31‏/01‏/2018

هل يمكن أن يقوم انقلاب في سلطنة عُمان؟

من أرشيف طائر الشمال




هبطت الطائرة التي تقل زعيما عربيا مطار عاصمة عربية كبرى، وعقدت المفاجأة ألسنة المضيفين الذين اصطفوا لاستقبال الضيف الكبير فوجدوا معه ثلاثمئة من حراسه الشخصيين، ورفضتْ طبعا سلطاتُ البلد المضيف تلك الاهانةَ، فالزعيمُ في ضيافتهم وأمنهم.

ابن زعيم عربي يعمل في البزنس، ولديه مكتب لا يبعد ثلاثمئة متر عن مقر إقامته في سكنه الفاخر، فإذا حان موعد قطع تلك الأمتار فإن عشرات من رجال الأمن يكونوا قد قطعوا الطريق على أي محاولة لمواطن يريد أن يمر في الشارع أو يقترب منه، وأكثر ضباط الأمن يحملون فوق أكتافهم مجموعة من النياشين والأشياء الغريبة كأنهم كانوا مع مونتجمري في العلمين، أو تولوا التخطيط لنورماندي!
زعيم عربي، توفاه الله، كان يحتقر شعبه لدرجة مثيرة للغثيان فهو يرفض زيارة المناطق الفقيرة والريفية خشية أن تقع عيناه الشريفتان على الوضع المأساوي الكارثي والمهين لأبناء شعبه.
شاب عُماني يسير في الطريق العام فتتوقف سيارة، وينفتح بابها ثم يطل وجه أسمر مألوف طالبا منه أن يقوم بتوصيله والحديث معه!
سائق السيارة الذي لا تحميه كتيبة أمنية ولا تحرسه إلا عناية الله هو السلطان قابوس بن سعيد!


شاب عماني أعرفه جيدا أقسم لي بأنه مر أمام القصر الذي لم يكن يحرسه في ذلك الوقت غير حارس واحد، ووجد السلطان قابوس جالسا في الشرفة يقرأ الصحف اليومية في أمان عجيب ولا يبعد الشارع الرئيسي عنه غير أمتار معدودات.
الجولات السلطانية ظاهرة فريدة من نوعها، ومجلس شورى متنقل، واحتكاك مباشر بأفراد الشعب، وعطلة اجبارية للمستشارين فالعاهل يتوقف بسيارته، ويجلس على الأرض، ويقترب منه الصغير والكبير، ويستمع لكل الاقتراحات والشكاوى والخلجات والهموم والاعتراضات دون أن تتحرك يد واحدة لمعاون أو مساعد أو حارس أو مستشار
وكان النصر هذه المرة ضد النفس الأمارة بالسوء والتي تنادي بالعنف والانتقام.


في الدولة العربية الأكثر تسامحا تجاه المذاهب والعقائد المخالفة للنهج العام، حيث لا يعرف ضيوف الدولة أي فروقات مذهبية، وحيث يصل التحضر العقيدي في الدولة بين العمانيين إلى هذه الدرجة من التسامح فلا تقرأ شيئا عن الاختلافات، ولا تصدر كتب توغر الصدور، ولا يعرف العربُ المذهبَ الذي ينتمي إليه العاهل العماني أو التقسيمات الوهمية في الحكومة كما تفعل معظم حكومات أقطارنا العربية، فهذا المنصب محجوز لشيعي وذاك لسني وثالث لكردي ورابع لماروني وخامس لشركسي وسادس لتركماني، ولا مانع من تقسيمات داخل التقسيمات وكأن الوطن هو الذي يتجزأ ويتم توزيعه على مائدة السلطة.


كيف تنام فكرة عدة عقود، ثم تستيقظ لتلقى بالمواطن بعيدا كما يحدث في معظم حالات الالتقاء المصادفة الذي يظن فيه المواطن في عالمنا العربي أن زعيمه من نفس الجنس واللون والعقيدة وربما السلالة البشرية.
الانقلاب العسكري أو محاولة التمرد أو الثورة الغاضبة أو المظاهرات التي تعم البلاد لا تأتي من فراغ، وليست نتيجة لتليباثي جماعي، لكنها تراكمات من الحزن والغضب وعدم الرضا والكراهية والاحباط نتيجة أوضاع عكسية تناهض أماني وأحلام الشعب.
في أثيوبيا إبان حكم الامبراطور هيلاسلاسي كانت الدولة كلها بين اصبعين من أصابعه، وعندما يستيقظ في الصباح تأتيه تقارير شفوية عما دار في الليل، ولو كان يملك فرصة وضع شعبه برمته في قفص يغلقه حتى الصباح لفعل، لهذا هلل كل أفراد الشعب للانقلاب ضده، وأعادوا نفس التهليل والتأييد للانقلاب المضاد الذي قاده منجستو هيلا مريم.
سلطنة عُمان حالة خاصة من العلاقة الصحية والسليمة والعاطفية الحميمة بين القيادة والشعب لا تعادلها في عالمنا العربي إلا دولة الكويت.
فآل الصباح الكرام يمثلون في الواقع أهم شرعية دستورية وشعبية في التاريخ العربي الحديث، فقد تم مسح الدولة من الخريطة تماما، وأصبحت المحافظة التاسعة عشرة في جمهورية الرعب العراقية، وكانت الديرة تموج قبيل الغزو الآثم بكل التيارات حتى أصبح أمرا عاديا أن يستخدم الاعلاميون تعبير المعارضة الكويتية.


قد أتفهم تماما لو أن مبررات الانقلاب والتذمر والتمرد موجودة بنسبة ضئيلة ولكن سلطنة عُمان حالة نادرة تشهد بذلك معظم المنظمات الدولية المحايدة من المحافظة على البيئة إلى حقوق الإنسان، ومن الرقابة على أموال الشعب إلى العدالة في التعامل بين الحاكم والمحكوم.
ولا يمر عام إلا وتحصل سلطنة عُمان فيه على جائزة دولية في الصحة أو البيئة أو الحفاظ على البحر أو المحافظة على الطيور النادرة أو المشاركة في نظافة الشواطيء أو في التعامل مع السائحين أو في التوعية أو في الاهتمام بنسب متساوية بكل قرى ومدن الدولة كوحدة واحدة.
وسلطنة عمان لا تعرف الفساد الذي نخر سوسُهُ في عظام أنظمة عربية كثيرة في الشرق الأوسط والعالم العربي والعالم الثالث، حتى أن ديوان المحاسبة يمر على البعثات الدبلوماسية وعلى الديوان السلطاني ولا يعرف كبيرا في الدولة.
نحن هنا لا نتحدث عن دولة ملائكة، معاذ الله أن أكون من الظالمين،
فالانسان هو الانسان منذ بدء الخليقة، وفي أخصب فترات نزول الوحي على الأنبياء والرسل كانت هناك نوازع شر، وتكالب الناس على الصراع، ومشاعر الحسد والغيرة، وانتصار الشيطان في معارك كثيرة ، لذا وحتى لا يُساء الفهم وتفقد الكلمة معناها، ويظن سيئو النية أنها كلمات مجاملة نؤكد أن النسبة الصغيرة والضئيلة جدا من السلبيات تكاد تختفي خجلا خلف ظاهرة الانسان العماني.
إذا كان الشعب محظوظا بحاكمه فللحق وللتاريخ نقول بأن السلطان قابوس بن سعيد هو أيضا محظوظ بالشعب العماني، وبأنه يحكم بلدا بكرا، وشعبا كأنه خارج لتوه من خدر عذراء فلا يدري المرء إن كانت تلك طبيعة مكتسبة أم مكاسب أخلاقية وتربوية توارثتها أجيال عن أجيال.


من الذي اخترق واحة السلام العمانية التي تعمر بها قلوب أبناء شعب وبدأ يستدعي أحلاما في هدم ما تم بناؤه في عشرات الأعوام؟
لو أن سلطنة عمان تتراجع في أي مجال لفهمت حقا أسباب ودواعي التآمر أو التمرد أو التسلح استعدادا لقلب نظام الحكم، والقضاء على الفساد، وتغيير أنظمة التعليم، وتطوير البلاد إلى الأفضل!
لكن الغريب هو ارتباط فكر التغيير بالهدم وليس بالبناء، بالطائفية وليس بالتسامح، بالغاء مكتسبات الشعب وليس باضافة منجزات جديدة.
وحتى مع افتراض أن هناك حلما باقامة دولة إمامة دينية يهيمن فيها مذهب على بقية المذاهب الأخرى، فكيف استطاع هؤلاء الأفراد تخيل المشهد العماني الجديد وقد ارتفعت فيه أصوات غابت تماما في دولة التسامح، فيتم تقسيم الوطن، وتقام خلافة أو إمامة كما يحلم عشاق الوهم في عالمنا الاسلامي الذين يريدون اقامة دولة مكونة من كل التناقضات وهم لا يستطيعون أصلا حل مشكلة الحدود أو اقامة منطقة حرة بين دولتين أو معرفة التركيبة الداخلية لأي دولة اسلامية أخرى يريدون ضمها عنوة لدولة الخلافة كأنهم ينتقمون من مصطفى كمال أتاتورك ونحن نسير بعكازين وتضربنا على أقفيتنا كل القوى الكبرى وحتى الصغرى، وترتعش أوصالنا إن أحمرت عينا الدكتورة كونداليزا رايس أو أصفر وجه آريل شارون أو صدر بيان لجماعة مجهولة تهدد بقلب الطاولة على الجميع؟
أتفهم تماما شدة الألم الذي يشعر به السلطان قابوس بن سعيد بعد كل ما قدمه لشعبه وبلده في خمسة وثلاثين عاما، وبعدما أجمع الأصدقاء والخصوم والمحايدون على عبقرية الحكم التي أخرجت بلدا عربيا من هامش التاريخ وظلمات الجهل والأمية إلى المشاركة في ركب الحضارة.
لم يفتح السلطان قابوس بن سعيد سجونا ومعتقلات لشعبه، ولم يتهاون في سد كل منافذ الفساد، وتضاعفت ثروة البلاد مرات كثيرة على الرغم من أنها ليست في صدارة الدول المصدرة للبترول، ومن ثلاث مدارس عام سبعين إلى آلاف في طول البلاد وعرضها، ومن خرافات وتراجع وقبول بدور سلبي لدولة نائمة إلى ايقاظ العملاق العماني لبناء دولة عصرية تلعب دورها المسالم والوطني والقومي والدولي بمهارة بعيدا عن أي شبهات تجعلها هدفا لقوى التطرف.
في منطقة لو أطلقت طائرة عسكرية أو سفينة حربية صاروخا عشوائيا فسيصيب السلطنة، ولو غضب الايرانيون على الخليج فسيصل الصدى لسلطنة عمان، ولو تحركت قوى الارهاب في أي اتجاه في الخليج، من باكستان أو الهند أو أفغانستان، في البر أو في البحر، في جبال اليمن أو على حدود السعودية فإن اصابات طائشة ستخترق السلام العماني ، تظل سلطنة عمان جنة الخليج وواحة الأمن، وشاهدا على عبقرية الحكم للسلطان قابوس بن سعيد.
لم يدر بذهني للحظة واحدة أن أسأل في سلطنة عمان عن مذهب أي شخص أو مسؤول، وأرى العمانيين وحدة متجانسة، ولا أكترث أن يكون مضيفي من أي مذهب أو فكرة أو رؤية قديمة أو متجددة، وليكن إباضيا أو غير إباض فتلك قضايا ينبغي أن تظل في طي المشهد العماني المتسامح.


هذه الكلمات لم تكن لتعرف طريقها إذا خاب ظني وأصدر السلطان قابوس حكما بتثبيت الأحكام الصادرة ضد المتهمين، ليس لأنه سيكون ظلما فأحكام القضاء نافذة وحاسمة ويفترض أنها عادلة، ولكن لأن ثقتي في السلطان قابوس بن سعيد كبيرة، بل هي يقين يستند إلى ثقة السلطان بنفسه وبنزاهة حكمه وبشرف الوعد الذي قطعه على نفسه من أجل شعبه ومستقبل العمانيين.


لا أحب الحدس واستشراف الغيب وتحويل الاعلامي أو الكاتب أو الصحفي إلى عراف يتنبأ بملامح المستقبل، لكن في الحالة العمانية يكاد المشهد المستقبلي يضحى جزءا من الحاضر المنظور، ويختلط الماضي السائر بقدم ثابتة بذات الحاضر متجها بنفس الثبات لمستقبل لا تخطئه العين المدربة.
من حسن حظ المتهمين أنهم في سلطنة عمان، وربما مرت على خطط التآمر فكرة التسامح لدى السلطان فهي ليست المرة الأولى أو الثانية، لكن هذا لا يعني أن الحليم لا يغضب. أغلب الظن أن المتهمين يجهلون تماما ما يحدث في عالمنا، ولا يعرفون أنظمة الحكم الأخرى، ولا يتصورون شكل بلادهم عندما تولى السلطان قابوس بن سعيد الحكم.
لقد كبر السلطان قابوس في أعيننا عندما رفض ازهاق الأرواح التي هو مؤتمن عليها.

هنيئا للعمانيين بنهضتهم وتطور بلادهم وأمن وطنهم.
وهنيئا لهم بقائدهم، لكننا نكمل النصف الثاني من الحقيقة بتهنئة السلطان قابوس بهذا الشعب الأكثر طيبة وكرما وتسامحا بين كل شعوب عالمنا العربي.


محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو  النرويج
Taeralshmal@gmail.com

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...