07‏/03‏/2021

مقطع من يومياتي بعد موتي! ( الأجزاء الأربعة الأولى مجتمعة)

 مقطع من يومياتي بعد موتي! ( الأجزاء الأربعة الأولى مجتمعة)


هذه مشاهد من يومياتي بعد موتي من منظور إنساني ولا تتحمل تفسيرات وتعليقات وردودًا تستند إلى استشهاد بآيات من القرآن الكريم أو الكتاب المقدس بعهديه، القديم والحديث، ولا أحاديث نبوية أو كلام القديسين والشيوخ ورجال أي دين!
تُرىَ من يستطيع أن يقرأها دون أن يُقحم المقدس فيها أو يُعلق بإكليشيهات متوارثة؟
من يستطيع أن ينظر إليها كإنسان.. إنسان فقط يسانده عقل، ويدعمه فكر بعيدا عن أي تأثيرات أخرى؟
*************************************

لا أدري متى رحلتُ عن الدنيا الأرضية؛ فربما كان يوما أو شهرا أو عاما أو عقدا أو أكثر!
كنت في حالة دهشة فلم أعرف إنْ كنتُ أطير أم أمشي، لكنني في كل الأحوال يحملني جسدٌ خفيف فيه روح، أو روحٌ تتأبط جسدًا!

بحثتُ عن أي شخص يفسّر لي الغموض الذي يحيط بي؛ وبعد وقت من الزمن غير المحسوب وجدت أمامي شابا ذا سحنة آسيوية، ووجها مريحا، ونظرات مُطمئنة فاقتربت منه ولم ألمسه:
سألته بلغتي العربية عن هذا المكان فردّ قائلا: إنه موقع الانتظار، ففهمتُ لغته الآسيوية كما فهم عربيتي، وعرفت منه أن كل المتواجدين في هذا المكان يتحدثون لغاتهم الأم ولا يحتاجون لترجمتها، فيحدّثك المنجولي وتفهمه، وترد عليه بلهجة أفريقية فتتحول قبل أن تصل إلى أذنيه إلى لغة يفهمها كأنها لسانه!

قال لي الشاب بأن مليارات من البشر في مكان الانتظار وكل منهم يتحدث مع أي شخص بأي لغة فتتحول إلى لغة التفاهم في هذا المكان.
سألته عن عُمره فقال بأنه مات منذ ثلاثة آلاف عام وكان يعيش على ضفاف النهر الأصفر بالقرب من مصب بحر بوهاي، أما جسده الأرضي فلا يعرف عنه شيئا وربما استقر في قاع النهر منذ آلاف السنين، وما أراه أنا الآن فهو الجسد البديل الذي يحمل الروح في موقع الانتظار!

قلت له: ولكنك شاب في الخامسة والعشرين من العُمر! قال: وأنت أيضا رغم أن ملك الموت قد زارك وقد تخطيت سبعة أو ثمانية عقود أو أكثر!
ثم أردف قائلا: كلنا هنا في نفس العُمر، بالحساب الأرضي، لكننا نتذكر سنوات الكهولة والشيخوخة كأنها لم تبرحنا.

زاد فضولي فسألته: وماذا ننتظر؟
قال: إن الحياة ما تزال قائمة على الأرض، وإذا نظرت في هذا الاتجاه وهو على مبعدة ملايين من السنوات الضوئية ستعرف سبب وجودنا، فالقيامة لم تقُم بعد، وربما ننتظر هنا مئة ألف عام، أو عدة ملايين من السنين، حتى إذا قُضيَ الأمر وانتهى الغرض من الخَلـْق، مات بنو آدم كلهم، وتجمعنا في موضع الانتظار ليوم الحساب.

شكرته على أول معلومات أفادني بها، ومشيتُ أو طرتُ باحثا عمن يحل لي الألغاز والطلاسم التي لم أجد لها تفسيرا بعد.

شاهدت شبابا يجلسون متسامرين ويبدو أنهم من جنسيات أرضية مختلفة ويتحدثون كل بلغته، ويتفاهمون كلٌّ كأنه يستمع للغته!
أشار لي أحدهم فتقدمت منهم ولاحظت عدم شعوري بالجوع أو بالعطش أو بأي آلام فأغلب الظن أنني مشيت أو طرت مئة عام أرضي حتى التقيتهم.
شعرت بدفء مودة غريبة نحو كل منهم فانبرى أحدهم قائلا: تتعجب اننا في حالة من الوئام رغم تناقضاتنا الظاهرة، أليس كذلك؟
قلت: لكنكم من أديان ومذاهب وعقائد وأفكار وآراء وجنسيات وثقافات أرضية متصارعة ومتناقضة بل كانت في حين من الدهر متذابحة!

كانوا في عُمر واحد لا يكبر أحدهم غيره ساعة أو بعض الساعة.
قال الأسمر فيهم: نحن لم نُعرَض بعد على ميزان الآخرة؛ لكن ليست هناك أية فرصة لتوسوس روح شريرة لأيٍّ منا، لذا تجد هذا الانسجام التام.
قاطعه آخر برفق: حتى لو التقيت فتيات ساحرات الجمال، بديعات في كل شيء فلن تقتحم ذهنــَـك أي أفكار أرضية من تلك التي أفقدتنا متعة الحياة المسالمة والمشتركة.
سألتُ الأسمرَ عن عُمره فقال: افترسني تمساح في نهر الكونغو منذ أربعة آلاف عام وكنت في الخمسين من العُمر، لكنني الآن في موقع الانتظار وفي مثل عُمرك.

وماذا عن الطعام والشراب والاحتياجات الأخرى؟
قال: لا نحتاج إليها، ولا تخرج فضلات، ولايمرض أحد، ولا يشاهد أحدنا ما يرتديه الآخرون فلا يعرف إنْ كان المليارات من البشر هنا عرايا أو يرتدون ملابس.
لاحظت أنهم يتمتعون بذكاء متساوٍ تماما فتنتفي المنافسة !
فجأة تقدم منــّـا اثنان فهمت من هيئتهما أنهما مصريان فسلــّـما علينا، وجاءني فضول عجيب كأنه من الأرض التي غادرناها فسألتهما عن دين كل واحد منهما!

لم أصدّق ما سمعته أذناي فهما لا يعرفان مَنْ المسلم ومَنْ المسيحي، ولا تقترب منهما أفكار شريرة في مقارنة الأفضلية فقد تركاها في العالم الدنيوي وهما هنا لتحضير نفسيهما ليوم القيامة عندما يقرر مالكُ المُلك إنهاء الحياة على الأرض، ووقوف الخلق جميعا لاستعراض كل ساعة ودقيقة وثانية وهمسة وخاطرة ونظرة ولمسة ورؤية وفكرة وسلوك منذ أن بلغ الإنسانُ رشـْـدَ المحاسبة إلى أن صعدت الروح.

أحدهما مات منذ ألفي عام وكان في استقبال المسيح بن مريم، عليهما السلام، عندما وطأت أقدامهما الطاهرة أرض مصر، والثاني يتذكر أنه كان يقيم في يثرب لدى هجرة رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ومات بعدها بعدة سنوات.

تناهتْ إلى سمعي أنغام كأنها موسيقى تعزفها آلات من أماكن مختلفة وأزمنة متفرقة على الأرض وكانت بديعة أحسست معها أنني أعرفها رغم انتمائها للأرض برمتها.
اقتربتْ مني أصوات صبايا يتضاحكن، ويدندن بأغان يتذكرنها من حياتهن الأرضية.

الغريب أنني منذ وصولي إلى موقع الانتظار لم أسمع صوتا أعلى من المألوف، ولم أرَ معاتبا أو منتقدا أو مُخالفا أو حتى نظرات غير مريحة.
لا أرى مُسنّين وشيوخا وكهولا، ولا مرضىَ ولا ضعاف البنية!
لمحت فتاة جميلة تمشي أو تطير مثل ريشة في مهب الريح لكنها متماسكة. نظرتْ إلي وبادلتني الابتسام فسألتها عما تفعل هنا! قالت: مثلك تماما؛ فأنا أنتظر يوم القيامة؛ وكان الموت قد أتاني إثر وباء الطاعون الأسود في القرن الثالث عشر الأرضي، وتركت خلفي أبنائي وأحفادي بعدما بلغت التسعين من العُمر. أغلب الظن أنهم هنا وأنا لم أقابل أيا منهم منذ وفاتي لسبعمئة عام خلتْ، وما زلت أبحث عنهم، وأتذكر ابنتي الصغرى شكلا وهيئة، ولعلي أقابلها فالوقت أمامي طويل ويمتد حتى يوم القيامة التي قد تأتي بعد عدة ملايين من السنوات!

سألتها عن قبرها فقالت كان في مدافن ضحايا الوباء في احدى قرى شمال أوروبا، لكن العالم تغير عشرات المرات فربما يكون جسدي الأرضي طينا في حديقة غنّاء، أو في بئر نفط وقد تناثر في كل مكان!
عيناها تشعان ذكاءً رغم أننا جميعا في نفس مستوى الذهن المتقد!
سألتها: ألا تشعرين بملل بعد كل هذه القرون وأنتِ في موقع الانتظار؟
قالت كل المشاعر السلبية غير موجودة لدى المليارات من البشر المتواجدين هنا حتى تمر علينا فترة الانتظار، ثم نشهد يوم القيامة، رغم أنني في حياتي الأرضية لم أكن مؤمنة بأي دين، ليس بسبب عدم قناعاتي؛ ولكن بسبب عدم ثقتي في رجال كل الأديان والعقائد والمذاهب منذ بدء الخليقة وحتى رحيلي عن الدنيا.
ثم أردفت: على كل حال فأنا في انتظار يوم القيامة كما تعتقدون، وإذا كان صحيحا فإن مكاني لن يكون في غير الجنة، فقد قضيت عُمري الأرضي في حالة حُب مع البشر، وخير مع الجميع، وأمانة وصدق وشرف حتى أنني قضيت مع زوجي سبعين عاما لم أعرف غيره، وكنت مُربية جيدة وأمينة لأبنائي. لهذا فأنا مطمئنة لدخولي الجنة مع افتراض أن خالق الكون أعدّها لمن أتاه بقلب سليم.

قلت لها: محظوظة أنتِ فأنا جئت من عالم يأكل ويشرب صراعات من أجل عدة أعوام فوق تراب الأرض، ولدينا كاذبون وغشاشون ومنافقون وجبناء وأكثرهم يرتدون مسوح القداسة الدينية فيتضاعف الفساد.
كنا نتفاهم كما قلت ولو تحدثنا بعدة لغات فكل لغة ستدخل أذُن الآخر كأنها لغته الأم، وتلك هي معجزة فترة الانتظار.

تركتها ومشيتُ أو طرتُ محاولا استكشاف هذا المكان، ولا أدري كنهه أو مساحته أو أسراره؛ لكنني علمت أن ساكنيه مؤقتا عدة مليارات من البشر.
كان هناك نور بغير شمس، وظلام تحدده عيناك كيفما تريد، وإحساس بالدفء يتداخل معه شعور بإنعاش البرودة.
لم أرَ أحدا يبكي أو يصرخ أو يصيح، فالسلام قد عمّ المكان كله، ونظرت إلى أعلى باحثا عن نجوم أو كواكب فلم أتبين شيئا، وقد تظهر بعد حين.
سألت نفسي: وماذا عن النوم؟

لم أشعر بأدنىَ حاجة للنوم؛ فالتعب لم يطرق بابي، وأنا مثل الذي ينتظر موعدا يفصل الحياة والموت فلا تغفل عيناه لحظة واحدة.

شاب وسيم ككل شباب موقع الانتظار مرَّ بجانبي، مشيا أو طيرانا، ثم نظر إلى متسائلا: هل تبحث عن صحبة لتتعرف بالموقع أكثر؛ فأنا أراك في حيرة، ولا تدري أيَ مكان تتوجه إليه؟

بادلته الابتسامة، ومشيت أو طرت بجواره، وسألته عن ظروف موته في حياته الدنيوية، وكأنني فتحت الصفحة الأولى لرواية بطول عُمره!
كنت أعيش حياة سعيدة مع العائلة، قال لي: والد يحرسني من أي خطأ، ووالدة كأنها قطعتْ حبل السُرّة لتوها إثر ولادتي، لكنها متمسكة بي. أشقاء وشقيقات وأحلام في كل القيم المثالية، وتسامح مع الجميع فلا تقتحم كلمة طائفية حياتي أو يلفظها لساني أو يحتفظ بها قلبي!

ثم أكمل: اكتشفت فجأة أن انخراطي في هموم وطني هو القيمة الإنسانية الكبرى التي أريد أن يرثها عني جيل من صُلبي. في بلدي، ولن أذكر لكَ اسمَه لأن عشرات من الأوطان الكبرى تماثله في الظلم و.. صمتِ الناس.
اعتقلتني الشرطة ووضعتني أنا وأحلامي وآمالي في سجن يستقبل الأحياءَ فقط، ثم يلفظهم أمواتا مع شهادة مزوّرة من طبيب السلطة.

قضيت عدة سنوات تحت التعذيب والمهانة والجوع والعطش، وحُرمتْ أمي من زيارتي؛ فلما مرضتُ مُنع عني الدواء حتى لفظت أنفاسي الأخيرة، وها أنا في موقع الانتظار مُترقبا حساب يوم الحساب، بعدما أنزل عليَ ربي صبرا شديدا.
لم يبك أو يغضب أو يلعن سجّانيه فنحن في مكان نحاسب أنفسنا عن كل همسة خشية أن تؤثر في ميزان يوم الحساب بعدما تقوم الساعة ولو بعد مئات الآلاف من السنين.

ثم تذكّر أنه شاهد هنا ثلاثة من الذين مارسوا التعذيب على جسده الواهن، فشعر بقُرْب عدالة السماء.
التقينا شابا يبدو أن حديثنا وصله رغم أننا نتحدث بلغتين لم يفهم أيا منهما في الحياة الأرضية، فاستأذن مِنــّـا المشاركة، ورحبنا به.
قال بأنه وُلدَ في احدى جُزُر الباسيفيك إبان غزوات الاستعمار الأبيض في بدايات القرن الثاني عشر، وكان شابا طموحا، وقارئا نهما، وباحثا عن المعرفة في الحياة وبين أغلفة الكتب.

ثم أردف: طوال حياتي التي امتدت لنصف قرن لم أتمكن من استيعاب فكرة وجود إلَه للكون، لكنني كنت مواطنا مفعما بالإنسانية، وما أُعطي لي من عُمر لم يكن كافيا ليصل بي إلى مرحلة الإيمان، وهي مرحلة تحتاج، حسب قوله، إلى ذكاء مُشع أو.. إلى غباء حاد!

ظللت، على حدّ قوله، أبحث عن الله فلم أتمكن، أي لم أنكر ولم يعمّر الإيمانُ قلبي، إلى أن وشى بي أحد المؤمنين تماما كما كان زاعمو الإيمان في فرنسا يبلغون السلطات بالساحرات، فينتهي الأمر بهن إلى الحرق أحياءً أو المقصلة.
لا أدري إن كنت قد بقيت حتى تنتهي حياتي طبيعية ليدخل الإيمان قلبي أو يتثبت الإنكار مكانه!
ثم طرح عليَ سؤاله القنبلة: لماذا يشي المؤمنون بمن يختلفون معهم، ولا يكترث الملحدون بغيرهم؟
لم أُجب فقد كنت متلهفا لمعرفة حكايته الدنيوية!
قال: تم القبض علي، وشهد المؤمنون عملية إعدامي أمام عائلتي وأحبابي ، وبعضهم كان يهتف كأنه المحامي الأول عن الله!

مشى أو طار الملحد والمؤمن بجانبي وهما يتحدثان كأنهما صديقا طفولة.
سأل الثاني الأول بصوت خفيض: ماذا لو لم تقُم القيامة بعد الزمن اللا نهائي؛ فهل نظل في انتظار المجهول؟
لم يكن لدى أي منهما إجابة شافية.

حوار جعلني أسترجع آلافا من ذكرياتي الأرضية، كثير منها تساند المؤمن، وكثير منها تدعم الملحد، فالملحد هو شخص لم تسعفه الحياة بقطع حيرته والوصول إلى الأمان، والمؤمن أغلب الظن وارث للعقيدة، متشبث بالسلام فيها، يشعر بفوقية على غيره، وقد يكون مؤمنا عقلا وروحا وقلبا ونفسا!
تركتهما عندما رأيت فتيات جميلات كأنهن لؤلؤ منثور، يسرن الهوينا أو يطرن كفراشات فوق زهور بديعة في قلب حديقة غنّاء.

في وسطهن كانت هناك أربع فتيات تشبه كل واحدة الأخريات، فسألت إحداهن عن سبب هذا التشابه العجيب!
قالت عن يميني أمي، وعن يساري ابنتي، وهذه جدتي، وكلنا في نفس العُمر ، ونتبادل الذكريات في أمور التقىَ زمنُ واحدة بالأخرى، وباقي الذكريات فيها من الخصوصية ما لا تعرفه الأخريات.

قالت إحداهن: نحن نحاول العثور على أسلافنا اللائي عشن منذ مئات السنين أو آلافها، فقد يكون مثيرا للاهتمام أن تحكي كل واحدة منا عن زمنها، فلدينا من الوقت ما يكفي قبل أن تقوم الساعة، وينتهي زمن البشر ليبدأ يوم القيامة بما فيه من حساب عسير أو يسير، وأظنه يسير، وسهل، وهيّن، قالت هذا بثقة شديدة!
قلت لها: هل تؤمنين بأن الله قد يعذبك في جحيم أبدي لا تخرجين منه أبدًا؟
ردّت الجدّة الصبية: الإيمان يبدأ بالثقة أن العذابَ الذي أشارت إليه كل الكتب السماوية والأرضية وغيرها هو للتخويف وليس ليمارس القوي خالق الكون علينا قوته ورهبته بعدما منحنا حياة طويلة لم نُستَشر فيها، تألمنا، وتوجعنا، وفي النهاية كبرنا، ومرضنا، وألقى بنا حفّار القبور تحت التراب بفرض أن حيوانا مفترسا أو زلزالا أو فيضانا أو وباءً لم يقم بالمهمة.

سألتني احداهن: هل فضولك هذا لنفسك أم أنك ستُعْلــِـم من يعرفك أو يقرأ لك بما رأيته في موقع الانتظار؟ ثم ردّتْ على نفسها: لن تستطيع أن تكتب عما شاهدت بعد موتك، فسكان الأرض التي ما تزال تدور وتنفث بهجتها وغضبها، ويسكنها وحوش من البشر وودعاء منهم أيضا لن يتركوك تُكمل حكاياتك، فبنو آدم شخصانيون إذا انتفى العقل، ومفترسون إذا اختلفوا معك، ويظن أجهلهم أنه أوتي الحكمة كما لم تؤت لأحد في العالمين.

قلت لها: أنا أحد المؤمنين بأن للكون إلــَــهاً، وعلى يقين أن الحساب الأخروي آتٍ لا محالة، لكن بأية كيفية، لا أعرف!

تركتهن وجعلت أمشي أو أطير وذهني مشغول بتساؤلات لو جمعتها لاحتجت لسنوات حتى أستوعب الإجابة عليها.
ما يحيرني هو كيف أعطى الإنسان لرجال الدين في كل العقائد حق وصف ما بعد الموت؟

ترىَ كم كان التطور الفكري للإنسان سيستقيم لو أن تساؤلات عما بعد الموت أجاب عنها فنانون وموسيقيون ومثقفون وفلاسفة وكيميائيون وعلماء فضاء ومهندسون وأطباء ومفكرون وأدباء بدلا من احتكار قارئي الكتب العتيقة للحقيقة غير المعروفة، فأختلط العلم بالجهل في شؤون الدين؟

أكبر خسارة أصابت الجنس البشري هي منح رجال نطلق عليهم رجال الدين الحق في تفسير كتب مقدسة أو عتيقة أو موروثة فيعيدون تفسيرها كأنهم عاشوا أزمنة سحيقة، أو أنهم يقرؤون الغيب بأثر رجعي وسلفي.

أغلب رجال الدين في كل العقائد أعداء صرحاء للعقل، والعقل هو جوهرة الخلق، وهدية الخالق لنا بعد الروح، وأحيانا قبل الروح.
فكرت في البحث عن إبليس في موقع الانتظار، حيث أنه لم يُحاسَب بعد، ولكنني تأملت السلام والهدوء والمحبة التي عمّت المكان؛ ففهمت أنه ليس بيننا الآن؛ فمهمته في الأرض لم تنته بعد.

قلت لأحدهم ويبدو أنه من منطقة الشرق الأوسط وقد لوحت شمس البحر المتوسط بشرته: هل لك أن تقص علي من نبأ نزولك في القبر إلى أن انتقلتَ، روحا وجسدا روحيا إلى هذا المكان؟

ابتسم ابتسامة لطيفة وقال: أنت تريد أن تعرف ما حدث معي في القبر، وهل الحكايات والروايات التي تكدست بها عقول الناس لها من الصحة والحقيقة نصيب، أليس كذلك؟
لم يتركني أوافقه واستطرد: نزلت أو أُنْزلت إلى القبر في هدوء عجيب حتى أن المشيّعين التزموا الصمت. انفضّ المكان، وخيم صمت عليه قبل أن يحل ظلام لا يختلف كثيرا عن ظلام القبر.

لم أشعر بشيء إلا عندما انتقلت إلى موقع الانتظار، فالقبور ليست مكانا للتعذيب والخوف وتسليط حيوانات على الميّت أو لدغه، فكل هذه حكايات جهلة ساديين أرادوا تخويف الناس لكي ينشروا بينهم دعوة سادية الخالق، وحساب ما قبل الحساب، وطاعة ترهيبيين يعيشون على صورة قاتمة وقاسية وغليظة وعنيفة لإلــَه الرحمة. أصحاب هذه المرويات يتمادون في تشويه صورة الخالق العظيم فجعلوا من نهاية رحلة الحياة بداية تماثل يوم القيامة، وجعلوا الميت يحتفظ بروحه حتى يتألم، بل سلطت حكاياتهم عليه ثعبانا، أي مليارات من الثعابين في طول الكرة الأرضية وعرضها تكون مهمتها لدغ أتربة بأوامر من الله الرحمن الرحيم.
ثم قال: ينزل الميت في سلام، وتقوم الطبيعة بعملها على أكمل وجه، فيصبح ترابا، وتلتصق ذراته بالمكان، ولا يبقى منه شيء.

فقط الذين لا يعرفون أن الله أكبر يرسمون تلك الصورة ويضعون تفاصيلها على ألسنة حمقاء لمن قيل بأنهم رجال دين.
بعد ذلك وجدت نفسي في موقع الانتظار حتى يأذن الله بإنتهاء الحياة على الأرض، ويجمعنا، ويحاسبنا، ولا يمس الأشرارَ بأي سوء قبل أن تقوم الساعة.
استرحت لهذا الحديث وانتابتني رغبة أن أسحب الحديث عن الموت من رجال الدين، أقصد تجار الخوف.

لماذا ننتظر يوم القيامة ولا يُحاسَب الميت فور مغادرة روحه جسده؟ ولماذا لا يتجلى الله للإنسان بمجرد انتهاء حياته فيحاسبنا فردا.. فردا؟ ولماذا يتساوى الطيبون والخبيثون في موقع الانتظار وهم ينتظرون يوم القيامة؟ وماذا لو قال الله لنا اذهبوا فأنتم الطلقاء وها قد عرفتم أن إلــَــهكم حق؟ ولماذا لم تتنزل الأديان السماوية على أركان الأرض الأربعة بالتساوي؟ وهل يخلقنا الله ثم يُفضّل بعضنا أو يقرّب إليه أتباع مرسَل، ويُبعد الآخرين؟ وعشرات .. ومئات من التساؤلات الأخري التي ازدحم بها ذهني، وأريد أن أطرح في حلقات قادمة إن شاء الله عن يومياتي بعد موتي!
سألت نفسي بصوت مسموع هذا السؤال!

لم أعرف متى ينتهي اليوم أو يبدأ اليوم التالي، فلا شمس ولا قمر ولا نجوم في السماء، والأرض على مبعدة ملايين من السنوات الضوئية وكل شيء مُعَدّ إعدادًا متكاملا ليناسب موقع الانتظار لمليارات من البشر ينتظرون هنا حتى يأذن الله بيوم القيامة.
منذ وصولي لم أشاهد أحدا جالسا، فأنت إما أن تمشي أو تطير، والجلوس لمن أصابهم تعب أو نَصَبٌ أو ارهاق.

لمحته أخيرًا وكان جالســًا، ساهمــًا، واجمــًا لا تبدو عليه سعادة أو تعاسة؛ ولكن استعجال يوم البعث حيث يُقَدّم حسابه النهائي لخالقه جعل منه حالة لا توصَف من كل جوانبها.
اقتربتُ منه على حذر وأظن أنه عاش حياة ملؤها العبث واللهو والسطوة والجنس والمال في القرن الثامن عشر بإحدى القرى الواقعة على المحيط الهندي.
قلت له: أراك حاملا ثِقَل جبلٍ لا يرى واديه سفْحَه؛ فماذا كنتَ تفعل في حياتِك الدنيا؟

قال بلغةٍ لم أعرفها لكنني فهمتها كعربيتي: عشتُ حياتي أنفث كراهية لبني آدم، واختارني حاكمُ قريتنا لأفصل بين الناس بالباطل، وأضع نهايةً لكل حياة أرادها صاحبها تعبيرا عن الكرامة، وأردتها أنا خنوعــًا من أجل سيدي الحاكم.
ثم أكمل: كنت أتلذذ بتعذيب الأبرياء، وأستمتع بآلامهم، وأنتشي بأوجاعهم! كنت مخلوقا من بغضاء، ومعجونا باحتقار الناس، فلما اختارني الحاكمُ لأفصل بالباطل بينهم، وجدتها فرصة للانتقام.

أبدىَ دهشته لتعبيرات وجهي المستنكـِرة لما فعله على الأرض، فكأنني استثرت كوامنَ الغضب في نفسه، رغم أننا في موقع الانتظار لا نغضب إلا لِمامــًا، فقال لي: لماذا تتعجب وأنت قادم من العالم العربي الواقع بين سجن وسجن، والذي إذا صرخ فيه مُعَذَبٌ سمعتْ جدرانُ كل السجون والمعتقلات أنينــَه؟

ثم بدأ يتحدث عن عالمي بدلا من تكملة حكاياته عن قريته الظالم حُكّامها!
أنتم أكثر ظلما من الدنيا برمتها، وإذا حكمتم.. ظلمتم، وإذا حُكِمْتم.. صمتم، وخرستم، واختبأتم!
سجونكم ومعتقلاتكم يتوارثها حُكــّامٌ عن حُكّامٍ، أبناءٌ عن آباءٍ، عسكرٌ عن ضباط، رعيةٌ عن أسياد.

ثم كاد يتهكم وهو يقول بحسرة: نزلتْ أديان سماوية ثلاثة في منطقتكم، وكان يمكن أن تصنع منكم ملائكةً يمشون في الأرض مطمئنين، فطردتم الملائكة واستبدلتم بهم شياطين في أكثر مؤسسات عالمكم.
تعجنون ألسنتكم بكل الكتب المقدسة، وتذكرون اسمَ اللهِ صبحــًا ومساء، وتزعمون الفضيلة في كل مجلس وحوار ونقاش، وتتحدثون عن تعاليم السماء وأنتم ملتصقون بطين الأرض!

طلبتُ منه أن يصمت قليلا فأنا أريد أن أسمعه وهو يقرع ضميره فإذا به يُلهب ظهري بعالمي العربي وشعوبه وحُكّامه ومزايداته الدينية.
سألته حتى أُغطي على خجلي: ماذا تتوقع أن يفعل بك اللهُ عندما تقوم الساعة؟

ردّ بصراحة منقطعة النظير: لا أعرف إنْ كنتُ أنا مؤمنا أم لا، فاللهُ تركني سنواتٍ طويلةً .. بل كل حياتي أظلم خَلــْـقَه، وفي النهاية انتهت حياتي على فراش أبيض في مستشفى أمريكي تم نقلي إليه تسبقني كرامة لم يعرف المعذَبون بين يدي مشهدا صغيرا فيها.
قلت: ألم يكن من الممكن الاستغفار قبل موتك؟

قال: عن أي استغفار تتحدث؟ من خلال أديانكم الثلاثة وتاريخ القرون السابقة تشهد أن استغفارَكم كان دائما مُقَدّمة لمزيد من الظلم؟
لقد انتظرت أن يهديني إلـَـهي أو حتى إلـَهُكم إلى الصراط المستقيم، وهذا ما سأستفسر عنه عندما أقف أمام اللهِ، مع افتراض أنه سيجمعنا يوم القيامة ليحاسبنا!

هدأت من روعه، وابتسمتُ وأنا أسأله إنْ كانت ستتاح له فرصة الحوار مع الله!
بدا أنني جرحته؛ فانتفض قائلا: هل يقبل اللهُ الحوارَ مع إبليس ويرفضه إنْ كان معي؟

شعرت بالخجل من سخريتي، فمهما كانت جرائمه وتجاوزاته وكُفْرُه العلني فليس من حقي أن أبث اليأس في نفسه للحديث إلى الله.
كان في حاجة شديدة للصراخ وإخراج ما تعتمل به نفسه فقد حوَّلتها حياتُه إلى أخاديد متعرجةٍ تَمُر على القلب والنفس والروح والجسد.
كان الوقت قد أزف لأتركه في حاله وأتمنى له، رغم كل شروره في الحياة الدنيا، أنْ يشرح قضيته أمام رب العزة ؛ فربما يجد اللهُ فيه من الخير ما لم تعرفه قلوب كثير من المؤمنين.

وقعت عيناي على امرأة أظن أن مَلــَـكَ الموت لم يستطع أن يقبض روحها عدة مرات، وكلما جاءها وشاهد جمالها لم تطاوعه نفسه أن يقبض روحها، فيعود إلى السماء السابعة مُعتذرًا عن مهمته الثقيلة.
ثم تتكرر المحاولة فينظر إليها، ويتخيل نزولها في القبر محشورة بين أتربة تستعد ديدانها لمأدبة موت تحت الأرض.

ثم في المحاولة الخامسة يقبض روحها، ويصعد فورًا ليقصّ على الملائكة الآخرين حكاية الأميرة النائمة.
جذبني شعاع من ضوء باهر إليها، فدنوت منها، وسألتها عن حكايتها وكيفية وصولها إلى مكان الانتظار توطئة ليوم الحساب!
قالت: أنا عشت حياتي الأرضية حتى بلغت الأربعين من العُمر، وشهد مولدي ظهور جحافل من رجال زيّفوا أقوالَ الله، وقاموا بتأويل آياته لتصب في صالح أكبر جريمة إنسانية، وأد المرأة وهي حيّة تختبىء.. لا حيّة تسعىَ!
عشت في مجتمع مخلوطة كل كلمة فيه بالجنس، ومنشغلة كل نظرة بالمرأة، ومهووسة حياة ذكوره بإناثه.

عشت في مجتمع تعلـّم شيوخُه كيفية التغطية على الجرائم والتحرش والخيانة الزوجية والتهريب والإرهاب فلم يترك ذكورُه إنســًا أو جـِنــًا أو صورة أو تمثالا عاريا أو طفلا بريئا إلا والتهبت أعضاؤهم التناسلية من هول خيالاتهم المريضة.

ثم أكملتْ: وكانت الكارثة عندما حجبوا ذكريات الأقارب والأحباب والزملاء والجيران والأصدقاء عني، وضربوا بعُرض الحائط توجيهات العلي القدير الذي خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف، فزعموا أن التعارف مقدمة للزنا حتى لو كان الذي يقوم بزيارتي في مرضي ابن عمي.

وانشقتْ الأرض لتُخرج وحوشــًا آدمية ألسنتها في أعضائها التناسلية، وحكاياتها عن العبادة والصلاة وعظمة الدين لا تخرج عن وصف مسرحية جنسية.
وتنهدت تنهيدة كادت تشق صدرها وهي تقول: الوحوش الآدمية تلك كانت مُسلحة بكتب مقدسة، وتحفظ عن ظهر قلب خرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان.
كانوا كتلة من الكراهية مُقسّمة على المنابر، وأشكالهم تتشابه مع القردة، ووجوههم عليها لعنة لم تعرفها البشرية من قبل.

ثم قالت: الأكثر وجعــًا وإيلامــًا أن الناس أطلقوا على جهلهم علوما شرعية، فجاءتْ الطامة الكبرى عندما أقنعوا ذكورَ الأمة أمام إناثها أن خالق الكون أعد لهم ماخورًا بطول السماوات والأرض، ولكل ذكر حق المتعة الجنسية في سبعين امرأة من الحور العين، تعاون كل َ واحدة سبعون وصيفة فيحتاج الرجل في الجنة إلى ربع مليون سنة حتى ينتهي من قذف ما لديه فيهن، ثم يعاود الكــَـرّة.
قلت لها: أرجوكِ أن لا تكملي فغضبُك مفهوم، وإجبارُك على تغطية وجهك هدفه معروف، لكن ماذا حدث يوم نزولُك إلى القبر.

بدا أنها استراحت بعض الشيء ثم قالت: أصابني اكتئاب في مجتمع الكآبة، فانسحبت نهائيا من المجتمع، وكنت أحتفظ بجمالي الذي بدأ يذبل، ويبهت حتى رجوت مَلــَـكَ الموت أن يقبض روحي بعدما زارني عدة مرات وتردد من سطوع جمالي وانبهاره بعظمة خلق الله في وجهي.
تأثرت كثيرا بهذه الحكاية وتخيلتها وهي تقف يوم القيامة تُحاسَب حسابــًا هيّنــًا، يسيرًا، جميلا فالمجتمع المريض الذي عاشتْ بين ظهرانيه تشفع لها حماقاته كلَّ ذنوبــِها وهي ذنوبٌ كان أشدّها، حسبما حكتْ لي، ظهور خصلة شعر من رأسها عندما كانت في الخامسة عشرة من عُمرها، فرآها رجل وصارحه شيخُه أن عينيه زنتا، فظل يشج رأسه في الحائط حتى يعاتب ضميره الديني.

مشيت أو طرت متوجها إلى مكان أظن أنني سمعت أنغاما قادمة منها.
في الطريق طاردتني من جديد تساؤلات كل تساؤل منها يحتاج لسبعين عاما حتى أستوعب حيرتي فيه.

تعرفت في موقع الانتظار على ثلاثة شبان، رغم أن مليارات المنتظرين هنا شباب في عُمْر واحد، والثلاثة كانوا أفارقة سُمْر في حياتهم الأرضية.
الأول كونغولي عاش إبان فترة الاستعمار البلجيكي البشع، فعاصر كل صنوف التعذيب، وقطع المستعمرون يديه كما هي أوامر ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، وشاهد بأم عينيه ملايين من أبناء جلدته يسقطون ذبحا وقتلا وتقطيعا منذ عام 1908 ولنصف قرن، وكانت نهايته الدفن حيــًا في إحدى القرى النائية بعدما أظهر تمردا بسيطا لا يخيف عصفورا صغيرا.

الثاني كان من جنوب أفريقيا العنصرية التي امتدت فيها عذابات الشعب الأسمر على أيدي البريطانيين والهولنديين ثلاثمئة وخمسين عاما. وكان قد أٌطلق عليه الرصاص عندما انتقل عن غير قصد من منطقة للسود؛ فأوقعه حظه العاثر في أحد الأحياء الفاخرة للمستعمر الأبيض.

والثالث تم اصطياده من أمام الكوخ وعلى مرأى من زوجته وأبنائه في ليبيريا، وباعه صياد البشر لكابتن مركب أمريكية تمهيدا لشحنه إلى العالم الجديد في قفص للحيوانات.

فلما مرض، ألقاه القراصنة إلى أسماك القرش فهي لا تكترث للون بشرته!
سمحت لنفسي أن أستمع منهم لحكايات مفصّلة تكفي كل حكاية للتعجيل في يوم القيامة!

كانوا يتبادلون الأوجاع ويستعجلون يوم القيامة رغم عدم إيمان اثنين منهم بها.

قال الأول: أكثر من نصف القرن قُتل فيه عشرة ملايين إنسان؛ كان الله قد نفخ فيهم من روحه، وجعلهم أسياد دولة جميلة تتقاسم فيها الحيوانات والبشر أرضا خصبة بها معادن ثمينة وثروات لو وُزعت على أفريقيا لأصبح كل أفريقي ثريــًا.

وجاء المحتل بوجهه البشع وقتل في نصف قرن أكثر من عشرة ملايين إنسان مسالم! وسمعتُ حشرجة تحاول الخروج من صدره وقال: كم تمنيت أن يتجلى الله في الكونغو ليشدّ من أزر العبيد، وانتظرت ومعي شعب بكامله، فلم نرَ اللهَ!

قلت له: ولكن الجنة قد تكون في انتظارك فيعوضك الله عن كل ما عانيت في حياتك الدنيا!
نظر إليَ نظرة ملؤها الشفقة؛ ولم أعرف إنْ كان يُشفق عليَ أم على نفسه أم.. على الكون!

قال: ولكنني كنت في حاجة ماسة لربع هذه الجنة، التي لم تأت بعد، كنت عشت حياة بائسة يعقبها موت أبأس!
قلت له حاسمــًا: ولكنك صبرتَ صبرا جميلا!

قال لي وقد أدار وجهه محاولا إخفاء سخريته من سؤالي: لقد صبرتُ مُكرَها على حياة العبيد، وجئت هنا دونما طلب مني، وأنتظر يوم القيامة ليقوم اللهُ بحسابي!

لم يرق لي كلامه، فأنا أملك الإيمانَ وهو يملك المنطقَ، أنا أُحسِن الظنَ بالله وهو لم يعد قادرا على الثقة بالسماء كلها، أنا على يقين من أن العدل أساسُ الحساب الأخروي وهو لا يرى فائدة من عدالة لم يرَ ذرة أو نفحة منها طوال حياته الموجعة.

أخذ الثاني زمام الحديث منه وطرح عليَ عدة تساؤلات متزاحمة يحكي فيها عن نفسه، لكنه يساند بها صديقه الكونغولي.
خفت صوته لكن ذبذبات الصوت كانت على اذني أثقل من زلزال بغير مقياس ريختر.

قال: أنا ومنذ ولادتي وحتى انهمار طلقات بيضاء من مسدس عنصري مزقت جسدي لم أرَ يوما واحدا فيه إنسانيتي التي أعطاني إياها ربُك!
أسرعت لأجعله ربــًا واحدًا، لي وله، وليس اثنين، فقلت: وربُك أيضا؛ أليس كذلك؟

قال: لا أعرف، فقد كنتُ أسود اللون في بلد أسود، تضمه قارة سوداء، وتحكمه أقدام بيضاء بأنياب ناصعة البياض!
هل تعلم، أردف قائلا، أنني كنت أمشي ساعة أو بعض الساعة مذعورًا من أصوات الحيوانات المفترسة المختلطة بالمحتل العنصري حتى أصل إلى كنيسة لا يصلي فيها غير ذوي البشرة السوداء فلا تدري أهي عبودية للبشر أم عبودية لله!

كنت أمر على كنائس أنيقة تحيط بها حدائق غنــّاء ويؤدي الصلاةَ فيها مؤمنون بيض يعبدون إلــَــهً أبيضَ، لا يقبل فيها صلاة من مؤمن لا ينحدر من سلالات شمالية جاءت مع المُستغلين للبحث عن المعادن الثمينة، والشمس الدافئة، والثروات اللا نهائية، والأرض الخصبة، والعبيد من سكان هذا البلد الآمن؟

لا أتذكر ساعة واحدة كنتُ فيها سيّدَ نفسي، ودعوت اللهَ منذ مولدي وحتى مماتي ليثبت للمستعمر أنه يقف معي، حتى أجرمت يوما ما ودخلت مصادفة أحد أحياء البيض عن غير قصد، فانطلقت الرصاصات العمياء لتحيل جسدي إلى ثقوب لا نهائية، وتم إلقائي في منطقة للسود ليدفنني أهلي في أرضها!

ثم لم يتحمل تكملة حكايته وقال : أنا لا أريد الجنة التي قد تكون على مبعدة ملايين السنين، لكن أريد فقط أن أسال اللهَ عن سبب تركه إياي بعدما خلقني!
قلت له: عليك أن تنتظر يوم الحساب وأنت هنا في أمان وسلام تمهيدا ليوم يتحقق فيه العدل الإلهي!
نظراته لي لا تحتمل التأويل فهو لا يُصدّق كلمة واحدة أدافع أنا بها عن قيامة لم تقُم بعد!

بدا أن صبر الثالث على وشك النفاد فانطلقت كلماته كأنها عاصفة من الاحتجاج ولكن في هدوء بحر ميّت وقال قبل أعطيه أذُنيي: أما أنا فقد كنت أعيش في جنة أخرى، حيث تنام قريتنا على ضفاف نهر مانو الذي ينبع من مرتفعات في ليبريا. كنا فقراء وسعداء، عرايا متدفئين، نخاف من غدر البشر، وننام مطمئنين على مقربة من الوحوش، نتقاسم ما تجود به الأرض ولم نتطلع لجَنــّة عرضها السماوات والأرض.
فجأة اخترقت أرضَنا الطيبةَ جحافلُ صيادين يبحثون عن أكرم خلق الله، البشر من بني آدم لبيعهم عبيدا في العالم الجديد.. ما وراء البحار.
كان جسدي متماسكا، وجميلا، ولامعا، وفيه إبداع الخالق لجعل السواد أكثر بهاءً من البياض.

قاموا باصطيادي بأسلحة نارية لم أرَ مثلها من قبل. ولم يكترثوا لصرخات زوجتي وأبنائي فأغلب الظن أنهم كانوا يفكّرون في الثمن لهذا الجسد الجميل الذي يتهافت على شرائه أسياد بيض في النصف الآخر من العالم.
في المركب التي حملت عشرات من أهل بلدي، وضعونا في أقفاص حديدية صدئة من جراء ملوحة هواء البحر، وقيّدونا من معاصمنا وأرجلنا. بعد أقل من خمسين يوما جاءني الغزو الثاني من أمراض لم تترك خلية في جسدي إلا وهاجمتها.

وجد الذي اشتراني من الصياد في ليبريا أن لا فائدة، فألقى بي لأسماك القرش لعلها تنهي آخر أثر لي في حياة ظننت في أولها أنني من المكرمين، وفي آخرها انتظرت تجلــّي الله على المركب ليفرج عنا وتأخذنا الملائكة معها، ففينا روح الله. وطال انتظاري وكانت أدعيتي داخل القفص كافية لتنشق السماء وتأخذني في أحضانها.

قلت له: أي أن لديك الآن مبررا لتنتظر يوم القيامة وقد اقتربت الساعة، وأمامنا أقل من خطوتين، أي أقل من مليون سنة، ثم تشرح قضيتك أما العدل الإلهي.

لم يسمعني، وتسارع لسانه ليلقي في الأثير بكلمات مبهمات غير مترابطات، لكنني فهمت أنه لا يريد أكثر من رؤية زوجته الوفية وأبنائه.
حكايات ثلاث احتجت بعدها لزمن طويل في موقع الانتظار قبل أن أستعيد صفاء ذهني، وأستمع لمزيد من المنتظرين ليوم القيامة.
تمنيت أن يتجلــّـى اللهُ هنا، ويفصل الأخيار عن الأشرار، ويعجــّـل في يوم القيامة بعد إنهاء الحياة على الأرض لئلا تكون الغلبة لإبليس.
استعدت لياقتي، ومشيت أو طرت للتعرف على هذا المكان .

كانت هناك فتاة سمراء، عرفت فيما بعد أنها من جزيرة رينيون، المستعمرة الفرنسية، تقترب مني كلما استمعت لحكاية أحد المنتظرين، وقالت لي: إن حكاياتك لأهل الأرض ستثير غضبهم؛ فعليك أن تتوقف فورًا!

في انتظار تكملة مشاهداتي في موضع الانتظار وقبل قيام الساعة!

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...