12‏/10‏/2020

حماية الفساد في ظل صحافة لا تُخيف!

 حماية الفساد في ظل صحافة لا تُخيف!

الكلمة المكتوبة أو المسموعة لا فائدة فيها إنْ لم تُخَربش أو تغرز أنيابَها في المشبوهين بقضايا الفساد!

عندما لا تهتز شعرةٌ في رأسِ السلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية لدىَ انتقادِ الصحافة لتعامُل الدولة مع أزمة أو كارثة أو فساد أو ظــُلم فاقرأ الفاتحةَ علىَ روح هذا البلد.

الفارقُ بين الدول المتقدمة والدول المتأخرة تعرفه من تأثير الكلمة المطبوعة أو المسموعة، وعندما تصطدم بآذان صَمًّاء فاعلم أنَّ السلطة الرابعة ليست في خدمة الحقيقة؛ إنما في ذيل السلطة التنفيذية.

مَرَّ حينٌ من الوقت كانت السلطة الأولى هي رجالَ الدين، والثانية هي النبلاءَ، والثالثة هي عامة الشعب.

في أوقات تَفَشّي الفساد وتراجُع دور الإعلام أو دخوله حجرة الفئران يحلّ المالُ مَحَلَّ كل السلطات.

في الدول الفاسدة لا يكترث مسؤولٌ أو قاضٍ ظالمٌ أو برلماني مُرتشٍ بتروس المطابع ولو أخرجتْ من أحشائها فضائح كل مدونات الشياطين، بل إنَّ الفسادَ يُطل برأسه من بين الصحف أو من شاشة التلفزيون، ويُخْرج لسانَه القذرَ لأنه في حماية كل أجهزة الدولة.

في الدول الفاسدة يبحث الإعلامي عن تبادُل المنفعة، المادية أو السلطوية أو الدينية، فهو يعلم أنَّ في نشر الحقائق خطورة على حياته أو وظيفته أو مصدر رزقه؛ فيختار من سيقوم بتلميعِه ونشر أكاذيب ترفع من شأنه أو .. تحُطّ من شأن معارضيه ومنتقديه.

خَنْقُ السلطة الرابعة بالسجون والمعتقلات والتهديدات والتي قد تصل إلىّ حدّ التصفية الجسدية أو وضع الاسم في المترقَب وصولهم إذا كان الإعلامي خارج وطنه يجعل أصحابَ القلمِ أو الصوت يتراجعون خوفاً من عواقبَ وخيمة أو حتى الإضرار بعائلاتهم وأصدقائهم.

في العالم المُتقدم فإن خبراً صغيراً عن تهرب ضريبي لرجل أعمال أو ملء خِزان السيارة وتسديد الثمن من أموال الدولة أو شراء تذكرة طائرة في رحلة خاصة على حساب الشركة التي يعمل بها قد تؤدي إلى إنهاء التعاقد معه أو إلى محاكمة أدبية.

في الدول الفاسدة لا تتأثر أي جهة بما تنشره أو تذيعه الصحافة ولو باع الحاكمُ الأرضَ والبحرَ والهواءَ والأرواحَ ونشرتْ وسائلُ الإعلام صرخاتٍ مدويةً فإنها تصل فقط إلىَ باب المؤسسة المُتهمة أو الشخص ثم تعود أدراجَها.

في الدول الفاسدة يحتقر الحاكمُ وأصحاب المال والبرلمانيون والقضاة السلطةَ الرابعة، ولو تجمعتْ عشرات الآلاف من الوثائق التي تدينه رئيساً أو أميراً أو حاكماً أو رجلَ دينٍ أو مستشاراً قاضياً فلن تُحرّك ساكناً، لأنَّ السلطة الرابعة أوراقٌ لا تساوي قيمة الحِبْر المطبوع عليها أو أصوات إذاعية أو تلفزيونية يقابلها صَمَمٌ جماعي من السلطة الحاكمة و.. من الشعب.

قُل لي ما يفعله تقريرٌ صحفي عن فضيحة أخلاقية مالية أو نهب أو سرقة أو قتل أو فَبْرَكة أباطيل أو تزوير انتخابات أو تهريب آثار أو عَقْد اتفاقات سرية مع عدو خارجي لأصف لك بِدقــَّــة نظامَ الحُكْم في هذه الدولة.

في العالم المتقدم إذا هددتَ فاسداً بأنك ستلجأ إلى الصحافة فإنه سيستجديك، ويتوسل إليك، ويرجوك أن لا تفعل.. فالسلطة الرابعة في الواقع قبل كل السلطات الثلاث الأخرى؛ أما في دولة الفساد فلو نشرتْ كل الصحف في الداخل والخارج أنَّ الحاكم باع الوطنَ كلـــَّه من وراء ظهر المحكومين فلن تلفح نسمةُ هواءٍ وجهَ أحد.

هنا تبدأ صناعةُ اليأس، ويعرف كلُّ مواطن أنها لم تعد بلـــدَه، وأنَّ وطنـــَه يُباع في مزادٍ لمن يدفع أكثر.

أسوأ لحظات تاريخ أمةٍ هي تلك التي تُصاب الرعيةُ بالبلادة والتناحة واللامبالاة وحماقة التبرير والخوف الجماعي حتى يتحول الناسُ إلىَ وشاة؛ فمن يُبـــْـــلغ عن أخيه فقد ضمن روحَه في جسدِه.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في 12 أكتوبر 2020    

   


ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...