21‏/10‏/2020

حُرْمة تحريم الموسيقى والغناء!

 حُرْمة تحريم الموسيقى والغناء!

لو كنتُ واحداً من الذين وضعوا كتاباً رائعاً قرأه معظمُنا في شبابه وكان تحت عنوان ( اللهُ يتجلّى في عصر العلم )؛ لوضعت المشاعرَ، والأحاسيسَ، وتشابكاتها المُعَقدة مع الذاكرة والعقل، والجَمال، والطباع كواحدة من معجزات خالق الكون، جلّ شأنه.

جهازُ استقبالٍ تم صُنعُه بعنايةٍ ربّانية، ويعمل بكفاءة عشرين ضعفاً من مليارات الخلايا التي يتركب منها ذلك الجسد المعجزة، والذي نفخ اللهُ تعالى فيه من روحه، وطلب من الملائكة أنْ يسجدوا له، ولكن تقديرٌ لهذا العمل البديع رغم اصرار كثيرين من نسل آدم أنْ يكونوا في أسفل السافلين.

يجتهد كثيرٌ من المسلمين في تفريغ كل مَوَاطن الجَمال داخل النفس؛ بل وارجاع أسباب هذا الهدْم إلى أوامر الله، عزّ وجل، وتأتي الموسيقى والغناء في مقدمة الأعداء لأعداء الجَمال!

تراثٌ للانسانية على مدى مئات السنين، يشترك فيه البشرُ، ولو تخاصموا، وتقاتلوا، وتذابحوا بينهم؛ فإنَّ الموسيقى والغناء والنغم قادرة على التسلل، جهراً أو خفية، وهي لا تحمل شِعاراً دينياً، أو طائفياً، أو مُعادياً، وترحل بدون حدود، وتبقى آمنةً وادعةً في أَرَقّ مَوَاطن عُمْق النفس البشرية فتحاول أن تستميل الطباعَ إلى السلام، فتفشل أحيانا و.. تنجح في أحايين كثيرة.

تستدر دمعتين تنزلقان على الوجه فلا تعرف لهما سبباً، ولا تَدُلّ على ضعف لكن نقاء جهاز عصبي يستطيع أن يتعرف على أعمال جدية ومبدعة تضيف إلى تراث الانسانية ما يزيده ثراءً.

المرّة الأولى التي استمعتُ فيها إلى المطربة اليونانية فيكي لياندروس كانت في نهاية الستينيات عندما غنتْ ضد الحُكْم العسكري الديكتاتوري( دَعْ شعبي يَمْر) فأحسست أنها صرخةٌ في وجه كل طــُغاة الأرض، وأحذية العَسْكَر؛ وعندما زرتُ أثينا بعدها بأكثر من عشرين عاما بحثت عن تلك الأغنية فلم أجدها، وقال لي رجل يوناني مُتقدّم في العُمْر بأنَّ تلك الأغنيةَ كانت أحدَ أسبابِ الثورة والتمرد ضد الفاشية العسكرية!

تراثٌ يحتضنك أينما كنتَ، ويعرف طريقَه إلى جهاز استقبالـِك العاطفي، وقد يستأذنك أو يدخل عُنْوَةً حتى لو كان بينك وبين مَوْطنِه الأصلي بُعْدُ المشرقين.

مازلتُ أحتفظ بمجموعة من أغنيات (تيريزا تنج) الصينية، ولا أفهم كلمة واحدة منها؛ لكنني تأثرتُ وقتها بصوتها الرخيم الرائع؛ وأعطاني صديقٌ ألماني مجموعةً من أغاني مطربة فنلندية تغني باللغة السويدية فتقرع جنبات النفس كأنها تغني لمستمعها بصفة شخصية في مكان منعزل لا يعرفه غيرهما.

مَنْ يستطيع أن يقول بأنَّ هناك جنسيةً، وجواز سفرٍ، وتأشيرةَ دخول أيّ مكان في العالم لكونسرتو بيانو الخامس لبيتهوفن، أو الفصول الأربعة لفيفالدي، أو العالم الجديد لدفورجاك، أو بير جينت للنرويجي ادفارد جريج؟

عندما أصغي لأغنية (الاسكندرية) لجورج موستاكي وهو يحكي عن طفولتِه في تلك المدينة الكوزموبوليتانية التي كان ثـُلثُ سكانِها في أوائل القرن الماضي من اليونان وايطاليا وفرنسا؛ أشعر بحنينٍ جارفٍ لمسقط رأسي، وأراها لا تختلف عن الاسكندرية بصوت الشيخ إمام، أو كلود فرانسوا، أو وصفها بقلم إدوارد الخراط، أو كاميرا يوسف شاهين.

المرة الأولى التي استمعتُ فيها إلى (حديث الروح) للشاعر الباكستاني المُجَدّد محمد إقبال كنت في العشرين من عمري، وغنَّتها أم كلثوم، وحَلّقَ لحنُ السنباطي في السماء قبل أنْ يهبط علينا بتلك الكلمات الرائعة (أمسيتُ في الماضي أعيش كأنما .. قطع الزمانُ طريقَ أَمْسي عن غَدي ..)! 

وتستطيع هذه الأغنية أنْ تفعل مثل الروائح التي تظل حاضرة في الذاكرة، وكلما اقتربتْ من الأنف رائحةٌ مثلها استدعتْ كل المكان، والزمان، والأشخاص، والألوان، والأحباب وكل ما أحاط بنا في تلك اللحظة التي فتح الوجدان خلالها أوسع أبوابه لذلك النغم.

وتحملني الأغنية معها في (المعَدّية) من بورسعيد إلى بورفؤاد حينما استمعت إليها أول مرة منذ أكثر من نصف قرن !

والنغم ليس مرتبطا بالضرورة كما يروّج خصومُه بفسق، وفجور، ولهوٍ، لكنه لغةُ العواطف؛ كما تدخل الثقافة إلى العقل فإن الموسيقى والغناء والأنغام تلمس الروحَ دون أن يعرف صاحبها عن كنهها شيئا.

تنقلني (أهل الهوى) و( سهران لوحدي ) دون غيرهما لأدق تفاصيل فترة طويلة من طفولتي ومقتبل شبابي، وعندما كنتُ أطل من نافذة منزلنا فتناديني جارتي في البيت المجاور قُبيل الفجر قائلةً: إنَّ أبي يدعوكَ لتصطحبه إلى صلاة الفجر.

كان والدها الشيخ علي حلمي إمام مسجد البوصيري المقابل لمجلس أبي العباس المرسي(والد الفنان محمد وفيق، رحمهما الله)، وكان كفيفاً، فأسير معه، وأستمع إليه، ويُصَحّح لغتي، وأقرأ له بين ألفينة والأخرى.

 ينتهي من صلاة الفجر، ونعود أدراجنا على مَهَلٍ وهو يتأبط ذراعي، وتهب نسمةٌ رقيقة تحمل معها ملوحة الميناء الشرقي في الأنفوشي فتُنْعش الوجهَ، وتقاومها رغبةٌ في النوم ساعتين قبل الذهاب إلى المدرسة.

كنوز البشرية التي أبدعتها معجزة ذلك السر الرهيب الذي أودعه الخالق الرحمن الرحيم فسمّيناها مشاعر، وعواطف، ووجدانـاً، وفؤادًا، وقلبـاً، لكنها تتجمع كلها عند مصب الحب في أنظف، وأطهر، وأرق مكان داخل النفس الانسانية.

من الذي يحاول تفريغَ النفس، وإفقارَها، وإلقاءَ كنوزٍ احتفظتْ بها في عالم النسيان بحجة أنها أوامر إلــَهية، وأنَّ الموسيقى حرامٌ، وأن الصوت عورة، وأن الدين مناهضٌ للابداع الجَمالي الذي يمثله النغم؟

هل يقف المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون أمام رب العزة فيسأله العزيز الوهاب عن ذنوبه عندما استمع إلى (وطني حبيبي.. الوطن الأكبر ) و( النهر الخالد) و(زهرة المدائن ) و(وهمسة حائرة) و( كونسرتو بيانو رقم واحد لتشايكوفسكي ) و( السيمفونية الأربعين لموتسارت) وعزف منفرد على العود لأيوب طارش، وأمستردام للبلجيكي جاك بريل، وليه يا بنفسج لصالح عبد الحيّ؟

ما هو وجه التعارض، والتناقض، والتضاد في أنْ تقرأ آياتٍ من كتاب الله ثم تستمع بعدها إلى عبد الحليم حافظ، أو لطفي بوشناق، أو ميري ماتيو، أو إديت بياف، أو عبد الله الرويشيد، أو صباح فخري ؟

هل ستُحْسَب عليك في ميزان سيئاتك تلك اللحظات الروحية المؤثّرة التي تحمل معها (حَبْلَ السُرّة) بعدما ظننت أنه فَصَلَك عن والدتِك، فتستمع إلى( ست الحبايب) تغنيها فايزة أحمد، وتبتسم لك أمُك ولو كانت على مَبعدة ألف ميل، أو حتى في قبرها الطاهر( أنام وتسهري، وتباتي تفكّري، وتصحي من الأذان وتقومي تشقري)، ثم تكتشف فجأة أن صوت المرأة عورة، وأنَّ الموسيقى حرام، وأن الغناء هو معزوفات الشيطان؟

أي خَبَل هذا، وهُراء، وجفاء، ووحشية تلك التي تحاول أنْ تقنعنا بأنَّ دينَ الجَمال حَرَّمَ الجَمال، وأنّ دينَ الابداعِ ناهض الابداعَ، وأنَّ دينَ الرحمة يحاربها في كل مكان؟

اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا!

فتقرأ كتابَك، ولكن مسلمي العصر الحديث من عُشّاق الفتاوى المهلهلة، والفجّة، والسادية، والقاسية، والجافة يؤكدون لك أن من ضِمْن ذنوبك أنَّ أذنيك بعثتا برسالة رقيقة إلى قلبك يحملها عزف بيانو، أو كَمَان، أو عود، أو ناي، أو حتى ماندولين يوناني أو تركي، ويؤكدون لك أنَّ مشاعرَك إنْ أرادت نغماً مختوماً عليه (حلال) فيجب أن يكون الدفّ، ويشترطون عدمَ تزيينه بما يضيف إليه نغمات جديدة! 

وتقرأ كتابك يوم الحشر... 

فيُقْسِمون لك أن نشيد ( الله أكبر فوق كيد المعتدي ) المصاحب بموسيقى هو صرخات الشيطان، وأنَّ حنينك لأغنية تُذَكِّرك بوالدك، أو شقيقتك، أو حتى زميلتِك في الجامعة سيُحْسَب عليك يوم القيامة، وأن عُلماءَ القرون الأولى أفتوا لمسلمي القرون الأخيرة، وحددوا مقياسَ الحلال والحرام فيما تستقبل آذانهم بعد ألف عام أو أكثر.

يرفعون المصاحف فوق السيوف، ويستخرجون عنوة من الأحاديث ما يؤكدون فيه أن نبي الرحمة أرسله ربُّ العزة ليُحَرّم علينا النغم والموسيقى، ويضع للأمة طوال تاريخها المستقبلي ولمليارات من المسلمين ما ينبغي أن يستحسنوه، أيا كانت لغاتهم، وجنسياتهم، وألوانهم، وثقافاتهم، فهو دفٌ شرعي تسمعه أذُن المسلم الاندونيسي، والصيني، والسويدي، والاثيوبي، والبوتسواني، والبرازيلي، والعربي، والتركي، والكردي، والروسي، والمكسيكي فتطرب له، ولتذهب ثقافات الشعوب، وتراثها، وموسيقاها، ونغماتها، ومارشاتها، وأوبراتها، وفولكلورها الشعبي إلى الجحيم، فهناك عالِمٌ منذ مئات الأعوام قرر في خيمته البعيدة عن الدنيا زمنا ومكانا أن الموسيقى صوت الشيطان!

آه أيها الشيطان الرجيم كم كنتَ مخطئاً عندما ذهب بك التكَبّر، والغطرسة، والغرور، وظننتَ أنك بمفردك ستوسوس للانسان، وستكذب عليه، فتفَوَّق عليكَ بأكاذيبه، ونافَسَك في القسوة، وأقام حروباً، ومذابحَ، وسَفَكَ الدماءَ وأغرق الأرضَ بجرائمِه.

هل صحيح أن (نهج البردة)و( يا ليلة العيد آنستينا) لأم كلثوم، و(لحن الوفاء) لعبد الحليم، و (عايز جواباتك) لنجاح سلام، و(باحبك يا لبنان) لفيروز، و(إلــَه الكون سامحني ) لرياض السنباطي، و(الربيع) لفريد الأطرش هي نغمات الشيطان وسيحاسبنا عليها في ميزان سيئاتنا ربُّ العرش العظيم؟

لماذا وصل مسلمون إلى تلك النتيجة المأساوية، والكارثية باعتدائهم على أخصّ خصوصيات المنطقة المحرمة عليهم في النفس الانسانية، أي المشاعر، والعواطف، والوجدانات، والأحاسيس، فتلك بين إصبعين من أصابع الرحمن؟

أظن أن السببَ الوحيدَ، وِفقاً لقناعاتي، أن مسلمين كثيرين لم يفهموا، ولم يستوعبوا بَعْد المعنى المتضمن لأصل الايمان المتمثل في (الله أكبر)!

لو أن المسلم تعمّقَ في فهم المعاني اللانهائية لــ ( الله أكبر ) لقام هذا الفهم ُبتحصينه ضد صغائر الأمور، وحَماه من مصادرة الدين لحساب أباطرة الفتوى الذين يعتمدون في عرض بضاعتهم على إيمان غير مقصود من جماهير المسلمين أن الله أصغر(معاذ الله)، وأنه، جل شأنه، ينتظر عشرات المليارات من المسلمين يوم الحساب ليقرأوا أمامه ذنوبهم، وسيكون منها الاستماع للموسيقى، وكشف المرأة المنتقبة وجهها أمام ابن عمها، وحديث المرأة بصوت كله عورة حتى لو رَدّتْ السلام على زميلها، أو طالبَتْ بحقوقها، أو مارست حقَ المواطنة.

كارثتنا، ومصيبتنا، وضَعفُنا، وهَوَانُنَا أمام تُجّار صكوك الغفران بدأتْ من هنا .. من تَصَوّر غير صحي للذات الإلهية، ومِنْ خيال لم يستوعب أنَّ اللهَ أكبر، ومن عقل آمن، وترسّخَ هذا يقيناً في وجدانه أن ربَّ الكون العظيم أصغر من كل الكائنات، وأنه سيُحاسِب المسلمَ الذي انتشى بنغم، وتفاعل مع كلمات راقية، وشِعْر بديع زَيّنته موسيقى ساحرة، وعَبّرَ عنه صوتٌ ملائكي في حنجرة مطرب أو مطربة.

ويتلذذ المسلمُ في نُعاس العقل لتصغير الذات الإلهية التي خَلقت الأرض، والسماوات، والكون كله، فينشغل بجعل العليّ القدير مناسبا لأصغر العقول شأناً، ويتصوره نازلاً من سمائه العُلا للسماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ( مع فارق التوقيت أو باستثناء شمس منتصف الليل في النرويج ) باحثاً عن الذين يريدون التوبة، أو أنه سيبعث ثعباناً اسمه الثعبان الأقرع يدسّ نابَه السامَ في جسد الميت(حتى لو كان في بطن سمك القرش)، ويعذبه إلى يوم القيامة رغم أن القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يؤكد أن كل إنسان ألزمناه طائرَه في عنقه ونخرج له يوم القيامه كتاباً يلقاه منشورا .. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا؛ وليس قبل ذلك أو في القبر أو حتى بصحبة كل ثعابين الهند والسند.

أعود للموسيقى والغناء ومعي خط الدفاع الأول عن قناعاتي، أي(الله أكبر)، مؤكداً لنفسي قبل الآخرين أنَّ المشاعر والأحاسيس والوجدان والفؤاد والقلب والذاكرة تحتاج كلها إلى عملية تنظيف وتطهير بانسياب روائع النغم، موسيقى وأغنيات، لتجري حول الروح كما تجري الدماء في الشرايين.

تحريم الموسيقى والغناء حرام، واعتداء على خصوصية الانسان، وتفريغ مركز الذاكرة في العقل من تلك الوشائج الجميلة التي تربط الماضي بالحاضر، وتُمَهّد لمستقبل تلعب فيه استدعاءات تلك الأشياء دوراً مهماً في استقرار العواطف، وشحن الذاكرة بالوجوه، والأماكن، والأحباب، والحوادث، ومئات الآلاف من الأشياء الصغيرة التي تقابلنا فتحتفظ بها الأنغام والموسيقى ليسهل استرجاعها في أي وقت.

أيها المسلمون: لا تصدّقوا من يقول لكم بأن خاتم الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليه، كان خصماً للموسيقى، والأنغام، والصوت الجميل، ولا تُصَدّقوا من يقول لكم بأنَّ ربَّ الكون العظيم، اللهَ الأكبرَ، سيحاسبكم على رقة عواطفكم، وعلى رهافة أحاسيسكم، فحرام أن تُحَرّموا على أنفسكم الطيبات من رزق الروح، فالله أكبر

وجاء الردُّ من آلة موسيقية، فقالتْ:

 بل ستسمع الموسيقى والغناء رغم أنفك!

أراك غاضباً، مُلَوّحاً في الهواء بقبضة يدك، تاركاً لسانك الذي من المفترض أنْ يلهج بذكر الله، ينهل من قاموس الشتائم، والسِباب، ما تعجز عنه ألسنٌ حِداد ليجعلني في مرماها.

لعلك أجهدتَ نفسَك كثيرا في نقل الأدلة والقرائن على تحريم النغم والموسيقى واعتبارها أصوات الشياطين، وأنها تلهي عن ذكر الله، وأن عالِماً منذ ألف عام قال بأنها تؤدي إلى النفاق.

ربما أغضبك المقالُ أكثر مما أثارتك كل مقالاتي السابقة عن السلطة الطاغية والسجون والمعتقلات والفساد والتزوير والتزييف وامتهان كرامة المواطن والبطالة والعنوسة والمرض والفقر والجهل ونهب خيرات الوطن والتعصب والتزمت والفتنة بين أبناء الوطن الواحد.

لقد دخلت برغبتي حقل الألغام فاكتشفت أنها (فياسكو)، وأن الانسان الطبيعي لن تستطيع كل قوى المُحَرّمات أن تدلف إلى مشاعره فتعبث بها، وأن تتحكم بسبابتيها في أذنيه فتُسْمعه الدفَّ الحلال، وتُحرّم عليه ( ولد الهدى فالكائنات ضياء .. )

وهل كان الأمر يحتاج إلى كل تلك المجهِدات التي مرّ على أكثرها مئات الأعوام لتثبت لي أن فلانا فسّرَ اللهو في القرآن الكريم بأنه الغناء، وأن علانا أكد على أنه يملك صلاحية تحديد ما تنتشي به أذن المسلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها؟

تعمدت أنْ لا أستشهد بأقوال الفقهاء والعلماء في هذا الموضوع بالذات، فهم رجال ونحن رجال، وبين أيدينا من كنوز المعرفة والثقافة ما يسيل له لعاب أي باحث عن الحقيقة.

ما أسهل أن ينزل التحريم الرباني للموسيقى والغناء واضحا وصريحا ولا لبس فيه، ولا يحتاج إلى تفسير التفسير أو خلافات حتى يوم القيامة.

كانت المُحَرّمات في القرآن الكريم كالخمر والزنا وأكل لحم الخنزير والميسر وغيرها أوضح من الشمس في صيف القاهرة، وما كان الله نَسيّاً.

جليل احترامي وتقديري لعلماء الأمة وفقهائها، لكنني، كمسلم، لست ملتزماً بأي فتوى ولو صدرتْ باجماع علماء الأزهر الشريف ورابطة العالم الاسلامي وكل الجمعيات الاسلامية من مقديشيو إلى أستوكهولم ومن طنب الكبرى إلى سيدني.

أقرأ وأتابع وأحترم العمل الثقافي والفكري والدعوي، لكن اعتبار شخص متخصص في أصول الدين فقط هو مرجعي للتعرف على الحلال والحرام خارج تماما عن ملامح شخصيتي، وحرية اختياراتي لا حدود لها، وهي لا تمس الثوابت، لكنني لست على استعداد ولن أكون ما حييت لأنْ أقدّم فكري وقناعاتي وإيماني وعقلي ومنطقي للتسليم بما يقوله علماء الأمة ولو اجتمعوا، فأنا مسؤول أمام ربي، ولن أستعين بأحدهم يوم الحشر العظيم.

قد يروق لي رأي في مجلة أو صحيفة أو كتاب مترجم عن التركية أو لمثقف لا يكتب إلا بالروسية، أو لمفكر مسلم في السنغال تتناغم أفكارنا وتنسجم فآخذ منها ما يحتاج إليه عقلي ويأمن له فؤادي وتستريح له نفسي.

أراك تتمنى أن تشحن تراث الانسانية كلها وكنوزها من الموسيقى والأنغام والأوبرا والكلاسيك والمارشات العسكرية والفلكلوريات وابداعات الشعراء التي تلقفها موسيقيون وانطلقت من حناجر ترقص فيها الحبال الصوتية تماما كما يتمايل(بلبل حيران) أمام نافذة بيتك فيغرد، لكنك تتردد في أن تلقمه حجرا لعله يتوقف عن التغريد.

ربما يغضبك خرير الماء لكنك لن تهرب منه كما لن تستطيع أن تسد أذنيك وأنت تستمع للنشيد الوطني لبلدك إن فاز فريقه القومي في مباراة دولية.

وماذا عنك؟ ستسمع الموسيقى والغناء رغم أنفك، وستتسلل نغمة متخفية وأنت في الحافلة أو القطار، وستروق لك مقدّمة نشرة الأخبار، وربما تدندن في الحمَّام من دون أن تدري وماء الدش يمنح دندنتك نوعا غريبا من المتعة فتأتيك ذكرياتٌ كانت عصيّة على مركز الذاكرة وأنت تحاول أن تستدعيها فتشق عليك.

لن تستطيع أن تخفي السر بأن والدتك كانت تحب صوتا معينا، وتغني لك وأنت صغير وهي تصطحبك إلى فراشك الدافيء، وتغفل عيناك الصغيرتان على نغم يصحبك بعدها لتأكل أرزاً مع الملائكة.

لن تتمكن ولو جندت ملايين من أتباعك في أن تجمعوا تلك الكنوز الرائعة وتحرقونها على مرأى من العالم كله، فهي موجودة من النفخة الأولى، وتنطلق مع صرختك الأولى والطبيبة المولّدة تمسك قدميك بعد لحظات من سقوطك من بطن (ست الحبايب)؛ وستعرف لاحقا أن كل الأجهزة السمعية والبصرية والعاطفية التي وضعها فيك خالقُك تعمل على استدعاء النغم، وتنتشي به، وتختار الجيد منه وفقا لتطورك الفكري والثقافي والحضاري والعاطفي رُقيّاً تماما كما كان الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يقرأ القرآن الكريم ثم يستمع إلى أم كلثوم بعد التلاوة، أو كما كان مصطفى صادق الرافعي ينصت إلى موسيقى هادئة وهو يكتب تفسيرَه في عجاز القرآن الكريم.

سيلاحقك النغم أينما كنت، وستمر على الآذان يدعوك للصلاة وهو نغم، وربما تقرع أجراس الكنيسة المجاورة للمسجد لدعوة مؤمنين آخرين لأداء صلواتهم، وستعرف أن التلاوة نغم، وأن التجويد نغم، وأن الله تبارك وتعالى لم يجعل الأذنين كالعينين والفم تغلقهما كما شئت، فهما تلتقطان الموسيقى والنغم وتبقى(فلترة) الجيد من القبيح، والسمين من الغث، والابداع من الاسفاف متوقفا عليك أنت فقط.

قضية صنعتها قوى التزمت والتشدّد، وجعلتها دينية، ثم نفختْ فيها فكانت قضية إيمان أو كفر، ثم أسرعت إلى كتب مرَّت عليها قرون طوال، وما أسهل أن تتبنى أيّ قضية ثم تجد الطريق ممهداً لاستدعاء شهود من التاريخ، فالطغاة لهم قرائنهم، والمستبدون يستشهدون بآيات كريمة عن وجوب طاعة ولاة الأمر، ورابع الخلفاء الراشدين قتله التحكيم، ويستطيع أي سجّان سادي وغليظ القلب أن يأتي لك بمئة دليل من التاريخ والأشخاص والناس والكتب المقدسة وأقوال العلماء وفتاوى الفقهاء فيقطع رقبتك كما يفعل الجزار مع خروف العيد.

مقالي عن (حرمة تحريم الموسيقى والغناء ) ليس فتوى، فالاسلام ليس فيه فتاوى؛ إنما هي آراء واجتهادات تأخذ منها ما تراه مقنعا لك وتستريح إليها نفسك وعقلك.

تأسفت كثيرا لكل الذين خالفوني في الرأي فبدت البغضاء من أفواهم، ووزعوا لعنات وشتائم وقذفا وتكفيرا، وربما لو كانوا يسمعون الموسيقى وتتحرك مشاعرهم وترقى بالنغم البديع لما عثرت ألسنتهم بسهولة على قاموس الشتائم.

هل يمكن أن يغني إبليس (القلب يعشق كل جميل ) و يساند عمار الشريعي وهو يشرح عبقرية النغم والكلمة في (الموجة بتجري ورا الموجة عايزه تطولها)، ويعزف مع عمر خيرت روائعه، ويصدح مع الشيخ إمام (صباح الخير على الورد اللي فتّح في جناين مصر)، ويغني لأطفالنا ( الليلة الكبيرة ياعمي والعالم كتيرة)، ويبكي مع عبد الحليم حافظ ( عدّى النهار وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها .. جانا نهار ما قدرش يدفع مهرها) ؟

الموسيقى والغناء لا تحتاج لفتوى أو جدال أو نقاش أو تحريم أو تحليل، إنما هي لغة يفهمها الخَلْق كلهم، وتسمعها كل الآذان، وليس من حق أي شخص في العالم ولو كان فقيها معمما موسوعيا أن يحدد لك الحلال والحرام فيها,

لا أفهم حتى الآن ما هي علاقة العلماء والفقهاء والفتاوى بالمشاعر الانسانية وتحديد المناسب لها، ومن الذي يملك الحق في تحريم إيصال الكلمات الجميلة والبديعة مصحوبة بنغم إلى العالم الداخلي للنفس الانسانية؟

حتى لو صعدتَ إلى بُرج مشيّد أو جبل يعصمك من النغم فسيوقظك صياح ديك أو تغريد عصفور أو قطرات من ماء المطر تسقط متناغمة فتقتحم أبواباً في أكثر المَوَاطن قدسية وحساسية ورهافة داخل النفس البشرية ظننت أنك أغلقتها إلى الأبد.

قدسية أحاديث العلماء والفقهاء تقف حاجزا أمام لغة التسامح بين البشر، وآن الوقت الذي نمنح فيه العلماء والفقهاء الاحترام والتوقير، وننزع القداسة عن أي كلمة ليست وحياً لا ينطق عن الهوى.

"ستختلفون من بعدي، فما جاءكم فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافقه فهو مني". تلك هي الوصية النبوية الشريفة التي وضع بها خاتم النبيين النقاط فوق الحروف، ثم قال، صلوات الله وسلامه عليه: واستفت قلبك وإن أفتوك .. وأفتوك .. وأفتوك.

أيها المسلمون: الموسيقى والغناء والأنغام ليست من الأشياء التي نزلت فيها آيات قطعية وحاسمة، فلا تُحَمّلوا القرآنَ الكريم ما لا يحتمل، ولا تنسبوا لله توجيهات لم يأمر بها.

إننا نتجه حثيثا منذ خمسة عقود إلى عالَمٍ ضيق من الفكر، وكاره للجمال، ومغالٍ في الدين، وعاشق للقيود، وباحث عن الأحزان،وعابد لنصوص مرَّت عليها عشرات الأجيال، ومتواكل على من يفكرون له.

كل الذين قطعوا الرؤوس، وفجّروا المقاهي وفنادق السياحة، وقتلوا ضيوف البلد الاسلامي، وألقوا الفزع في شوارع عالمنا، وفتحوا أبواب الرعب لدخول المارد المهووس بالدماء بُعَيد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، وقاموا بتكفير الآخرين، وطاردوا الكتاب والأغنية والفيلم والمثقف والمفكر كانوا من الذين وضعوا أصابعهم في آذانهم لئلا تسمع الموسيقى والغناء أو تتسلل نغمة رقيقة إلى أفئدتهم.

أنا لا أفهم كيف تجعلك (مصر التي في خاطري وفي فمي .. أحبها من كل روح ودم ) و ( الصبر والإيمان دُول جنة المحروم ) و ( مصر يا أمه يا بهية . يا أم طرحة وجلابية) و ( يا غالي علي يا حبيبي يا أخويا ) و ( وياوابور قوللي رايح على فين ) و( اليوم يوم الشجعان) و (دعاء الشرق ) و كل الأغاني والألحان التي تبهج الطفل والرضيع والعجوز والمريض آثما ومنافقا ومكابرا ومتعديا على ثوابت الدين وأوامر العلي القدير؟

لن يستطيع أحد أن ينزع الطبول من الأفارقة، والماندولين من اليونانيين، والعود من الأتراك، والبيانو من كل الفرق الموسيقية العالمية.

أيها المسلمون: لو توجهتم بما تملكون من غيرة على الدين الحنيف وقوة في مصارعة الباطل ضد الطغاة والمستبدين وآكلي أموالكم سُحتا، وطالبتم بحقوقكم المواطنية، وجاهدتم ضد المرض والفقر والعوز والحاجة والجهل والأمية والمخدرات والتعصب الأعمى، ورفضتم مساندة سلطة جائرة، ونزعتم القوة عن سالخي جلودكم الذين تقولون بأن طاعة ولي الأمر واجبة حتى لو كان مجرما وظالما وديكتاتورا وابن ستين كلب أيضا، لأسقاكم الله ماءً غدقا.

أيها المسلمون: لقد أزف الوقت لكي تتحرروا من عبودية (ما ألفينا عليه آباءَنا )؛ فالقرآن الكريم نزل به الروح الأمين ليجعل حياتنا جميلة ومتسامحة وطيبة، ويهدينا للحق، ويصالحنا مع الزمن ومع الآخرين المختلفين عنّا دينا وعقيدة وإيمانا ومعابد.. ومع أنفسنا.

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

محمد عبد المجيد

أوسلو النرويج

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...