01‏/10‏/2020

مشاعر استعمارية تتجدد في داخلك!

 مشاعر استعمارية تتجدد في داخلك!


الاستعمار الجديد لا يدخل بلدَك؛ لكنه يفتح لك بلدَه!

أشياءٌ كثيرةٌ تجعلها العادةُ عاديةً، ويضمها التكرارُ إلى العُرْف، ويلصقها الإصرارُ إلى العنف، وينقلها التيارُ إلى الجُرف؛ ثم تصبح جزءًا من المشهد العام الذي لا يستنكره إلا القليل ممن قرروا الاستعانةَ بالعقل في حياتهم!

مُفْردةُ الاستعمار، مثلا، فقدتْ أهميتَها، ولم تعُدْ تثير غضبَ كثيرين؛ فالاستعمارُ ليس استدمارًا لأنه حُلم يخترق يقظتــَك فيخدّرها بهدوء ولذة ومتعة، من يدري فقد يكون الغزاةُ القدامىَ مضيفيك الجُدُد!

للاستعمار ِألْفُ وجهٍ و.. وجه، كل وجهٍ يختار المكانَ الذي يدخله أو يخترقه أو يغزوه؛ فقد يكون الكتاب أو المدرسة أو المؤسسة الدينية أو قصر الحاكم، أو الإعلام أو الدعوة أو التبشير أو التجهيل أو تاريخ أمة مُستعمَرَة أو حدود مع الجيران تمتد أو تنقص وفق لضعف أو قوة الحُكــّام!

وأخطر المداخل هي جهلٌ بتاريخ حديث وجدال في تاريخ قديم يتحرك كما تفعل الرمال المتحركة إذا داستها أقدامٌ لا تُفرّق بين الرمل و.. بين الطين.

تختفي كلمة الاستدمار خلف مفردة الاستعمار فلا يدري المرءُ هل البناء لتثبيت أقدام احتلال أَمْ لطرد أصحاب الأرض.

إذا امتص ذئبٌ دمَ ميّتٍ فلا يضير الشاةَ سلخُها بعد ذبحِها؛ أما إذا طلب الأحياءُ من الذئبِ أنْ يمتص دماءَهم حتى تسري نشوةُ الغابِ في يومياتِهم، فهنا لا تفلح كل عمليات الإصلاح السياسي أو الديني أو الوطني فالموتُ حَيـّـًـا اختيارٌ بامتياز بديلا عن الحياة في القبور.

كم جيلاً تحتاج أمةٌ حتى تُغــّير جلدَها، ثُمَّ لسانــَها، ثم سلوكياتها العُرْفية حتى تصل إلى تغيير روحــِها؟

أفجع كارثة يتعرض لها المرءُ هي هجرتُه إلىَ بلدٍ مُتقدّم وهو ينظر خلفه طوال الوقت فلا يرى أمامه بوضوح لكثافة ضبابِ الماضي ولا يشاهد حياتــَه الماضوية لأنَّ عواملَ البيئة والزمن والمكان قد غيرّت ملامحَها وهو يُصِـرّ علىَ الحديث عن ماضٍ تمزق، وتشتتْ، وتناثر، فلا تجمعه قوةُ ذاكرةٍ بملايين الجيجابايت!

إذا شغلتك مُطاردةُ السراب عن الاندماج الكُلــّي في حقيقةِ واقعك الجديد فقد أحْكَمَتْ لك العُقدة التي لا حل لها.

ما جعل اللهُ لرجلٍ من قلبين في جوفــِه، ولن تجمع الماضي والمستقبلَ في نفس الحاضر فهما كثيراً ما يتصارعان بدلاً من أنْ يتكاملا!

ما شغلني شيءٌ في حياتي أكثر من نُمو زهرةِ الصبـّار في النفوس؛ فشوكــُها يؤلم الآخرين أكثر من جَرْحِ موطنــِها في النفوس أو العقول أو القلوب.

تعيش حياتــَك الجديدةَ فتصبح قديمة، ومستقرة وعليها لمساتٌ إنسانية متمدّنة من جرّاءِ خبرات متراكمة استدعاها فكرٌ باحثٌ عن الحب فاستقرتْ فيه، فإذا بالذين تحثهم على خوض غِمار سلوكيات نبيلة يدخلون معركةً ضدك رافضين ما تعلمته، ومتمسكين بما جهلوه.

إذا عبث الزمانُ في نفوسِ قومٍ وأراد وقفــَها عن التطور والسير مع العصر واستقامة طريقها التنموي أوهمها أن كل أفرادِ المجتمع يعرفون ما لم يؤتَ أحدٌ من قبل، ثم جعل معارفــَها دينية ومعلوماتــِها مُستقاة من السماء مباشرة.

نعود إلىَ أُمِّ القضايا: لماذا يؤلمك الشوكُ الذي في نفوسِ أبناءِ بلدك بدلاً من أنْ يوجعهم؟

حياة الإنسان قصيرة بحيث تصل بها إلى النضوج والشكّ والريبة وإيقاظ العقل قُبيل وداعِك إياها فلا تستطيع أنْ تتراجع أو تُغيّر دفتــَها أو تُقنع من علـَّمتهم أنك بصدد اختيار طريق آخر قبل وصول حفــّار القبور!

هل الحيوانات المفترسة فقط هي التي تنهش  أم أنَّ الإنسانَ أيضا يفعل نفسَ الشيء، ليس إذا جاع؛ ولكن إذا اختلفتَ معه فكريــًا وعقائديا؟

أعود إلى سؤالي: كيف تُستعمًر بتكريمك ضيفــًا عليهم ؟

لأنَّ خطَ العودة جسديا يصبح مقطوعا، ونفسيا وفكريا وعاطفيا يجعلك كالبندول تتأرجح بين هنا وهناك!

ماذا لو أصابتْ أهلَ وطنك الأم حزمةٌ من الأمراض النفسية والعصبية والعقلية، وتغلغلتْ الكراهية في الأعماق، وأصبحتْ الطاووسيةُ في المشاعر غالبةً عليهم؛ فلا يتركونك تستمتع بحياتــِك في مجتمعٍ مُتحضّر ولا يتركونك تغادرهم في أمان؟

ليس أمامك إلا أنْ تنتظر الجيلَ الثاني من نَسْلـِك الذي ترىَ فيه حياةً تمنيتها في هجرتــِك والتقط ثمارَها آخرون من صُلــْبـِك.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في الأول من أكتوبر 2020  




ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...