27‏/10‏/2018

المجانين فقط يحبون أوطانهم! من يبلغ بهية؟



من أرشيفي!

المجانين فقط يحبون أوطانهم! من يبلغ بهية؟

القاضي الذي يجعلك تصرخ حتى تسمع صراخــَــك وحوشُ الغابة والأسماك في قاع المحيطات والطيور في السماء والأجنة في بطون أمهاتهم، ثم يدّعي أن صوتك

لم يصله أو يتهمك بالصمت خوفا وخشية وجبنا وفزعا، هو أكثر قسوة ووحشية من المستبد الذي يمزق حبال صوتك أو يقطع لسانك أو يسلط عليك رجالَ أمنه الذين يحرسونه منك ومن أمثالك.
وأرض الكنانة واحدة من الذين إن قيل لها قتيلك قالت أيهم فهم كُثر؟ فعشاق بهية أكثر عددا من أبنائها، يشربون من ماء النيل كأنه شراب طهور حتى لو ألقت فيه كل شركات الاستثمار الفندقية ومقالب القمامة ما يجعله يتمنى أن يغير مجراه، أو يعود من حيث أتى، أو يلعن يوم مولده في فيكتوريا وبدء رحلة المتاعب والمشاق التي لم ينتبه إليها شاعرنا محمود حسن إسماعيل وهو يتغزل به ويقول: سمعت في شطك الجميل ما قالت الريح للنخيل، يسبح الطير أم يغني ويشرح الحب للخميل وأغصن تلك أم صبايا شربن من خمرة الأصيل؟

أما إن كان غرامك بمصر يعبر عنه قلم بين أصابعك، فقد أحكمت لك العقدة التي لا حل لها، فإذا أضفت إليها هوية تحملها في جيبك وفؤادك وبين جوانحك، وماضيا جميلا تتحسر عليه، وأهلا وأحبابا وأصدقاء تخاف عليهم مصيرا مجهولا، فقد أصبح ملك الموت أقرب إليك من حبل الوريد حتى لو تركك ردحا طويلا من الزمن، فأنت في سياق مهمته ميت نصفه حياة وروح لم تخرج من الجسد بعد، لكن لم يعد لها فيه موضع أو راحة

في كل بلاد الدنيا، سواء منها الديموقراطية أو المستبدة، تؤتي الكلمة أكُلــَــها بعد حين، ويستجيب لها المستبد والديموقراطي على حد سواء، ويعود صاحبها إلى أهله سالما أو يذهب وراء الشمس شهيدا للقلم والحرية والسلطة الرابعة
لو تنفست في العراق وكانت أنفاسك على غير ما يهوى أحد رجال السلطة أو كلاب القصر أو عيون الأمن، فلن تعود إلى أهلك إلا بروح جديدة وجسد دمرته أعقاب السجائر والعصي الكهربائية والأسياخ المدببة التي يعرفها كل عراقي في عهد الرئيس صدام حسين، أو عبد الله المؤمن كما كانت تصفه صحافة الأردن وفلسطين

لو كنت في ليبيا وتبادر لذهنك انتقاد اللجان الثورية، أو طرحت سؤالا بريئا عن أموال البترول منذ أن تولى الشاب الصغير الساذج معمر القذافي مقاليد الحكم، وأوامر الحياة والموت وحراسة ليبيا من شعبها، أو شككت في عبقرية واضع الكتاب الأخضر، أو قلت إن قائد الثورة ليس أفضل روائي في تاريخ الأدب الحديث، أو وضعت علامات استفهام عن الهزيمة في تشاد وتسليم أسرار الجيش الجمهوري الأيرلندي لمخابرات بريطانيا العظمى، أو الفقر في جماهيرية العقيد التي ملكت من الأرض والزرع والأموال والبترول وكل مسببات الثراء التي أهدرها العقيد على مزاجياته وتهوره واحتقاره للشعب؛ لو فعلت هذا وأنت في عزبة قائد الثورة، أعني ليبيا التي يمتلكها كلها أرضا وشعبا وخيرات، فإن مصيرك سيكون مثل مصير الإمام موسى الصدر أو منصور الكيخيا أو غيرهما ممن غضب عليهم رسول الصحراء

ولو كنت فدائيا من أب فدائي وجد حارب مع مفتي القدس أو قادة ثورة 1936 ضد الوجود الصهيوني، ثم انتقدت زعامة أبي عمار، أو أشرت إلى أخطاء للقيادة الفلسطينية، أو اختلفت مع حواريي الرئيس الفلسطيني الذين عادوا من الغربة وتسلموا بعض مفاتيح أجزاء صغيرة من بلدهم مقابل إنهاء الحلم الفلسطيني في عودة خمسة ملايين إلى أرضهم، فإن التعذيب الذي ستلاقيه في سجون السلطة الوطنية أكثر مرارة وقسوة ووحشية من نظيره الإسرائيلي، وعندئذ ستصب جَمَّ غضبك على الذين علــّـموك وأنت صغير حب بلدك وضرورة تحريرها من الاحتلال الصهيوني، ونسوا تعليمك أن التحرير يبدأ من الوصوليين والمنافقين والمتعاونين والذين يتسلمون جوائز الشهداء ويقطفون ثمار جهد وعرض وانتفاضة شعب، طوال نصف قرن من النضال ومقاومة الاستيطان الصهيوني الشرس.

ومصيرك إن كنت تحب بلدك تحت أنظمة استبدادية لا يختلف كثيرا من بلد إلى آخر. أما إن كان هذا الحب في بلد متقدم أو أوروبي أو ديمقراطي، فربما تصل كلماتك المسموعة أو المرئية أو المكتوبة إلى المسؤول قبل أن يحملها الأثير أو تدفع بها إلى تروس المطبعة
فالإقرار الضريبي لمساعد رئيس الوزراء في النرويج قذف به إلى الهواء مرتين لمجرد أنه أخفى بعض المعلومات عن مصلحة الضرائب، على الرغم من الدور الأول الذي قام به كعراب لاتفاق أوسلو، لكنه لم يشفع له لدى صديق عمره رئيس الوزراء الذي سبق أن استدعاه على عجل من الشرق الأوسط ليكون ساعدا أيمن له
والصحافة في أوروبا تنشر الخبر فلا يذهب المسؤول الذي يعيــّـنه إلى موقع عمله قبل أن يصحب معه كل الأوراق والمستندات والوثائق التي ربما تخفف عنه أو تبرئ ذمته عندما يتصل به رئيس الدولة أو رئيس الحكومة بعد وصوله إلى مكتبه ببضع دقائق

 القضية في مصر أصبحت أكثر تشابكا وتعقيدا من الوضع تحت ظل الأنظمة الديموقراطية أو المستبدة. فلأول مرة يتم خلق نظام غريب من الديموقراطية التي تسمح لكل فئات الشعب بالخوض في المسائل الوطنية والقومية والاجتماعية والدينية والسياسية والفنية وترك الصحافة تكتب ما تشاء، وتتهم وتنشر ما يشيب له شعر الولدان، وتنصح وتعلن أسماء مافيا الفساد، وتقدم للحكومة على طبق من فضة كل ما من شأنه اختصار عذابات هذا الشعب الصابر العظيم
ولكن الصحافة والإعلام والكتب والنشرات ورسائل الاستغاثة بصاحب القرار الأوحد، والبلاغات والصور والشواهد والقرائن والأدلة تنتهي عند آذان لا تنصت إليها، أو مسؤولين يحتقرون السلطة الرابعة، ومحافظين يسخرون من أصحاب القلم، وسلطة تنفيذية ترى الكتابة عبثا وهراء وتهويلا من شان صغائر الأمور، في بلد ليس فيها أبدع من توجيهات عليا

إذا كنت تحب مصر وترغب في الكتابة وهي مهنتك وشرفك وعِرضك ولقمة عيش أولادك وميزان حسابك يوم القيامة عندما تقف أمام رب العزة، ويخرج لك كتابك تلقاه منشورا، فلتستعد من الآن لذبحة صدرية أو سكتة قلبية أو جلطة في الدماغ أو غم وكمد يجعلك طريح الفراش، ولو كنت تمشي كالعفريت الأزرق
لن يستمع إليك احد، وستصرخ كما يفعل حمودة وهيكل وعبد العظيم رمضان وإبراهيم عيسى ومجدي حسين وفريدة النقاش وغالي شكري وعبد الرزاق حسين ومحمد عباس ومحمود السعدني وأحمد فؤاد نجم وأحمد رجب، ومئات غيرهم وآلاف كتبوا ورحلوا، أو كتبوا وصمتوا، أو كتبوا ولم يصدق أحد أنهم يحبون بهية ويعشقون طلعتها ويخافون عليها من جراد يأكل الأخضر واليابس ويقول هل من مزيد؟ 

يمكنك أن تبدأ صباحك بقراءة الصحف المصرية بأقلام كتاب وصحفيين وهبوا أرواحهم لتخليص أرض الكنانة من كل من يمسها بسوء، وكانت لدى كل منهم ألام وآمال بأن يقرأ الرئيس حسني مبارك ويتابع بنفسه ويلغي كل مواعيده ويتفرغ لحل قضايا ومشاكل وهموم وزلازل وكوارث لو نزلت على بلد لجعلته قاعا صفصفا، ولكن الله سلــّـم وترك لمصر ولزعمائها وقتا يتداركون فيه الأمر، وربما لأن هذا البلد الأمين لا يرضي له رب العزة إلا كل الخير ولو جاء متأخرا

تقرأ في الصباح الباكر عن تهريب كمية من آثار مصر طوال عشر سنوات دون أن ينتبه إليها أحد، واعتداءات جنسية مستمرة من الداخل والخارج على مرضى مستشفى الأمراض العقلية في القاهرة، وسماسرة ومكاتب يروجون للعمل داخل إسرائيل وآلاف الأفدنة تغرق ولا يعرف من المسؤول، وانتشار العفن بالبطاطس الذي أتلف آلاف الأفدنة، وسرقة حقائب العائدين على شركة مصر للطيران والعصابة لا تزال تعمل داخل مطار القاهرة الدولي، ومحطة صرف صحي فوق أرض زراعية ترفضها المحكمة والمحافظ يرفض قرار القضاء، و400 مليون دولار حجم الاستثمارات الأجنبية في مصر والحكومة تتعهد برفعها إلى أكثر من مليار في عام واحد.

وخمسة أشخاص يستولون على مليار دولار من البنوك ويغادرون مصر تحت سمع وبصر الجميع، وعدد من الوزراء يساعدون بعض اللصوص في الحصول على قرض مقداره 720 مليون جنيه على حين أن السعر الأصلي لها مليار جنيه، وصناعة النسيج في مصر مهددة بالاحتضار
هذا غيض صغير من فيض لو نشرناه لاحتاج إلى مجلدات لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها لثقلها على الضمير والروح فحملها الإنسان الذي كرّمه ونعمه خالقه جل شأنه
يمكنك أن تكتب وتصرخ وتبكي وتذهب إلى روز اليوسف والأحرار والشعب والدستور والعربي والأهالي والأهرام واليسار وأكتوبر وصباح الخير والحقيقة والمصور، وغيرها من مطبوعات تحمل وهي خارجة من المطابع كل الأحلام الجميلة والمزهرة والوردية لأصحاب قلم متفائلين أن تقع عين السلطة على خبر فيها، أو يصر رئيس الجمهورية على متابعة كل ما يجري في البلد ويضع سلطته فوق كل اعتبار من أجل مصلحة الوطن
ويأتي اليوم التالي والثالث والرابع والعاشر، وتمر الشهور والسنوات ويزداد الصراخ ويتبعه ألم ويعقبه أنين وتحيط به أوجاع من كل مكان، ولا أحد يتحرك
فمحافظ الإسكندرية باق في موقعه حتى لو أغرق الثغر أو جعل مياه البحر في العاصمة الثانية المصب الوحيد للصرف الصحي. ورئيس شركة مصر للطيران يتحدى مصر كلها أن ينقله أحد من موقعه ولو خسرت الشركة الوطنية مليارات. وعشرات الآلاف من ضحايا شركات التوظيف قرروا توجيه رسالة عاجلة إلى الله عز وجل يشكون فيها من ظلم ذوي القربى ومن إهمال متعمد من السلطة التنفيذية لمطالبهم العادلة
يمكنك أن تزيد صراخك أضعافا مضاعفة، ولكنه لن يصل إلى صاحب القرار حتى تجد نفسك أمام خيارين لا ثالث لهما: أن تذهب إلى غرفتك وتغلق بابك وتضرب رأسك في الحائط، أو تغادر البلد كما فعل الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي وجه نداء إلى رئيس الجمهورية أن ينصفه ويمنحه حقوق المواطنة والحرية والاستقلال والفكر، وهو الأكاديمي الذي تربت على يديه أجيال جامعية، ولم يستجب الرئيس، فسافر المفكر المصري وترك الأرض الطيبة للشيخ يوسف البدري والدكتور عبد الصبور شاهين وبقية القضاة..  الذين يشقون الصدور التي في القلوب للتعرف على ما فيها ومحاكمة صاحبها واستتابته عن أشياء لن يحاسبه الله عليها ولكنهم يفعلون. ولا تزال مصر الحب الأول والأخير للأشراف وعشاق الوطن والمهمومين به والمغرمين بكل ذرة تراب في أرض الكنانة

ويعلو الصراخ، وتزداد المطبوعات، وتتضاعف النداءات والمقالات والتحقيقات الموثقة ومعها أحلام شهداء لم يموتوا بعد، وصناع تاريخ من السلطة الرابعة، وجنود مجهولون في بلاط صاحبة الجلالة مهنة البحث عن المتاعب، ولكن الرئيس لم يصل إلى مكتبه بعد، وقد تأخر قليلا لكنهم متفائلون بوصوله إلى مكتبه يوما ما، وسيطــّــلع على عشرات الآلاف من القضايا العاجلة جدا والمهمة والخطيرة التي نشرتها الصحافة المصرية والصديقة طوال سنوات، وعندئذ يكتشف الرئيس حسني مبارك أن مصر على مبعدة أمتار معدودة من القصر الجمهوري، وأنها تنتظره بصبر لا ينفد، فلا تزال الأرض الطيبة تمنح حكامها أكثر مما يعطونها وتعفو وتصفح وتحب وتعشق
أكاد أسمع وقع خطوات الرئيس، ولعله تنبه إلى أن أحدا بانتظاره. المهم أن يتعرف على بهية بعد هذا الغياب الطويل.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في نوفمبر 1993


لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...