لهذا لن تتكرر ثورة 25 يناير!
في حياة أي أمة لا تتكرر الأحداث الجسام، ولا تستأذن الشعوبُ المعجزاتِ في العودة مرة أخرى، ولا تهبط الملائكة مرة ثانية على من طردها في المرة الأولى!
كانت نُبوّة حقيقية، وليست مجازًا؛ وكانوا أنبياءَ صغارًا لم يبلغ أكبرهم عامه الثلاثين فلم تنزل عليهم رسالة سماوية؛ إنما صعدوا بها إلى السماء وهم يحملون في أجسادهم الغضة البريئة رصاصات مجنونة وعمياء من أشقائهم في الوطن الرافض أن يتحرر!
كان أبناءُ الصامتين الخُرْس، والجبناء المرتعشين، والعبيد المتمسكين بسلاسل في رقابهم يتعجلون الانتهاء من فرحة الحرية التي استمرت ثمانية عشر يوما فقد اشتاقوا لكرباج الطاغية مبارك، ولا مانع من سوط طاغية جديد حتى لو كان مساعده المشير طنطاوي؛ فالمهم العودة سريعا والدخول في أقفاص الأرانب!
كانت الدنيا كلها تقرأ من جديد تاريخ الفراعنة وهم يبنون حضارة حُرّة في ميدان التحرير، وكان أي ديكتاتور بعد مبارك مستعدًا لأنْ يجثو على ركبتيه، ويُلقي في أحشاء الموت بالفاسدين واللصوص والقساة والسجّانين والمعذبين لينجو برقبته من غضبة شبابية نبوية تُعلــِّـم الأممَ أن المصريين قادمون بعد التونسيين!
كانوا أقرب لصناعة مصر الجديدة من كل الملائكة التي نزلت عليهم في الميدان، وبال رجالُ مبارك وطنطاوي والمجلس العسكري والجماعات الدينية في سراويلهم، فالعملاق الشاب استيقظ بعد أسوأ وأغلظ وأبشع ثلاثين عاما في تاريخ أم الدنيا.
كانوا يمسكون الشمس بأيديهم الصغيرة الجميلة، وينامون تحت الدبابات، ولا تعرف الفتى من الفتاة، ولا القبطي من المسلم، ولا الكنيسة من المسجد، وتحولت مصر إلى أغنية جميلة توطئة لبلد الأحرار.
كانوا شباباً لم تلوثهم سياسات الكبار، ولم تدنسهم الجماعات الدينية، ولم يفزعهم جنرالات الجيش ولواءات الشرطة، ولم تتبناهم دول عربية صديقة تخشى أن تنتقل العدوى إليهم.
في لحظات مسروقة من التاريخ، عمدا أو سهوا، سلـّم الشبابُ كأسَ النصر لنائب اللص؛ فالأربعون حرامي ينتظرون دورهم، واتفق طنطاوي الذي أسمته الجماعات الإسلامية( المشير الأمير) على أن يتسلم مصر منهم ريثما يُبٍعِد اللصوص بمن فيهم رئيسه عن المسرح!
وخطط شياطين المجلس العسكري بدعم من فلول مبارك لأبرع وأذكى خطة استيلاء لصوص جُدُد على الثورة.
موتى، وقتلى، جثث في مقالب القمامة، وسجون، ومعتقلات، وتعذيب، واضطهاد لشركاء الوطن الأقباط الذين فتحوا قلوبهم وكنائسهم لزملائهم من المسلمين؛ فالوطن يلتصق في قلبه الصليب والهلال كأنهما توأمان!
ووضعوا للمخلوع مبارك وعائلته خطة استجمام في شرم الشيخ، وترتيب أوراق السرقات، وتهريب مليارات منهوبة حتى جاء يوم المحاكمة بناء على مطالب شعبية لم يرض عنها طنطاوي ولا المجلس العسكري فكلهم في نفس المستنقع الآسن!
وكان الهدف الثاني هو أحمق كبش فداء يلعب دور (المحلل) في الزواج الآثم، فدبّروا، وخططوا، ورسموا على ظهر الوطن صورة انتخابات يتنافس فيها 13 طامعاً في السلطة وفي سطوتها وأموالها، ورفضوا جميعا الوحدة من أجل مصر.
وفي النهاية كانت المنافسة بين محمد مرسي ممثلا لجماعة الاخوان المسلمين والمشير أحمد شفيق الوجه الآخر للمخلوع اللص مبارك!
مذابح واعتقالات وترهيب وتهريب سجناء خطرين ووضع عمامة بدلا من يونيفورم الجيش، فالسلطة ستغادر المنبر للثكنة العسكرية إن عاجلا أو آجلا.
الذين قاموا بالثورة لم يفهموا ألاعيب الساسة والحزبيين والقتلة والمنتقمين العائدين، وتمزق الوطن بين حزبية وانتماءات مذهبية ودينية واخوانية وسلفية وعسكرية ومالية وأباطرة النهب؛ ولم يتمكن محمد مرسي من الانضمام للوطن؛ إنما التصق بالجماعة، ورفع من شأن المزايدات الدينية لمدة عام كامل لعب مع العسكر السُلــَّـم والثعبان، فانحاز المصريون بملايينهم ضد جماعة جاءت لتقيم العدل فقسّمت الوطن، ورفعتْ من شأن الحمقى، وجعلت البرلمان لمن يزايد في الشكليات والأشكال والزبيبة واللحية أكثر.
كل هذا كان يحدث وحسني مبارك وعائلته ورجاله يأكلون ويشربون ويستمتعون في منتجعات باسم معتقلات، وتم الاتفاق مع أظلم وأفشل وأعفن وأبلس قضاة عرفهم تاريخ مصر، للتأجيل والحكام المضادة، ورفض بعضها منعا للحرج، تمهيدا لليوم التاريخي وهو تبرئة المخلوع اللص حتى يتمكن من استعادة المنهوبات والمسروقات، ويتقاسمها مع العسكر والقضاة وكبار المسؤولين!
قام المشير عبد الفتاح السيسي بالاطاحة بمحمد مرسي والجماعة بناء على مظاهرات مليونية جابت مصر من شمالها إلى جنوبها ومن مهجرها إلى قلب الوطن.
اختار طنطاوي ومجلسه العسكري أجهل ضابط في الجيش كله، فالطاعة واجبة، والوطنية مرفوضة، والدفاع عن الأرض والبحر والنهر والغاز والخيرات ينبغي أن لا تمثل للجاهل القادم ذرة من رمال الصحراء!
فرح المصريون لأقل من عامين بالسيد الجديد، لكنهم لم يعرفوا أن أنيابه في ضحكته، وأن قسوته في المَسْكَنة الظاهرة، وأنه المحلل(!) لكل تجاوزات العسكر والسلفيين واللصوص فهو الأصلح لبيع الوطن وجُزُره ونيله وأرضه وخيراته وشعبه.
كان الاتفاق غير المعلن على شيئين: أن يظل شباب الثورة في سجون الوطن مهما كانت أعدادهم، فيكبرون فيه، ويتعلم أهلهم وزملاؤهم وأحبابهم أن السجن مصير من يرفع صوته، بل من يتنفس دون إذن مسبق.
الشيء الثاني هو التأكيد على تبرئة المخلوع حتى يرث أبناؤه اللصوص الصغار مليارات الشعب، ويحصل كل متآمر على نصيبه.
وفعلا تم الحُكم بتبرئته، ولفظ أنفاسه الأخيرة، وشيعه إلى مثواه الأخير أبناء أبطال العبور كإهانة متعمدة من السيسي الذي تقدم جنازة اللص ليؤكد للشعب أن من يسرق ويتقاسم مع الكبار يظل كبيرا وبريئا وطاهرا!
في خلال هذه السنوات العشر كبر الصغار، وانقسم الثوار ما بين الأحزاب الدينية والسياسية، وبين اليأس من أي دعم معنوي شعبي، وما بين الخوف من سجون الرعب التي لا يخرج منها بريءٌ حيا!
وحقق السيسي فأرنة الجماهير، ولعن المصري أخاه المصري إذا اختلف معه حزبيا أو سياسيا أو دينيا!
وأصبح بيع أو الاستغناء عن أي أرض أو جُزر أو نهر أو بحر أو غاز أو كرامة أو أبناء صغار في مكامن عسكرية أمرا أيسر من إشعال علبة كبريت.
وكان ضلعا الشيطنة: القضاء المصري الفاسد، والإعلام الأفسد والمرتشي والأحمق والأجهل!
وتعلم المصريون أن يلعنوا، ويسبّوا، ويرتابوا في أبنائهم الذين حرروهم في ثورة 25 يناير المجيدة، وتمّت صناعة السخرية من أم الثورات، وعاد المصريون أكثر جُبنا وخوفا ورعشة من زمن حسني مبارك، ودخل السيسي كل مخدع ليراقب أحلام المصريين لئلا تتحول إلى تمرد!
وأفلت التاريخ من بين أيدي أعرق شعوب الأرض، وأصبح المصري: "لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم"!
ودفعت مصر الثمن غاليا، وما تزال جماعات تعارض من أجل عودة المرحوم مرسي من قبره، أو دعوشة المجتمع، أو صيحات من حناجر مكتومة، ولم يبغض المصري أخاه المصري منذ بدء التاريخ كما يحدث الآن، وكاد المصريون يتحولون إما إلى أرانب، أو إلى وشاة و.. متعاونين!
وسقطت مصر في أيدي العسكر والشرطة والرأسماليين والدول الكبرى وخرافات الفكر السلفي واشترط الداعمون للسيسي عليه أن ينحاز إليهم في الغرب وفي الخليج وفي ليبيا وفي السودان وفي البحر المتوسط شريطة أن يغدقوا عليه كمتسول لا يملك ضميرا حرا أو وطنيا!
هذا ملخص ما آلت إليه ثورة أبناء مصر، فدخلوا السجون أو انتقلوا إلى السماوت العلا، وعادت مصر إلى ولاد الكلب لصوص وذئاب مبارك وطنطاوي ومرسي وعدلي منصور والسيسي، فكلهم.. كلهم، كلهم نُسخ متعددة من صورة واحدة!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 25 يناير 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق