09‏/03‏/2019

لهذا يكرهني الإعلاميون المصريون!

بيني وبين الإعلاميين المصريين فجوة كبيرة من يتخطاها يسقط فيها، وشبه نفور تلقائي كأنني قادم من كوكب آخر، وجئت لاعتدي على سلطتهم الرابعة!

حكايتي معهم ليست في أنني مغترب أو أسرق المِداد من أقلامهم أو أنتظر فرصة لأثب فوق مكاتبهم، لكنها حكاية القصر التي وصفها المأمون أبو شوشة في ديوانه دموع المهرج 1964 ( في قصرك المعمور بالخيرات يا ملكي كلاب.. ولأنها في عز مُلكك لا تثور.. لا شك أنك عالم لما لا تثور.. الأغبياء الأدعياء المغرضون، يهللون: إن الرعية حرة والشعب جبار عنيد.. لكن كلابك أنت زرقاء الدما شيء جديد.. تهوى الخضوع والاستكانة.. انظر لسُخف حديثهم.. لغبائهم.. أو ليس شعبك أو كلابك كلهم ملكا حلال؟).

الأربعون عاما الإعلامية من عُمري فشلتُ فيها فشلا ذريعا في الاقتراب من إعلاميينا المصريين، إلا قلة نادرة منهم، والباقي اصطدموا بي بسبب القصر، السادات ومبارك وطنطاوي ومرسي والسيسي، لأنهم خط الدفاع الأول عن الحاكم.

التقيت بالقلة الرائعة التي أثلجت صدري وأنعشت فكري ومنحتني الأمل في غلبتها على الأكثرية؛ مع الكثرة الساحقة كلما اقتربت، ابتعدت أو أبعِدْت أو انتصب جدار طويل يمنع زملاء المهنة عن التدفئة القلمية، فسيدُ القصر يراقب، ومرشد الجماعة يتابع.

لا أزكـّـي النفس، لكن الحقيقة أنني لم أبدأ الصدام إلا مرة واحدة عام 1987 عندما نشرت في ( طائر الشمال ) مقالا تحت عنوان ( قراءة في فكر ساقط) وكان نقدًا شديدًا لكتاب ( خواطر مسلم في المسألة الجنسية ) للكاتب الإسلامي، والماركسي سابقا، محمد جلال كشك، صاحب المقولة الحاقدة عن الكويت فكتب عنها:( الدولة التي لا يريدها أحد!)

رفع المؤلف دعوى قضائية ضدي فرفضت تسلمها من وزارة الخارجية المصرية وقلت بأنني نرويجي الجنسية وكتاباتي تخضع لقوانين النشر في النرويج.

فأعاد محاميه إرسالها عن طريق وزارة الداخلية النرويجية فاضطررت لتسلمها على باب البيت في أوسلو. اتصلت بالأستاذ محمد حسنين هيكل في القاهرة الذي رحب بمساعدتي وشرح القضية للدكتور يحيي الجمل. كسبت القضية وأنا في مكاني فالناصريون لديهم مئات الوثائق التي تدين جلال كشك.

في 23 يوليو 1992، أي في العيد الأربعين للثورة كان الأستاذ هيكل يستقبلني في مكتبه بقاهرة المعز، في لقاء خاطف امتد بحميمية إلى ساعة كاملة أسرَّ لي فيها بكراهية حسني مبارك له، عندما سألته عن سبب إحجامه عن الرد على منتقديه وفي مقدمتهم جلال كشك! قال لي بأن كل هؤلاء يوعز إليهم مبارك بالهجوم.

ودّعني حتى المصعد، وفتح بابَه لي، وكانت دماثة خلقه ولغته الجميلة المتناغمة والموسيقى الكلاسيكية التي يعبق بها المكتب شاغلي بعد مغادرتي.

ومن الإعلاميين الذين جذبتنا لبعضنا كيمياء مريحة كان خالد الشامي الذي استضافني في ( أوراق مصرية) على قناة الحوار اللندنية ثلاث مرات، منها تلك التي هدد فيها جمال مبارك القناة بعد حلقة ساخنة معي، (10 نوفمبر 2010) دعوت فيها للثورة ضد مبارك، رغم أن خالد الشامي كان يعرف مسبقا بالمصيدة التي نصبها لي الدكتور فيصل القاسم في الاتجاه المعاكس في نهاية ابريل 2008، ومع ذلك فقد كانت لديه الشجاعة أن يبدي في برنامجه ثقتَه بي، بعد حلقة  أجراها طارق حمو في تلفزيون عربي/كردي يبث من شمال بلجيكا تعاطفا معي بعد حلقة مصيدة فيصل القاسم.

ومن الإعلاميين الذين امتهنوا الحرفية الهادئة والملتزمة كان حسام فتحي الذي التقيته أول مرة خلال تغيير حكومي في قطر( 1989)، وكان مراسلا لصحيفة ( الأنباء ) الكويتية في الدوحة. أجرى في خمسة أيام أربعة لقاءات مع وزراء قطريين جُدُد ولم يتمكن أي إعلامي آخر أن يفعل مثله، ورفض أن يبيع أي لقاء كخبطة صحفية حتى أن رئيس تحرير ( الراية ) توسل إليه بحُكم الصداقة فكان ردّ حسام فتحي بأنه مراسل لصحيفة ( الأنباء ) الكويتية، وأي نجاح يُنسَب إليها فقط. انبهرتُ بالأمانة الصحفية له، وظللنا أصدقاء لثلاثين عاما، أستمتع بحديثه كلما قمت بزيارة الكويت المقيم هو بها.

ومن الإعلاميين الرائعين كان عبد الغني سعودي المستشار في مكتب رئيس الوزراء، وهو إعلامي مصري كان يلتهم في المساء كل الصحف الكويتية ليكتب ملخصا عنها، وهو متابع دقيق للشؤون الكويتية، وحديثه الدافيء مع أصدقائه يُشعرك أن الإعلامي المصري في الخارج إذا أتيحت له الفرصة تظهر مواهبه ساطعة ومشرّفة.

وقلة أخرىَ غير تلك القلة، أما غيرهم من عشرات الإعلاميين الذين التقيتهم فقد كان خلافي معهم قبل اللقاء بوقت طويل، فالإعلامي المصري تتحرك بوصلته في اتجاه القصر الجمهوري، وقلبه معلق بالتوجيهات الصامته، أي رضا سيد القصر، ويمكنه أن يكرهك لو اقترب سن قلمك من رئيس الدولة فالفراعنة يعبدون آلهتهم منذ خمسة آلاف عام، والتوجيهات يتناقلونها فيما بينهم لئلا تفهم مباحث أمن الدولة، أو الأمن الوطني لاحقا، أن هناك بذرة تمرد تسري في قلم أو لسان الإعلامي حتى لو كان يعمل في أقصى الأرض.

تسبقني آرائي قبل اللقاءات مع إعلاميين مصريين، ويلاحظ المضيفون في الملتقيات الإعلامية هذا النفور حتى أنني حاولت عشرات المرات أن أتودد بكل التهذيب، مثلما حدث ومددت يدي لأسامة سرايا لأصافحه فأدار وجهه إلى الناحية الأخرى.

سألت عصام كامل مدير تحرير صحيفة ( الأحرار ) عن سبب نفور الإعلاميين المصريين مني كأنني جرَب، فقال: لأنك تنتقد بشدة الرئيس مبارك، وكل واحد منا خائف أن يكتب آخرون تقريرا لأمن الدولة أنه تحدث معك، فيفقد الامتيازات وفرصة السفر للخارج.

قال ممتاز القط لصحفية لبنانية استفسرت منه عن سبب انسحاب الصحفيين المصريين بمجرد ظهوري كأنني عفريت من الإنس فقال لها: لأن انتقاداته للرئيس مبارك غير مقبولة.

وكيل وزارة الإعلام في دولة خليجية قال لي: في مرات قادمة سندعوك بمفردك وليس في لقاء إعلامي، فأهل بلدك من الإعلاميين المصريين لا يرغبون في وجودك بينهم!

عندما تلقى عدد كبير من الإعلاميين نسختين مجانيتين من كتابين بقلمي مع كلمة رقيقة، هاجت الدنيا وماجت. وصل غضب مكرم محمد أحمد إلى كل الملتقين في المؤتمر الإعلامي، وقال لي: هل تظن أنني أحمل كتابيك معي في الطائرة؟ أنا لا أقرأ هذا الكلام، فهذان ليسا كتابين، إنما قنبلتان!

السفير المصري قام بدعوة كل الإعلاميين المصريين وطلب استثنائي وقد لاحظ مراسل وكالة الأنباء السورية، فاقترب مني وقال: لا تهتم، فأنت عربي ولست مصريا فقط.

أحدهم صافحته بأدب جم فقال لي: لكنني لا أعرفك! قلت، تعارفنا وتحدثنا طويلا على هامش عرض سينما أوديون في لندن فيلم ( هي فوضىَ)! نفىَ أن يكون قد رآني من قبل، وظل طوال فترة المؤتمر في عاصمة خليجية يتابعني أو يتدخل في حواري مع آخرين وهو يرتدي بدلته المزركشة والبيبيون كربطة عنق وتقدح عيناه شررًا كأنني قاتلُ أعز الناس إليه. وفي معرض الكتاب أرسل زميلا صحفيا آخر، كل منهما يقيم في عاصمة الضباب، وحاول استفزازي، فانسحبت.

الإعلامية العريقة سامية صادق التي كنت قد تعرفت عليها للتو، ومدحتُ في تاريخها اللساني الجميل، ولغتها البديعة، فشكرتني. وبعد ساعات من لقائها بالإعلاميين المصريين كانت قد نفرت مني، فعيون السلطة تراقب من القاهرة كل إعلامي مصري في ملتقيات ومؤتمرات خارج الوطن لئلا يتحدث أو يتودد لمعارض!

في لقاء للدكتور عمرو عبد السميع والدكتور رفعت السعيد تحاورا ساخريّن في برنامج عن الوضع في مصر. وقال رفعت السعيد بأن هناك شخصا يزعم أنه مقيم في النرويج تحت اسم طائر الشمال، وهو يدعو للانقلاب على الرئيس مبارك، ويحذر المصريين من هروب الرئيس محّملا بشولة(!) مليئة بالملايين، لذا يجب الذهاب إلى المطار لمنع تهريبها. وضحك الاثنان على هذه الفبركة عني.

بعد برنامج ( أوراق مصرية ) الذي حرضت فيه ضد مبارك في 10 نوفمبر 2010 من لندن، كتب عبد الله كمال في روزا ليوسف أنه كان يتلقى مقالات من شخص مهتز وغير متوازن اسمه محمد عبد المجيد، ثم هدد الوسيط الفضائي في الأردن إذا لم تسحب القناة في لندن البرنامج الذي استضافني.

صديق عزيز، أو كان عزيزًا، كنا نلتقي، ونتناقش، وكتبت عنه وعن احترافه ووجهه المشرّف للمصريين في الخليج، وكتب عني إثر استقبال سمو الشيخ سعد العبد الله( رحمه الله) لي كلاما يبهج القلب والقلم معا. وأكلنا سويا عيش وملح. ثم عاد بعد سنوات غربة في الخليج( خاصة في الكويت ) إلى مصر بعدما حصل على مستحقاته المالية وفوقها بوسة!

تغيرت نظرته وكتاباته عني كأنني لم أمسك القلم من قبل رغم أنني أكتب عندما كان هو في مرحلة الروضة. بدا ساخرًا ومقللا من شأني في كل الموضوعات، ومنها رؤيتي لهموم أقباطنا وقد رآها فتنة طائفية، وكتاباتي الكثيفة عن المغتربين، وطبعا عن عبقرية السيسي في قناة السويس الجديدة وعدالة أحد عشر قاضيا حكموا بتبرئة حسني مبارك.

فجأة أرسل لي كاتبا بأنيابه وليس بسن قلمه مهددا إياي بفضيحة علاقاتي بشيوخ الخليج( ويقصد الكويت !)، وأنه لن يسكت عن انتقادي للرئيس السيسي.

أكلُ العيش مُرّ، وأكثر مرارة لدىَ الإعلاميين المصريين، وكلما جاء للقصر الجمهوري في القاهرة رئيس جديد فرشوا له السجاد الأحمر تحت أقلامهم، وكتبوا مقالات مقدسة، وجعلوا الرجل صاحب رسالة نبوية جديدة.

تاريخ طويل يمتد لأكثر من أربعين عاما يمر بالسادات ومبارك وطنطاوي ومرسي وعدلي منصور والسيسي، وأنا لا أدخل للإعلامي المصري من زور(!)

في جعبتي حكايات لا حصر لها وكلها كراهية في شخصي وقلمي حتى ترقص حجرات القصر الجمهوري من الفرحة، وترضىَ عن الإعلاميين المصريين أجهزةُ الأمن.

أكتب هذه الكلمات وقد تخطيت عامي الثاني والسبعين، وأستطيع أن أسرد لضميري عشرات الحكايات عن معاركي ضد الطغاة والفساد والإسرامصريين، وكتاباتي كلها تشهد أنني مصري معجون بالعروبة، وأحب عالمي العربي بكل سلبياته وإيجابياته.

لم أقف كغيري موقف المتفرج من أنظمة الحُكم العربية، من السودان إلى العراق، ومن ليبيا إلى الاردن، وتعرضت للتهديد بالقتل عدة مرات ( من شقيق صدام حسين ومن القذافي وغيرهما )، وكان يمكن أن تتفتح لي أبواب أكبر الصحف حتى عندما رفضت أن تكتب لي وزارة إعلام صفوت الشريف أسئلة لطرحها على حسني مبارك في حوار كان سيفتح لي مغاليق الصحف الكبرى، لكنه كان سيغلق مفاتيح ضميري المهني.

لذا لم يكن غريبا أن تظل علاقتي على مدى سنوات بالصحفيين والإعلاميين المصريين، إلا قليلا، علاقة مشوبة بكراهية يحملونها لي باسم القصر وسيده.

نشرت آلاف المقالات وأصدرت عشرين كتابا ممهورة بتوقيع ضميري وعلى نفقتي الخاصة، لا بأس بين الحين والآخر من بعض المجاملات.

في الأربع سنوات المنصرمة وصل الإعلام المصري إلى قمة السقوط، وزكمت رائحة النفاق أنوفنا، وأرتعشت الأيدي، واصطكت أسنان أصحاب السلطة الرابعة.

لم يمسني كبرياء الفرعونية فأنا عربي حتى النخاع، وأحب سوريا وفلسطين والكويت والإمارات وتونس وليبيا والجزائر كما أحب مصر، وقاطعت إسرائيل ولم تدخل بيتي طوال حياتي في أوروبا التي امتدت لستة وأربعين عاما برتقالة واحدة من يافا، ولم أجرح العرب في غيابهم أو أتعالى بنيلي على فراتهم ودجلتهم وليطانهم.

نحن في عصر العبودية الطوعية بعدما كانت بالكرباج، وخلافي مع الصحفيين المصريين، إلا القلة الملائكية الرائعة التي أحتفظ بأسمائها لنفسي، خلاف من المهد إلى اللحد، فحبر المطابع فوسفوري الرائحة، والفضائيات المصرية وصمة عار في جبين أم الدنيا.

اختار الإعلاميون المصريون الاحتماء بالقصر لضمان سلامة البيت، لهذا كنت ومازلت مكروها من أكثرهم، لكنني أتلقىَ رسائل محبة وتشجيع وتعاطف ومديح تكفي أن تدفءَ صدري ما بقي لي من عُمر، وتفرش قبري عندما يطرق حفّار القبور بابي.

حكايتي مع الإعلاميين والصحفيين المصريين مُخجلة ومؤسفة، لكنها لم تقم بتقزيمي، خاصة أمام زوجتي وأولادي وأحبابي وقرائي الأوفياء، وأكثرهم ينايريون، نزلتْ عليهم النبوة المصرية في ميدان التحرير، ثم سرقها الأوغاد لمحاولة إعادة الجماهير إلى جماهيرية التطبيل.

محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
طائر الشمال
أوسلو النرويج
  

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...