15‏/01‏/2019

وأخيرًا .. غضب المصريون!


وأخيرا غضب المصريون!

لم يكن احتجاجا على انخفاض مستوى المعيشة..
ولا على الغلاء الجحيمي الذي تعيشه الأسرة المصرية..
ولا على آلاف المصريين المعتقلين والسجناء بدون محاكمة..
ولا على فشل أكبر جيش في الشرق الأوسط في القضاء على حفنة من الإرهابيين ..
ولا على تنازل رئيس الدولة عن تيران وصنافير ..
ولا على استمرار قانون الطواريء ليتحول إلى حالة طبيعية كما في عهد اللعين حسني مبارك..
ولا على الطائفية المقيتة والقميئة والعفنة التي ترعرعت في عهد السيسي ..
ولا على جمهورية الخوف التي زرعها نظام الحُكم ..
ولا على القضاء الظالم والفاسد والمتواطيء والفاشل ...
ولا على تحويل الإعلام المصري إلى أغبى وأجهل مؤسسة في تاريخ مصر القديم والحديث ...
ولا على صراخ ربات البيوت اللائي أفلسهن السيسي وأصبحت مدخراتهن تحت البلاطة في خبر كان ..
ولا على سيطرة وهيمنة قوى الحماقة والتطرف والدعوشة على المنابر في المساجد والزواوي ...
ولا على التفريط في الحدود المصرية فوهبها السيسي للإسرائيليين لمطاردة مصريين في بلدهم بعد فشله ..
ولا على فشل نظام التعليم فخرج من تحته نصف جيل؛ جامعيوه كأنهم خريجو الابتدائية ..
ولا على عالم الغش في الدواء والمستشفيات والعلاج ...
ولا على كرامة المواطن التي يعتبرها رجل الشرطة كرامة جيفة أو حشرة مفعوصة تحت حذائه ...
ولا على عباطة وهبالة وسخافة وجهل وأمية الرئيس في كل أحاديثه فيتحول الحاضرون إلى أرانب تصفق، وفئران ترتعش ..
ولا على احتقار وازدراء وتجاهل الرئيس لرأي أي مصري في شؤون وطنه ..
ولا على اختياره الأفشل والأجهل والأسوأ لقيادة مؤسسات الدولة
ولا على أظلم وأقتم خمس سنوات في عهد يكذب رئيس الدولة كما يتنفس..
ولا على التلوث البيئي المميت لأجيال قادمة ..
ولا على سرقة أراضي الدولة ومنحها للواءات وكبار الجنرالات في تقسيم مافيوزي مخيف في مقابل الصمت على جهل الرئيس ..
ولا على توقيع العقوبات على مؤيدي ثورة يناير العظيمة التي لولاها لكان السيسي يقبع في مكتبه أو ثكنته لا يساوي جناح بعوضة.
ولا على عدة ملايين من أطفال الشوارع الذين لا يدري السيسي ماذا يفعل لهم وبهم ومعهم!
ولا على مشروع سدّ النهضة الإثيوبي الذي أصبح سرّاً يحتفظ به الرئيس فقط، رغم أن مصر هبة النيل .
ولا على جهل الرئيس في معرفة التركيبة الوطنية للمصريين، وبسبب جهله تفجرت قوى التطرف والسلفية لتجعل شركاء الوطن مواطنين من الدرجة العاشرة ..
ولا على إهدار المليارات في بناء ما يُخلد السيسي، ويُغضب اللهَ، فمسددو القروض هم أحفاد المصريين ..
ولا على قيمة مصر ورئيسها، فهو فضيحة بكل المقاييس إذا خرج من مصر أخجلتنا لقاءاته وخطبه واحتقار الزعماء له ..
ولا على أرنبة الإعلاميين والمثقفين في عهده فجعلهم أو جعلوا أنفسهم قردة خاسئين، يُصَفــَـق لها فترقص، سلام للبيه ...
ولا على تحوّل المصريين كرئيسهم إلى حالة من السلفية الداعشية الكارهة للغير ..
ولا على اغتيال اللغة العربية في عهد السيسي، وتحويل مؤسسات الإعلام والدين والتعليم إلى اللغة العامية كتمهيد وتوطئة لخروج مصر من عالم العرب ..
ولا على اختفاء ومحو ومسح وإزالة اسم المصري وحضارته وثقافته فأصبحنا عاجزين عن العطاء ...
ولا على عالم التسول الذي صنعه مبارك وورثه طنطاوي فمرسي فالسيسي فخسف بمصر الأرض ...
ولا على تعمد اختيار السيسي لأجهل إنسان منذ عهد الفراعنة فجعله رئيس مجلس النواب الذي يجلس تحت قبته مصفقون أميون وجهلة وفاسدون ..
ولا على وصول المصريين إلى أخطر مراحل العصر وهي كراهية القراءة والمتابعة والثقافة والمعرفة لتصبح الصورة والفهلوة ووضاعة الإعلام وسوقية اللغة وضعف اللسان، وبالتالي يضمن السيسي حُكما فوق الوطن حتى يموت أحدهما .. الرئيس أو مصر!
ولا على اختفاء الإسلام وظهور دين جديد دراويشي يصنع العبيد، ويُعلي من شأن الجهل ..
ولا على عدم المساواة بين المواطنين فأصبح حلم الهجرة أرفع وأشرف الأحلام ( في عام 2017 تقدم مليون و800 ألف مصري بطلبات للهجرة في السفارة الأمريكية بالقاهرة )!
ومع ذلك فقد غضب المصريون عن بكرة أبيهم، وزلزلت الأرض زلزالها، وارتفع ضغط دم الشعب، واستجاروا، واستخاروا، ولعنوا الفساد في الأرض والبحر عندما التقى طالب جامعي بزميلته وعانقها، أو احتضنها في الحرم الجامعي وبدون أن نعرف السبب فقد يكون حبا أو زمالة أو لقاء بعد غياب أو عاطفة جارفة استغرقت عشر ثوانٍ، فأصبحت يوم القيامة المصري.
لقد غضب المصريون، ورقص الشيطان، واحتفلت تل أبيب، وطالب الشعب بتوقيع أقصى العقوبات على المجرميّن حتى يكونا عبرة لمن تسوّل له نفسه الإساءة للدين والقيم والأخلاق.
لقد غضب المصريون لعناق طالب وطالبة في لقاء الثواني العشر، ولم تهتز لهم شعرة فيما ورد أعلاه من جرائم يهتز لها عشر الرحمن.
الآن يمكن لأي داعشي أن يرفع الراية السوداء للإمارة الإسلامية المصرية وعليها نجمة داود!
الآن يمكن للرئيس السيسي أن يقف في قلب ميدان التحرير ويرفع لنا إصبعه الأوسط!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 15 يناير 2019





رسالة مفتوحة إلى روح جمال عبد الناصر



هذا المقال نشرته في عام 1991 في طائر الشمال ثم في كتاب ( قراءة في أوراق مهاجر )، وأعيد نشره، فأرجو لمن يقرأه أن ينظر إليه في سياقه التاريخي.
الدافع للمقال كان وجود حسني مبارك في 23 يوليو في قصر باكنجهام خلال زيارة لملكة بريطانيا، وكانت إشارة إلى أن روح عبد الناصر ليست أهم من الذين قادوا العدوان الثلاثي عام 1956.
رسالة مفتوحة إلى روح جمال عبد الناصر
أكثر من عشرين عاما مضت منذ رحيلك وأنت الغائب الحاضر( نصف قرن في هذا العام )، بين الأصدقاء كما بين الأعداء، يتذكرك الأوفياء فتختفي أصواتهم لأن الذين يثرثرون في تاريخك كثر! لقد أصبح من حق أي دعي أو عاهرة أو كاتب مرتزق أو عميل سابق أو راقصة في كباريه في شارع الهرم الادعاء بمعرفتك معرفة وثيقة، ولا مانع من نشر كتاب يدّعي فيه صاحبه أنك ـ رحمك الله ـ كنت تأتمنه على أسرارك، وتُسِرّ إليه بخلجات نفسك، وتمنحه ثقتك.
تسألني عما حدث لنا بعدك وكأنك تراهم واحدا واحدا، أو قزما.. قزما، وهو حديث يطول بطول أعوام غيابك أو يزيد التي قضيتها بعيدا عنا، في جوار ربك، تنعم برحمته ويظللك غفرانه.....ويتوب عليك.

لو عدت إلى عالمنا ، يوما واحدا أو أقل، لما عرفت أي مشهد من مشاهد الوطن الصغير مصر، أو الكبير الذي منحته جسدك وصحتك وعقلك، ثم أسلمت الروح لبارئك، وأسلمت السلطة لمن لم يكن يستحق أن يكون عمدة لقرية مجهولة في أقاصي البلاد.
في عالمنا العربي الآن أشياء تقتل المواطن هَمّا أو غما أو ضحكا، فلا تعرف إن كان الضحك جزءا من أوجاعنا أو كانت الهموم شهادات موت نكتبها لأنفسنا دون تصريح بالدفن!

دعني قبل أن أكتب لك عن فواجع أمتنا أقص عليك من نبأ الأستاذ رشاد نبيه!
طبعا لم تسمع بهذا الاسم من قبل، وربما ذهب بك الظن إلى أنه تاجر مواشي أو حديد مسلح. الحقيقة أنه أكبر من هذا بكثير، فقد كتب الأسبوع الماضي شيكا غير قابل للصرف بمبلغ مليار ومئات الملايين من الجنيهات المصرية! باسم رئيس لجنة التحفظ على الأموال.
لا تظن، يا من كنت حبيب الملايين، أنني أمزح، فالمبلغ صحيح والحكاية ليست من نسج خيال أحد. ولو قلت لك كيف تلاعب هذا المحامي بقلوب وعقول الشعب كله والصحافة والمثقفين ورجال القانون لاكتفيت وعدت من حيث أتيت. ستقول وهل يسمح القانون بهذا الهزل، فضلا عن السرقة والنهب؟ وهنا لا أستطيع أن أدافع عن القانون ولكنني أؤكد لك، أيها الراحل العظيم، أن كل شيء ممكن في وجود أو غياب القانون.

فقد كان بإمكان شخص يدعى سامي علي أن يحول بلايين من أموال العمال المصرين في الخليج باسمه الشخصي ويربح مبالغ خيالية، فإذا سألته الحكومة " من أين لك هذا"؟ هدد بتدمير اقتصاد مصر. وتحت سمع وبصر القانون ضحكت امرأة واحدة على البلد كله ونهبت الملايين ثم خرجت من المطار معززة مكرمة. إنهم، أيها الشهيد الراحل، ينهبون مصر قطعة.. قطعة، من آثارها القيمة واقتصادها وزراعتها وأرضها وقيمها وتراثها وثقافتها.
تسألني وأين مجلس الشعب؟ وكأنك تريد البكاء قبل أن تستمع إلى بقية الحكاية. هل تعرف أن في مصر الحبيبة أكثر من نصف مليون مدمن مخدرات؟ وهل تعرف أن بعض أعضاء مجلس الشعب( الموقر) يتاجرون في سموم الشعب ويتعاطونها فلا تدري إن كان العضو وهو يمثل الشعب يقظا أم ( غائبا!)، وهل تعرف أن بمصر صحافة معارضة تكتب في كل شيء تقريبا، ولكن لا أحد يستجيب لها أو حتى ينصت إليها بأوامر عليا! وهل تعرف أن المنازل أصبحت أبراجا من حق صاحبها أن يحدد بنفسه نوعية مواد البناء شريطة أن تسقط بسكانها الأبرياء، لأن مقتل مصري أو مائة أو ألف لا يهم فلدى الدولة ( منهم) الكثير؟
أعود إلى موضوع المحامي التاجر، وهو الذي يتولى عملية إعادة الاعتبار والاحترام والتقدير للريان.
الريان! ماذا تقول؟ آه، معذرة أيها الحبيب الغالي، فأنت لم تسمع عن الريان. هل تذكر الميثاق الوطني الذي قرأته علينا في أوائل الستينات وتحدثت فيه عن الرجعية الدينية؟ لقد كنت تتنبأ به وبأعوانه، ولكنهم انتظروا مدة كافية لقتلك عدة مرات قبل أن يظهروا على الملأ بكروشهم الكبيرة، ولحاهم الكثة القذرة، وعيونهم المكحلة. انتظروا حتى تصدر (دار الزهراء) مجموعة من الكتب تتهمك فيها بكل موبقات الإنس والجن، ثم هجموا عليك هجمة ذئب واحد حتى لا يعرف أنصارك من أين تأتي الضربات، فنشرت اعتماد خورشيد ما أطلقت عليه (حكايتي مع عبد الناصر). وقطعا لن تجد في ذاكرتك أي صورة لهذه المرأة التي تقول إنها قامت بزيارتك وحدثتك، وأجلستها على طرف فراشك، وتناولتَ طعامك المتواضع أمامها، فنشرت كتابا كاملا عنك بعد أقل من عشرين عاما بقليل، أملته على شخص يدعى فاروق فهمي. لن أحدثك عن أنيس منصور (وجع في قلب إسرائيل)، وقد عاد إليه وعيه الإسرائيلي فنشر عنك كتابا أسماه(عبد الناصر المفترىَ عليه والمفتري علينا)

ولن أحدثك عن كثيرين من أعضاء الاوركسترا النشاز التي يقودها شخص يدعى محمد جلال كشك، الذي وضع مجموعة من المؤلفات لو قرأها إبليس في جحيمه ولعنته لرقص طربا، وانتشى فرحا، وأعاد على رب العزة قوله ( لأغوينهم أجمعين...)
نعود إلى الريان فأجد نفسي عاجزا عن شرح ملهاة أبكت شعبا بكامله، ومازالت فصولها تتوالى. فلن تستطيع أن تستوعب هذه الصدمات إن شرحت لك من هو الريان، وما معنى شركات توظيف الأموال! ستقول وهل هناك أموال في مصر؟ وهل تعرف الحكومة أين يستثمرون أموالهم، وماذا عن العمال والفلاحين والفقراء والعلاوات وعيد العمال و...؟
لن أرد على كل هذه الأسئلة والاستفسارات لأن هذا يعني أنك لن تصدق أن الحديث عن مصر والوطن العربي، وستظن أنني أخطأت العنوان! فالعمال الذين يهمك أمرهم ذهب أكثرهم إلى دول الخليج والعراق وليبيا. أما الذين ذهبوا إلى ليبيا ـ وتسمى حاليا الجماهيرية لأن الجماهير هي التي تحكم! ـ فقد غضب عليهم قائد الثورة، ذلك الشاب البدوي العفوي الذي كان قد قام بثورته على الملك إدريس السنوسي وأقسم أن يجعل من ليبيا جنة الصحراء، وقلت يومها إنه يُذكــّـرك بأيام شبابك.

عمالك، أيها الشهيد الغالي، تم طردهم من الجماهيرية والاستيلاء على أموالهم وتوجيه كل قاموس الشتائم إليهم.
وتم الصلح فعادوا مرة أخرى أضعافا مضاعفة، فلا يهم إن كان الهَمُّ هنا أو هناك، فالذل له طعم واحد.
أما الذين سافروا إلى الخليج وأنعشوا الحياة في مصر وساهموا في نهضة الدول العربية الشقيقة فأمرهم أعجب من العجب. ولكن قبل أن أكمل الحديث عن عمالك في الخليج أراك، أيها الشهيد الحبيب، تتساءل عن معنى الجماهيرية، وهل ليبيا أصبحت الآن غنية جدا ومتقدمة بحكم أن الجماهير هي التي تحكم وبين أيديها أموال البترول منذ عام 1969 وثورتها المباركة؟

والحقيقة أنني لا أعرف إن كانت المليارات من الدينارات تكفي لتحسين مستوى معيشة الليبيين وجعل الجماهيرية سويسرا العالم العربي أم لا. ولكن الواقع أن العالم كله استفاد من أموال بترول ليبيا بعدالة لا نظير لها، بدءا من منظمة " إيرا" الأيرلندية والهنود الحمر في أمريكا وشقيق جيمي كارتر والميليشيات والعصابات اللبنانية وحسين حبري وجون جارانج ومحمد عبد العزيز( الأخير إن لم تكن قد سمعت عنه هو رئيس قطعة من الصحراء القاحلة ليس فيها ماء أو خضرة أو وجه حسن. لكن الجزائر وإيران( الإسلامية!) قررتا جعل هذه الكثبان الرملية دولة عظيمة مثل الصين ومواجهة المغرب بها وتدمير اقتصاد الرباط وهز عرش الملك الحسن الثاني). لهذا لا أعرف إن كانت ليبيا قد أصبحت غنية أم أن 300 مليار دولار في العشرين عاما المنصرمة لم تكن كافية للجماهيرية و...تشاد!
أما عمالك الذين شدوا الرحال إلى دول الخليج العربية واستقروا بها، وزاد عددهم على المليونين، فقد شهدوا مع إخوة لهم من أقطار عربية أخرى سنوات خصبة ونهلوا من خيرات الأشقاء، وأطعموا أهلهم وذويهم إلى أن جاء يوم أغبر لا أعاده الله على العرب مرة أخرى اقتحم عشرات الآلاف من الجنود المدججين بالسلاح، وآلاف الدبابات، ومئات الصواريخ دولة الكويت الصغيرة!
ستقول، أيها الراحل الكبير، إنه لا شك عدوان ثلاثي جديد تقوده بريطانيا! لا، ألم أقل لك إنك لن تصدق أن هذا هو وطنك العربي. الاستعمار الجديد الذي قتل وسلب ونهب وذبح ودمر هو العراق الشقيق بأوامر من رئيسه صدام حسين! طبعا تذكره جيدا هذا الشاب البعثي الأنيق الذي لجأ إلى مصر ثلاث سنوات واشترك في عدة محاولات اغتيال في العراق، وفي عام 1968 استتب الحكم لحزب البعث وكان نائبا للرئيس أحمد حسن البكر، لكنه العقل المدبر للحزب، وللعراق كله. لقد اختلف كثيرا عن ذي قبل وأصبح الآن متمرسا في القتل والكذب، ويمارس ضد شعبه سادية لم يعرفها ستالين في دراكيولياته، فما بالك وهو يمارسها ضد الآخرين.

سترد فورا، أيها الغائب الحاضر، بأن العالم العربي كله قد وقف دون أدنى تردد أمام أطماع وهوس ودمويات صدام حسين.
آه، أيها الزعيم الحبيب، لقد اشتقنا لطيبتك وثقتك في قومك وإيمانك بهم ودفاعك عنهم.
العالم العربي اختلف فانقسم، وخرجت مظاهرات بعشرات الآلاف من المهووسين ترفع صور القاتل، وتعاهد الله على دعمه والوقوف معه، في الوقت الذي كان فيه جنوده يعبثون بكل القيم والمبادئ والأعراف والأخلاق، فذبحوا وقتلوا ونهبوا ودمروا وأحرقوا الأخضر واليابس، وأشعلوا آبار البترول وحولوا مدارس الأطفال إلى ثكنات عسكرية، وجامعة الكويت إلى معتقل، ومعهد البحوث العلمية إلى أطلال وخراب .

هل تصدق ، أيها القائد الغائب أن الجزائر العظيمة، صاحبة أنقى ثورات العصر ، تقرر إعداد مليون شخص للوقوف بجانب صدام حسين، وتخرج الجماعات الإسلامية تستعرض قوتها وعضلاتها تهدد بها النظام، وتعرض على صدام حسين الدعم الكامل؟
والكويت ليست إسرائيل، لكن العرب، يا زعيم العرب الغائب، لا يفرقون بين العدو والصديق، ولا يعرفون الطيب من القبيح، ولا الغث من السمين. أما في الأردن، فقد أعطى الملك الحسين بن طلال الضوء الأخضر لمساندة الباطل، فخرجت المظاهرات في كل مكان تعاهد القاتل على مزيد من الدعم إن أوغل في إرهابه وترويع جيرانه الآمنين.
في جنوب لبنان، وفي مخيمات المظلومين والمضطهدين، كانت صور صدام حسين تتصدر كل المظاهرات، فالعرب لم يتعلموا بعد مناصرة الحق.

عبد الناصر أيها الغائب الحبيب؛
هل تريد أن تسمع المزيد عن مأساة العرب بعدك؟ إذن سأحدثك عن الجرح الكويتي الكبير الذي لن يندمل أبدا. طبعا تذكر الكويت، خاصة وأن أميرها السابق كان آخر من عانقت من الأشقاء في مطار القاهرة بعد ظهر الثامن والعشرين من سبتمبر من عام 1970، ثم عدت إلى بيتك وأسلمت الروح إلى خالق الروح.

بعدما رحلتَ عنا وانتهت مدة الحِداد صدر كتاب لجلال الدين الحمامصي يشكك في ذمتك المالية. وبمباركة ضمنية من الرئيس أنور السادات تناول بعض الصحفيين الأمر، انتقاما منك، أو تشفيا فيك، أو تزلفا لنائبك السابق. وهنا غضب الكويتيون، وهم لا ينسون موقفك المشرف من بلدهم وأطماع عبد الكريم قاسم، فانتهزوا فرصة زيارة السادات لهم وطالبوه بإيقاف حملة التشكيك، وانبرى أحدهم في حفل عام وعرض على السادات، باسم كل الكويتيين، تسديد ما ادعى الكاذبون أنك مدين به.
تسألني، يا قائد العروبة الشهيد، عن أحوال الفلسطينيين؟ نعرف جميعا أنك كنت تحبهم، وتفضّلهم على العرب أجمعين، وقد قضيت عمرك كله تدافع عنهم، وأخيرا سكت قلبك الطيب بعد أن أوقفت مذابح الحسين بن طلال ضدهم.
لقد مرت بهم بعدك أزمات عنيفة تكفي كل منها أن تبيد شعبا بكامله، لكنهم كانوا يخرجون من كل أزمة أشد صلابة وأكثر إرادة في التحدي، لأنها كانت دائما هزائم خارجية، من الأعداء، ومن الأصدقاء أو من الأشقاء، فكانت تل الزعتر، وصبرا وشاتيلا وطرابلس الشمال... أما خروج 82 فكان وصمة عار للعرب حيث دخلت إسرائيل بيروت وجعلت تقذف حممها على مدى ثلاثة أشهر متواصلة بأكثر مما قذف الحلفاء برلين حتى خرج الفلسطينيون في مشهد لم يمر بمثله العالم العربي.
وقام الفلسطينيون بانتفاضة عظيمة مباركة تملك الإيمان والحجارة، وتحدت بها طوال أربع سنوات الجيش الإسرائيلي بكل جبروته وقسوته ووحشيته.

إلى أن جاء يوم الظلم العظيم، يوم العرب الأسود، الثاني من أغسطس عام 1990 فوقف الفلسطينيون مع القاتل صدام حسين في مواجهة العالم كله، ولأول مرة يُهزَم الفلسطينيون من الداخل، وهم الذين كانوا يمنحوننا الأمل دائما بأن الظلم لا يتجزأ، وأن الاحتلال في كل صوره مرفوض، سواء كان احتلالا إسرائيليا أو بريطانيا أو جنوب إفريقي أو حتى ....عربيا.
وخسر الأشقاء منذ الثاني من أغسطس المشؤوم أكثر مما خسروا منذ عام 1948، في الكويت والسعودية ودول الخليج الأخرى، وفي مصر ولبنان وسورية.
ثم جاء قطار الحل السريع للقضية الفلسطينية التي يملك الباطل فيها ـ أي إسرائيل ـ كل أوراق اللعبة تقريبا، وما زال العرب في انتظار أن تعترف بهم إسرائيل!
جمال يا حبيب الملايين؛
تتساءل أيها الحبيب الغائب عما حل بـ" الإقليم الشمالي" من الجمهورية العربية المتحدة؟ ونحن لا نملك أدلة، غير أن في النفس لوعتين، الأولى عندما تقفز صورة مدينة حماة إلى الذاكرة، وهذه لن نقص عليك من نبأها، فقد قتلتك في المرة الأولى مذابح سبتمبر الأسود، أما حماة فلم تكن أقل سوادا. اللوعة الثانية هي في إقامة دولة من أجهزة المخابرات، ولو قرأت تقارير منظمة العفو الدولية عن إقليمك الشمالي لذرفت دمعات على الوطن كله.

عبد الناصر أيها الهرم الكبير؛
هل أحدثك عن السودان؟ الحديث عن السودان لا يحتاج إلى أكثر من وصف البؤس بكل درجاته؛ ففيه الفقر، والمجاعة، وحكم عسكري كأنه أخطأ الطريق إلى أمريكا اللاتينية ووصل الخرطوم، وقيمة للمواطن تعادل الصفر أو أقل.

هل تصدق، أيها الهرم الغائب، أن ستمائة ألف سوداني اختفوا بين إثيوبيا والسودان ولا يعرف أحد عنهم شيئا؟ وهل تصدق أن إعدام مواطن في عهد البشير أكثر سهولة من إلقاء تحية الصباح؟ وهل تصدّق أن السودان الحبيب، جنوب مصر العظيمة، وقف مع صدام حسين في عدوانه؟
لو حدثتك عن الوطن العربي الكبير بتفاصيل مآسيه ودراماته وفواجعه منذ رحيلك لما صدقتني، فاكتفيت ببقع سوداء لعلها تحكي لك عن أسباب شوقنا إليك، وإلى صوتك وإيمانك وقوتك وإرادتك وإخلاصك.. أكاد أسمعك تسأل عن عيد الثورة، عيدنا القومي!

وهل الرئيس حسني مبارك قام بتوزيع العلاوات على العمال والأراضي على الفلاحين؟ معذرة، فقد بحثنا عن الرئيس في مصر ولم نجده وعلمنا أنه في قصر باكنجهام!
محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
طائر الشمال
أوسلو في سبتمبر 1991
أوسلو في 23 يوليو 2012
أوسلو أيضا في 15 يناير 2019

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...