16‏/11‏/2015

باريس لا تحترق!

 باريس لا تحترق!

ظلام يتسلل إلى عاصمة النور يوم الجمعة الموافق الثالث عشر دون أن تحط بومة واحدة على برج إيفل، فيتساوى التطير والتشاؤم.

الخليفة أبو بكر البغدادي لا يفهم ما يكتبه موليير، وروايات إميل زولا ممنوع تداولها في الموصل، والبؤساء يغادرون الدولة الإسلامية قبل أن يستأذنوا فيكتور هوجو، وشاتوبريان فشل في التعريف بالوطن الأم، فالظلاميون الجدد يؤمنون أن الدين هو الوطن.
في الصباح قرأت قليلا في كتاب بقلم كارلوس ليسكانو( عربة المجانين ) عن يوميات سجين في الأوروجواي إبان حُكم العسكر.وكادت أعصابي تفلت هاربة من جسدي رغم أنني أقرأ الكتاب للمرة الثالثة. بعد ذلك أمسكت بكتاب ( ثقوب في ذاكرة الجزائر) عن التجارب النووية الفرنسية قبيل الاستقلال، ولم أكتف بهذا، لكنني ذهبت إلى اليوتيوب لمشاهدة أفلام عن المشوهين الجزائريين إثر التعرض للتجارب النووية وكأني سمعت إبليس يهمس في أذني بأنه لا يستطيع تحمل عدة دقائق في تأمل ضحايا الجيل الثاني والثالث من الذين تشوهت رؤوسهم وأيديهم وأرجلهم وأعينهم وآذانهم وأسنانهم فأصبحوا حطام مومياوات تعيش بيننا.

غضبت على الاستعمار والاستدمار في كل مكان من العالم، فالتدميريون يحملون بين أضلعهم حمماً من نار جهنم أو يزيد، ولا يختلف الديني عن السياسي، واللص عن القاتل، والمتطرف عن الداعية، والمؤمن عن الكافر، والمذهبي عن السفاح.

ثم قررت أن أستريح ما بقي من يومي فأدلف إلى العشقيات والغزل وأطالع قطعة أدبية وأسمع كونسرتو بيانو واستمتع بصوت أسمهان وأحلام أو أشاهد مسرحية كوميدية تــُـخرجني من العالم المجنون.

في التاسعة والنصف مساء انتقلت باريس إلى بيتي قبل أن أطير إليها، ونسيت غضبي على الماضي ليحل الغضب على الحاضر مكانه. وجلست أتابع يوم القيامة الباريسي، فدخلت، وأنا في مكاني لا أبرحه، مكتباتها القديمة، واشتريت صحيفة لوموند ،وجلست في كافتيريا أنيقة أرتشف قدحا من القهوة البرازيلية مثلما كان يفعل ( الزاهر ) في رواية البرازيلي باولو كويلهو، ولعبت كرة طاولة مع شاب أفريقي كما فعلت أول مرة أزور فيها عاصمة السين!

اختفى الوجه القبيح للاستعمار، واعتذرت لمالك بن نبي، وتأسفت لمحمد بوضياف ولهواري بومدين الذي رفض زيارة فرنسا ما بقي له من عُمر، فجرحه كان غائراً لا يندمل إلا تحت التراب.

بدأت أحاول التخفيف من ثقل الماضي حتى ألعن مذابح الحاضر، فقلت لنفسي بأن القسوة لا دين لها، والغلظة تغطي قلوب المؤمنين وغير المؤمنين على قدم سواء، والمسلمون والمسيحيون واليهود والبوذيون والكونفيوش والهندوس وغيرهم مارسوا التجارب النووية في الخيال لأن الفرصة لم تتُح لهم في الواقع.

قلت لنفسي بأن الإنسان خُلق من طين، لكنه استبدل به جمرات من نار ليتساوى مع الشيطان، وقابيل أورث أحفاده الشر كله، وبدون تجارب نووية كانت المذابح لا تتوقف، من ملك بلجيكا في الكونغو، مروراً برواندا في منتصف التسعينيات حتى ذُبح على مرأى من قوات حفظ السلام مليون رواندي، وليس انتهاء بجوانتانامو وأبوغريب وغرقى البحار وحربين عالميتين أكلتا خمسين مليونا، وفيتنام وحرب عالمية ثالثة بدأت للتو ولم تسخن بعد.

نزل الحزن على صدري، فباريس تحترق مع قلوب عشاقها، والبرابرة الجدد يتعطشون للدماء في المسرح والملعب والشارع، ولم يبق على داعش إلا أن تشكر كل الذين قاموا بتسليحها، وفتح الأبواب لها من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وسوريا والعراق وليبيا واليمن وغزة ...

كل الضحايا لهم قيادات ساهمت في تغذية الذئاب، وكل الذئاب رقصت مع الحملان قبل ذبحها.

أتعاطف مع فرنسا .. مع باريس .. مع الأبرياء وأهلهم وأحبابهم وأصدقائهم. القاتل ليس هو الذي يطلق النار أو ينسف نفسه بحزامه، لكن الشريك أيضا قاتل ولو بقدر أقل. داعش استولت على بترول العراق، وربحت مليارات في الموصل، وتولــّـت دول مجاورة إسلامية مهمةَ تهريبه، وقامت مصارف غربية بالعمليات البنكية المعقدة برائحتها الكريهة.

أكثر المراكز الإسلامية في أوروبا قام عليها نصَّابون ومحتالون ولصوص وإرهابيون طوال أربعة عقود، وتسللوا إلى مفاصل الدولة عن طريق السماء، فالدعوة أيضا يمكن أن تكون تمهيدا لمذبحة، وصلوات كثيرة تقام خلف إرهابيين.

باريس ستقوم من جديد رغم أنف الحقد والإرهاب ودعاة الخلافة الدينية وورثة الكراهية وحاملي بذرة البغضاء.

كنت أتمنى أن أقول: اليوم كلنا فرنسيون، لكننا أيضا روس ومصريون وليبيون وعراقيون وسوريون ولبنانيون وأكراد وفلسطينيون و ....

من يبكي على قطرة دم إنسان ويظن أن آخر تجري في عروقه مياه فقط، فبكاؤه إثم، وحزنه إفك.

باريس .. لافي آن روز، وأزهار الشر ستذبل وتموت ولو رواها مئة خليفة بودليري، وعشاقك ينتظرون افتتاح مسرح أو دارعرض أو معرض للكتاب أو دار نشر تزيد النور .. نوراً.

باريس.. رغم أن مدريد وأبوظبي وأثينا والكويت وجنيف ومسقط ولوكسمبورج والاسكندرية وأوسلو ودبي أقرب إلى قلبي منكِ، لكنني أعترف بأن فيكِ سحراً لمحبيك وكارهيك، ومن لم يغن لكِ ولو كان جاهلا بلغتك، فلا يعرف الحب ولا بيافه ولا ماتييه ولا موستاكيه ولا أزنافوره!

باريس تحترق في أخيلة مصاصي الدماء فقط، أما الذين تنبت الأوراق الخُضر في قلوبهم فلا يحل الشوك مكان الشوق فيها.

باريس .. رغم أنني عربي ومسلم أغضب عليكِ أحيانا وأغضب منك أحايين أخرى، إلا أنني أحزن إذا مَســَّـكِ أحدٌ بسوء أو مكروه أو خدش أو .. إيذاء!
باريس .. سامحيني فالارهاب مصنوع عندنا وعندكم، ولكِ الحق أن تغضبي علينا، ولنا الحق، بعد عودتكِ إلى أحضان السلام، أن نغضب منك.

باريس .. لا تفتحي ذراعيك مرة أخرى لمن يتطاير الشرر من أعينهم.
عزائي لكِ في أبريائك الذين أبهرهم سحرُك وقتلــَـهم سحرَتــُــكِ!

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير طائر الشمال
أوسلو في 15 نوفمبر 2015

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...