21‏/01‏/2014

مسح ذاكرة العراقيين .. سباق محموم لاغتيال وطن


ترى أين ستنفجر السيارة بعد لحظات؟ ربما أمام مسجد لحظة خروج المصلين، أو في شارع مزدحم خلال ساعات التسوق، أو على مشارف المنطقة الخضراء التي يتحصن بها الأمريكيون وتدير منها قوى الاحتلال التحريري ( !!) أمور وطن يعيش في نعش، وحكومة قام مستر بول بريمر بمنحها بركاته قبل أن يقفز في قلب مروحية!
وبعدما نقل ملك الموت مقره الرئيس إلى العراق، وغادرها إبليس وهو واثق من أن الأمريكيين والعراقيين معا سيتولون شؤونه بأمانة كاملة،
أوفى الجميع بالوعد، ولا يشرق صباح على دجلة، أو ينطلق صوت جميل من فوق مأذنة مسجد يقول: حي على الفلاح ، أو يتردد عاشقان قبل السير في أحد شوارع عاصمة الرشيد، حتى ينفجر جرح، أو تتناثر أشلاء لأجساد غضة طرية قد تكون لأطفال أو نساء أو تلاميذ مدارس، أو ربما تتحطم مروحية عسكرية أمريكية أو تطير دبابة بمن فيها من جنود اليانكي في الهواء، أو تحترق عربة مدرعة كانت تقل جنودا أمريكيين سرقوا لتوهم بعض بيوت عراقيين غلابة بعدما داهموا المساكن الآمنة، وروعوا الأطفال، ونقلوا معهم بعض الشباب لعل اغتصابهم في سجن أبو غريب أكثر سهولة من هتك عرضهم في بيوتهم.

يحتاج قاموس تصنيف المفردات في العراق إلى كل مجامع اللغة لوضع الكلمة في مكانها الصحيح، وشرح معناها بأمانة، وايصال المعنى إلى الباحث عنه.
والغريب أن كل المرادفات تصلح للحالة العراقية، فالأمريكيون قوى احتلال وتحرير، وشياطين عفنة تتفنن في التعذيب والاغتصاب والقمع، وهم ملائكة رحمة جاءوا للقضاء على النظام البائد، وبناء مدارس ومستشفيات، وتعيين حكومة وطنية، وحماية العراق من الحرب الأهلية!
والمقاومة العراقية الباسلة تفجر بوحشية بالغة الغلظة قنابلها في أكثر الأبرياء العراقيين ضعفا، وتختار أسواقا ومدارس ومساجد، وهي أيضا تحيل حياة قوى الاحتلال إلى جحيم.
أما الارهاب فيقوم بنفس الدور ويطارد الأمريكيين والحلفاء وأيضا الشعب العراقي .
في قاموس المترادفات أيضا تجد أكثر من معنى لكل كلمة في العراق، فتبحث عن أحمد الجلبي: مناضل، وطني، معارض للطاغية الأسير، عاشق للعراق، نصاب عالمي، متعاون مع أعداء وطنه، لص مصارف.
ثروة وطنية: في أيدي أهل البلد، تديرها قوات الاحتلال!
الشرطة العراقية: عراقيون يسعون لحماية شعبهم وأهلهم، مضطرون للعمل لكسب قوت أسرهم وأولادهم، متفائلون بمستقبل آمن للعراق، وطنيون مخلصون، عملاء لقوات الاحتلال، امتداد لصدام حسين، متعاونون في اعتقال المناضلين.
قناة الجزيرة: تغطي حقائق ما يحدث، 
تفضح انتهاكات حقوق المواطن التي تقوم بها القوات الأمريكية، تغطي المعارك مباشرة مثلما حدث في الفالوجة والنجف، تضع السم في العسل، تتعاطف مع النظام البائد، تستقطب أعداء الشعب العراقي، تهيج الرأي العام!
بول برمر: حاكم مدني افتتح مدارس ومستشفيات وساعد في تحرير العراق والقبض على صدام وزبانيته، وسلم الادارة ثم غادر،سرق وأهدر مليارات من أموال العراقيين، رهن خيرات العراق في ايدي حيتان المال الأمريكيين، كان يعلم بكل الانتهاكات في السجون العراقية.
قائمة لا تنتهي من كل شيء، وكل الأسماء تحمل أكثر من معنى، والحياة تسير وتقف ثم تعاود السير على عكازين الأول من الكذب والثاني من محاولات جادة لانقاذ الوطن.
حتى ملحمة النضال في الفالوجة كان لها وجهها القبيح والمتمثل في دويلة دينية متطرفة يحاكم فيها الملثمون أبناء بلدتهم منطلقين من فكر طالباني ارهابي فيعدمون، ويقطعون الرؤوس، ويحاربون الحرية الفردية، ويفرضون قيودا من تفسيرات دينية لا علاقة لها بالاسلام الحنيف المتسامح.
وكلما فتحت القبور الجماعية أفواهها لابتلاع مزيد من جثث العراقيين، زادت الألغاز حيرة، والطلاسم غموضا، والبغض عمقا في نفوس أذلها البعث الصدامي خمسة وثلاثين عاما، وتلقفها الاحتلال القذر ليعامل العراقيين ( كما وصفت صحيفة مورجن بلادا النرويجية ) كانهم أقل مرتبة من البشر وأرفع قليلا من الحيوانات المتوحشة.
في خضم دائرة العنف تمكن الكذب من اختراق النسيج المتماسك للحقائق، وغطت طبقة هشة من الحقائق عالم الكذب والافك والتزييف والتزوير في تاريخ وطن، وضاع العراقيون بين مؤيد للاحتلال، ومعارض للتحرير، ومتوعد للمتعاونين بالويل والثبور، وأصبحت أحلام العراقيين متناثرة مئة ألف قطعة من حكمة السيستاني مرورا بتهور مقتدى الصدر وخاطفي ضيوف العراق الذي يقطعون رؤوسهم ويفصلونها عن الجسد ويهللون الله أكبر، وليس انتهاء بالمقاومة الشريفة والحكومة الانتقالية المخلصة وبدء انسحاب قوات الاحتلال ومحاكمة صدام حسين.
وسقطت أهم جوهرة تحافظ عليها شعوب الأرض وهي ذاكرة الشعب، فلا يهم إن كان صدام حسين قد قتل ربع مليون أو نصف مليون عراقي ودمر بلده وأحال حياة شعبه إلى جحيم مقيم، فهو بعدما أصبح جرذا مختبئا في جحر، مناضلا عنيدا في قاعة المحكمة، والتفاصيل الأكثر خدشا للمشاعر، وجرحا للأحاسيس، وامتهانا لكرامة الانسان في سجون صدام حسين ثم بين أيدي الأمريكيين تسقط من ذاكرة العراقيين كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف، وكأن الأمر يبدو اعتياديا، ويستطيع العراقي أن يتأقلم مع كل الأشياء، العنف والسلام، الارهاب والمقاومة، القتل والرحمة، الاختطاف والتسامح، الكفر والايمان، الاحتلال والتحرير، البغاء والفضيلة دون أن يرف له جفن، حتى أن عشرات المواقع على الانترنيت تنشر ما لا عين رأت أو أذن سمعت عن امتهان الكرامة واغتصاب العراقيات من جنود أمريكيين، ومثلها تنشر مواقع أخرى، بنفس المنطق، وذات القوة والحماسة عن العراق الجيد المفعم بالأمل، والمحرر أمريكيا، وعن حكومة الياور وعلاوي. الآن يستعد عراقيو المنفى الذين سرق منهم الأمريكيون والارهابيون والمتعاونون الوطن باعلان حكومة منفى للتحرير الثاني للعراق، ومع اختفاء مجلس الحكم العراقي، وخفوت وهج الملكية الدستورية العراقية التي كانت ثلاثية الحلم الموزع بين الشريف علي بن الحسين والأمير الحسن بن طلال والأمير زيد بن رعد، ومع التأكيد الأمريكي بأن جنود العم سام لن يخرجوا إلا بعد عشر سنوات أو يزيد، ومع قائمة طويلة من الاغتيالات المجهولة المصدر والتي قد تصل إلى عجيل الياور وإياد علاوي وأحمد الجلبي وإبراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وجلال الطالباني ومسعود البرزاني، فإن تحرير العراق يصبح أكبر خرافات الوهم وضوحا. التعتيم جزء من اغتيال الوطن، ونحن لا نعرف من هي المقاومة ومن هم الارهابيون، وهل القادمون من خارج العراق قادرون على التخفي والاختباء وتفجير السيارات ومقاومة أكبر جيش في العالم؟ ما هي تقسيمات المقاومة بين الشرعية والارهاب، ولماذا هذه البلبلة والحيرة في الاشارة إلى مصدر المقاومة، فمرة من البعثيين، وثانية من السُنّة، وثالثة من جيران العراق الذين تسللوا وكأنهم عفاريت غير مرئية، ورابعة من شبح الزرقاوي، وخامسة من القاعدة، وسابعة من شرفاء الوطن، وثامنة من أعداء العراق...
والتعتيم يشمل كل العراق، فلا يستطيع أحد أن يجيب عن سؤال يتعلق بالخسائر الأمريكية، وأموال النفط، ونسبة العراقيين في المشاركة باعادة البناء، ونتائج التحقيق مع المشتبه بهم، ودور الحكومة الانتقالية في مراقبة السجون والمعتقلات والحفاظ على كرامة مواطنيها ، والأقليات في العراق، وكيف يعيش المسيحيون العراقيون في مناطق تهيمن عليها جماعات التطرف والتزمت، وأخيرا ماذا يريد الأمريكيون من العراقيين؟ مع انبلاج كل فجر جديد على أرض الرافدين يتم مسح كل ما تختزنه ذاكرة العراقيين عن يوم مضى، ولا يعرف المرء إن كان السبب رغبة في حياة جديدة، أو نزوحا إلى جمهورية الموت! من يقتل من في العراق، ولماذا لا تقوم المقاومة الشريفة بمطاردة الارهابيين الذين يشوهون صورة العراقي والاسلام. من منا لم تقهره الأحزان وهو يرى مواطنا بريئا من كوريا أو اليابان أو الفيلبين أو بلغاريا وهو يصرخ طلبا للحياة، ولكن الحكم كان قد صدر بفصل رأسه عن جسده؟ الأمريكيون يقتلون العراقيين، والعراقيون يقتلون الأمريكيين والعراقيين، والحيرة تقتلنا جميعا. ملك الموت يشكو ربه من ارهاق العمل في العراق، وإبليس يستلقي على قفاه من الضحك!

محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو النرويج

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...