نصف قرن منذ أنْ توقف قلبُه الكبير إثـْر عودته من وداع آخر ضيوف مصر في مؤتمر قمة لوقف مذابح الحسين بن طلال ضد الفلسطينيين؛ وما تزال مصرُ تُذكــَر بعبد الناصر كأنه متفرّع من النهر الخالد.
هُزِم من قال أنه هُزم في نكسة يونيو 1967، فقد ضُرِبَ وجيشُه ضربة قاتلة فلم يُسَلـّم الروح، وكان طبيعيــًا أن يُضرَب ويُهزَم في ستة أيام!
في ثمانية عشر عاما أوجع أبو خالد كل القوى الاستعمارية، وطاردها كما يطارد نسرٌ كلبــًا هائمـًا، أجربَ الجلدِ ولو كان أشقــَرَه.
جاء يطلب مثل غيره شراءَ سلاح، فرفضوا لئلا تغضب إسرائيل، فلجأ إلى تشيكوسلوفاكيا( 1955)، فأصدقاءُ ناصر شرقـًا أضعافُ أعدائــِه غربــًا.
اصطدم قبلها بعام مع جماعة الاخوان المسلمين(1954) التي تأسست في ميونيخ في الثلاثينيات وأعطتها أمريكا الضوء الأخضر.
أمم قناةً مائية مصرية لحساب أصحابها المصريين؛ فهاج وماج وحوشُ الغابة، فعادتْ الامبراطورية التي غابت عنها الشمس إلى الشمس في بورسعيد، وفرنسا التي قاومها الجيل الجزائري الخامس فسدّدَ عن آبائــِه مليون ونصف المليون شهيد وكانت روح ناصر تسري في أجساد أبطال المقاومة الجزائرية، ودخلتْ جحافل الجيش الصهيوني سيناء بأحدث الأسلحة الأمريكية. انسحبتْ الدول الثلاث بفضل ثلاثة أسباب: المقاومة الشعبية المصرية، رفض واشنطون عودة بريطانيا إلى منطقة ستكون من نصيبها لاحقا، وإنذار موسكو.
لم يهدأ الريّس فهو صاحب مشروع قومي، فكانت الوحدة المصرية/السورية التي تحصر بينها الكيان الصهيوني( 1958)، ثم انتصب السد العالي أكبر مشروع مائي في القرن العشرين بعدما رفضت أمريكا دعمه. فأوجعوه في حبه الكبير، ونجح الانفصاليون لشطر دمشق والقاهرة مرة أخرى.
وشغلوه في دعمهم حُكْم الإمامة المتخلف باليمن وقامت ثورة في 26 سبتمبر 1962، فألقوا بكل ثقلهم مع جهات عربية لجعل جبال اليمن السعيد مستنقعا تعيســًا لتتم تصفية آلاف من جنودنا البواسل بفضل حرب رجال العصابات والقبائل، فعبد الناصر صاحب مباديء التزم باتفاقية الدفاع العربي المشترك.
ووقتها لم يصمتْ؛ فانطلق صوته عبر الأثير في ست ساعات يعلن الميثاقَ الوطني، وفهم الاستعمار أن هذا الرجل خطر عليه فهذا مشروع وطني وقومي ومصري، وتفتحتْ دور النشر، وظهرت الرواية والقصة والأدبيات والموسيقى وكل أنواع الفنون ومراكز البحوث العلمية، واستنشقت حركات التحرر من هواء القاهرة، ولم يعد هناك مواطن أفريقي أو آسيوي أو عربي إلا وقد وضع أذُنـــَه في ترانزستوره الصغير ليسمع صوتَ الحياة.. صوت ناصر من مصر، فتعود إليه روحُ المقاومة.
وفهم الاستعمار أن الريّس رجلُ أحلام تتحقق وليست احلاما تختفي في الأثير، فوقف مع حركة المقاومة السمراء ضد الاستعمار الأبيض في جنوب أفريقيا، وتعلم مانديلا من ناصر أن أفريقيا للأفريقيين.
جن جنون الاستعمار لكنه ظن أن أبا خالد سيتركهم لحال سبيلهم في أمريكا اللاتينية فهو مشغول في الكونغو والقارة التي لوّحَتْ وجوهَ أبنائِها شمسٌ حارقة.
وجاءهم ناصر بعدم الانحياز وجمع ثلثَ الدنيا، أي آسيا الكبرى فحلقت روحه فوق الهند وإندونيسيا حتى ماو وشواين لاي كانا يقفان في الصين مبهوريّن بسليل الفراعنة.
وكان لا بد من ضربــِه في داخل مصر عن طريق أكبر تيار إسلامي لا يفهم المنتسبون إليه الفارق بين الاشتراكية والإلحاد، وبين ماركس وبومدين، ومع ذلك ورغم اصطدام عبد الناصر بالجماعة عام 1954 إلا أن مطابع الدولة تركت القُطبين يغرقان المكتبات بأفكار الدولة/الجماعة بدلا من الدولة/الشعب، وشاهدنا مؤلفات سيد قطب وأخيه محمد قطب والمودودي والندوي، وكانت الأسلمة الفكرية تخطو أولىَ خطواتها نحو الجامعات والمعاهد وحتى المدارس.
وتم اعتقال آلاف الأعضاء وربما عشرات الآلاف الذين كانوا على أهبة الاستعداد لعمل غسيل الأدمغة بالماء المقدس الذي حوته( معالم في الطريق)و( جاهلية القرن العشرين)و( معركة التقاليد)و( منهج الفن الإسلامي) و( الحجاب ) و( تفسير سورة النور).
زادت مطالب الوحدة العربية من صنعاء إلى طنجة، ومن بغداد إلى الصومال، ووصلت الرسالة واضحة إلى قوىَ الاستعمار وهي ترى قادة العالم الثالث ودول عدم الانحياز وأفريقيا وأحرار أمريكا اللاتينية يولون وجوهَهم شطر القاهرة؛ فالأب الروحي في انتظارهم، إنديرا غاندي ونكروما وجومو كينياتا وجيفارا ومحمد علي كلاي.
وارتعش عملاء الاستعمار في كل مكان من تشومبي إلى رضا بهلوي، وأقنعت إسرائيل الغرب والشرق وكل الخائفين أن تقدم وتطور مصر وعملقة الفكر الناصري هو الهولوكوست المصري الذي كان على وشك إحراقها، حتى أن حمقىَ المثقفين حمَلوا أكاذيب عبرية تؤكد أن عبد الناصر وعد بإلقاء إسرائيل في البحر رغم أن الوحيد الذي قال هذه الكلمة كان أمين عام جامعة الدول العربية في زمن النكبة عام 1948.
أنهكتْ حرب اليمن جيشــَــنا وعاد إلى مصر، وجندت جماعة الاخوان الرأسمالية كل إمكانياتها لمحاربة الفكر الاشتراكي بالضرب الكاذب تحت الحزام واقناع مريديها أن ناصر الذي وسّع دائرة انتشار الاستنارة الأزهرية في كل مكان، هو ملحد يُعادي الإسلام، وما أسهل الكذب باسم الدين.
بدأ استفزاز عبد الناصر من كل ناحية بحرية وبرية وجوية، وكانت الترسانة الإسرائيلية تتلقى من خلال عقدة الذنب النازية تعويضات غربية في مقدمتها السلاح ومعلومات استخباراتية وإعلام موجّه ضد مصر بحجة أنه لإضعاف المعسكر الشرقي.
وكان 5 يونيو 1967 يومَ الانتقام الإسرائيلي/الأمريكي/الغربي من الرجل الذي سبب له صداعا في كل مستعمراتهم.
وأخطأ عبد الناصر عندما لم يضع حلا لصراعات الضباط الأحرار، فوضع ثقته في عبد الحكيم عامر وشِلة الغرور.
وأخطأ عبد الناصر عندما ترك أجهزة استخباراته تمارس أشد أنواع التنكيل والتعذيب في أعضاء الاخوان المسلمين في السجون والمعتقلات ، والاخوان إذا غضبوا انتقموا، وإذا انتقموا افترسوا، وإذا افترسوا مزّقوا،وإذا مزقوا نهشوا، وإذا أسمعوك حكايات دار الزهراء وأحمد رائف وزينب الغزالي ومحمد جلال كشك فقد جعلوك ترىَ إبليس ملاكا مقارنة بمن يعادونهم!
لكن الضربة التي كان من المفترض أن تكسر ظهر ناصر شدّتْ كل عضلاته والتئمتْ الجروح، وانتحر عبد الحكيم عامر أو قُتِل، وتفرق أصحابه، وخرجت الملايين تنادي عبد الناصر بالبقاء حتى إزالة آثار العدوان.
ولم يهتز، واسْتــُقـِبـلَ في مؤتمر الخرطوم استقبال الأبطال نكاية في قوى الاستعمار، وبدأ حربَ الاستنزاف منذ الأسبوع الأول بعد هزيمة جيشنا، وأغرق أبطال البحرية المدمرة الإسرائيلية إيلات، وجددتْ الثورة نفسَها لكن أعداءَها تضخموا، وتوَحدوا، فحاربوه في الجانب الأدفأ بالقلب، أي في أحبابه الفلسطينيين وحدثتْ مذابح الأردن، وكان أبو خالد ما يزال كبيرًا فاستدعي الملك حسين وأبا عمار وأجلسهما أمامه كتلميذيـّن في فصل للطلاب المشاكسين، واستمعا إليه وانتهت المذبحة في المملكة الهاشمية لكنها تسربتْ إلى القلب الكبير، وعندما ودّع آخر ضيوف القمة في مطار القاهرة الدولي ، أمير دولة الكويت، كان القلب يُنذر صاحبَه بالضربات الأخيرة، وفي مساء يوم 28 سبتمبر 1970 سلـّـم الروحَ لبارئِها.
رغم اعتذار عبد الناصر وتحمّله مسؤولية هزيمة يونيو والبدء الفوري في حرب الاستنزاف وإعادة بناء الجيش ورفض الملايين تجديد مصر بغير روح الريّس، إلا أن التاريخ الذي يكتبه الخصوم، الاخوان والوفد والسادات وتلاميذ إيلي كوهين في مصر، كان وصفا لجهنم الناصرية.
خمسون عاما كتب تاريخَ مصر أربعة رؤساء وضعوا في صفحاته كل أحاديث الإفك وكلٌ بطريقته الخاصة، سادات كامب ديفيد، ومبارك اللص، ومحمد مرسي الدرويش( وما أدراك ما الستينيات) ثم السيسي البائع!
ليس غريبـًا أنْ ترتبك معلوماتُ المصريين ولولا الأشقاء العرب في كل مكان لنسيَ المصريون تاريخَهم الناصري ومشروعَهم القومي الكبير، وكلما أهالوا الترابَ على زعيم لم يعرفه أكثرُهم، أزاح الترابَ أشقاؤنا العرب في العراق وسوريا وليبيا والجزائر واليمن والكويت وفلسطين وكل عربي تابع تاريخَ مصر الحديث عن غيرِ طريق الاخوان والوفد والصهاينة ورؤساء ما بعد أبي خالد.
ضعوا له أوصافـًا شيطانيةً تثلج صدورَكم، النكسة، صديق صديقه، معتقلات شمس بدران، استخبارات صلاح نصر، تهور ومغامرات ومقامرات، كلاب تنهش جسد زينب الغزالي، حتى نكبة 1948 التي كان فيها ضابطا في جيش الملك جعلوها من أخطاء الريّس!
لكن جمال عبد الناصر سيظل في غيابه حاضرا، وستأتي أجيال مصرية لم تتلوث ألسنتها بعبرية من جاءوا بعد الريّس، وسيقرؤون التاريخَ من جديد، وسيكتشفون مصرَهم مرة أخرى، وربما يذهبون إلى قبر عبد الناصر لذرف دموع كانت عَصيـّة طوال سنوات الغش والكذب والكوهينية وأحقاد السادات ومبارك ومرسي والسيسي، فعبدُ الناصر لم يمُت، وروحه تحلق في الوطن العربي برمته وعندما تصل فوق أرض مصر التي عشقها تُسْقــِط من العالم الآخر دموعــًا لا يراها أكثر المصريين.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 28 سبتمبر 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق