31‏/03‏/2018

ذكرىَ رحيل العندليب الأسمر!

ذكرىَ رحيل العندليب الأسمر
اختار له القدرُ يومَ الأرض الفلسطيني 30 مارس ليغادرناإلى الأبد، فالعندليب الأسمر كان هو أيضا الأرضَ العربية، وعندما أقسم بعد هزيمة يونيو أن يغني ( أحلف بسماها وبترابها)؛ أوفىَ بوعده وظل يغنيها حتى واراه الثرىَ حزينا، موجوعا، مريضا، يَعِدْ محبيه من على فراش الموت بأن الفن الذي تصنعه حنجرته سيقهر الموتَ الذي أتاه في عاصمة الضباب.
إذا خُلق الحب فنانا فهو عبدالحليم حافظ بدون منازع، رغم أنني غالبا أدندن بيني وبين نفسي لفريد الأطرش لأنه التصق بأحاسيسي الفنية منذ طفولتي، وتلتقط أذناي ( يا حبيبي طال غيابك ليه يا قاسي ) بأسرع مما تفعل مع (لو كنت يوم أنساك إيه أفتكر تاني).
عبد الحليم حافظ كان كتلة ملتهبة من مشاعر الحب، فإذا غنى فهو قادر على الخروج من عالم التمثيل إلى الحقيقة، فلا تدري إن كان يبث هيامه على الشاشة الفضية ( قولي حاجة .أي حاجة، أقول بحبك، قول كرهتك، قول وما يهمكش حاجة)، أم أنه يصنع للحب فرسانه فيبثهم لواعجه: النيل، فلسطين، الوطن العربي، المسيح، ناصر، السد العالي...
في 30 مارس 1977 اقترب مني زميل عندما كنتُ أعمل في مكتبة الجراند باساج في جنيف. قال لي: لقد توفي عبد الحليم حافظ، وتحشرج صوته كأنه يبلغني بمأساة في بلده تونس.

كل الذين عاشوا عصر حليم وقّعواعلى قصص حبهم بصوته، وعلى معاركهم مع أعداء مصر بحماسته، وكانت قدرته على استدرار الدموع في كل المناسبات عظيمة، ففي أغنية "فدائي" تمكن من جعل الأرض تهتز من تحت أقدام مستمعيه: وإنْ مُتْ يا أمي ما تبكيش، خللي خواتي الصغيرين يكونوا زيي!
في بعض أغنياته تهتف أذناك بأن نقاء الصوت كان بالروح وليس بالحبال الصوتية مثل "ظلموه" من ألحان الأب الروحي محمد عبدالوهاب: طول عُمري قلبي خالي ويخاف من الغرام، من كل رمش جارح بنظره وابتسام.
إذا كان نصف دويتو مع شادية فعبقريته الغنائية تزداد مرتين، وعندما لحن له السنباطي ( لحن الوفاء) أبدع الثلاثة، لكن السنباطي كان يريد أكثر من هذا، لذا لم يلحن له بعدها قط.
وعندما عرفه صلاح جاهين؛ رسم على حنجرته مصر كلها وجعلها ساحة معركة من أجل الوطن:بالأحضان يا حبيبتي يا أمي، وعلى راس بستان الاشتراكية، ثم ظهر المشهد المصري متكاملا في "صورة" .. تحت الراية المنصورة.ليشهد العالم أنها: مسؤولية عزيزة علي ، معزة الروح والحرية، معزة العسكري لسلاحه و..أكتر!
وأعلن حليم انتسابه للعهد كله، بانتصاراته وهزائمه، بأفراح الريّس وأحزانه، فالتراجع هنا لا يليق مع مشروع وطني ضُرب في كل مكان: ناصر يا حرية، ناصر يا وطنية، ياحبيب الأمة العربية.
كان عبد الحليم حافظ معجونا بالحب والوطن معا، وكانت آلامه وأوجاعه مترنحة بين جسد عليل تتقدم البلهارسيا كل أمراضه وسط شائعات وضيعه من نجوم الفن والإعلام يشككون في موته البطيء، وبين حرمان من الحب والزواج والأطفال ، فهو يحلف بالتراب ويرىَ نفسه تحت التراب في سن مبكرة.
عبد الحليم حافظ كان أنت وهي وهو ونحن، كان مصر والعروبة والسد العالي وسوريا واليمن والكويت والسودان والنيل الأسمر.
حليم كان همسة العاشق أو حروف جوابه: حبيبي الغالي، من بعد الأشواق، أهديك كل سلام.
حليم كان الفخر بالرومانتيكية حتى وهو يبكي دمـــًــا، وكان عبقرية تحفيزية: ابنك بيقولك يا بطل هات لي انتصار.
كان يرىَ في هزائمنا ضد غدر الاستعمار فرحة مستقبلية في صمود هذا الشعب المجيد.
عبدالحليم حافظ، رحمه الله، كان قطعة من تاريخ وجغرافيا وفن وحياة المصريين، فهو المعلم الأول للحُب، وهو الصوت الوحدوي العروبي الخالص.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...