تمخض الرصاصُ فوَلـَـدَ حُبــًـا في نيوزيلندا!
أشد العواصف تأتي من الهدوء، وأعلىَ الأمواج من المحيط الهاديء الذي تنام نيوزيلندا في أحضانه فتصنع سلاما بعيدا عن أعين المتلصصين، فبريطانيا العظمىَ أخذت عصاها ورحلت عام 1947، أي بعد استقلال الهند، ثم تقسيمها إلى هند وباكستان، ثم تقسيم المقسَّم إلى باكستان وبنجلاديش؛ لئلا نغض الطرف عن تقسيم فلسطين بين المحتل و .. صاحب الأرض في نفس العام.
واحد في الألف من المسلمين في العالم سمعوا عن رئيسة وزراء نيوزيلندا، تلك المرأة الرائعة التي أرضعت طفلتها في جلسة للأمم المتحدة؛ وفجأة تمنّىَ كل مسلم أن تكون جاسيندا أردرن رئيسته في البلد وفي العمل و.. في البيت!
في العدالة فإن النساء قوامات على الرجال، وفي بضعة أيام كانت الدولة كلها وبرلمانها وشرطتها وجيشها تستجيب للمرأة المرضعة وتسحب السلاح نصف الآلي، ثم تصبح الدموع الدافئة على الضحايا المسلمين في المسجدين مقدمة للتسامح في بلد استضاف أقل من واحد في الألف من أتباع خاتمة الرسالات السماوية، ونصف النصف من الهند حيث ترعى روح غاندي السلام والماعز والنسيج.
متطرف من نبتة شيطانية؛( رفضت جاسيندا نُطق اسمه ) فإذا تأملت في جذورها رأيت الإعلام ومقارنة الأديان والفيلم العنيف والعنصرية البغيضة وكراهية الآخر بجهل مخيف!
ألم يكن للمتطرف النيوزيلندي نسخة نرويجية انفجرت حقدا في 22 يوليو 2011، واختارت واختار القاتل المصلين الآمنين كما اختار برايفيك النرويجي مؤتمر شبيبة حزب العمال ففرغ لأكثر من ساعة رصاصاته المجنونة في شباب وضع للتو خطواته على باب المستقبل.
آندريش برايفيك مثل أي إرهابي، يعطي إشارات قبل القتل، وينتظر أن تفهم السلطات، إنْ عاجلا أو آجلا، سيقوم بعملية إرهابية في مكان ما. أجهزة الأمن لا تُبصر ما يراه المحللون النفسيون، فالارهاب الديني واليميني والشيوعي والعنصري يكاد يصرخ بالجريمة قبل وقوعها.
قوامة المرأة على الرجل في استتباب الأمن وتحقيق العدالة أمر لا أرتاب فيه، وحتى القبضة الحديدية ( مرجريت تاتشر في جزر الفوكلاند) كانت عدالة كما تراها سيدة الإمبراطورية البريطانية على مبعدة آلاف الأميال من الأرجنتين.
سيدات حكمن فعدلن، أما جاسيندا آردرن فقد أضافت إلى الحُكم لمسات إنسانية فلا يدري المرءُ إنْ كانت تحكم أم.. تحب!
عبقرية الحُكم أن يرتدي الحاكم رداء المظلوم وغطاء الضحية ويزيح جانبا الفروقات الإيديولوجية بين الناس؛ حينئذ تلتصق العدالة بالمساواة.
لو ارتدىَ حاكمٌ مصريٌ رداءً وطنيا قبطيا في الأربعين عاما المنصرمة لاحتفل المصريون كل يوم بعناق الهلال والصليب، ولما تجرأ مجنون(!) أن يخدش أو يجرح كنيسة في أرض الكنانة.
لم تشهد نيوزيلندا منذ عام 1943 ( عندما قتل 48 يابانيا في الحرب العالمية الثانية ) مذبحة بشرية كمذبحة المسجدين.
نيوزيلندا قفزت من المجهول إلى قلوب العالمين بمختلف جنسياتهم وعقائدهم، ويبدو أن الله خلق الرجل من ضلع المرأة، فالعنصرية رجل، وكذلك الإرهاب والحروب والنزاعات والتعصب والتبشير الاستعماري والحروب العالمية هي رجل!
تُرىَ لو كانت امرأة هي التي تلقت الأوامر بإلقاء قنبلتي هيروشيما وناجازاكي في نهاية الحرب المجنونة؛ فهل كانت ستطيع قائدها؟
جاسيندا آندرن أول داعية إسلامية غير مسلمة؛ لكنها حملت راية الإنسانية ولم تتحصن بالكتب المقدسة؛ إلا عندما ألـّـفتْ بين القلوب في تأبين الشهداء.
من حق مسلمين أن يفرحوا باعتناق مئات النيوزيلانديين الإسلام بعد المذبحة؛ لكنني لو خُيّرت، رغم أن الأمر كله لله، فسأطلب عودة أرواح الضحايا لأحضان أحبابهم بدلا من اعتناق المئات للإسلام.
إن خطاب الفوقية البيضاء قديم قِدَم التاريخ، وتشهد عليه حملات الاستعمار في كل شبر من الأرض الملوثة بالدماء، جنوب أفريقيا وناميبيا وليبيا والصومال والجزائر والكونغو وفيتنام و ...
القاتل، الأبيض والأسمر والأصفر، بيننا، ونزعم أننا لا نراه!
إن اعتناق المئات للإسلام ليس انتصارًا للدين؛ إنما هو نصر للإنسانية ممثلة في جاسيندا آردرن، ولو حدثت المذبحة في معبد بوذي أو هندوسي أو سيخي أو بهائي أو قادياني فالناس الطيبون المفعمون بالإنسانية سيتوجهون نحو عقيدة الضحايا!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 23 مارس 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق