12‏/06‏/2020

هل يحكم ديكتاتورٌ بلدَك!


هل يحكم ديكتاتورٌ بلدَك!

لا أقصد هنا ديكتاتورًا بعينه كما سيحاول أنْ يتصور الكثيرون؛
لكنني أشير إلى كل ديكتاتور طاغية أمسك بخناق شعبه بفضل الجبناء والساديين والوصوليين
الذين يكرهون شعوبَهم فيساعدون السفاحَ في الإمساك بالسكين قبل ذبح الأبرياء.
كل الأوبئة تحتاج إلى علاج حتى تتوقف عن حصاد البشر إلا الديكتاتور فلا علاج له ومنه إلا بإزالته تماما.
الديكتاتور عبارة عن مستنقع لكل الأمراض المستعصية وفي مقدمتها الكِبْر والاستعلاء والطاووسية!
الديكتاتور كتلة ملتهَبة من البثور والتشنجات والأخاديد النفسية والعصبية والعاطفية.
الديكتاتور يمارس الموت في صورة حياة، وهو
صانعٌ للقبور في الحقيقة وفي الخيال، وهو متسلل إلى عالم البشر من عوالم الشياطين.
الديكتاتور كائن يصنع المرضَ تحت زعم أنه طبيب الفلاسفة، وأن الله خلقه هكذا يصف العلاج حتى لو كان استدعاءَ ملَــَكِ الموت ليُعجّل في قبض أرواح مناهضيه.
الديكتاتور لا يُصدّق أن الله أقوى منه، فهو يبحث عن التصاق اسمه في ذهن المواطن المتلقي باسم الله،
لذا فَهَمَ مستشارو الرئيس المصري أن تسمية أكبر مسجد باسم مسجد الفتاح العليم سيجعله يقترب من مساواته بالمعبود
، فعبد الفتاح تُصبح فتاحا، وتُحذَف( عبد) ليتحول إلى نائب الله على الأرض قبل أن يصل إلى مرتبة الزعيم الإلــَـه
الديكتاتور يحب نفسه ولو كان يبغضها، ويريد أن يتذكر كل أبناء رعيته أنه ( الأخ الكبير) كما وصفه جورج أورويل في كتابه 1984، لهذا كان مشروع صور القائد المهيب صدام حسين حالة من النرجسية المشوبة بالسادية، فأينما يولي المواطن وجهه فسيجد صورة الزعيم الإلــَــه بدلا من (أينما تكونوا فثم وجه الله).
الديكتاتور برغم كراهيته المقيتة لشعبه إلا أن الجانب المعاكس للكراهية قد يبدو للناس كأنه شفافية عاطفية ولو خرجتْ من بين أظافر ملؤها الدم، فأدولف هتلر كان رقيقا مع إيفا براون، وكان أرَقَّ مع كلبِه في الوقت الذي كان يُدَمِّر ويقتل ويحرق الضعفاءَ والخصومَ والمعارضين؛ وكذلك كان التعذيبُ في معتقلات المخلوع اللص حسني مبارك يجري على قدم وساق في الوقت الذي تتحول شغافُ قلبه إلى الأبوة الثانية لحفيدِه الذي أوجعه لاحقا موتُه فأنهكه وضاعف آلامَه وطال عُمرُه مع عذابِ خلع أنبياء 25 يناير الشباب له، واختفاء الحفيد من حياته.
الديكتاتور يثق أن سخرية الدنيا كلها منه لن تُزحزحه قيد شعرة عن كُرسي الحُكم،
بل قد تُطيل السخرية من وجوده لظن الساخرين أنهم أدّوا مهمتهم في المعارضة الصارخة أو الهامسة؛ وهناك آلاف الحكايات عن القذافي وخيمته وعن عيدي أمين دادا الذي طلب من السادات زيارة مصر سابحـًا في النيل، وعن جان بيدل بوكاسا الذي اقترض من فرنسا لتنصيب نفسه إمبراطورا على الجائعين في جمهورية أفريقيا الوسطى، وعن عبد الفتاح السيسي واعتقاده أن الله خلقه ووضع فيه كل العلوم والذكاء...
السخرية ليست تحريضا ضد الديكتاتور؛ إنما تخديرٌ ليستريح المعارضون كأنهم كانوا في ساحة الوغىَ في مناهضة مُعذبهم.
الديكتاتور يتعذب في داخله إذا رأىَ رأســًا مرفوعة، فأنْ ترفع رأسَك أو كتفيك أو صوتَك أو حتى نبرةَ صوتــِك فهذا يعني بداية النهاية لقُربك منه.
وعندما ارتفعت حدة الحديث بين وائل الإبراشي وكامل الوزير تلفزيونيا كان الإعلامي يرتعش والعسكري يهدد مع مديح غث. وبعد أقل من ثلاثة أيام كان الإبراشي يمتدح في عبقرية الرئيس السيسي حتى تنجو رقبته من مقصلة العزل الإعلامي.
الديكتاتور يقف أمام المصفقين والمُهللين مستمتعا بمهانتهم وهو يلقي عليهم توجيهاته نصفَ الإلهية؛ أما السيسي فقد اكتشف نوعا جديدا تماما من إهانه مستمعيه في المؤتمرات، فهو يعطيهم ظهره، ويترك لهم تأمل قفاه بعدما احتضن عشقه الأول والأخير، أي الميكروفون!
مستشاروه يعرفون أنه لم يحضر للحديث إلى الشعب؛ إنما مع مرآته كما كانت زوجة أبي الأميرة في رواية بياض الثلج تحدّث مرآتها صباح كل يوم وتسألها إنْ كان هناك من هو أجمل منها!
الديكتاتور لا يتحمل فكرة وجود مواطن بعيدا عن عينيه أو أذنيه؛
وعندما كان أنور خوجة يحكم جمهورية الرعب.. ألبانيا، كانت الشرطة السرية تأمر سكان البلد المنكوب أن يكتب كل مواطن تقريرًا عن تحركات ونشاطات جيرانه وأصدقائه، وإذا شق عليه الأمر فيكتب تقريرا عن نفسه ويذهب إلى أقرب قسم شرطة ويبلغ عن نفسه في مذكرات يومية مملة ومفصلة.
الإمبراطور الإثيوبي هيلاسلاسي كان يسمع من مستشاريه صباح كل يوم ملخصا للأحاديث التي دارت طوال الليل في شوارع أديس أبابا بين مواطنيه.
في منتصف الثمانينيات جاءني في المكتبة العالمية التي أنشأتها في أوسلو عام 1983 شاب مغربي. رآني استمع إلى كاسيت لخطبة سياسية عن الملك الحسن الثاني.
سألته إنْ كان يريد أن يقترض الكاست، فرفض بهستيريا شديدة خوفا من أن يعرف الملك.
قلت له: لكنك ستسمعه في سيارتك وبمفردك في النرويج وعلى مبعدة آلاف الكيلومترات من القصر الملكي في الرباط.
ردّ بثقة يقينية: حتى لو أغلقت كل نوافذ السيارة فجلالة الملك قادر على الاستماع إلى الخطبة السياسية.
الديكتاتور يرى عُلو ذكاء أي مواطن انتقاصا من قدْر سيد القصر.
في كتاب جيمس سكوت( المقاومة بالحيلة..كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم؟) حكىَ عن أحد العبيد السود في مزرعة سيد أمريكي أبيض؛ قال المسكين: لقد تعلمت كما تعلم غيري من العبيد أن أخفي ذكائي حين ألتقي بسيدي!
في فيلم أمريكي عن رئيس الخدم في البيت الأبيض ظهر نفس المشهد حين سُئل من جانب ضيوف الرئيس عن رأيه في قضية سياسية!
ردّ الخادم متصنعا الغباء والجهل بأنه لا يفهم ما يتحدثون عنه.
انفرجت أسارير الضيوف البيض رغم أن الخادم الزنجي العبد كان أعلم منهم في هذا السؤال بالذات.
فهم السيسي في الحوار التلفزيوني مع ابراهيم عيسى ولميس الحديدي أن الإعلامي الكبير لايُخفي عُلو ذكائه، بعكس زميلته التي رفعت من شأن الرئيس،
حينئذ خرج ابراهيم عيسى من دائرة التحليلات السياسية في عهد الديكتاتور السيسي إلى التحليلات الدينية؛
رغم أن له الفضل في بسط السجاد العسكري بديلا عن الممشىَ الديني الذي مثّله محمد مرسي، فابراهيم عيسى هو الذي أطاح بأباطرة المُقطّم في حلقات مبدعة وصريحة وشديدة عن العفريت الديني الذي أحضره تلاميذ حسن البنا.
وضحتْ معالم البهجة على مُحيــّا الرئيس السيسي حين استمع لكلمة الترحيب بانتخابه في البرلمان التي ألقاها علي عبد العال وهو يرتجف يدين وشفتين؛ فرئيس السلطة التشريعية بدا، حقيقة أو افتعالا، كتلميذ خائب في الثانية الابتدائية، وهنا ظهر الديكتاتور المتخلف كأينشتاين المصري.
الديكتاتور ليس فقط طبيبَ الفلاسفة، لكنه طبيبُ الأطباء ولو كانت معلوماته لا تزيد عن معرفته بفائدة حبة باراست للصداع.
خاف السيسي في مؤتمر خاص بتوجيهاته الحكيمة في معركة فيروس الكورونا أن تجلس وزيرة الصحة بجواره لئلا يضطر إلى إشراكها في عبقريته الطبية،
فأمر مُنظمي المؤتمر بأن يكون مقعد وزيرة الصحة في الصف الثالث خلف الجنرالات فاليونيفورم الكاكي قبل البالطو الأبيض، ووباء الكورونا يخشى البندقية أكثر من خشيته المصل !
الديكتاتور ليس مهووسا فقط بعبودية الشعب لمعرض صوره في كل مكان تقع عينا المواطن عليه، لكن التماثيل أيضا تُجسّد العبودية، فلو مر مواطن في كوريا الشمالية أمام تمثال لكيم يونج أون، أو لوالده، أو لجده المؤسس دون أن ينحني فيمكن أنْ تستدعيه الشرطة السرية وكذلك لو أعطىَ ظهره للتمثال.
هنا تصبح كل عين لمواطن عينا للديكتاتور تُسرع في الإبلاغ عمن يُشم منه أنه قد يحلم بالمعارضة، نفس الأمر ينسحب على مئات الآلاف من المصريين المهاجرين والباحثين عن لقمة عيش كريمة فإذا بهم يعرضون خدماتهم على أجهزة أمن الحُكم في مصر، أي بوقوفهم خط الدفاع المهاجرعن الديكتاتور، في مقابل الشعور بالأمان.
الديكتاتور لا يعيش بدون وشاة، يهمسون في أُذنه، ويتجسسون تطوعا على رعيته من أجل حمايته وحماية أنفسهم.
أسوأ أنواع الوشاة هُم الذين يتبرعون لأجهزة الأمن عن زملائهم في العمل والمؤتمرات، كالسيدة التي أبلغت الشرطة في بغداد عن زميلتها التي طلبت منها تخفيض صوت المذياع حينما كان يذيع خطابا لصدّام حسين، انتهت بثلاثة أسابيع قضتها الموظفة المسكينة في زنزانة باردة.
الغريب أن بين جاليات من عالم الديكتاتوريين من تعيش في قلب الديمقراطية الغربية هاربة من أوجاع الوطن الأم النائم تحت حذاء الديكتاتور، لكنها تُلقي بأبناء وطنها بين أنياب أجهزة الأمن سواء عن طريق البعثات الدبلوماسية أو لدى عودتها فينتهي الاسم في قائمة المترقب وصولهم.
في السبعة والأربعين عاما التي قضيتها في أوروبا، انجلترا وسويسرا والنرويج، التقيت عددا هائلا من مغتربين ومهاجرين يستمتعون بالحرية في الغرب ويدافعون عن الاستبداد في الشرق. يخرجون في مظاهرة من أجل أصغر حقوقهم في الغرب ويغضون الطرف عن عذابات عشرات الآلاف من القابعين ظُلما في سجون لا آدامية في بلادهم الأم.
على العشاء في فندق عاصمة خليجية سألت صحفيا زميلا نصف معارض عن سبب تجنب زملائه الالتقاء بي، رد قائلا: أصارحك الحقيقة؛ فنحن نكتب تقارير ضد بعضنا ونقوم بتسليمها لمباحث أمن الدولة فور عودتنا للقاهرة لنضمن وظائفنا وسلامنا وأمن عائلاتنا، فوظيفتنا الإعلامية هي الدفاع عن الرئيس حسني مبارك.
الديكتاتور يُحدد النسيج الاجتماعي ويُصنّفه طبقات فوق أخرى؛ ويضع المنبوذين في الأسفل ، والمنبوذون هنا هم العبيد الأحرار كالإعلاميين ورجال الدين والأكاديميين وضيوف البرامج الحوارية، فيوحي إليهم أنهم من الطبقة العليا شريطة أن يتلقوا الأوامر من ضباط الأمن في مقابل الاحتفاظ بالصورة اللائقة أمام عائلاتهم.
الديكتاتور يُنصت إلى الشفرة المُتعارف عليها بين طبقة المنبوذين الأحرار، ومن أراد النجاة بأمواله ووظيفته فعليه التأكيد في كل اللقاءات الجماهيرية أو الملتقيات الثقافية والسياسية والدينية والإعلامية والفنية أن توجيهات القائد كان لها الفضل الأكبر؛ وهنا تمُدّ يدُ الدولة له الجزرة بعدما استوعب أن العصا في اليد الأخرى.
الديكتاتور كارثة إنسانية ولعنة على نفسه وعلى البشر.
إنه يكره الرؤوس غير المنخفضة، ولعلنا نتذكر السفيرالوطني معصوم مرزوق الذي لم يطلب أكثر من استفتاء عادل ومراقَب دوليا فإذا نجح السيسي فسينسحب السفير من كل صور المعارضة له وسينخرط في خدمته.
جُنّ جنون الرئيس ولأن القضاء والنيابة والسجّانين والعَسْكر والشرطة عبيدٌ لدىَ الديكتاتور، فقد انتهى الأمر بالقبض على السفير، وصمت المصريون عن بكرة أبيهم.. كالعادة!
الديكتاتور يُعطي مواقع التواصل الاجتماعي فرصة الرقابة الذاتية والرعشة الطوعية،
وكل صاحب موقع أو حساب أو صفحة عليه أن يضع رضا أو غضب الديكتاتور في ذهنه، ويحذف ويحظر كل من يكتب ما يخالف رغبة القصر، من لا تصطك أسنانه وتتصادم ركبتاه فلا مكان له في جمهورية أو مملكة الديكتاتور.
الديكتاتور يصنع في ذهن المواطن الزهايمر السياسي لينسىَ وعودا كاذبة وعهودا باطلة بأنه سيحافظ على الأرض والبحر والنهر والغاز والعدالة والكرامة والمال والبترول والتعليم ومئات بل وآلاف من مفاصل الدولة.
الديكتاتور يُثبّت للرعية اقتناعها بظُلم أجهزة العدالة القضائية، فالمواطن متهم حتى لو لم تثبُت عليه تُهمة، لكنها لذة الحاكم ومزاج رجل الأمن.
الديكتاتور لا يكفيه أنه يحكم؛ إنما حقه على الشعب أن يمتلكه!
تيران وصنافير جزيرتان مصريتان استراتيجيتان في حماية الجيش الوطني. قرر الرئيس بيعهما أو التنازل عنهما رغم المعارضة الظاهرة للشعب.
صمتت القوات المسلحة التي عليها حماية الأرض والبحر والجو، وتم الزج بمن اعترض في سجون تستقبل الوطنيين لتطحنهم.
الديكتاتور كلما كان قاسيا، فظا، غليظ القلب؛ التفّتْ الجماهير حوله، ودافعت عنه، وبررت قذارته، ومسحت بوجهها على عفنه، حتى لو نكث الوعد، وبصق على القسَم الذي كان عهدا بينه وبين محكوميه باحترام الدستور.
كانت همسات الشياطين المستشارين له بتغيير الدستور ليطيل فترة حُكمه ضعفين توطئة لابن من نسله، فكل ديكتاتور كان يُعد ابنَه وريثا، عُدي صدام حسين، أحمد علي عبد الله صالح، سيف الإسلام القذافي، جمال مبارك، جان كلود ديفالييه( هاييتي) وعشرات غيرهم.
يتحول المهللون والمصفقون إلى قردة ترقص، بعدها تنتقل القرود إلى طور الكلاب التي تخدم وتنبح، بعد ذلك تصبح الكلاب خنازير تسمن من طعام الفضلات قبل أن يتم ذبحها.
الديكتاتور لا يتنفس إلا في مجتمع مليءٍ بالبغضاء والفتنة الطائفية ومعارك بين فصائل تسعى كل منها للحصول على دعمه.
الديكتاتور يصنع ماضيه بنفسه، ويزركش فيه ويلونه، ويسدّ ثغراته.
مجلة باري ماتش الفرنسية نشرت في أوائل حُكم الديكتاتور التونسي زين العابدين بن علي صورا له وقد نسج البياضُ الفضي شعْرَ رأسِه.
أمر الرئيس بسحب كل أعداد المجلة من المكتبات التونسية، ومع مرور الوقت اختفىَ من الذاكرة الشعرُ الأبيض ليحل محله شعرٌ أسود وبدلة بيضاء أنيقة ورئيس يصطنع الأدب الجمَّ كلما أمر ببناء سجون جديدة.
كل ديكتاتور يضع صانعوه وصانعهم أمامه صفحة بيضاء ليرسم فيها ماضيه الجديد الذي ستتعامل معه وسائل الإعلام والمعاهد، والمدرسة، والجامعة، الرياضة التي مارسها، الأصدقاء، الحيّ الذي كان يسكنه...
الديكتاتور يحتاج مع السلطة العسكرية سلطة دينية تصبغ القداسة على أحاديثه، وتُقنع البسطاء بالرباط المقدس بينه وبين السماء، وتخيف المعارضين لأن طاعة ولي الأمر من طاعة الله!
الديكتاتور يصنع معارك في الداخل والخارج، ولا يكترث للنصر أو الهزيمة فإعلامه قادر على تحويل أي هزيمة منكرة إلى نصر من الله.
عندما هُزِم الجيش الليبي بأسلحته الثقيلة أمام متمردين في شمال تشاد، وعادت جثامين جنود العقيد معمر القذافي ، قام الإعلام بالاحتفال بالانتصار التاريخي حتى لو كان بين الدبابة الليبية و النبّوت التشادي.
الديكتاتور لا يتلذذ فقط بما يصيب شعبه في الداخل من كوارث وفقر وقهر وإذلال، لكنه يريد أن ينعكس ذلك على مواطنيه في الخارج.
أتذكر كلمة قالها لي صديقي المحامي السويسري دنيس بايو في جنيف عام 1975:
"لقد جرىَ العُرْفُ في العالم كله أن المصري هو المواطن الوحيد الذي لا تدافع عنه حكومته مهما حدث معه في أي بلد"!
وكان ذلك إبان حُكم السادات واستمر مع المخلوع الحرامي حسني مبارك ثم المشير طنطاوي فمحمد مرسي فعدلي منصور وأخيرا السيسي!
الديكتاتور يطير في كل مكان بأجنحة غير مرئية من أجهزة الأمن والاستخبارات فهي خط الدفاع الأول عنه، وفي عصر الإنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي التي يسيطر على أكثرها جهلة وجبناء وعشرات الآلاف من الحسابات الوهمية تُراقَب كل كلمة تنشرها أو تذيعها يوتيوبيــًا، والوشاةُ من الناس أضعاف المراقبين من أجهزة الأمن، وربما تجد أكثر الوشاةِ من القريبين والأصدقاء، وتجد أحطّهم صديقَ الغُربة .
الديكتاتور يحتاج إلى المال حتى يشتري أو يُسكت أو يُخرس خطوط الدفاع عنه وهنا يمكنه أن يشتري الجنرالات وعائلاتهم ورتبَهم العسكرية ويضع في خدمتهم قصورا وفيلات ومئات الأفدنة وإمتيازات تعلوها سلطة تنفيذية مُفزعة، ويزيح السلطة القضائية بعيدا ليضمن تبرئة رجاله ولو سرقوا ونهبوا الوطن كله.
الديكتاتور يُقيّد الشعب بقروض خارجية لأموال تُساعد في تثبيت حُكمه، فينفق من جيوب الفقراء والضرائب والإتاوة .
الديكتاتور يظهر أحيانا في صورة جماعة من البشر تحت غطاء طائفي أو عسكري أو حروب وهمية أو إبادة جماعية لشهور أو لسنوات مثلما حدث في كمبوديا فأبيد ثلث الشعب وبدتْ أوامر بول بوت كأنها تطهير وطني في صورة مذابح هزت الإنسانية برمتها.
وفي رواندا عام 1994 قتل أبناءُ طائفةٍ أبناءَ طائفةٍ أخرى وحصد مَلـَـكُ الموت أرواح مليونــًــا من الروانديين في ثلاثة أشهر جحيمية، فالشعب هنا هو الديكتاتور.
الديكتاتور يُسَبِّح بحمد الله إذا ذبح بسكين رجل الدين، ويُشهِد اللهَ أنها توجيهات أخلاقية سامية ، والمعبد قادر أن يحشد مهووسين كما يتجمع المهووسون وهم يرجمون امرأة زانية محشورة في حفرة ، ثم يتوجهون لشُكر السماء على نعمة الفضيلة
الديكتاتور يجمع في قبضته السلطة التشريعية والسلطة القضائية ويلصقهما بالسلطة التنفيذية، فهو الحَكَم والمعبد والمحكمة في آن واحد.
الديكتاتور الأخطر هو الأجهل مثل جان بيدل بوكاسا ومعمر القذافي وعيدي أمين دادا وحسني مبارك، وهناك ديكتاتور أرفع ذكاءً مثل ستالين وفرانكو وسوموزا وسالازار ومحمد رضا بهلوي وبينوشيه وموجابي، وهناك الديكتاتور الذي لا يخضع للمعايير المتعارَف عليها، فهو من جنس الذئاب يفترس قبل أن يفكر مثل بول بوت وهتلر وموسوليني ومنجستو هيلامريم.
الديكتاتور لا يتنفس إلا في وجود قانون الطواريء في السلم والحرب، فمصر مثلا لم تعرف في نصف القرن المنصرم حياة خارج قوانين الطواريء وأضاف إليها السيسي منع تجمع خمسة أشخاص في احتجاج سلمي، ثم أصبح رفعُ لافتةِ احتجاجٍ جريمةً ولا أستبعد أن يصبح قريبا المواطن بمفرده تجمعا ممنوعا.
اختيار المسؤول الأكثر جهلا يمنح الديكتاتور الجاهل قيمة كبرىَ، ففي مصر مثلا ينتفخ الرئيس أمام جهل القُضاة ورئيس مجلس النواب وأكثر النواب وأغلب الإعلاميين.
ينام الديكتاتور ولا يحلم مثل باقي البشر ولا تطارده الكوابيس، لكنه يستمتع ويتلذذ ويبتهج كلما نُقل إليه خبر اعتقال وتعذيب سجين، خاصة سجناء الرأي والضمير، فهؤلاء يفكرون خارج الصندوق،
عشرات الآلاف من المعتقلين في مصر وأكثرهم لم يُعرَضوا على القضاء العادل أو الظالم، لكنهم سيظلون خلف القضبان حتى تنتهي فترة حُكم الديكتاتور بالموت أو بالقتل أو بانقلاب مضاد.
هل يوجد ديكتاتور يحب شعبه؟ هذا مستحيل؛ ولكن توجد شعوب تعشق الديكتاتور حتى لو لم يحرّك كرباجه في كل مرة قبل الهتاف له.
الديكتاتور يشهد نهايته بأيدي أبناء شعبه مثل موسوليني الذي أعدمته الجماهير الإيطالية، ومعمر القذافي ، وعلي عبد الله صالح وغيرهم؛
لكنه قد يُزَف إلى العالم الآخر في جنازة شعبية أو عسكرية بعدما تكون مُدة جحيمه الأرضي قد اندست في مسامات جسد الرعية، فحسني مبارك لص ونهــّــاب وهرّب وعذب وزور وزيّف وآذىَ شعبه وأرضه وأعاد الوطن لمئة عام للوراء، وجرائمه لو راكمتها فوق بعضها خلال ثلاثين عاما لوصلت إلى السماوات العُلا، ومرَّ على سجونه ربع مليون معتقل رأي وضمير، وكانت النتيجة جنازة عسكرية يتقدمها رئيس الدولة .. العسكري أيضا، فشياطين القضاء قاموا بتبرئته حتى لا يضطر أي نظام يأتي مستقبلا فيطالب باسترداد مليارات منهوبة ومُهرّبة للخارج.
الديكتاتور يتنفس برئة المواطن الجبان والجاهل والأمي والمنافق والوصولي والفاسد واللص والمزايد دينيا، والأكاديمي الخائف على منصبه.
الديكتاتور يُبغض اللهَ ويراه، عزّ وجل، منافسا له كمعبود، ويضيق صدره بالرسائل الأخلاقية التي يُنزّلها الله للبشر، فقصر الديكتاتور لا يحتفظ برسالة أخلاقية.
في صدر كل إنسان مساحة فراغ مخلوقة ليضع فيها الديكتاتور الخوفَ والجُبنَ والفسادَ والنفاق، أو يحشوها الإنسان النبيل بالشجاعة والسُمو والجمال والوطن حتى يرثها عنه أبناؤه وأحفاده بعد حين.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج في 11 يونيو 2020

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...