13‏/10‏/2020

شعوبٌ في الوقت الضائع!

 شعوبٌ في الوقت الضائع!

يختار درويش أو عسكري أو أحمق أو حِمار شعباً ليركبه أو يحكمه أو يجلده أو..  ينهبه؛ فتدهشك ردودُ فعل أبناءِ الشعبِ بمن فيهم مثقفوهم ومتعلموهم ونخبتُهم وصفوتُهم، فالطاعةُ لا تختلف عن طاعةِ الماشية لراعيها حتّىَ لو لمْ يُلوّح لها بعصا يهشّ بها عليها!

لا يهم إنْ كانت الخطبةُ الأولىَ آياتٍ مقدسةً أو طــَـرَقاتِ أحذية ميري أو كرباج للجَلـــْــدِ أو نهيق حِمار؛ فالشعبُ سيفتح بابَ الطاعة علىَ مصراعيه لأول من يجهر بالأوامر ومعها وعودٌ برّاقة تدغدغ مشاعرَ الرعية.

هنا تنتهي مهمةُ القصر وتبدأ رهبةُ الطاعة في السَرَيان، فالشعبُ يُخيف الشعبَ، والتبرع يتسارع لدعم الحاكم، رجل الدين أو العسكري أو الأحمق أو الحِمار، يجري علىَ قدَمٍ وساق وكل خائفٍ أو جبان أو وصولي أو منافق يقوم بعملية حسابية بسيطة وسريعة لمعرفة الخسائر والأرباح في معارضته أو دعمه وهي تبدأ من رضا السماء وجنات الخُلد وتمر بالولاء للجيش والقوات المسلحة التي تحمي ظـــَهْرَ الرعية حتى لو سَحَلـَتْ أفرادَها وكثيرا ما تكون الأرباحُ والخسائر متعلقةً بمدىَ حماقة صاحب الكلمة الأولىَ و.. الفصل!

أما لو كان الحاكمُ حِمارًا فاستدعاءُ التبريرات يكون أسرعَ من الضوء، بل إنَّ النهيقَ يَضْحىَ كفلسفةِ إسبينوزا مع مشهد خاطف في الذهنِ لزنزانةٍ في قبوٍ تحت الأرض برعاية جلاوزة التعذيب.

المهم الوصول للقصر، وبعد ذلك يُخطّط العبثُ نظاماً لا يعرف ثغرة واحدة فتلتزم به وسائل الإعلام الحكومية وأعضاء البرلمان ورجال السلك القضائي و.. الحالمون بملء جيوبهم وحساباتهم المصرفية من خيرات وأموال المُطيعين.

لا أشير هنا إلى بلدٍ مُعيّن أو حاكمٍ بعَيْنِه؛ إنما أصف حالةً تكررتْ علىَ مدىَ التاريخ الإنساني وكل واحدة طـِـبْق الأصل من الأخرى، سواء كان الحاكم باسم السماء أو الجيش أو الحُمْق أو حمار سابــَقَ الجميع فسَبَقَهم إلى القصر.

العبودية الطوعية لا تُصنــَع في السجن أو القصر أو البرلمان أو المحاكم أو قسم الشرطة؛ لكنها تأخذ شكلــَها النهائيَ في الخوف الجماعي لأفراد الشعب المدعومة ( أي العبودية المُختارة)من الوشاة.

كل ما يدور في ذهنك ويطارد خيالـــَك الفئراني يصنعه أناسٌ مثلي ومثلك وهم ليسوا بحاجة لسوطِ رجل الأمن أو سَلــْك ٍكهربائي يصعق موضعَ العِفّة منك أو أجهزة أمن تتصنت عليك أو رجل دين يقنعك بأنَّ طاعتـــَك لحِمارِك فرضٌ عين عليك لتتجنب غضبَ السماء.

الشعوبُ أعداءُ الشعوبِ، وصديقُك سيُبلغ عنك قبل أنْ تعرف أجهزةُ الأمن مكانــَك، وابنُ بلدِك هو الذي سيتولىَ تأديبــَـك وتعليمَك كيفية الصمت دونما حاجة لقوات مكافحة الشغب.

لو اطـَّلعتَ على أسماء الوشاة والمتعاونين والمخبرين لدىَ أجهزة الأمن فستتصبب عرقاً من الغضب والخجل معا؛ فمنهم أصدقاءٌ ومعارف وزملاء استبعدت أيــّــاً منهم أنْ يكون يهوذا الإسخريوطي عندما كنتَ ساذجاً يرفع العواطفَ فوق العقل.

في الدول التي يحكمها طواغيت ساديون يتكرر نفسُ المشهد، ويصفّق الإعلاميون لسيدِنا الحِمار، ويفلسف الأكاديميون أقوالــَه، ويوافق البرلمانيون على هراءاته، ويرى القضاةُ والمستشارون(في أغلبهم) صورتــَه في كل مادة قانونية مربوطة بسلسلة نهايتها في أعناق المُطيعين.

لا تخف من السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية؛ ولكن احذر ابنَ بلدِك الجبان فهو الأخطر من بين كل الوشاة.

الخطبة الأولى من شرفة القصر أو من مكتب الحاكم لا يسمعها إلا القليل؛ فالشعبُ ينصت لنبضات قلبه وسرعتها وقوتها واضطرابها، ثم ينظر كل منــّا لمن حوله باحثـاً عن الضحية الأولى التي سيُبْلــِغ عنها.

في عصر الإنترنيت ستجد أنَّ الذين يجوسون في صفحات الآخرين أضعاف رجال الأمن، ففي الدول القابلة للعبودية الطوعية أو الاختيارية يأتي الخطرُ ممن يتنفس أمامك قبل أنْ يستدعيك ممثلُ السلطة البعيد.

طائر الشمال

محمد عبد المجيد

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في 13 أكتوبر 2020   

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...