11‏/03‏/2018

برونتو.. العقيد في ايطاليا!

من أرشيفي في التحريض ضد القذافي
برونتو.. العقيد في ايطاليا!
الجماهيرية العظمى هي اللا دولة الوحيدة في العالم التي لا يستطيع أحدٌ أنْ يُمَيّز فيها بين الدراما الكوميديةِ والملهاة التراجيديةِ، فالعقيدُ يلعب كلَّ الأدوار علىَ خشبةِ المسرح، ثم يرفع الستارَ فجأةً، فإذا أسدله تحوّل المسرحُ إلىَ سيركٍ، والجماهيرُ تضحك حتى الثمالة، لكنَّ الحقيقة أنَّ صاحبَ كلِّ الأدوار هو الذي يضحك عليها، ويفرّغ جيوبَها، ويسخر مِنْ عقولِها، ويجعلها شاهدَ زورٍ علىَ أكبر عمليةِ قمعٍ لشعبٍ عربي دامتْ أربعة عقود!
كان من المفترض أنْ يكون تاريخُ الطغاةِ درساً نتعلم منه كيفية مواجهةِ هؤلاء الأوغاد الذين يحكموننا، فتعلمتْ شعوبٌ أخرى بعدما دفعتْ من دماءِ أبنائها الملايين بسبب السماح لملوَّثين ذهنياً، ومرضىَ عقلياً بالوثوبِ علىَ كرسي السلطة، فوقف موسوليني فوق دبابة متهكما على الفاتيكان، ومتسائلا عن عدد الدبابات التي يملكها الحبْرُ الأعظم!
وأوحى هتلر لشعبه أنه جاء ليمحو آثارَ هزيمةِ ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فإذا بهوسه، وعنصريته، وجنون العظمة الذي تجسد فيه يجعل أوروبا تدفع ستين مليونا من أبنائها إلى محرقة حرب عالمية جديدة، واختلط النضالُ في الدفاع عن الوطن بالقسوة والكراهية، فتحررت ألمانيا بهزيمتها من الطاغية، وقام المحررون باغتصاب مليون امرأة ألمانية، وكتب المنتصرون التاريخ، كالعادة، حتى إلى وقت قريب لم يكن أحد يعرف أن 12 ألف ضابط بولندي قتلهم الروس الأصدقاء المضيفون بدم بارد بعدما كتب التاريخ لعدة عقود أن الألمان هم الذين قاموا بتصفيتهم.
طغاة من نسل مصاصي الدماء كانوا يتناثرون في كل أوروبا، حتى في ألبانيا التي حكمها أنور خوجا، وقطع علاقاته بالغرب والشرق، وأجبر كلَّ مواطن أنْ يكتب السيرةَ الذاتية لنفسِه، وأنْ يُعدد أسماءَ الجيران، والأقارب، وأنْ يتهم بعضَهم بمعاداة الثورة، فإذا لم يعثر على متهم فعليه أنْ يتهم نفسَه!
طغاة كانوا مناضلين في الحركات الوطنية والمقاوِمة، فياروزلسكي البولندي كان من أوائل من دخلوا برلين بعد سقوط النازية، وهو نفس الشخص الذي أمر باطلاق الرصاص على المتظاهرين، واعتقل مئات الكُتّاب والصحفيين والمثقفين عام 1981، وأجبر مذيعي التلفزيون أن يرتدوا الزيَّ العسكري، ونيوكولاي تشاوشيسكو الروماني حوّل رومانيا إلى سجن كبير، وكانت زوجته تحكم من وراء الستار تماما كما فعلت زوجه أنور خوجا الديكتاتور الألباني.
إلا في عالمنا العربي فكأننا نعيش خارج الزمن والتاريخ، رغم أننا نملك كلَّ وسائل اسقاط أي طاغية، فملايين من العرب يتنفسون حريةً في الخارج، ويملكون من أدوات الاتصال والتحريض ما لم يكن حتى حلما في أذهان الغاضبين على مستبديهم في زمن مضى.
المواطن العربي الذي كان يحمل الجنسية المصرية أو الأردنية أو التونسية أو السورية أو الليبية أو غيرها ويقيم الآن في السويد أو أمريكا أو أستراليا أو في قرية مجهولة بجنوب النمسا أو في مزرعة بشمال بلجيكا أو يعمل في ميناء روتردام يحمل معه كل مشاعر الخوف والرعب كأن زائرَ الفجر سيحصل على تأشيرة دخول شينجن، ويصل إليه بطائرة خاصة، ويقوم باصطحابه من رقبته إلى واحد من سجون الزعيم!
والانترنيت شاهدٌ على صحة ما يظنه البعض مبالغات، فملايين من العرب المقموعين الذين يلعنون في غرف نومهم زعماءَ بلادهم يتحولون إلى قطط وديعة فوق الشبكة العنكبوتية، فعفريت الزعيم يتجول ليحصل على (آي بي) لكل جهاز كمبيوتر يجلس أمام شاشته متمرد أو غاضب أو غيرُ راضٍ أو حتى عاتب على استحياء على جرائم سيد القصر.
العقيد معمر القذافي نموذج سيتدارسه تلاميذ المدارس في عقود قادمة عندما يدفن التاريخ في هوامشِه طغاة الوطن العربي، فهو يملك فلسفة في الطغيان لا نظير لها وهي حماية نفسه كمستبدٍ بجعل الاستبدادَ رديفا للبهلوانية، وأنْ يصبح الزعيمُ بلياتشو فلا تدري بعدها مَنْ الذي يضحك علىَ الآخر: قائد الثورة أمْ الشعب!
الذاكرة الأوروبية والأمريكية قوية إذا تعلق الأمر بتفاصيل الحرب العالمية الثانية، لكنها ضعيفة أمام طغاة العالم العربي شريطة أن لا يُغضب الزعيمُ الدولةَ العبرية، وأنْ لا يقطع ذهبَه الأسود عن البيت الأبيض، وأن يقترب مفهومه للارهاب من مفاهيم ناصعة البياض أوروبيا وأمريكيا!
هبط العقيد بصعوبةٍ بالغةٍ سلالمَ الطائرة وكان في انتظاره بالأحضان الدافئة ملكُ الإعلام .. رئيس الوزراء برلسكوني (تذكرتُ كتابا قرأته بالفرنسية منذ ربع قرن يحمل عنوان: هؤلاء المرضى الذين يحكموننا!) ولم تكن دهشة رئيس الوزراء الايطالي الذي يستقبل ديكتاتورا مريضا أكثر من دهشة الرئيس الأمريكي الشاب الرياضي الذي استقبله في القاهرة مريض وديكتاتور آخر ، فالمرض في عالمنا العربي سر من أسرار الكون، وطبيب العائلة الحاكمة يحمل كفنه معه كلما أمسك الترمومتر لقياس حرارة سيدنا (انظر كتاب الدكتور علاء بشير: كنت طبيبا لصدام حسين)، أما طبيب الأسنان لديكتاتور ألبانيا أنور خوجة فقد تم اختطافه ليحل محل الزعيم المريض.. طريح الفراش ريثما تقوم الزعيمة نيكسمي خوجا بإدارة شؤون البلاد والعباد (من منا يتذكر أرملة زعيم عربي عندما كانت تعطي ضيوفها المغضوبَ عليهم بسكويتاً، ثم تلقي قطعة لكلبها لكي ترمز للضيوفِ أنها لا تفرّق بينهم وبين الكلابِ في حُسن الضيافة؟).
جرائم العقيد في ليبيا طوال أربعة عقود سقطت من الذاكرتين الغربية و.. العربية، فأموال الشعب المسكين بين اصبعين من أصابعه، يدفع منها تعويضات لجرائمه، ويسدد ديونَ النوادي الرياضية المتعثرة ماديا شريطة أنْ يرتدي لاعبوها فانيلات عليها صورة الكتاب الأخضر، أو يُسكت بها ألسنة وأقلامَ زملائِنا في السلطة الرابعة، أو يقوم بتبذيرها في مشاريع فاشلة، فكيف تكون هناك توشكى في مصر دون أن يخترق النهر الاصطناعي العظيم الصحراء الليبية، فميزانية الوطن يتحكم فيها شخص واحد؟
عذابات الشعب الليبي وأوجاعه وفقره وكل صور القمع مسؤول عنها كل من يعترف بالعقيد، ويدعمه، ويصمت عن جرائمه، ويساهم في مَدِّ الروح في نظامه المتخلف المستبد، ونحن لا نستثني أحداً هنا سواء كانت دولا عربية أو غربية أو أفريقية أو أسياد البيت الأبيض.
أول ما يفعله الطاغية هو التخلص من زملاء الثورة، ومن المقربين كما فعل العقيد مع آدم الحواس وموسى أحمد وعمر المحيشي وبشيرهوادي، ثم أعدم 22 ضابطا إثر اتهامهم بمحاولة الانقلاب (حسني مبارك لا يعلن عن محاولات الانقلاب، إنما يتخلص من الضباط في صمت، وحافظ الأسد لم يكتف بالاعدام لكنه أمر بتدمير مدينة حماة على رؤوس أبنائها، أما صدام حسين فلم يكن في حاجة إلى هذه الوجبات الصغيرة من الاعدامات فهي لا تناسب منصبه المهيب، فقتل نصفَ مليون عراقي منذ توليه السلطة، وأكمل المهمةَ بعده الاحتلالُ الأمريكي، وبعدما كان سجن أبو غريب بعثيا أصبح يانكياً، ثم تسلمته حكومة المنطقة الخضراء لتعلّم العراقيين أنْ مَنْ سبقها كان لطيفا مقارنة بالحُكم الوطني!).
في فترة الثمانينيات كانت شراسة العقيد خليطا من جنون بوكاسا، وغطرسة بينوشيه، وتخلف عيدي أمين دادا، ودموية منجستو هيلامريام، وقسوة ستالين، وجهل هيلاسلاسي، فجعل يطارد معارضيه وحرَمَهم من لقب المعارضة فأطلق عليهم (الكلاب الضالة) وسط صمت دولي وعربي مخجل، فالعرب كانوا يرسلون إليه من يستجديه أنْ لا ينسحب من جامعة الدول العربية، والأفارقة يطمعون في المال الذي تحت يديه، والغرب يعرف أنه ظاهرة صوتية وستعود إن عاجلا أو آجلا إلى تقبيل الأيدي والأرجل.
تأخر ساعتين عن حضور مجلس النواب الايطالي، فتم الغاء الجلسة، وكانت حجة العقيد أن صلاة الجمعة أهم لديه من الالتزام بالمواعيد، أما أعضاء السفارة الليبية فلا يعرفون مواعيد الصلاة حتى ينبهوا زعيمهم، ففي عالمنا العربي ينتظر الناس قائدَهم ولو طال الانتظار لفجر اليوم التالي، وليس من حق أحد أن يتبرم أو حتى تبهت ابتسامته، فالزمن غير موجود في حياة الزعيم، وعلىَ عقارب الساعة أنْ تتحرك وفقا لرغباته ونزواته.
في عالمنا العربي يتم اغلاق الشارع قبل مرور الزعيم بعدة ساعات، وتتعطل مصالح الناس ولو مرّت سيارة اسعاف أو مطافيء فالويل لمن سمح بالمرور، وعلى كل أجهزة الدولة أن تخضع لتوجيهات الأمن، فالقائد لا يُسْئَل عما يفعل، والسيد قبل العبيد، والقصر قبل الكوخ!
علّق العقيدُ علىَ صدره صورة للمناضل عمر المختار في مشهد كوميدي تهريجي ارتدى فيه قائد ثورة الفاتح من سبتمبر ملابس كأنه كلوشار فرنسي ظن نفسه جنرالا في الجيش الأحمر وقد أثقلت صدرَه نياشين من صفيح وأنواط وهمية، وكان على العقيد أن يضع صورة لألف ومئتي سجين ليبي أمر بتصفيتهم في سجن أبو سليم لنرى كيف ستكون ردة فعل ملك الصحافة الايطالية.. وَزيرُ نسائها!
خيمة العقيد التي تكلف الدولة ملايين من أموال الشعب، فتنقلها طائرات خاصة، ويتم نصبها في أي مكان تصل إليه أقدام العقيد، وتقوم اتفاقات، وتحصل الدولة المضيفة على تصريحات من وزارة الصحة ومن البيئة ويتم تجنيد عشرات العاملين للكهرباء ودورات المياة والحمامات والفضلات، ودفع تعويضات لاستئجار قطعة الأرض قبل تخريبها بالأوتاد والحفر، ثم يجلس العقيد كأنه مضيف وليس ضيفاً، وبعد ساعات تتم عملية التفكيك، وينهب من ميزانية الخيمة كل من يتسول على مائدة العقيد، وتعود الطائرات إلى الجماهيرية محملة بخيمة يستبدلها قائد الثورة ليشتري غيرها!
المشهد القذافي في أربعين عاما كان يجب أن تكون مناسبته الاحتفال بأطول عملية استحمار لشعب في القرنين الأخيرين، حتى جان بيدل بوكاسا، إمبراطور أفريقيا الوسطى، لم يجد في ميزانية دولته ما يكفي الاحتفال بتتويجه عام 1977 إمبراطورا لدولة الفقراء، فأرسلت إليه فرنسا 22 مليونا من الدولارات ليشتري بها ملابس الاحتفال لآلاف الضيوف، وستين سيارة مرسيدس تم شحنها من ألمانيا إلى الكاميرون، ومنها إلى غابات (بنجي) حيث أصيب الامبراطور بهوس الطاووسية، فاعتذر الجنرال الاسباني فرانكو، والامبراطور الياباني هيروهيتو عن الحضور، فبوكاسا مجنون بكل المقاييس.
أربعون عاما بدت أربعين قرنا كادت تعيد الليبيين إلى العصر الحجري، ولم أندهش عندما قرأت عن الطاعون فقد تذكرت شكاوى الليبيين من أن الكلاب الضالة (الحقيقية وليست المعارضة في الثمانينيات) تقوم بنهش لحوم الموتى في المدافن الليبية، ولا أعرف كيف تحمّل شعبنا الليبي المسكين الذي لا يعرف ثمانون بالمئة من سكانه غير العقيد زعيما وقائدا وسيّداً هذه المسرحية القذرة والنتنة لمهرج مستبد، وسفاح مجرم، ومجنون متخلف، وسادي متغطرس!
إذا صمت الليبيون عامين آخرين على حُكم العقيد فإن الطاعون القادمَ لن يكون أخفَّ ضررا من أي موّت أسّوَد مَرّ على شعب من الشعوب، فليبيا على حافة الانهيار التام، ولو قرأ أي عاقل تاريخ الطغاة لما أخطأ تحديد موعد نهاية واحد من اثنين: إما العقيد أو الشعب!
الليبيون لا يحتاجون لبكائنا عليهم أو لضحكاتنا على مهرجهم، لكنهم في أمس الحاجة لوقوفنا معهم بالكلمة ومواقع النت وفضح أكاذيب الديكتاتور، وتحريض الليبيين في الداخل على العصيان المدني!
ألم يأن الوقت أن نتوقف عن الضحك قليلا ونحن نتابع المشهد الليبي، ونفكر في كيفية دعم أبناء شعبنا الليبي قبل أن نصبح مشتركين في جريمة ابادته؟
أيها الليبيون، قلبي معكم، وقلمي يحمل أوجاعكم، ودموع عيوني تنزف دما من أجلكم، وأشعر مع ذلك بأنني واحد من كل المجرمين الصامتين على ما حدث لكم خلال أربعين عاما طاعونية سوداء اكتفينا جميعا بالضحك، والقاء النكات، والسخرية، ثم نعود إلى أحضان الشياطين نطمئنها أننا تخلينا عنكم.
أيها الليبيون أحفاد عمر المختار، وأنتم أيضا مطالبون بالغضب ولو لمرة واحدة، فهل تفعلون؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 18 يونيو 2009 النرويج

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...