23‏/09‏/2020

خطورة الاكتفاء بالضمير الديني!

 خطورة الاكتفاء بالضمير الديني!

لا أقصد هنا اللجوء للضمير الديني لتوجيه المرء لصلاح نفسه وخدمة المجتمع؛ ولكنني أعني الاكتفاء بالضمير الديني وجعله الحاكم والمتحكم في سلوكيات الفرد أو الجماعة أو المجتمع أو السلطة، تنفيذية أو قضائية أو تشريعية!

الضمير الديني ليس بالضرورة مصنوعا في السماء، أو تُحركة إرادة عليا فأي شخص يمكنه الاستعانة به لأغراض دنيوية دنيئة ثم الزعم بأن السماء راضية على أفعاله، كالمجرم القاتل أو المُغتصب الذي يقف أمام القاضي مُدعيا أنه أتىَ إلى المحكمة وبصحبته الله، ليشهد على صحة أقواله.

كل تجار المخدرات يشكرون الله لأن البضاعة وصلت سليمة، بل إن بعضهم يدفع رشوة إلى السماء لأنها، على حد زعمه أخفته عن رجال الأمن، فيُسْكِت ضميرَه الديني الهشّ بمساعدة بعض الفقراء والمساكين وإقامة موائد الرحمن!

الضمير الديني قد يكون مناهضا للدين وفاتحا المجال لكل الشرور مع صبغة مقدسة ومظاهر خادعة والاستشهاد برب العباد.

إذا أراد ديكتاتور سادي وفاشي تمرير جرائمه من بين صيحات الاستحسان التي يطلقها الساذجون من رعيته فإنه يرتدي مسوح الرهبنة( إسلامية أو مسيحية أو يهودية) فجان بيدل بوكاسا أراد الحصول على تصريح من بابا الفاتيكان ليًسْكِت المؤمنين في جمهورية أفريقيا الوسطى، ثم اقترب من الإسلام ليمد يده في جيب العقيد معمر القذافي، لكن العلمانية أيضا دعمته فرنسيا بنفقات تنصيبه إمبراطورا.

أنت قد تؤمن بالله وتصلي في مسجدك أو كنيستك أو معبدك فتظل في دائرة السلوكيات المفيدة لك ولمجتمعك عندما يحركك ضميرك الاجتماعي حينما تمارس شعائرك الدينية؛ ولكن إذا كان اللجوء شبه الوحيد للضمير الديني فثغرات سلوكياتك اليومية تتضاعف وتزداد وتتوسع، فكل لص وطاغية وقاتل وإرهابي لن يجد صعوبة في البحث في أسمىَ الآيات عن تبرير لأعماله المشينة.

الخطورة في الضمير الديني أن المحكمة قد تُعقد بعد مئة عام أو ألف أو مليون، بل يمكنك أن تتوب أرضيا ظنا منك أن القضاء السماوي لن يعقد جلساته، فالتوبة كلمات وصلوات وأدعية بعدما تكون قد آذيت أو سفحت أو قتلت أو سرقت النفس التي حرم الله.

الضمير الديني يظن أن الاغتسال والصلاة والبخور وقليل من الصدقات يهيل التراب على جريمتك، لكن الضمير الاجتماعي يربطك بكل ما حولك، ولا يشغلك بالفروقات العقائدية والمذهبية ولا يُفرّق بين الذكر والأنثى.

الضمير الديني يُربك حياتك في إدخالك نفق الحرام فقط، وكلما أتت أمُّةٌ أضافت للمحرمات قناعاتها الجديدة مع مزجها بأقوال أناس أكلهم دود الأرض، والضمير الاجتماعي يعاملك كإنسان يخطيء ويصيب ويُعاقَب ويُكافَـأ وصراطه المستقيم هو احترام قوانين ذكية وعادلة وصالحة ومتقدمة ونهضوية لا تطلب شهادة موثقة بالقداسة من باعة الأديان وتجار العقائد.

أتذكر الشاب المهذب السعودي الذي تعرفت عليه منذ سنوات في مدينة الطلاب هنا في أوسلو. جلسنا في كافتيريا فطلبتُ مياه غازية وطلب هو  زجاجة بيرة. ذهب الظن به أنني خجل منه فقلت له: أنا لم أرتشف نقطة خمر طوال حياتي في أوروبا، لكنك حُرٌ فيما تفعل!

تعجب وقال: لكنك تعيش في دولة اسكندنافية  ولا أراك ملتحيا أو تُزيّن جبهتــَـك زبيبةُ صلاة، هل أنت خجل مني لأنني قادم من مكة المكرمة؟

قلت له: إن الله في السعودية هو الله في النرويج، فبُهتَ الضيف و.. لاذ بالصمت.

الضمير الديني يرى الخطيئة في المرأة والجنس فيرتكب الحرام في الخفاء، وأكثر جرائم الجنس والتحرش بالأطفال تجدها في مجتمعات تُغطي نفسها بالضمير الديني والنواهي والأوامر والمحرمات، وأنا عني شخصيا لو خُيرّت بين ترك طفل بمفرده مع رجل دين في معبد أو في غرفة مغلقة أو بين تــَرْكـــِه مع حشّاش أو مجرم بلطجي فلن أتأخر عن الاختيار الثاني، فالأول يضع الشيطانُ أمامه حسابا بعد الموت وسيتوب عنه قبل حضور حفّار القبور، والثاني يضع هو أمام نفسه صورة المجتمع والأهل وأطفال جيرانه والتحضر والتمدن حتى لو كان مقيما دائما في غرزة مخدرات.

الضمير الديني قد لا يقبل توبتك أو استغفارك أو ندَمَك فيقطع رقبتك على طريقة داعش وبوكوحرام وشباب الصومال وطالبان، والضمير الاجتماعي تُحركه أنظمة وقواعد وقوانين وأحكام.

الضمير الديني لا يخجل من القسوة والوحشية وجزّ الرقبة، ومن استعباد الأفراد والجماعات، ومن تجارب الإبادة على الشعوب.

هكذا فعل كريستوفر كولمبس في العالم الجديد باسم الدين حتى أن ملكة إسبانيا رفضت هديته المكونة من أرقاء تمخر بهم سفن اللصوص عباب البحر، فجريمته أغمض الضمير الديني عينيه عنها، ونفس الجريمة أيقظ الضمير الديني للملكة ضميرها الاجتماعي فرفضت. طبعا من الصعب الدخول في تفاصيل الدين والمجتمع في تلك الفترة فقد دفع المسلمون واليهود ثمنا باهظا، ودفع المسلمون والمسيحيون ثمنا باهظا أيضا في فلسطين المحتلة بعد خلط الضمير الديني بالفكر الاستعماري وزعم وعد الرب أنه يُقرب إليه الاحتلال.

خلافات واختلافات المهاجرين تزداد شراسة إذا استعانوا بالضمير الديني، فتنبت الطائفية والكراهية والجهل بالتاريخ والاستعانة بكتب مقدسة، ويقف في المقدمة الاستعلاء والظن أن بعضهم من الفرقة الناجية أو من شعب الله المختار أو من الجنس النقي والدماء الزرقاء وربطها بأحقية الاستعمار.

لم يكن لدىَ الضمير الديني مانع أن يُصلي جنوب الأفريقي الأسود في كنيسة للواقعين تحت الاحتلال ويرفعون أدعيتهم لمسيح اسمر، ويرتدي البيض ملابس أنيقة يوم الأحد وينتظرهم كاهن ليؤدي مع قُداسا أمام مسيح أبيض البشرة، وربما أزرق العينين.

الضمير الديني للمسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والكونفشيوسي والهندوسي يبرر بنفس القدر الذي يستعين به سُنّي وشيعي إذا اختلفا في إيران والعراق ولبنان، أو بروتستنتي وكاثوليكي في بلفاست إبان الحرب الأهلية.

إبادة المسلمين في الجزائر من الكاثوليك الفرنسيين، كإبادة الروهينجا من البوذيين كإبادة الأرمن من المسلمين كإبادة البوسنيين المسلمين من الأرثوذوكس الصرب كإبادة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من الصهاينة المستعينين بكتب اليهود.

هشاشة الضمير الديني لم يجعلني يوما واحدا أبتعد عن الله والدين والتعاليم، لكنني لا أثق بمن يحاكمني انطلاقا من فهمه للدين.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في  23 سبتمبر 2020

 


ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...