحصر مهامهم في نقل الخيمة ونصبها واعداد الأثاث لها، ودورة المياه والحمام والفضلات.. أخشى أن أتهمك بالجنون لئلا تنجو من المحاكمة ويتسلمك من العدالة أطباء في مستشفى الأمراض النفسية والعصبية؟
المتهم: إن عقدتي، سيدي القاضي، تكمن في كراهيتي للاهمال، فإذا شعرت أن هناك من خطف الأضواء مني، فإن لساني على استعداد أن يقدم أي اقتراح بعيدا عن العقل والمنطق والسوية، حتى لو قلت بأن وليم شكسبير كان عربيا ويدعى الشيخ زبير، أو أن الهنود الحمر عرب، أو أنه لا يوجد في العالم العربي مسيحيون ( وكان المرحوم الدكتور غالي شكري قد صحح هذا الخطأ لي، فعرفت أن لدينا مسيحيين عربا )، أو أن المسجد الأقصى عبارة عن قطع من الأحجار ولا يمثل لي أي قداسة، أو أن حل الصراع العربي الاسرائيلي يكمن في دولة ( اسراطين)، أو عشرات غيرها من الأشياء التي تخطف عيون وآذان المواطنين، فالمهم أن أبقى أنا في الضوء طوال الوقت.
القاضي: مثلما قلت بأن الأوروبيين يطمعون في احتلال ليبيا للاستيلاء على بطيخها، فضحك العرب، وتندروا على فكاهاتك، وبقيت أنت في الحكم السيرك، ألست أنا محقا؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، إنه فن الطغيان الذي لم يكتشفه قبلي في عالمنا قلة قليلة.
عندما قال كل عربي وليبي لأخيه: دعه إنه مخبول وكوميدي، فقد كان هذا يعني اطالة أمد حكمي وسطوتي وسيطرتي على مقدرات الليبيين.
القاضي: ماذا حدث في سجن ( أبي سليم ) عام 1996؟
المتهم: لم يحدث أي شيء غير طبيعي، فقد بدأ أن هناك تمردا على أوضاع السجن فأعطيت التوجيهات اللازمة لزبانيتي وكلاب خيمتي من رجال الأمن القساة فتولوا، مشكورين، مهمة التخلص من 1200 سجين، وتم ارسالهم إلى العالم الآخر، فأنا لدي من الليبيين، أعني الذين وصفتهم بالماعز، أكثر من الهم على القلب.
ثم إنني، سيدي القاضي، أقوم بما يفعله أشقائي في العروبة من زعماء الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالد!
ألم يتخلص صدام حسين من أكثر من ربع مليون عراقي في طول أرض الرافدين وعرضها، فضلا عمن سقطوا في الحرب المجنونة مع ايران، ومن دمرتهم آلة الحرب اليانكية وهم ينسحبون بذلة واستكانة من الكويت متجهين إلى القائد المهيب لعله يرسلهم إلى جحيم عدوان جديد؟
ألم تدفن سرايا الدفاع بقيادة العقيد رفعت الأسد، صاحب شبكة الأخبار العربية المدافعة عن حقوق الإنسان، بجوار سجن تدمر أكثر من 1000 شخص في مقبرة جماعية؟
ألم يأمر أمير المؤمنين الحسن الثاني، رحمه الله، وزير داخليته الجنرال محمد أوفقير بالتخلص من أي شخص يحلم أو يفكر في معارضة الملك، فلما قام طلاب الدار البيضاء بمظاهرات سلمية لم تمر عدة ساعات حتى كانت سيارات الجيش تقوم بجمع جثث دافئة لشباب وأطفال في المدينة الآمنة بعدما استجاب الجنرال لمليكه المهووس بالقتل، واختفى المغاربة في قبور جماعية أسوة بمواطني معظم الدول العربية؟
ألم يقم الحسين بن طلال, رحمه الله، بمجزرة سبتمبر الأسود ضد الفلسطينيين وراح ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف فلسطيني، وتوقف بعدها القلب الكبير لجمال عبد الناصر؟
لماذا تتهمني، سيدي القاضي، بارتكاب المجازر الجماعية وأنا أقوم بتأدية واجبي في التخلص من عدة آلاف من المواطنين وفقا للعادات والتقاليد العربية، ولو لم أفعل لما احترمني زملائي الزعماء العرب؟
القاضي: هل كانت لك أي علاقات بالكيان الصهيوني؟
المتهم: أرسلتُ في احدى المرات بعض الحجاج للمدينة المقدسة، وختمت أجهزة الأمن الاسرائيلية على جوازات سفرهم بنجمة داود، وكنت أريد أن اختبر ردود فعلي شعبي المسكين، فتلقيت التهاني من كل قطاعات الشعب الليبي العظيم .. أحفاد عمر المختار.
وقد فعل مثلي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة فأرسل بعض الصحفيين الجزائريين، لكن الشعب الجزائري لم يستوعب هذه الكارثة، فصمت الرئيس وأدعى أنه لم يكن على علم بالزيارة.
أما العلاقات السرية بين ليبيا واسرائيل فلم يحن بعد وقت الاعلان عنها، وهل تظن، سيدي القاضي، أن الإدارة الأمريكية ترضى عني إن لم أقدم الضمانات والأمن لاسرائيل ذليلا ومقهورا ومهزوما؟
لقاضي: هل قمت فعلا بتصفية الامام موسى الصدر وهو ضيفك، والتقاليد العربية منذ عهد الجاهلية تراعي دائما أمن وسلامة الضيف حتى لو كان عدوا لك؟
المتهم: نعم، سيدي القاضي، قمت بقتله مع مرافقيه، وقامت أجهزة الاستخبارات الليبية بعمل مسرحية عن سفر الضيوف إلى العاصمة الايطالية، لكن حبكة اللعبة لم تكن على مستوى درجة ذكاء أي أجهزة أمن، فمخابراتي تحتل المركز الأول في الغباء والبلاهة والحماقة، حتى عندما قامت باختطاف منصور الكيخيا، عرف العالم كله بالعملية قبل أن تقوم أجهزة أمني بتسليم المعارض لي.
القاضي: أنت تتصرف أحيانا كمعتوه ينبغي عرضه على طبيب نفسي وأحيانا أخرى كقائد متهور، ولكن في كل الأحوال أنت واحد من أقسى طغاة العصر الحديث، فهل كان لك هدف محدد أو مشروع قومي؟
المتهم: حاولت، كما ذكرت من قبل، جذب الأنظار، وكنت في الحقيقة اشعر بدونية شديدة، فقدراتي العقلية لا تسعفني في كثير من الأحوال، لكن يشفع لي دائما أن السوط في يدي، وأضرب به ظهور الليبيين متي شئت وكيفما أردت، وأرسل أي عدد منهم إلى ملك الموت، ولو أعطيت توجيهات بسحب كل أرصدة البنوك ودفعها تعويضات عن جرائمي لصفق الشعب وخرج في مظاهرات تطوف شوارع البؤس الليبي، وتعتبر قراري حالة نادرة من العبقرية الصحراوية للقائد الملهم!
لو نزل الوحي مرة أخرى على نبي من الأنبياء لما تمكن من صناعة سلطة مقدسة كالتي صنعها لي شعبي.
القاضي: وماذا عن محاولات الانقلاب والاغتيال التي تعرضت لها خلال فترة حكمك الأسود لشعبك المسكين؟
المتهم: كانت كثيرة وخرجت من قلب الصحراء ومن طرابلس ومن الجبل الأخضر، ولكن لدي أجهزة أمن تستطيع أن تعد على الليبي أنفاسه، وتعرف عدد أسنانه، وتتسلل إلى أحلامه، ولديها أوامر وتوجيهات مني بأن لا تتهاون أو تأخذها رحمة أو شفقة أو تتردد هنيهة واحدة في قطع رقاب الكلاب الضالة ولو بلغ عددهم نصف سكان جماهيرتي.
في المقابل فإن صمتا مريبا ران على العالم كله، والتزم به العرب من بحرهم إلى مائهم بأن لا يدخلوا عش الدبابير، ولا يثيروا غضبي وحنقي، وأخص بالذكر مصر والسودان وإلا فإن أموالي لن تعرف طريقها إلى حكام الدولتين.
ولعلك، سيدي القاضي، تعرف أن المكاتب الشعبية الليبية في الخارج تضج من كثيرة المترددين عليها من المثقفين والأكاديميين والمفكرين والاعلاميين الذين يطلبون تأشيرة أو دعما أو مساهمة أو زيارة يتبعها مديح زائف ونفاق أعمى وتبريرات لكل جرائمي ضد شعبي الليبي.
لذا فإنني لم أطلب اجراء احصاء بعدد الذين قمت باعدامهم نتيجة شبهات انقلاب ضدي أو مؤامرات لم تتم أو معارضة مقصوصة الأجنحة أو تجمعات بريئة تتحدث عن هموم ليبيا!
القاضي: كيف كنت تتعامل مع القانون والدستور؟
المتهم: إن الدستور الذي أعرفه هو الكتاب الأخضر الذي أوهمت شعبي أنه يحتوي على عصارة فكر القائد، وحلا لمشكلات الدنيا كلها، وضربا موجعا للفكر الماركسي والرأسمالي والاشتراكي والاسلامي، وأنفقت من أموال النفط مئات الملايين على جعل الكتاب الأخضر أكثر قراءة من الكتب المقدسة أو تعاليم ماو أو رأس المال لكارل ماركس، وكان الأخ أحمد شحاتي يتولى رئاسة مركز الكتاب الأخضر وينفق بدون حساب.
الدستور كلمة تعني تقييدي بقوانين دولة، وعقدا اجتماعيا مع شعب له حقوق، وتنظيما لادارة شؤون الحكم والعلاقة بين الحاكم والرعية، وكل هذه الأمور خرافات وهراء لم أعترف بها يوما واحدا.
كنت، سيدي القاضي، الحكم والخصم والجلاد والسجان والقائد والأب الروحي ورسول الصحراء ومعبود هذا الشعب.
اللجان الشعبية تتابع أعمالي وزياراتي وأقوالي وأفعالي وكل ما تتفوه به شفتاي فتتحول إلى دستور غير مكتوب، وتتولى أجهزة اعلام استخراج العبقرية من الهزل، واعداد مائدة شهية من القيء، وتأهيل الاستبداد في تجميع هرمي لكل قوى الدولة الروحية والمالية والشعبية والأمنية وتصب كلها في يدي.
القانون كان صناعة في خيمتي الملونة، وما لم يصدر عني فلا تعتد به أي محاكم أو قضاة أو أجهزة الدولة متفرقة أو مجتمعة.
القاضي: وكيف كانت علاقتك بمصر وبحكامها؟
المتهم: كنت أشعر بدونية شديدة أمامهم، لذا أقوم باصدار الأوامر بين الحين والآخر بطرد العاملين المصريين الغلابة، والقائهم في الصحراء، وسرقة ونهب أموالهم البسيطة التي ادخروها بعد سنوات من العمل الشاق ثم تتوسط الحكومة المصرية، ويبعث الرئيس وسيطا غالبا ما يكون صفوت الشريف الذي حمل ملف ليبيا في العلاقات مع مصر، وتأتي مكرمتي باعادة بعض العمال المساكين إلى جنة الجماهيرية.
عندما قام رئيس تحرير مجلة طائر الشمال بزيارة إدارة الرقابة على المطبوعات في لاظوغلي عام 1990، وقابل وكيل الوزارة عبد القادر لطفي ومدير الرقابة السابق فتحي أبا زيد وسأل عن سبب منع المطبوعة من دخول مصر، قيل له بأن الخط الأحمر كان ليبيا ، وأن أي نقد للأخ العقيد معمر القذافي لا تتسامح فيه إدارة الرقابة على المطبوعات، فالعقيد يمنحنا الدعم المالي، وتوجيهات الرئاسة حاسمة في شأن عدم المس بكرامة قائد ثورة الفاتح من سبتمبر.
القاضي: هل صحيح أنك تآمرت على قتل ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز؟
المتهم: التآمر على القتل كان حرفتي، وقد سددت من ميزانية الجماهيرية مبالغ طائلة للمرتزقة والمأجورين، وأنا فعلا أحمل كراهية شديدة لآل سعود، وزادت بعدما كشف ولي العهد السعودي أمام كاميرات التلفزيون علاقاتي بأجهزة الأمن الغربية، وكاد يفضحني على الملأ وأمام شعبي.
لكن حكاية الاغتيال في لندن باطلاق صاروخ على موكبه لا تناسب اطلاقا احترافي القتل، فأنا أصدرت الأوامر باسقاط الطائرة فوق لوكربي، والفرنسية فوق النيجر، وخطفت الإمام موسى الصدر والمعارض منصور الكيخيا، وفجرت قنابل في مصر وقتلت الأبرياء وتعاملت مع الارهابيين في كل مكان، ولم أكن في حاجة لوضع خطة بلهاء مثل ضرب الموكب بصاروخ في قلب العاصمة البريطانية, فالذين حبكوا القصة حمقى ويبدو أنهم تلاميذ في مدرسة الاعلام الأمني.
القاضي: أعلن الاتحاد الليبي للمدافعين عن حقوق الإنسان وعلى مسؤوليته الأدبية والمهنية أنه يملك قائمة بأسماء 800 اسم لسجناء سياسيين قمت أنت بتوجيه الأوامر بتصفيتهم .. هل هذا صحيح؟
المتهم: نعم فقد أبلغنا أسرهم وذويهم بوفاتهم في المعتقلات والسجون، فهؤلاء كانوا خونة يعترضون على طريقة حكمي.
القاضي: لماذا قمت بالقاء تهمة التخلص من الإمام موسى الصدر على أبي نضال على الرغم من أن أبا نضال نفسه كان رجل ليبيا؟ ثم لماذا انتظرت طوال هذه السنوات لتتهم أحد رجالك؟
المتهم: لأن اللبنانيين والايرانيين صدعوا رأسي بإمامهم، وكنت أعلم أن تصفية أبي نضال حتمية سواء مني أو من صدام حسين، فقررت قذف الكرة في ملعب آخر بعيدا عن جماهيريتي.
القاضي: لماذا أردت عن طريق ابنك سيف الاسلام تقسيم ليبيا إلى ولايات صغيرة متباعدة ومتفرقة؟
المتهم: لأن الأمن كان قد أصبح معقدا ومتشابكا، وليبيا تحتل في نصفها الشمالي نصف طول شمال أفريقيا، وكان لابد من اقامة محافظات صغيرة وولايات وكانتونات تحت إمرة اللجان الشعبية وعمداء وشيوخ وزعماء قبائل حتى أضمن لنفسي ولأولادي أمنا وسلاما وطاعة لعشرات من الأعوام.
القاضي: الحصار الدولي على ليبيا كلف الخزانة أكثر من خمسين مليارا من الدولارات، وكان بسبب أعمالك الارهابية وفي مقدمتها حادثة لوكربي.
لماذا لم تعترف في بداية الحصار؟
المتهم: الحصار كان مهما بالنسبة لي، فقد لعبت دور البطل الذي ناهض ويعارض وينتقد أمريكا.
ووضعت يدي على كل دينار في خزينة الدولة بحجة الانفاق على الجماهيرية المحاصرة، وفرض العالم عزلة كبيرة مما مكنني من احكام قبضتي على كل ليبي، فالاعلام كان بعيدا، ووكالات الأنباء قاطعت ليبيا، فتمكنت من التخلص من الآلاف من الكلاب الضالة التي تتمرد على نظام حكمي.
القاضي: لكنك خضعت في النهاية لسيد البيت الأبيض، ودفعت من جهد وعرق وخيرات شعبك المليارات تعويضا عن جرائمك، وطعنت الأصدقاء في ظهورهم بتسليمك الوثائق التي كانت في حوزتك إلى أجهزة الأمن الأمريكية، وكدت ترهن نفط بلادك لشركات الاحتكار التي حاربتها أنت طويلا.. ماذا تبقى من القذافي؟
المتهم: عندما رأيت صورة صدام حسين يخرج من جرذ الفئران، ويتعرض لامتهان لم يحدث مثله منذ سقوط غرناطة، ويكشف عريف طبيب أمريكي على سقف حلقه، ويتأكد من عدم وجود قمل أو براغيث أو حشرات في شعره الأشعث الأغبر، تخيلت للحظة واحدة مصيري، وكدت أسقط مغشيا علي من هول الخوف والرعب والفزع، ولم أتصور نفسي ملقيا على الأرض تحت حذاء جندي أمريكي، فقررت بيع ما تبقى من ليبيا، ولعنة الله على الوطن والأهل والشعب، فإذا مت ظمآن فلا نزل القطر.
القاضي: كنت تقحم نفسك في كل شيء وتخصص، فأنت روائي وقصاص وأديب وسياسي وقائد وصانع عصر الانعتاق الكبير ورسول الصحراء وقائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم والمحارب، وتفسر القرآن الكريم وتصدر فتاوى نسائية وتبحث في الأصول اللغوية للكلمات بجهل وحماقة وتنهزم في كل المعارك، ومع ذلك ظل جهلك مصدر قوة لك، ومضحكاتك تأكيدا لتثبيت حكمك، فكيف بالله عليك حكمت أحفاد عمر المختار كل تلك السنوات؟
المتهم: حتى لو مسخني الله حمارا فأغلب الظن أن الشعب كله كان سيهتف باسمي، ويطيع أوامري، ويستخرج من أحط التصرفات عبقرية يهتف لصاحبها.
لقد كنت أملك السلطة والسوط ورجال الأمن وكلاب القصر أعني الخيمة، وكل هؤلاء يمثلون ضمانا لركوع الشعب أو حتى سجوده أمام طاغيته.
بعد فترة قصيرة من تولي السلطة تبدأ عملية انتفاخها ووصولها كالسرطان إلى كل مكان فلا يعرف المرء أين موضع المرض لأن الجسد كله يصبح مريضا بنفس القدر في كل موضع منه.
هل تتذكر، سيدي القاضي، عام 1999 عندما قمت بزيارة جامعة القاهرة وشرحت لرجال المستقبل في أكبر بلد عربي مفاهيم هلامية من استفراغ فكري مريض وقلت لهم بأن كلمة مافيا ترجع إلى كلمة ( معفية ) العربية لأن عصابات المافيا معفية من السلطة والمحاكمة؟الذي حدث أن طلاب الجامعة العريقة هتفوا في صوت واحد قائلين: علمنا يا عقيد علمنا!
القاضي: أنت كنت تدغدغ مشاعر الجماهير بأموال شعبك، وكنت تقذف الدولارات من نافذة سيارتك فيجري خلفها الأفارقة المساكين، فظن كل من يراك أنك ستضع يدك في جيبك أو جيوب شعبك لتدفع له إكرامية.
هل تتذكر فريق كرة القدم الألماني الذي كان يعاني من نقص في الأموال فقرر رئيسه أن يرتدي اللاعبون فانيلات عليها شعار الكتاب الأخضر، فلما نفحتهم بمليون دولار، استبدلوا بشعارك فانيلاتهم الأصلية؟
المتهم: ولكن وسائل الاعلام والمستشارين لم يكونوا أمناء معي، وأنا ظننت أن ألمانيا كلها ستقرأ الكتاب الأخضر الذي تخطيت فيه مرحلتي الاشتراكية والشيوعية إلى عصر الجماهير.
القاضي: هل أنت عبيط أم أهبل؟ كيف ستتأثر ألمانيا بشعار على صدور لاعبي أحد أنديتها 
ثم يخرج الشعب الألماني يهتف لك بالروح والدم؟ 
المتهم: لماذا لا يخرج العالم كله يهتف باسمي؟ لقد قمت بتاسيس نظرية تحرير البشرية
القاضي: وتاريخك الملوث بعمليات الاغتيال والغدر والقتل وسفك الدماء، هل هو أيضا تحرير للبشرية؟
سأذكرك بأقل القليل من جرائمك اللعينة في عمليات الاغتيال وأهمها:
*محاولة اغتيال الرائد منعم الهوني، عضو مجلس قيادة الثورة السابق.
* اغتيال محمد سالم الرتيمي في روما.
* اغتيال محمد مصطفى رمضان في لندن.
* اغتيال عبد اللطيف المنتصر في بيروت.
* اغتيال محمود عبد السلام نافع في لندن.
* اغتيال عبد الله محمد الخازمي في روما.
* اغتيال عمران المهدوي في بون.
* اغتيال محمد فؤاد أبو حجر في روما.
* اغتيال ابو بكر عبد الرحمن في أثينا.
* اغتيال عبد الحميد الريشي في روما.
* اغتيال عز الدين الحضيري في ميلانو.
كل تلك الجرائم البشعة حدثت في عام واحد فقط، ولعل ما تعرفه عدالة المحكمة أكبر بكثير.
وهنا تقدم أحد المستشارين للقاضي بورقة، فنظر إليها وعلامات الدهشة تغطي وجهه، ثم قال:وفي 11 نوفمبر 1980 قامت عناصر لجانك الثورية بتسميم طفلين في مدينة بروتسموت ببريطانيا.
وفي أواخر عام 1981 قام رجالك بتسميم السيد علي الأطيوش في اليونان.
وقام رجالك أيضا باختطاف جبريل الدينالي في المكتب الصحي الليبي في بون.
وفي يناير عام 1983 اكتشفت أجهزة الأمن المصرية خلايا ليبية لاغتيال عدد من المعارضين الليبيين لحكمك في مصر.
وفي 12 يونيو 1984 قام أحد رجال مخابراتك ويدعى لطفي العسكر باغتيال صالح أبو زيد في أثينا، وتم تهريب القاتل إلى ليبيا.
وفي ديسمبر عام 1984 فشلت محاولتك باغتيال محمد يوسف المقريف زعيم المعارضة في الخارج، وكنت وعدت بنفسك المكلف بالعملية بمبلغ مليون دولار.( المصدر في أسماء وتواريخ الاغتيالات من Libyans 4 Justice .
وطوال سنوات طويلة هي عمر حكمك المشؤوم والارهابي كنت الرجل الأول في التوجيهات بالاغتيالات، وكل الأسماء تم عرضها عليك، ولا تزال هناك مئات من أسماء الشهداء لدى المحكمة، وهؤلاء قمت بخسة ونذالة واجرام بقتلهم أو أعطيت الأوامر بتصفيتهم.
هل أحدثك عن المزيد من عمليات الاغتيال؟
المتهم: إنني، سيدي القاضي، لم اخترع ثقافة الاغتيالات، ولو لم أقم بها فلن يحترمني أكثر الزعماء العرب!
ثم إنها عادة عربية تتعامل بها السلطة مع أبناء الشعب كأنهم يحملون أرواح كلاب.
ألم يقم صدام حسين بعمليات اغتيال وتسميم لمعارضيه أكثر مما فعلت أنا؟ وكان يقطع الألسن والآذان، ويضع العراقيين في حامض الأسيد، ويتلذذ بمنظر القبور الجماعية، ويقوم بتصفيات كأنها إبادة( مثل حلبجة وانتفاضة مارس 1991)؟
ألم تقم المخابرات السورية بتصفية الخصوم، حتى ميشيل نمري رئيس تحرير مجلة ( النشرة ) قامت أجهزة الأمن السورية بقتله في أثينا.
ألم يقم جعفر النميري بأشد الجرائم بشاعة ضد شعبه، ثم أصدر كتابا عن النهج الاسلامي، وقام بتأدية مناسك الحج، وظهرت في جبهته زبيبة صلاة، وكان يقرأ القرآن الكريم بعد أن يستمع لأخبار عمليات التعذيب في معتقل كوبر؟
ألم يفعل عمر حسن البشير نفس الشيء، وأحال حياة السودانيين إلى جحيم؟
أليست سلطات الأمن التونسية مشغولة بكل تونسي يعارض الرئيس مدى الحياة زين العابدين بن علي، وتترقب وصول أي معارض، وتفتح أبواب سجونها للآلاف بتوجيهات مباشرة من القائد؟
ألم يستعبد الملك الحسن الثاني المغاربة أربعين عاما أذاقهم فيها الويلات، واحتقرهم، وتولى الاشراف بنفسه على عمليات الاغتيال ومنها المهدي بن بركة الذي أذابه في أحماض كيماوية؟
ألا تعرف المخابرات الأردنية أحلام الأردنيين وكوابيسهم، وتنتظرهم أجهزة تعذيب مستوردة من العالم المتحضر خصيصا لكي يتعلم الأردنيون آداب العبودية؟
ألم يبتهج ويسعد الرئيس حسني مبارك طوال فترة حكمه عندما كانت تأتيه أخبار التعذيب في أقسام الشرطة والمعتقلات، وكان الانتهاك والجلد والصعقات الكهربية واغتصاب الرجال ونفخهم أو اشعال النار في أجسادهم، فيزداد الرئيس طغيانا واستبدادا وتمسكا بالعرش؟
وأنا أيضا، سيدي القاضي، أحمل قائمة طويلة بطول الجبل الأخضر بأسماء المواطنين العرب الذين قضوا في سجون ومعتقلات الوطن العربي الكبير.
القاضي: وهل هذا يعفيك من المسؤولية، أو يخفف عنك العقوبة، أو يهون من شأن جرائمك؟
المتهم: لكنني كنت قائد ثورة، وفي جماهيرتي مؤتمرات شبه يومية يؤمها في العام الواحد آلاف من صناع الكلمة وحملة الضمير من مثقفين وعلماء ورجال دين وسلطة وأكاديميين ومسؤولين، وكلهم يعتبرونني حالة من الحلم العربي للاستقلال والحرية ومناهضة الامبريالية.
القاضي: أنت كنت تشتري بأموال شعبك الشعوب الأخرى، ولك أن تنظر ماذا فعلت يداك الملوثتان دما في أفريقيا؟
قمت بدعم الاستبداد، وأطلت في أعمار الأنظمة الارهابية، وانتهجت سياسة فرق تسد، وأهدرت أموال شعبك المسكين، ولم تكن تعرف إن كنت عربيا أم أفريقيا أم من الهنود الحمر أم تريد الانضمام لحلف وارسو.
المتهم: كان الليبيون يخرجون في مظاهرات تجوب الجماهيرية طولا وعرضا، ويؤيدون أي قرار حتى لو سببتهم أو لعنتهم أو وصفتهم بأنهم كالماعز. كنت وأولادي نستعبدهم وهم في لذة وهاجة، ومتعة شديدة في أن يمنحوني رقابهم.
القاضي: لأنهم كانوا يخشون أجهزة أمنك التي لا ترحم أو ترأف أو تعفو عن أي معارض. هل نسيت المذابح الجماعية التي قمت بها ضد أبناء ليبيا، وفي مقدمتها مذبحة سجن أبي سليم؟
.. ومع ذلك كنت تظن حقا أنك نبي هذا العصر، أليس كذلك؟
المتهم: صدقني، سيدي القاضي، إن قلت لعدالة المحكمة بأنني لم أصنع نفسي لكن الجماهير هي التي صنعتني هكذا ..
قدمت كتابي الأخضر وقلت بأنه يشبه البشارة، وأن العالم في حاجة إلى نبي جديد، فجاءت اللجان الثورية لتصبغ علي هذا الوصف، ثم تم تخفيفه إلى رسول الصحراء.
قلت لهم بأن مئة وسبعين طائرة معادية حلقت في سماء طرابلس، وضربت ليبيا وشعبي وخيمتي في سبيل احراق مسودة كتابي، فصدقني الليبيون!
صنعت لهم عالما من الفوضى، فاعتبروها عبقرية في الحكم.
ألغيت مهنة المحاماة إثر خطاب زوارة الشهير، فصمت كل محاميي العالم، والتزم السكوت رجال القانون العرب.
ألقيت بالتونسين والمصريين والفلسطينيين والسودانيين في قلب الصحراء الحارقة، فلم يعترض زعيم عربي واحد على امتهاني لكرامة رعاياه، وهم يستقبلونني استقبال الأبطال!
خضت حربا فاشلة في تشاد ضد قوى بدائية مسلحة بالعصي وفروع الشجر وبنادق أنتيكية، فشكرني شعبي على الانتصار الساحق.
أحلت حياة المصريين إلى جحيم، وفجرت قنابل، وزرعت الرعب في أرض الكنانة، وأمرت بسرقة ونهب واذلال المواطنين المصريين العاملين في جماهيرتي، وكانت النتيجة أن الرئيس حسني مبارك يتودد إلى، ويأتي فورا عندما أغضب، ويطلب من سكان مرسى مطروح استقبالي كبطل محرر.
أثرت متاعب في الصحراء، وقمت بدعم الصحراويين في جمهوريتهم بدلا من عودتهم إلى الوطن الأم .. المغرب، وأنفقت من أموال شعبي على إثارة القلاقل والمتاعب للمغرب، فساد صمت مريب في العالم العربي، ولم يعاتبني زعيم واحد.
أشعلت النار في لبنان، وسعيت لفتنة طائفية، وقمت بدعم كل الأطراف، وخطفت زعيما شيعيا كبيرا ومفكرا رائعا، وقمت بتصفيته، فلم يقبل معظم الزعماء العرب أن تتهمني الصحافة أو تشير صراحة إلى جريمتي!
قتلت ألفا ومئتي مواطن ليبي في سجن واحد فقط، فصدرت التوجيهات من القيادات العربية بعدم الاشارة إلى جريمتي.
أوهمت شعبي بأن هناك مشروعا ضخما يعادل سور الصين العظيم وهو النهر الصناعي العظيم المنبثق عن فكر قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم في الجماهيرية العظيمة، وأهدرت مليارات من قوت شعبي، ولم يحاسبني أحد.
قمت بمحاولة احتلال مدينة( قفصة) التونسية، ودبرت محاولات اغتيال عشرات من السياسيين التونسيين، لكن تونس الخضراء تفتح ذراعيها ي، ويعانقني بحرارة استقبال علانية الرئيس التونسي، ويعمل لدي آلاف من التونسيين رقم الفقر الذي يعيش فيه ثلثا الليبيين.
القاضي: وماذا عن علاقتك باسرائيل؟
المتهم: ظاهريا كنت المناضل الذي يحارب الكيان الصهيوني، ويفتح أرضه وسماءه للفلسطينيين، ويدرب رجال المقاومة.
أما الحقيقة فقد أبديت اعجابي بالدولة العبرية، بل إنني طلبت من أحد أصدقائي اليهود ترتيب زيارة حجاج ليبيين لبيت المقدس، وكان أكثرهم من رجال الأمن والاستخبارات، وطلبت من المقاومة الفلسطينية في لبنان الانتحار والصمود حتى تتولى اسرائيل تصفيتهم، وقذفت بآلاف الفلسطينيين إلى الصحراء في العراء، ثم قلت بأنني أفعل هذا من أجلهم، وعلى استعداد لنصب خيمتي الملونة بجوار خيامهم، فاعتبرني شعبي بطلا نبيا يسحر الجميع بعبقرية أفكاره.
القاضي: أكنت حقا تظن نفسك نبيا كما وصفتك الصحفية الايطالية ميريلا بيانكو في كتابها ( القذافي رسول الصحراء)؟
المتهم: الأنبياء لهم رسائل تنزل عليهم من السماء، أما أنا فقد صنعت رسالتي بنفسي، ومن يتابع المشهد القذافي في شطر منه لا يخالجه أدنى شك في أنني أعتبر نفسي أعلى قدرا ومقاما ورسالة سامية من الأنبياء أنفسهم.
لهذا عندما فسرت كلمة كن فيكون وكان ذلك في بنغازي خلال انعقاد مجلس اتحاد الجامعات العربية في فبراير عام 1990، كانت رسالتي واضحة للجميع بأنني أكثر قداسة والهاما وعبقرية وأهمية من كل الأنبياء والرسل الذين جاءوا قبلي.
القاضي: ما هي عدد محاولات الانقلاب التي قمت بها ضد الدول الأخرى والأنظمة العربية والأفريقية وباءت بالفشل؟
المتهم: لا أتذكر لكنها قد تكون مئة أو أكثر أو اقل.
القاضي: كيف كان رد فعلك عندما غزا العراقيون دولة الكويت المستقلة والعضو في جامعة الدول العربية؟
المتهم: كنت سعيدا للغاية رغم كراهيتي لصدام حسين، وزايدت على أبي عمار الذي طالب بانتخابات جديدة في الكويت أملا في أن لا يعود آل الصباح لتولي مقاليد الحكم، فقلت قولتي المشهورة بأن الكويت دولة كرتونية، وطالبت بتقسيمها بين العراق والسعودية.
القاضي: ومع ذلك التف كل الكويتيين في مؤتمر جدة الشهير في أكتوبر عام 1990 حول آل الصباح كشرعية دستورية وشعبية حاكمة، ونفذ الأمير وولي العهد تعهدهما للشعب بالتحرير بأي ثمن، ولو كنت أنت مكانهما لما أعادك الليبيون إلى بلدك إلا مكبلا بالأصفاد، أليس كذلك؟
المتهم: إنني أكره الخليجيين كراهية شديدة فهم يبحثون عن السلام والأمن وتطوير مجتمعاتهم، ولا يثيرون متاعب مع الجيران ولا يبعثون فرق تصفية لخصومهم، وهذا يعريني أمام شعبي وأمام العالم كله بأنني مشاغب ومشاكس دون أي نتائج أو انتصارات أو تطور ملموس يشعر به الليبيون.
كيف بدأت عمليات اغتيال معارضيك في الخارج؟
المتهم: لقد طلبت منهم في يونيو عام 1981 أن يعودوا إلى ليبيا في مقابل العفو عنهم، ثم بعد ذلك أصبحت في حل من وعدي وطلبت من اثنين من رجالي، هما سليم حجازي والسنوسي، أن يقوما بعمل فرق اغتيال لتصفية هؤلاء الكلاب، وفعلا نجحنا في قتل العشرات في معظم العواصم الأوروبية، وهذا جزاء من يعارض حكم معمر القذافي.
القاضي: في نفس العام قام أحد الفرنسيين يعاونه بلجيكي يدعى دونيه بمحاولة بيع نفايات نووية إلى ليبيا بمبلغ 400 مليون دولار، فهل تمت العملية؟
المتهم: لم تتم، وصحيح أن آلافا من المستغلين والمنتفعين والمرتزقة جنوا ثروات طائلة من نظام حكمي، لكن كل هذا تم بمعرفتي ورضاي، أما النفايات النووية فلم نقدم على شرائها، والفرنسي الآخر الذي باعنا أنابيب مجوفة على أنها شحنة من السلاح قمنا بتصفيته وشريكه الليبي، فالقتل بالنسبة لي كنسمة هواء صيف تهب على وجهي من خليج سرت وأنا أجلس في خيمتي وأشرب حليب الناقة.
القاضي: عميل المخابرات الأمريكية اودين ويلسون قال بأن الأمريكيين كانوا يحقنون الملك إدريس السنوسي وهو مريض بمضادات حيوية، وأقنعوه بالسفر إلى تركيا ليتصلوا بدورهم بالشرطة العسكرية في محاولة انقلاب فاشلة، في نفس الوقت الذي قمت أنت بانقلابك فظن رجال الجيش والأمن أنهم مشتركون في هذا الانقلاب عام 1969، هل هذا صحيح؟
المتهم: فيه كثير من الصحة، فالملك الراحل الحسين بن طلال كان قد مر بنفس الظروف العصيبة التي يمكن للمريض وهو يحتضر أن يتم حقنه بمضادات حيوية بالغة التعقيد. فكان أن عاد إلى العاصمة الأردنية وركل أخاه الأمير الحسن بن طلال، وقام بتعيين عبد الله بن الحسين، ثم عاد إلى فراش الموت في أمريكا.
التعاون بيننا وبين المخابرات الأمريكية كان قائما على قدم وساق، وكان الملك السنوسي بالفعل قد دعم مصر خلال حرب يونيو عام 1967، لكن أجهزة إعلامي حجبت الحقائق عن الشعب الليبي وأوحت إلى الذاكرة الليبية والعربية بأن العدوان على مصر قام من قاعدة ويلز بدعم ملكي.
والمخابرات الأمريكية بدأت في التآمر على نظامنا عندما اقتربنا أكثر من الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية في ذلك الوقت.
القاضي: كيف كانت المخابرات الليبية تنفق كل هذه الأموال دون رقيب أو حساب؟
المتهم: أنا قائد الثورة والوحيد المؤهل لحكم ليبيا، وأوامري لا يعصيها إلا من يتهاون في شأن زيارة ملك الموت له.
وأموال ليبيا كلها تحت إمرتي، ولكن هذا لم يمنع وجود غطاءات سرية لتسهيل بعض الأمور، ومنها مثلا أن تسديد مبالغ كبيرة في عمليات سرية كانت تتم من ( مكتب التجارة الأفريقي ) وهو مكتب وهمي تديره أجهزة استخباراتي.
القاضي: كيف سحب عمر المحيشي أموال المخابرات الليبية من حسابات سرية في جنيف؟
لمتهم: كانت لديه الصلاحيات والثقة رغم أنني نادرا ما أثق في أحد، وأقوم بتبديل مواقع رجالي صعودا وهبوطا حتى تصبح أرواحهم في قبضتي، وأظن أن معظم زملائي في مهنة الطغيان في العالم العربي يفعلون نفس الشيء.
القاضي: كانت لديكم قدرة على استضافة مئات الوفود من حركات التقدم والثورة والتمرد في العالم كله، منهم الصادقون وأكثرهم من المرتزقة الوصوليين. كيف كنتم تفرقون بينهم وتمنحونهم الدعم المالي، وعلى أي أساس؟
المتهم: كانت تحت يدي أموال النفط بالمليارات، ونحن بلد صغير وطموحاتي أكبر من طموحات قادة الدول العظمى، لذا لم يكن أمامي غير انفاق المليارات لكي تظل زعامتي قائمة، وصورتي في وسائل الاعلام الغربية والأمريكية لا تفارق عيون المشاهدين والقراء والمتابعين لأخبار ونشاطات زعماء العالم.
القاضي: يقال بأن الإمام موسى الصدر ناقشك في أمور خاصة بالسنة والشيعة، وطلب منك رفع يديك عن لبنان، فقررت تصفيته، هل هذا صحيح؟
المتهم: سيدي القاضي، ليس المهم سبب القتل، ولكن الأهم أن ازهاق روح مواطن أو رجل دين أو ضيف أو معارض أو صديق أو رفيق في الثورة جعل فترة حكمي تطول، فالناس بطبيعتها تركن إلى الخوف، وكان لابد أن يتناقل الليبيون حكايات التصفية والتعذيب والقتل والمطاردة ليصمت كل من تسول له نفسه حلم المعارضة ولو كان يعمل في مكان مجهول في قرية صغيرة في أقاصي الأرض.
وكما كان من حق الكويتيين أن يقدموا أدلة ومستندات ووثائق تدين صدام حسين في محاكمته فإن اللبنانيين، كما أنا توقعت، قدموا لعدالة المحكمة مئات الوثائق عما فعلته أنا بهم في وطنهم الذي مزقته الحرب الأهلية ولم تكن أموالي بعيدة عن اشعالها.
القاضي: كيف كانت علاقتك بالاسلام؟
المتهم: كنت أشعر بغيرة شديدة من نبي الاسلام نفسه، لذا طالبت بأن يكون القرآن الكريم المصدر الوحيد الذي يأخذ منه المسلم دينه..
ثم أمرت بالغاء التاريخ الهجري فهو يمثل انتصار الرسالة المحمدية على قوى البغي وجعلت تاريخ الوفاة بديلا له فهو يمثل لي انتهاء عصر آخر الأنبياء.
إنني كما أكدت اللجان الشعبية نبي العصر، ومفجر النهضة، وواضع الكتاب الأخضر المقدس، وصانع الانعتاق النهائي، وأنا كما وصفني المثقفون والمفكرون في العالمين العربي والاسلامي سياسي وعسكري وقائد ومخطط حروب وقصاص وروائي( وصف الدكتور سمير سرحان رواياتي بأنها تعبر عن عبقرية فلسفية) ورسول الصحراء والزعيم الملهم والفيلسوف والمفكر حتى الأغاني قررت في فترة تجليات صافية كتابتها لكنني عدلت في اللحظة الأخيرة.
لذا أتعجب أنني الآن في قفص الاتهام، أما الذين صنعوني فلم توجه لهم النيابة أصابع الاتهام.
إنهم هناك، سيدي القاضي، يستعدون لصناعة نفس البطل، ويلهمون الأحمق أفكار الهلوسة، وينفخون في صورته، ويركعون لسخافاته، ويسجدون لملكوته وقوته.
كم وددت أن تأمروا باحضار عشرات الالاف من الذين كانوا سياجا يتولى حمايتي،وسوطا يلهب ظهر الشعب الليبي، ولسانا يردد الأكاذيب والأباطيل، وسجّانا يقف على بوابة الوطن السجن لحراسة أبناء شعبي خشية هروبهم من الجماهيرية الجحيم.
القاضي: الطغاة في أي مكان في العالم ليسوا في حاجة للبحث عن مؤيدين وجبناء وسجانين وهذا لا علاقة له بطبيعة الشعب، فهتلر صنع من الشعب الأكثر تحضرا نازية عنصرية قاسية، وستالين لم يرف له جفن وهو يقتل ستة ملايين روسي ويستعين بأبناء شعبه لزيادة عدد ضحاياه من أهلهم وذويهم، وبول بوت كان يشير باصبعه فيطيعه ذئاب مفترسة من الكمبوديين حتى كاد أن يقضي على نصف السكان بواسطة النصف الآخر، وسوموزا في نيكاراجوا حكم وأسرته البلاد المنكوبة لأكثر من أربعين عاما، وسالازار في البرتغال اكتظت سجونه بخيرة أبناء شعبه، وشاه إيران صنع من عرش الطاووس سافاكا يسمع نبضات قلوب الايرانيين حتى قيل بأن ربع الشعب الايراني كان منخرطا في أجهزة الأمن الأكثر غلظة فلما خرج الايرانيون كلهم لاستقبال الخوميني العائد المنتصر باسم الاسلام والطهارة والعفة والوحدانية لم تكلف الثورة رجالا لحراستها فتطوع مئات الالاف وحدثت عشرات الالاف من التجاوزات والمحاكم السريعة التي كانت تستغرق أحيانا دقيقتين فيصدر الخلخالي حكما باعدام المتهمين.
ألم تكن في كل بيت عراقي عيون لشيطان بغداد من أهل البيت أنفسهم؟
من الذي خمد ثورة مارس عام 1991 في العراق؟ ألم يكونوا جنودا قساة بلغ عددهم عشرات الالاف فذبحوا وعذبوا وقتلوا ودمروا وتباروا في قطع رؤوس الأطفال؟
الطاغية في أي مكان وزمان لا يحتاج للبحث عن جبناء وأنذال ووحوش مفترسة تنهش لحوم أبناء شعبه لأنهم يتطوعون من تلقاء أنفسهم للدفاع عن المستبد.
المتهم: لكنني، سيدي القاضي، لم أعثر على معارضين بحجم سطوتي وكثرة جرائمي ضد أبناء الشعب.
القاضي: أنت كاذب وجاهل، فالليبيون رغم أن ثلثيهم لم يعرفوا غير نظام حكمك الجائر استطاعوا صناعة معارضة شريفة، وقدموا للوطن آلاف الشهداء، وتفرقوا في الأرض والغربة ليعيدوا تجميع أنفسهم أفرادا أو جماعات لمعارضة طغيانك واستبدادك، وحرضوا عليك، وقدموا لمنظمات حقوق الانسان وثائق تدينك، وقاموا بفضح أكاذيبك، وفندوا أباطيل إعلامك.
الآن حدثني عن عمليات الاختفاء القسري التي مارسها نظامك العفن وتفوق فيها على كل جمهوريات الموز المعروفة بظاهرة الاختفاء.
المتهم: لقد جرى العرف في عالمنا العربي أن يأتي زائر الفجر ويطرق الباب فتنهض الأسرة من نومها مذعورة، لكن ضابطا يصطنع الأدب يتقدم مهدئا من روع أفراد الأسرة ويطلب معيلها أو أحد أبنائها لزيارة مركز الأمن ولن يستغرق الأمر ساعتين أو يزيد بقليل، ثم يعود إلى أهله وأحضانهم الدافئة ليمارس حياته العادية.
مسرحية سخيفة يكررها جلاوزة الأمن والضباط والمخبرون والمرشدون في معظم دول وطننا العربي الكبير الممتد من بحر الغزال إلى سد أتاتورك، ومن طنب الكبرى إلى جزيرة الخالدات مرورا بجزيرة حنيش وليلى وسبتة ومليلة.. فالرجل لا يعود إلى أهله إلا أن تحدث معجزة أو يقوم عزرائيل بزيارة زعيم البلد قبل أن يعرج على رب الأسرة المعتقل.
أما رجالي، سيدي القاضي، فهم يفهمون قائدهم، ويحققون رغباتي في إذلال كل أفراد الأسرة لدى زيارتهم المشؤومة في عتمة الليل أو ضوء القمر، فيتم جر المواطن على بطنه أو ظهره، ويتولى رجالي الضرب بأعقاب البنادق وتوزيع الشتائم والتهديدات، ثم تبتلعهم الأرض ليظهروا فجأة في واحد من المعتقلات الكثيرة، فوق الأرض أو تحتها، والممتدة من طبرق إلى العزيزية، ومن الجبل الأخضر إلى غدامس أو الحدود التشادية.
وهنا يبدأ الجحيم الأرضي الذي لم ينافسني فيه زعيم آخر، وإذا كان معتقل ( كوبر) ينزل الرعب في قلوب السودانيين، و(الجفرا) يزلزل كيان الأردنيين، و( تدمر ) يجعل السوريين يشتاقون إلى جهنم لعلها أكثر رحمة منه، و( تزمامرت ) يقف شامخا في المغرب معتزا بأنه نتاج عبقرية الحسن الثاني في انزال أقسى العذاب بمعارضيه، و( وأبو غريب ) يشهد العالم على أنه في عهديه التكريتي والأمريكي الأكثر شهرة عن ظلم الانسان لأخيه الانسان، فإن سجوني ومعتقلاتي ستشهد يوم الحشر كل جدرانها بأنها صناعة قذافية لم يصل لمثلها إنس أو جان في صنوف التعذيب والتنكيل والاذلال والمهانة.
القاضي: ساديتك جعلتك لا تَمُتّ من قريب أو من بعيد للأرض الطيبة التي أخرجت من بطنها عمر المختار وقاومت الغزاة وصنعت مناضلين وشعراء وأدباء وعلماء ومؤرخين وجنودا بررة بالوطن.
المتهم: كنت أكره الليبيين كراهية شديدة، وأصفهم بصفات دنيئة دون أن ينبس أحدهم ببنت شفة، وأمعن في سياسة الاختطاف والاختفاء القسري لعل أهلهم وذويهم وأحبابهم يتعذبون أيضا فتزداد نشوتي، وتسجل لجان حقوق الانسان ملفاتي لديها كواحدة من أهم تجاوزات الأنظمة المستبدة فتنتعش نفسي وأعرف أن رجالي قاموا بالواجب على أكمل وجه.
كنت أرى الاختطاف عذابا مضاعفا للأسرة وللأحباب وللأصدقاء، فهم لا يعرفون أين ذهبنا بالمختطف والمرتهن لدينا، وتبدأ عملية اذلال العائلة في تنقلاتها من سجن إلى آخر ومن مسؤول إلى ثان ورابع وعاشر، وترفع إلى الشكاوى ورسائل الاستجداء وبرقيات الاستغاثة فيزيدني عذاب الشعب نشوة وبهجة.
قمنا بخطف الدكتور عمرو النامي الأستاذ الجامعي المرموق، وامعانا في تعذيب أسرته حدث الاختطاف من بيته وأمام أفراد العائلة.
ما الشيخ محمد البشتي فقد رأينا أن الاختطاف ينبغي أن يتم من داخل المسجد وأمام المصلين ليتعلم الليبيون أن لا قداسة لأحد في عهدي، وأن شيخهم الذي كان يقف خاشعا أمام الله تستطيع أجهزة أمن الجماهيرية أن تنتزعه من صلاته ونسكه وبيت الرحمن دون توجيه أي تهمة. ولم تكن، سيدي القاضي، البيوت والمساجد فقط هي الأماكن المفضلة لدينا لاختطاف المواطنين، فقد اخترنا فندقا فاخرا في عاصمة الفاطميين لنمارس فيه لعبة الاختطاف والاختفاء القسري، وكان هذه المرة وزير الخارجية الأسبق منصور الكيخيا لأنه تجرأ واستعد لحضور اجتماعات المنظمة العربية لحقوق الانسان.
أما الصحفي الفلسطيني جهاد عبد الله فقد رأينا أن الاختطاف ينبغي أن يتم في مقر عمله، وفي العاصمة الجميلة أبو ظبي حيث الأمن والأمان اللذين صنعهما الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان معذرة، سيدي القاضي، فذاكرتي لا تسمح لي أن أستدعي منها مئات الحالات من الاختفاء القسري الذي برع فيه نظامنا.
القاضي: لقد كنت أنت أكثر المسؤولين العرب جبنا بعد القبض على صدام حسين، وانكشف المستور، وكان من المفترض أن يثور الشعب وتتوحد المقاومة وتصبح المعارضة في الخارج يدا واحدة بعدما اتضح أنك تبيع الوطن أرضا ونفطا ووثائق وأسرارا واصدقاء وكرامة واستقلالا، فكيف استمر حكمك فترة أخرى بعد تعريتك في تعويضات لوكيربي؟
المتهم: لأن الزمن رؤية نسبية، فالشعوب تنتظر سنوات طويلة حتى يجمعها زعيم، والزعيم يتردد طويلا حتى يتأكد من أن الشعب لن يخذله.
كان من الممكن أن تدعو المعارضة إلى عصيان مدني بعد عام وتعد له متكاتفة وشارحة لكل ليبي في الداخل أو في الخارج أهمية هذا اليوم.
حتى لو علم الطاغية والمستبد والقائد بموعد العصيان المدني قبله بعام واستخدم كل ما يملك من اسلحة أمنية واعلامية وتخطيطات في مركز الاستخبارات الأمريكية أو الموساد أو غيره، فإن العصيان المدني كان يمكن أن يطيح بي بعد وقت قصير من كشف سوءاتي بعيد تسليمي الوطن إلى الأمريكيين. كلنا مشتركون في جريمة اغتصاب الوطن، وإذا كنت أنا المتهم الرئيس فأنتم أيضا، سيدي القاضي، في قفص الاتهام معي. كيف صمتم عدة عقود وكل منكم يملك الأدلة القاطعة والبراهين الموثقة على جرائمي؟
ستقولون بأنكم خائفون من أجهزة أمني ومخابراتي وكلاب خيمتي وذئاب سلطتي، ونسيتم أو تناسيتم أنهم أهل لكم وأقارب وأحباب وأصدقاء وزملاء ومعارف ..
نعم، لقد جعلتكم في النهاية في مؤخرة صف الباحثين عن مكان في زمن يضرب بوش وشارون مؤخرة أي معارض أو مناضل أو وطني ..
وزرعت الرعب في قلوبكم، وأهدرت خيراتكم، وبددت ثرواتكم، وصنعت جيلين من المخدرين والمغيبين وحمقى التظاهرات اليومية ..
لكنكم، سيدي القاضي، مجرمون أيضا ومشتركون معي في اغتيال الوطن. لقد انتظرتم طويلا بعد أن أوشكت على رهن الوطن وشعبي في مزاد علني. وهنا ارتعشت يدا القاضي، واهتز جسده، وأغرورقت عيناه بدموع الحزن أو الأسف أو الغضب، وفتح فاه بصعوبة بالغة موجها حديثه للمتهم معمر القذافي قائللا:الحكم بعد المداولة!

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

ولكن عزرائيل لا يزور ميونيخ



سيدي الرئيس حسني مبارك ...
كان ملك الموت يقترب منك حتى يلامسك، ثم يبتعد خطوتين وبعدها يعود ليطرق بابك.
وكانت قلوب الملايين من أبناء شعبك معه، تشجعه، وتشد من أزره، وتدعوه لحسم الأمر فهم ينتظرون على جمرات كأنهن قطع من الجحيم.
كانت مصر كلها، تقريبا، تنتظر بيانا صادرا من السماء إلى الأرض ينهي عذاب ثلاثة وعشرين عاما من عمر وطن انصهرت فيه أوطان، وذابت في جوانبه حضارات، وتتلمذ على يديه تاريخ العالم، وصنعته عبقرية الجغرافيا، واحتضنه النيل الأسمر وهو يروي عطش الأرض الطيبة، ثم وافيا بوعده الذي قطعه منذ اللازمن، بأنه واهب الحياة للمصريين حتى لو حاول الطغاة نزعها منهم.
سيدي الرئيس ..
هل صدقت ما نقلوه لك بأن الملايين من أبناء شعبك يبتهلون للعلي القدير أن يعيدك إلى قصرك، ويكمل بك معجزة الانجازات في ولاية خامسة تمتد حتى يبلغ عمرك المديد ثلاثة وثمانين عاما؟
هل صدقت أن مصر لا تنام، وأن أهلنا سيصبحون يتامى بدونك، وأن أرض الكنانة بعدك صكت وجهها وقالت عجوز عقيم، والحقيقة أننا لا ندري أشر أريد بمن في مصر أم أراد بهم رهم خيرا؟
هل صدقت عندما قصوا على مسامعك من أنباء أنهار من الدموع أغرورقت بها عيون مواطنيك الذين قضيت سنوات حكمك كلها تحافظ على كرامتهم وخيراتهم وأموالهم ورزقهم وعملهم وحريتهم واستقلالهم حتى باتوا لا يستطيعون تصور مشهد مصر بعد رحيلك؟
هل صدقت اللافتات التي ملأت كل شوارع مصر تحمد الله على عودتك سالما، وتستعد لتكملة الحلم المصري الجميل الذي صنعته في ثلاثة وعشرين عاما فجعلت أبناء وطنك يتصالحون مع الزمن، وتغدق عليهم خيرات وطنهم من سمنها وعسلها ولبنها بفضل عبقرية حكمك التي جعلت كل أيام رعاياك أعيادا؟
سيدي الرئيس.. إن كنت قد صدقت كلمة واحدة مما سمعته أذناك فقد أحكم لك المنافقون والأفاقون العقدة التي لا حل لها، فمصر كلها، شعبا وأرضا وبحرا ونهرا وسماء، كانت تبتهل للواحد القهار أن يستدعيك على عجل، وأن ينتهي زمن حزين يائس مكفهر مغبر كأنه سقط سهوا من جهنم بقيظها وجمرها وصراخ من فيها وأنين من يقترب منها.
كم وددت، سيدي الرئيس، أن استمع إليك وأنت على فراش أبيض في المدينة الألمانية الجميلة تتضرع إلى خالقك، وتدعوه أن يمن عليك بالشفاء لعلك تستطيع فيما بقي لك من عمر أن تعتذر لشعبك، وتطلب الصفح من رعاياك، وتصارحهم بأنك آذيتهم كثيرا، وتركت أمانة الوطن في أيدي لصوص وحيتان وذئاب مفترسة، واخترت من مواطنيك الأكثر فشلا وسوءا لتقبض بأصابعهم على رقاب أبنائك المصريين.
هل يمكن أن تكون هناك لحظة صدق في حياتك تصفو بها نفسك، وتسمو بها روحك، ويستيقظ معها ضميرك، لتكتشف أنك كنت تعرف تفاصيل مئات الحالات من التعذيب والاهانة والاذلال والقهر واغتصاب الرجال وتعليقهم من أرجلهم في سلخانات الشرطة، بل وصل الأمر بأحد ضباط الشرطة أن يسكب الكيروسين على جسد مواطن مسكين، ثم يشعل فيه النار وهو نائم في التخشيبة ليؤكد له أن المواطن حشرة في عهد السيد الرئيس حسني مبارك، وأن الرئيس يعلم بأكثر تفاصيل الجحيم الذي يتعرض له مواطنوه، بل كنت، سيدي الرئيس، تطغى، وتحتقر شعبك، وتتحدى مشاعره عندما أمرت بترقية ثلاثة ضباط شرطة متهمين بتعذيب وقتل بعض مواطنيك.
هل تظن أن أهل وذوي وأقارب وأحباب المعذبين في الأرض، والمهانين بين أيدي رجال أمنك، والمغتصبين الذين كان ضباط شرطة يهددون بعضهم بوضع العصا في فتحة الشرج أمام الأم أو الأب أو الابن امعانا في الاذلال، وهم يعلمون جيدا أن ضوءا أخضر من القصر الجمهوري بعابدين أو قصرك المعمور بالخيرات في شرم الشيخ يمنحهم هذا الحق، كانوا يدعون العزيز الوهاب بعودتك سالما من رحلة الموت والحياة؟
كان الوطن الطيب هو الذي انزلق غضروفه، والتوى ظهره، وانحنت قامته، وأغبر وجهه، وتلوث هواءه، ونهبت مصارفه، وأكل الأمراض جسده، وعبث لصوص عهدك في كل شبر منه.
على الرغم من أنني في كل ليلة طوال خمس عشرة سنة أحلم بلحظة شجاعة نادرة يلهمك إياها القدر، فتقدم استقالتك لأن المهمة أكبر منك، وأن مصر العظيمة الولادة تستطيع أن تخرج من بطنها بدون آلام الطلق عباقرة في كل المجالات يستطيع أي منهم أن يحل محلك، ويأخذ بيد مصر الطاهرة، ويخفف عنها، ويزيل ما علق بها من فساد وبيروقراطية واستبداد وطغيان، وأكتشف أن أحلام اليقظة يمكن أن تتسلل خفية إلى رؤى الليل، ولكن مرة واحدة تعلقت عيناي بالشاشة الصغيرة، وأرهفت السمع لساعات طويلة منتظرا بيانك الشجاع وذلك عندما صدر أكبر قرار إدانة لعهدك الأكثر فسادا منذ قرنين، وجاء القرار من مكان قريب من صناعة القرار المالي في أوروبا .. من زيورخ حيث حصلت مصر على الصفر المونديالي.
خدعوك، سيدي الرئيس، وأنفقوا من أموال أهلنا مئات الملايين، وقالوا لك بأن مصر في عهدك تستطيع أن تفرك مصباح علاء الدين فيخرج مارد يعرفك، ويقنع العالم كله بأن مصر مبارك قادرة على استضافة المونديال قبل عام واحد من انتهاء فترة ولايتك الخامسة مع افتراض أن مبارك الصغير يستطيع أن يصبر على مُلك أعده له والده وزينته له والدته، وجند الحزب الوطني مئة ألف من الشباب الغض والساذج والأحمق استعدادا ليوم يجوبون أرض الكنانة هاتفين بحياة زعيمهم الشاب .. أمل مصر كما سيكتب رؤساء تحرير الصحف القومية في مانشيتاتهم.
حدثني، سيدي الرئيس، عن مشاعرك وأحاسيسك يوم قال الطفل في زيوريخ: الإمبراطور عريان!
لن أحدثك عن جنوب أفريقيا وعبقرية نيلسون مانديلا( رغم أن بلده لا يتمتع بأي أمن، ولن يوفر الأمان لضيوف المونديال)، ولن أسمعك حديثا مطولا عن المغرب الذي نهبه الحسن الثاني، وأفقر ثلثي شعبه، وجعل حلم شبابه الهروب بزوارق الموت لعل شرطة اسبانيا أو قاع البحر تكون أكثر رحمة من نظام سياسي متغطرس وفاشل صنعه أمير المؤمنين طوال أربعين عاما..
لكنني أحدثك عن رجالك المنافقين والكذابين والجبناء الذين صنعتهم لحمايتك، وعبدوك لحماية أنفسهم.
صوت واحد يتيم لم يذهب إلى مصر رغم أن الدكتور علي الدين هلال قام بتذكير أعضاء اللجنة باهتمام الرئيس مبارك، وأوحى إليك رجالك بأن الدنيا كلها ستصوت لمصر من أجلك، ولو كان من حق الجن والملائكة وسكان الكواكب الأخرى أن يصوتوا لما تأخر أحدهم عن منحك صوته.
أراك ربما قد تصببت عرقا، وطلبت فورا مستشاريك لكي يهمسوا في أذنك بكلمات ثناء ومديح، ويقنعونك بأنها مؤامرة ضد دور مصر، وأن صفر المونديال كان يمكن أن يتحول إلى أربعة وعشرين لو تعرف الأعضاء على عبقريتك!
وطال انتظاري لقرارك الشجاع، واعترافك الأشجع بأنك مُنيت بهزيمة نكراء، وأن مصر العظيمة التي كان اسمها يتردد في جنبات كل المؤتمرات الدولية فتكون اشارة البدء على نجاح المؤتمر.
في أشد أوقات المحن العصيبة عندما أصيب الوطن في ستة أيام وست ليال سوداء بدأت صباح الخامس من يونيو عام 1967 بهزيمة ونكسة شَمّتَتْ بنا الغرب والشرق وبعض الأصدقاء، انعقد مؤتمر القمة العربي في الخرطوم، وكانت المفاجأة أن مصر المهزومة حتى النخاع أكبر بكثير مما يتصور خصومها وأعداؤها.
في عهدك الذي لم يشهد حربا أو نفقات اضافية أو ازالة آثار العدوان أو مقاطعة مشروع مثلما فعلت أمريكا في السد العالي كان الخير يتدفق على الشعب الصابر، ويقوم ملايين المصريين في الخارج بتحويل المليارات من العملات الصعبة إلى مصارف مصر، وتنازلت دول الخليج في حرب تحرير الكويت عن ستة وعشرين مليارا من الدولارات، ومنحتنا الادارة الأمريكية دعما سخيا في كل عام في مقابل صمت أو وساطة بين القاتل والقتيل في فلسطين، أو انقاذ اقتصاد الكيان الصهيوني العنصري بمده بالبترول أو بتفريغ بضائعه في حالة الاضراب.. ولم ننس دخل قناة السويس والتصدير والمليارات التي جاءتنا من أوروبا واليابان ودول الخليج وهيئات الدعم الدولية ودخلت مغارة علي بابا، ولم يكن الأربعون حرامي في حاجة لمعرفة كلمة السر: افتح يا سمسم.
لأن سمسم كان مختبئا في نظام أعوج متغطرس يزدري المصريين، ويهدر أموالهم، ويصنع من الجمال قبحا، ومن العلم جهلا، ومن الاعلام اعاقة ذهنية، ومن السياحة تسولا، ومن المخدرات ربع مليون مدمن، ومن البنوك والمصارف مرشدا لكيفية تحويل الفهلوة إلى عمل محترم، والاقتراض بدون ضمانات إلى الخروج من باب كبار الزوار في مطار القاهرة الدولي، فالسمسونايت عليها ضوء أخضر من أعلى .. أعلى مكان فوق المصريين.
وأعود إلى الصفر المونديالي تاركا مغارة علي بابا والأربعين حرامي رغم أن الاثنين توأمان، واستحلفك بأغلى ما عندك، الأسرة أو الصحة أو المال أو السطوة أو السلطة، ألم تخجل من الظهور علانية أمام شعبك بعدما انكشف الغطاء عن سقوط مريع في أسفل درجات سلم الهزائم؟
ماذا، سيدي الرئيس، لو أن نتائج التصويت كانت تحت الصفر، هل كانت مصر مبارك تحصل عليها بجدارة؟
أحسب أنه قد آن الوقت لأن يصارحك أحد قبل مؤتمر الحزب الحاكم وتهيئة فخامة الرئيس جمال مبارك لحكم مصر ربع قرن بعدما تكمل أنت ولايتك الخامسة مع افتراض أنك لن تحتاج للدكتور ماير في مهمة عاجلة بأن الصفر في الواقع كان هناك.. أمام عينيك.. وفوق مكتبك وفي كل يوم وساعة ولحظة من فترة حكمك.
هل تريد أن أُذَكّرك به، أعني الصفر؟
كان بامكانك أن تراه في عيون ملايين المصريين الذين أذلهم الغلاء، وأقض مضاجعهم الفقر، وأرهقهم الدعاء سنوات طويلة أن يخلصهم الله، عز شأنه، من سارقي أموالهم، وناهبي خيراتهم والذين تكاثروا كالبعوض في عهدك وكأن عقدا ملزما قد وقعته ضمائرهم الميتة مع إدارة حكمك، وصمتك، ورضائك بأن من يتردد في الدخول إلى المغارة الآن فقد لا تتاح له فرصة أخرى إن حكم مصر وطني عاشق لها، خائف عليها، مغرم بكل شبر فيها، يحافظ على أموالها كما يحافظ على شــرفه وحرمـاته ورزق أولاده.
وكان الصفر هناك في إدارة فاشلة متعاقدة مع شبكة اخطبوطية تمد أذرعها في كل مكان، فلا يستطيع مصري واحد أن يستخرج ورقة أو شهادة أو استمارة أو يوقع عقدا أو ينهي اجراءات قانونية أو يتسلم حقه دون أن تضربه على قفاه سبعون اهانة في سبعين توقيعا لسبعين موظفا إلا أن يقدم رشوة قد تحسب عليه في الآخرة وله في عهدك.
وفشلت في استحداث الادارة السليمة في أهم مرافق الدولة، خاصة الشهر العقاري ومجمع التحرير والجمارك والضرائب والبريد والتصدير والاستيراد وحماية المستهلك، فكان شلل الوطن جزءا من اغتياله الكلي الذي بدأ في عهدك ولم ينته بعد.
وكان الصفر في الفن السابع عندما أخذ رجالك معول الهدم لروائع السينما والاخراج، وصنعوا بديلا عنه عالم اللمبي، وسقوط واحدة من أهم سبل تبصير المجتمع بقضاياه، واعادة الوعي لفاقديه، وتوسعة رقعة الجمال والخير والحب، وتراجع دور الشاشة الكبيرة ليقدم في كل عام أقل من عشرين فيلما بعد كانت مصر تسابق الزمن في ادراك أهمية هذا الفن.
وكان الصفر في ستة ملايين عاطل عن العمل، تخلت الدولة عنهم أو عجزت عن الاستفادة منهم لكي يمنحوا الوطن جهدا وعرقا وخبرة، وما أشد الألم وأوجعه عندما يشعر المواطن أنه عالة على أسرته وأصدقائه ومجتمعه، وأن ما قام بتحصيله من العلوم والثقافة لا يمنحه شرف العمل حارسا لأمن شركة استثمارية، وتسلل من بين أيدي اليائسين غول قبيح من التطرف الديني أو الهوس الجنسي أو الجريمة المنظمة أو البلطجة الغليظة أو أعمال التسول الخدمية أو بيع ممتلكات الأسرة الفقيرة في مغامرة غير محسوبة على زورق متهالك يقاوم الريح والأمواج من الشواطيء الليبية إلى مالطا أو جنوب ايطاليا أو اليونان وربما يعود بهم إلى مصر ويلقي المساكين أجسادهم المنهكة على شاطيء العجمي ظنا منهم أنهم في فاليتا أو كريت أو رودس أو حتى أيا نابا القبرصية!
وكان الصفر في سجون ومعتقلات مصر التي مر عليها في عهدك أكثر من ربع مليون مواطن، بقي منهم عشرون ألفا أو أقل أو أكثر، لم يُعرَضوا على المحاكم، ولم يرتكبوا جرما لكنهم يحملون أفكارا لا تروق لك، من يساريين وبقايا شيوعيين وعجائز الاخوان المسلمين، ولا مانع من خلطهم بذوي اتجاهات أخرى لعل سبتمبر الساداتي يتكرر مرة أخرى.
والصفر كان هناك .. يلتحف بقانون الطوريء ، ويصنع نظاما سياسيا سلطويا خائفا من شعبه، مسلطا السيف على رقاب الرعية، متعللا بالارهاب تارة وبأنه لم يستخدمه إلا لماما تارة أخرى.
قانون الطواريء إن كان قد تم تفصيله ليُعلّم المصريين آداب السير بجوار الحائط، فهو إدانة لك، سيدي الرئيس، ودليل لا يرقى إليه شك في أنك أكثر خوفا ورعبا من سبعين مليونا، وأن الشرعية الشعبية في (عدلت فأمنت فنمت) حَرَّمَها عليك قانون الطواريء.
والصفر كان هناك .. عندما رفضت تعيين نائب لك، ربما خوفا من أن ينقلب عليك وأنت في عطلة خارج البلاد، أو يسرق منك أضواء تراها من حقك أنت فقط، أو يشاركك سلطة تؤمن أنت أنها لمبارك الأول والثاني والثالث والأسرة الشريفة وهي محرمة على أي مصري آخر.
أو ربما، وهو الأرجح، اعداد مبارك الثاني منذ عقدين من الزمان ولم يكن هذا يستقيم مع وجود نائب يحمل رسميا صفة الرجل الثاني على الرغم من أن كل من حولك أصفار متراصة مهمتها خدمتك، وحمايتك، وتنفيذ تعاليمك، وتصنيع العبودية في القصر.
أو ربما لأنك تحتقر المصريين، وتزدريهم، وتكاد تبصق على أوجاعهم، وتنتشي بعذاباتهم، وترى علاقتك بهم لا تخرج عن سيد وعبيد، فكيف تصل الوقاحة بمواطن مصري ولو كان عقله أكاديمية متحركة أن يقف بجانبك، وتطلق عليه الصحافة الرجل الثاني، ويتولى شؤون الدولة في غيابك؟
والصفر كان هناك .. في مجلس الشعب الذي وصل معظم أعضائه إلى تمثيل مواطنيك بعد انتخابات هزلية كانت الدولة تعد صناديق الاقتراع، وتذل من تشاء، وتعز من تشاء، وتتولى بمعرفتك التزوير والتزييف وايصال رجال الحزب الوطني إلى السلطة التشريعية.
واكتظت مقاعد الحرم الديمقراطي بنواب الكيف، ونواب التأشيرات، ونواب العملة، ونواب الخدمات، لكنهم كانوا يستطيعون في نومهم ويقظتهم أن يصفقوا حتى تتورم أكفهم، وكان كبيرهم معصوما من الخطأ، فيجددون له أربع عشرة دورة فلا يدري المرء إن كانوا يريدونه لحمايتهم، أم هو مفروض عليهم لحمايتك!
والصفر كان هناك .. عندما خانتك شجاعتك ولم تستطع الوقوف متحديا أي مصري يريد أن يرشح نفسه بديلا عنك، ومنافسا لك، ومقدما برنامجا اصلاحيا، فاعتبرت الترشيح والانتخابات والمنافسة هزيمة لك لو منح الاعلام والأمن والسلطة والقضاء لمواطن آخر الفرصة نفسها وأغلب الظن، الذي بعضه إثم، أن منافسة حرة ونزيهة يتساوى فيها المرشحون كانت ستحملك في نهايتها بعيدا .. بعيدا عن قصر عابدين وقصر العروبة ومنتجع شرم الشيخ واستراحة برج العرب!
أم تظنك، سيدي الرئيس، كنت قادرا، مثلا، على منافسة الدكتور سعيد النجار، رحمه الله، لو اختار ترشيح نفسه؟
أكاد أراك ترهف السمع لأنك لم تنتبه جيدا للاسم!
الدكتور سعيد النجار هو صاحب كتاب ( تجديد الفكر السياسي والاقتصادي في مصر )، وهو الرجل الذي قال لابنك الرئيس القادم جمال مبارك: إذا كان والدك جادا حقا في الاصلاح فليسمح بوجود أكثر من مرشح أمامه، وهو الرجل الموسوعة الذي أرسل إليك خطابا مفتوحا عام 1995 يبسط لك فيه رؤيته الحرة والمتقدمة والعبقرية لكل قضايا مصر من حقوق الأفراد وواجباتهم إلى النظام الضريبي، ومن الضمان الاجتماعي إلى مبدأ تغيير الدستور.
قضيتنا معك، سيدي الرئيس، أنك، كما قال المرحوم الدكتور سعيد النجار، لم تعرف قيمة مصر.
كانت أكبر منك بكثير عندما توليت الحكم بعد رحيل الرئيس المؤمن، ولم تستوعب الصدمة الهائلة فهي ليست قرية نائية في الصعيد، أو قبيلة في العريش، أو حارة في الشرابية، أو أو حتى بلدا مجهريا في القرن الأفريقي، لكنها أم الدنيا التي لو سقط اسمها سهوا أو عمدا من كتاب تاريخ في أي بقعة في العالم لفقد الكتاب قيمته.
كنت تستطيع أن تصنع قوة ضاربة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعلميا، لو استعنت بما تضخه هذه الأرض الطيبة من علماء وأدباء وفلاسفة وسياسيين محترفين وإداريين وعباقرة مخلصين وشرفاء وعاشقين لوطنهم، لكنك من هول الصدمة اخترت الطريق الأسهل وهو اقامة سياج حولك من المنافقين والأفاقين والجهلة واللصوص، فقمت بتوزيعهم بالمساواة على معظم أجهزة الدولة ووزاراتها.
والصفر كان هناك .. عندما ظللنا أكثر من عقدين من الزمان ننتظر حديثا عفويا مرتجلا على لسان رئيسنا وقائدنا وزعيمنا نتأكد من خلاله أن مصر العظيمة بين يدي رجل مثقف يحيط بالفلسفة، ويتبحر في الآداب، ويقرأ الشعر، ويحفظ المعلقات، ويعرف تاريخ آداب العرب، ويستمتع بأدب الرحلات، ويقرأ لأدباء مصر والعرب والعالم، ويتأثر بالموسيقى الكلاسيك، ويعرف بصمات المخرجين الكبار على الشاشة الكبيرة، ولا يخطيء في اختيار المبدعين في كل المجالات، ويفهم في مباديء الفلك واعجاز القرآن الكريم، ويفتخر بتاريخ أقباطنا.. شركاء الوطن ...
لو كنت هذا الرجل الذي ننتظره لنفرت من الفساد، وكرهت المحسوبية والوساطة، وبكيت على عذابات شعبك، واحترمت وعدك بأن تكون خادما مخلصا له، وربما صنعت في أعوام حكمك معجزة حتى لو لم تكن لك صلة قربى بمهاتير محمد أو نيلسون مانديلا.
أدلف متسللا إلى غرفتي أحيانا، وأشعر بحنين جارف إلى نحيب وبكاء ودموع تطهر نفسي من رجس الاساءة ظنا ورجما بالغيب في عبقريتك وانجازاتك واخلاصك ونزاهتك، وأتمنى أن أكون مخطئا، ولكن شريطا واضحة فيه كل مشاهد الوطن الحزين في عهدك يمر مسرعا أمام عيني، ويوقظني عنوة من حماقة حسن الظن ليؤكد لي بأنك قمت، عن سبق اصرار وتعمد، بمحاولات اغتيال وطن بعدما أسات استخدام سلطتك كخادم أمين للشعب، وموظف كبير يحصل على أجره من أموال أهلنا، فقلبت عاليه سافله، وتأخرت مصر في عهدك، وتراجعت عدة عقود، واستطعت برجالك الدخول إلى المنطقة المحرمة على أي سلطة، داخلية أو خارجية، عندما عبثت بنفوس المصريين فصعدت إلى السطح سلوكيات لا أخلاقية لم تعرفها مصر في أي عهد أو زمن أو هزيمة.
وكان الصفر هناك .. حيث التمايز الطبقي، وصناعة ثقافة الفهلوة، وترتيب أولويات جديدة في سلم المجتمع، فتراجعت الطبقة الوسطى مفسحة المجال لحلم راود لصوص الميناء ( لعلك تتذكره في فيلم الصعاليك لداود عبد السيد عام 1984 )، وانحسر دور المثقفين والأكاديميين والعلماء وأساتذة الجامعات والمفكرين ليحل محلهم حيتان مارينيون يعرفون من أن تؤكل الكتف، ويقيمون امبراطوريتهم الممتدة من القرى السياحية حيث يتم الاعفاء الضريبي في مشروعات خدمية تتسرب منها أموال الوطن إلى الخارج، مرورا بأباطرة الأغذية الفاسدة الذين يصغر أمامهم الآن توفيق عبد الحي صاحب صفقة الدجاج الفاسد ( آخر ضرباتهم الموجعة للمواطن كانت أسماكا فاسدة تكفي لأكثر من مليوني شخص، وتم حفظها دون إعدامها توطئة لدخولها إلى الوطن الحزين ومن ثم إلى أمعاء المصريين)، وكبر حيتانك، وتضخم جشعهم، وبرزت أسنانهم القرْشية فأصبح الواحد منهم يخجل من سرقة عشرة ملايين أو نهب ثلاثين مليونا أو الهروب من مصر بخمسين مليونا فقط، فمغارة علي بابا لا تزال تتلقى مليارات من الخارج ، والضوء الأخضر يشاهده الأعمى، ومن لم يهبر هبرته الكبرى الآن فربما لن يتمكن منها في المستقبل!
والصفر كان هناك .. في أكبر عملية تدمير لوجه مصر الجميل في المعمار والفنون والأبنية والمنازل، فشهد عهدك فوضى عجيبة، وذوقا منحطا يفضل أصحابه القبح على الجمال، وطاردت أعين المصريين مبان وعمارات وأبراج وجراجات تختلط فيها بهرجة الألوان، وتختفي خلفها مواد بناء فاسدة، وغابت الدولة عن بسط سيطرتها بقوانين ملزمة يضعها مختصون ومعماريون وفنانون وأكاديميون تستعين هم السلطة حتى لا يتحول المشهد البنائي لأرض الكنانة إلى سمك لبن تمر هندي.
والصفر كان هناك .. عندما أصبح انتظار حكم العدالة كابوسا مفزعا، وتكدست في محاكم الدولة ثلاثة ملايين قضية، وعجزت عبقريتك عن ايجاد بديل في نظام قضائي سهل وعادل وسريع تخطط له إدارة ناجحة، ويدخل فيه عصر التكنولوجيا، ويستعين القاضي والمستشارون بالكمبيوتر والانترنيت وتخزين معلومات وقضايا مشابهة ، والاستعانة ببرامج البحث في ملايين القضايا المصرية والعربية والعالمية ، وربط أجهزة البحث بالشرطة وأمن الدولة والتعاون مع آلاف من رجال القانون عن طريق الانترنيت والربط المباشر، والاستعانة بأجهزة البحث الأخرى عن الجريمة والاحصاء والعناوين والتسجيلات والجوازات والمطار والسجون والسجلات المدنية وأسماء أصحاب العقارات في مصر كلها والرقم القومي وغيرها ..
كنت تستطيع أن تحقق العدل أو جزءا كبيرا منه لو استوعبت، سيدي الرئيس، أهمية الادارة الحديثة القائمة على أصول علمية متقدمة، وربما جنبت رعاياك أقصى درجات الامتهان والظلم والغبن وهضم الحقوق وضياع الممتلكات والتيه في ردهات المحاكم.
لو همس أحد مستشاريك المخلصين في أذنك مرة واحدة وشرح لك أهمية تحقيق العدل في نظام المحاكم فربما كان وجه مصر كله قد تغير، ولكن من قال بأنك تريد فعلا رفع الظلم عن المواطن؟
ألست أنت وحدك المسؤول الأول والأخير عما لحق بالوطن في ولاياتك الأربع؟
مئات الالاف من المصريين ينتظرون كلمة العدالة في قضايا مؤجلة أو تنتظر دورها أو غير مكتملة الأركان، والقضاة والمستشارون يعملون في ظروف بعيدة تماما عن أهمية المعلومات والشفافية والتعاون بين أجهزة الدولة وتضيع الحقوق، ويقع ظلم جديد على مواطنيك فضلا عن ظلمك أنت لهم.
والصفر كان هناك .. عندما لم تعرف، سيدي الرئيس، أن بناء الدولة الحديثة المكتملة الأركان، والباحثة عن مكان بين الأمم المتمدنة يبدأ من تصفية واعدام والغاء وحذف كل القوانين والمواد المتخلفة والحمقاء التي وَرَّثّهَا جيلٌُ لجيلٍ واستبقها الزمنُ فتخلّفت عنه عقودا طويلة ، ولم تناسب إلا الموظف الموميائي القاسي والذي ينتشي بالغلظة، ويتلذذ بتعذيب المواطنين، ويطالب الأرملة أن تعود بعد أسبوع، ويطلب من الأمي أن يوَقّع، ويمرر الطلب على كل موظفي الادارة فيجمع توقيعات كأنها انتخابات المجلس المحلي، ويفتح نافذة للرشوة حتى يجنب المواطن عذاب الانتظار.
ستظل مصر تتراجع ما لم يجلس في قصرها زعيم يعرف قيمتها وقدرها، ويبدأ من القاء كل القوانين والمواد التي تكرس الظلم والتأخر والتراجع في مزبلة التاريخ، ويستبدل بها أكثر القوانين تقدمية وتمدنا وعدالة مستعينا لها من الشرق والغرب ومنظمات حقوق الانسان وروح الاسلام وخبرات رجال القانون المصريين والعرب، وفتح باب الاجتهاد الفكري النابع من التربة المصرية ومشاكلها وقضاياها وهمومها لوضع قوانين جديدة وملزمة.
والصفر كان هناك .. عندما اخترق الكبرياء أسرتك، وتعامل كل منها مع مصر العظيمة على أنها ملكية خاصة أورثتهم إياها بأرضها وسمائها وترابها وعبيدها، فأن يصبح علاء مبارك مليارديرا وسط ملايين من المصريين الذين لا يجدون طعام العشاء، وأن يَضْحَى جمال مبارك رئيسا فعليا يستمد سلطته من الأب ويصغر بجانبه المصريون، فيأمر وينهى ويعين من يشاء ويضع سياسة الدولة ويخطط لمستقبلها، وأن تَمْسَى سيدةُ مصر الأولي رأسا ثانيا للدولة فتحكم دون وظيفة، وتنفق من ميزانية غير محددة، وتتحكم في اختيارات هي من حق رئيس الدولة، ولا ينتقص التوزع هذا من سلطتك المطلقة، فنحن هنا أمام حالة استرقاق لشعب لا يقرها دين او عرف أو كرامة أو عدالة.
والصفر كان هناك .. عندما أصبحت علاقتك بالأجهزة الأمنية غير صحية بالمرة، فأنت، سيدي الرئيس، لم تفهم أن المخابرات العامة ومباحث أمن الدولة والمخابرات العسكرية كلها تعمل في خدمة شعب مصر وحمايته والحفاظ على مكتسباته، وأن رجالها عاهدوا الله وأنفسهم على أن يكون مواطنين وطنيين قبل أن تلتقطهم أنت ليصبحوا حراسا لنظامك، ويغمضوا أعينهم على تجاوزات أسرتك ورجالك، ويشاهدوا بأم أعينهم تزوير الانتخابات وتزييف النتائج، في المحليات والبلديات ومجلس الشعب وغيره.
كان بامكانك، لو كنت تملك ذرة اخلاص لمصر ورعاياك، أن تبعد أجهزتنا الوطنية الأمنية التي نفتخر بها، ونحتمي برجالها، ونأمن على مستقبلنا في وجودها، ومنها نبصر بصيص أمل قد يشرق يوما على أولادنا وأحفادنا، لكنك رفضت أن تشاركك السلطة، وأن تكشف عورات رجالك، وأن تفضح تجاوزات المحيطين بك.
لذا قمت بتصغيرها، أعني حاولت تقزيمها، وتعمدت اهانتها وكان آخرها عندما رفض قاتل المصريين والفلسطينيين الارهابي آرييل شارون استقبال رئيس الاستخبارات المصرية عمر سليمان، ولو أمرت بانشاء وزارة أو إدارة خاصة بشؤون السلام، مثلا، وجعلت موظفا كبيرا بها مسؤولا عن الوساطة التي تقوم بها بين الفلسطينيين والاسرائيليين لما أحزنتنا في الاهانات الموجهة لرئيس المخابرات المصرية، فهو في أعيننا يمثل النقاء والطهارة والوطنية ( لا أعني شخصا معينا ولكن أي رئيس استخبارات مصرية ).
نفس الأمر ينسحب على مباحث أمن الدولة بتاريخها المشرف ( رغم بعض التجاوزات المتفرقة )، ورفضت بإباء وكبرياء واستعلاء وفوقية أن تجعل رجالها في خدمة الوطن فقط، وتستعين بهم لاعداد ملفات كل رجالك، وتجعلهم فوق أسرتك وحرمك وابنيك، فيضعون أمامك ملفات الفساد والرشوة والمحسوبية ونهب أموال المصريين والتهرب من الضرائب والاتصالات المشبوهة مع قوى خارجية والاستيراد اللامشروع والأرباح المخيفة لحيتان عهدك.
لو تخليت عن كبريائك ساعة أو بعض الساعة واجتمعت بهؤلاء الرجال الوطنيين ، وطلبت من لواءات مباحث أمن الدولة والمخابرات ملفات كاملة لكل من يحيط بك، ويستخدم سلطتك، لما نهب وزير المالية قبل الأسبق أموال شعبك، ولما توسع الفساد في وزارة الزراعة والري، ولما استطاع كبار اللصوص تهريب عشرات المليارات من أموال وخيرات شعبنا.
لو استعنت بهم لعرفت ثروة ابنك علاء، وسلطة جمال، وسطوة والدتهما، وعن ماسبيرو، والفساد في الجهاز المصرفي، وأسماء نواب الكيف، والصناديق التي تم استبدالها في الانتخابات، والاتصالات المشبوهة لرجالك، ورأي الشعب فيك وغضب المصريين عليك، ولعرفت أن شعبيتك أدنى من صفر المونديال، وأن احتفاظك سنوات طويلة بصفوت الشريف ويوسف والي وكمال الشاذلي وفتحي سرور وممدوح البلتاجي ومحمد فهيم الريان ومحيي الدين غريب والجوسقي وغيرهم ممن انتهت سطوته أو لا يزال يلعب في الوقت الضائع كان إثما وحوبا كبيرا.
نحن نشعر بغيرة شديدة على أجهزتنا الأمنية الوطنية، ونعتبرها ملكا لنا وليست في خدمتك، وأنت زائل وهم باقون بإذن الله، وإذا كنت تشعر بنشوة عندما تركل اللواءات الأكثر اخلاصا بينهم والأعمق خبرة بعدما عصروا أعمارهم في خدمة مصرنا، ثم تلقي بهم في أفواه رجال الأعمال والاستثمارات كمستشارين قانونيين في مقابل صمتهم وابتعادهم عن هموم الوطن فلن يغفر لك التاريخ هذا التجاوز.
نريد أن نرى وزير الدفاع خارجا من ثكنة عسكرية أو متفحصا سلاحا صنعه مصريون أو متناولا الطعام في كانتين أحد المعسكرات، ولا يهمنا أن يحضر حفلا غنائيا، ويجلس ساعات طويلة يستمع لأغنيات مديح زائف عن القائد الأعلى للقوات المسلحة.
والصفر كان هناك .. عندما فقدت مصر دورها الريادي، وأصبحت اهانة رئيس الجمهورية أمرا طبيعيا، حتى الملك عبد الله بن الحسين المحسوب على القوى الغربية قطع زيارته لأمريكا حفاظا على كرامته، أما أنت فبقيت هناك أصغر من مصر العظيمة بكثير، واستمعت إلى شارون وهو يهدد ويتوعد، وتعمد سيد البيت الأبيض أن يسقط حق العودة عن الفلسطينيين وأنت هناك، تماما كما عرض السادات زيارة القدس أمام أبي عمار.
والصفر كان هناك .. عندما أصبح المصريون ملطشة لتجار الموت غرقا وهم يهربون من جنتك الموعودة إلى أي مكان ولو كان سجنا على الشاطيء في مالطا أو في جوف كفيل جشع في الخليج، أو في الجماهيرية العظيمة البائسة، أو في نعوش عائدة بهم بعد قتلهم، أو في قاع البحر لتلتهمهم الأسماك، فأي جحيم هو أفضل من جنتك.
والصفر كان هناك .. عندما فقد أحبابنا .. شركاء الوطن من الأقباط الثقة بعدالة الوطن، وأفسحت الدولة المجال للمعاقين ذهنيا بتعليم المسلمين تعاليم دينهم تميزا واستعلاء على الآخرين، واستمر دور الأقباط هامشيا، ومنعهم ظلمك من حقوقهم الكاملة كمواطنين لهم في الوطن مثلما للمسلمين لا ينقص منه شيء، فهم ليسوا في مناصب عليا أو وزارات سيادية أو قيادات اعلامية أو محافظين أو قادة ميدانيين في الجيش أو لواءات في الأجهزة الأمنية أو طلاب في جامعة الأزهر، فأنت تصنع الفتنة الطائفية ثم يبكي اعلامك عليها.
والصفر كان هناك .. في أكثر الأماكن فسادا ( بعد جمرك الاسكندرية ) أعني ماسبيرو حيث تم تجييش حمقى ومتخلفين وبلهاء وتمت صناعة الاستحمار الاعلامي خشية الوعي المتجدد لدى الشعب، وقامت القيادات الاعلامية الفاسدة باستبعاد الأحرار والمستقلين وأصحاب الكفاءات والشرفاء ( وآخرهم حمدي قنديل الذي لا تسمح سفارة واشنطون به في اعلامك )، وبعدما تم تدمير الصرح الاعلامي وتدجين قيادييه، واغتيال اللغة العربية، وقتل الابداع، وقام صفوت الشريف بالمهمة كما يريدها زعيمه وسيده، جاء ممدوح البلتاجي من عالم السياحة وثقافة التسول والفشل الذي حققه في مقابل نجاح جزر صغيرة غير مرئية وبلاد فقيرة في جذب ملايين السائحين، وسيكمل المهمة في الاعلام المصري، وسيخرج كمال الشاذلي لسانه لخصومه، وسيتحكم صفوت الشريف في طلبات انشاء أحزاب جديدة.
والصفر كان هناك .. مع توريث العرش رغم أنوفنا، واستمرار عهد زادت فيه الأمية، وأكلت الأمراض أجساد المصريين، وعاثت البلهارسيا في أكباد عدة ملايين من مواطنيك، وأصبح سعر الدواء قاصما لظهر أي أسرة متوسطة الحال، وتحول الأزهر الشريف إلى محاكم تفتيش في بطون الكتب القديمة والجديدة، ورفضت تغيير الدستور بما يتناسب مع العصر، ولم تتخل عن ذرة واحدة من سلطاتك حتى تشكيل الحكومة تعمدت اهانة رئيس الوزراء الجديد حين أوحيت للاعلام بنشر احتفاظك بحق تعيين وزراء الدفاع والخارجية والداخلية حتى أن الدكتور ممدوح البلتاجي قال بأن رئيس الجمهورية كلف رئيس الوزراء باختياره وزيرا للاعلام.. إنهم يعرفون أدوارهم، فكلهم خدم تحت قدميك، ويطيعون أسرتك، ويهيئون أنفسهم للرئيس الشاب القادم.الآن هل تعرف، سيدي الرئيس، لماذا سمعت ضجة خلف باب غرفتك في المستشفى في ميونيخ؟ كان هناك سبعون مليونا هم كل رعاياك( إلا قليلا) يقفون خلف عزرائيل، ويطلبون منه الدخول عليك، فقد انتظروا كثيرا، لذا لا تصدقنا عندما نقول لك كذبا وخوفا ورعبا:حمدا لله على سلامتك فنحن جبناء، وهنيئا لمبارك الثاني في استعبادنا أو استحمارنا ربع قرن جديد!

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...