ذكرىَ التحرير .. حكايتي مع الكويت والعراق!
الجيرة قدر لا مهرب منه، والجغرافيا والتاريخ يصنعانها، فلا يستطيع بلد أن ينتقل من الشمال إلى الجنوب، ولا يتحرك قليلا من الشرق إلى الغرب، ولا يجبر العالم على رسم خريطة جديدة يمسح فيها جاره أو يستبدل به بلداً جديداً ومسالماً ومطيعاً.
كل دول العالم لديها مطامع ظاهرة أو باطنة في شيء ما لدى الجيران، ولكن عبقرية السلام تدفن الأحلام أو الأوهام سواء، كانت حية أو ميتة، إذا كانت النوايا حسنة.
عندما يصل إلى الحُكم ديكتاتور يرهب جيرانه كما يرهب شعبه، وإذا انتفخ مدَّ ذراعيه في كل إتجاه، وإذا تعاظم جبروته تحول الذراعان إلى أذرع أخطبوط تمتد في كل مكان.
الجغرافيا لا يصنعها التاريخ فقط، والخرائط يرسمها القصر بريشة الوهم، وحكام العراق يطمعون في الجنوب ويخافون من الشمال، وبغداد تظن أن نفط العراق لا يعرف حدوداً جنوبية، وإذا ذهب زعيم وجاء آخر سال لعابه لذهب الكويت الأصفر والأسود بنفس القدر.
أول مرة أقوم فيها بزيارة الكويت كانت في 5 ديسمبرعام 1982 من أجل تأسيس أول مسجد في أوسلو والتقيت وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد سعد الجاسر وكان اللقاء جميلا وودياً حتى أن الوزير أمر بعده بإرسال وفد مكون من الشيخ نادر النوري والدكتور فؤاد العمر مدير بيت الزكاة، وأبدى وكيل الوزارة محمد ناصر الحمضان دهشته من إقتناع رئيسه بأهمية المشروع، لكنني أبلغته أنني لست مسؤولا عن المشروع إذا اكتشف جيوباً سرية في أصحابه الذين حصلوا على ضمان من البنك في أوسلو.
وجاء أعضاء الوفد وأقام لهم القائم بالأعمال المصري السفير عصمت عبد الحليم محمد مأدبة عشاء في السفارة. انتهت الزيارة بعد عدة لقاءات وزيارات وتفقد المكان والاطلاع على الأوراق ودستور المركز الإسلامي والوثائق لدى المحامي.
رغم أن زيارتي إسلامية والتقيت خلالها عدداً كبيراً من القيادات، ودعاني الشيخ عبد الله العلي المطوع( رحمه الله) رئيس جمعية الإصلاح الإجتماعي ( الاخوان المسلمون) إلى ديوانيته للحديث عن أوضاع المسلمين في النرويج، لكنني في الحقيقة كنت مبعوثاً من مؤسسة بناء المسجد ولم يكن دوري إعلامياً.
لذا عندما جاءني مضيفي الكريم بأدبه الجم وهو مديرتحرير مجلة ( البلاغ ) وأراد اصطحابي من فندق هوليداي إن كنت متردداً بين دعوة خالد محيي الدين أحد الضباط الأحرار على الإفطار معه في مطعم الفندق أو الذهاب مع خليفة التونسي مدير تحرير المجلة. واخترت اليمين وتركت اليسار، فاليمين مضيفي واليسار عقلي.
كان هناك شيء غير طبيعي في الزيارة فقد طلب مني أحدهم أن يصطحبني لصلاة العصر شريطة أن أرتدي ملابس إسلامية (!)، وقلت له بأنني سأصلي معهم مرتدياً تي شيرت بنصف كُم وأحمر اللون وهي ملابسي الإسلامية!
كان ينقصني شيء ما، وربما كنته! أقصد الإعلامي وليس الإسلامي.
ثم جاءت الزيارة الثانية عام 1984 وأرتديت ثوبي الفكري الحقيقي، وقمت بزيارة وزارة الإعلام، واستقبلني بحفاوة بالغة وكيل الوزارة آنئذ الشيخ ناصر محمد الأحمد الجابر الصباح ( سمو رئيس الوزراء لاحقا) وبرفقته رضا الفيلي ( رحمه الله) وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون الإذاعة والتلفزيون .. ومنذ هذا اللقاء سقطت الكويت في قلبي واستقرت به لأكثر من ثلاثين عاماً.
كان الشيخ ناصر عبقريا في العلاقات الاجتماعية، ذكياً في الإنصات، تشعر معه أنك صديقه الأقرب، وإذا تحدث تكلم عنك، وإذا أعطاك أذنيه لم ينس حرفاً مما تقوله. إنه وزارة إعلام متنقلة، ودبلوماسي من الدرجة الممتازة، ومثقف ويجيد عدة لغات ويعطيك شعوراً أنه يعرف كل فرد في الكويت معرفة شخصية وعائلية وفكرية.
إذا أردت أن تثير حولك الشبهات وتحيط بك التساؤلات فعليك أن تمتدح دولة نفطية وأمراءها وشيوخها ومسؤوليها، فحينئذ يختفي المنطق الذي طرحته وتحل محله علامات تعجب كأنك حصلت على بئر نفط في مقابل مديحك.
إذا كانت الدولة النفطية تنتمي إلى القوى الثورية فلا عليك من حرج، فصورة جيفارا في بيتك السوري، ورسم لماركس فوق رأسك في مكتبك الجزائري، والكتاب الأخضر، سابقاً، في جيبك وأنت تسير على شاطيء البحر في طبرق، وقناة المنار تبث ليلا ونهاراً كلما جاءك زائر، تشفع لك لو ارتشفت نفطاً في الصباح والمساء.
أما لو كانت دولة ذات مباديء ودستور وقوانين حتى لو أطلق عليها قائد ثورة الفاتح، سابقا، دولة كرتونية كما وصف الكويت، فلا يشفع لك منطق أو .. موضوعية.
زيارتي الثانية في عام 1984 للديرة وقد فوجئت بصورة مغايرة تماما عن تلك التي أطلقها الشعراء والأدباء والروائيون والإعلاميون والثوريون والبعثيون، وشاهدت وجها آخر للكويت، واكتشفت أن الصداقة مع الكويتي سلسة وسهلة ولكنها مشروطة بأن يحترم المرء نفسه ومضيفيه، وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه الكثير من الوافدين والزائرين والضيوف الذين جاءوا من دول تستيقظ الدبابة فيها قبل المواطن، فانتفخوا بأدبهم وشعرهم ورواياتهم وإعلامييهم.
ضيوف ظنوا أنهم مضيفون، وزائرون اعتقدوا أنهم معلمون، ومتسولون تخيلوا أن علومهم تخرق لهم الأرض، ورأيت الكويتي المتكبر، كما أشاعوا عنه، يخفض جناحيه تواضعاً لئلا يجرح من جاءوا يعملون لديه فأوحى لهم الكويتيون أنهم يعملون معهم كما يقتضي التناغم في العلاقات الإجتماعية.
التقيت بمجموعة هائلة من الأدباء والشعراء وفي المقدمة منهم الدكتور خليفة الوقيان، والدكتور سليمان الشطي، والشاعر سليمان الخليفي وغيرهم، والغريب أنني أول مرة أسمع قصائد الفاجومي كانت مع الصحبة الأدبية الجميلة في الكويت.
كانت الفكرة الشائعة في عالمنا العربي الممتد من الماء إلى الماء عن غرور الكويتيين وأكثر من أطلق شائعات هم الذين أكلوا على موائد الكويتيين، وكتبوا في صحفهم بعدما ضاقت عليهم أرض بلدهم بما رحبت، لكن الكويتيين احتفظوا برباطة الجأش والحياء أمام غزو إعلامي وعمالي وشعري وفني، وكل جالية عربية تزعم أنها أول من قام بتعليم الكويتيين أبجديات الثقافة والعلوم والتدريس والعمارة والغناء والموسيقى والإدارة، فالسيارة قبل الجمل، والقطار أسرع من الصقر، وطرُق المدينة أكثر تحضراً من رمال الصحراء.
قد لا تتردد إذا أحببت امرأة في أن تفصح عن المشاعر التي يجيش بها فؤادك، فسيـُـصَدّقك الكارهون والعاشقون على حد سواء، أما إذا أحببت دولة نفطية وراقت لك أعمال بعض شيوخها، وتوجيهات قادتها، وسباق النهضة فيها، فسيسلخك في غيابك مئة ثوري كأنك لعنت كاسترو، وبصقت على الكتاب الأحمر لماو، ولطخت تاريخ أنور خوجة!
افتتحت المكتبة العالمية كمركز إعلامي في قلب العاصمة أوسلو بعدما حصلت على قرض من أحد المصارف في أوسلو. تحقق ثالث أحلامي، أما الأول فكان في جنيف( 1975) عندما جاءني مسؤول كبير في Globus أي الجراند باساج حينئذ، وسألني: فيما أنت ساهم: قلت له: أحلم بأن أعمل في المكتبة! ابتسم ابتسامة ساحرة كأنها صفحات كتاب في التاريخ، وقال على الفور: يمكنك أن تبدأ في المكتبة بعد يومين، وصافحني مباِركاً عملي الجديد.
الحلم الثاني (1982) كان عندما كنت أعمل في المدينة الجامعية بأوسلو، وقررت تنظيم أول معرض للكتاب العربي، وافتتحه السفيران المصري والليبي في موعدين مختلفين في نفس اليوم، فقد كانت العلاقات سيئة بين طرابلس الغرب والقاهرة، فجاء السفير أحمد فؤاد حسني وافتتح المعرض، ثم همست إليه طالبا منه أن يتفضل بالمغادرة لأن السفير الليبي ينتظر في الفندق ليعيد الافتتاح ولئلا يلتقيان، خشية غضب وزارة الخارجية في عاصمة المعز، وأمانة الخارجية في الجماهيرية.
وجاء حلمي الثالث ( 1983 )في افتتاح المكتبة العالمية في أوسلو وافتتحها نفس السفير المصري أحمد فؤاد حسني والسفير التركي ونشرت الصحف النرويجية عنها الكثير وبث التلفزيون خبراً عنها.
بعد افتتاح المكتبة العالمية بعام أصدرت أول عدد من مجلة "طائر الشمال" وكانت عبارة عن شعلة غضب من المناخ الإعلامي العربي الذي يوحي إليك أن كل كلمة تنشرها مطبوعة تمر على أجهزة الاستخبارات، وكنت أبعث رسائل وتعليقات ومقالات لمجلة الوطن العربي الباريسية لوليد أبي ظهر ومجلة المستقبل، الباريسية أيضا، لنبيل الخوري. إلى أن نشرتْ "الوطن العربي" مقالا لي تم تشويهه فكدت لا أعرف أنني كاتبه. أرسلتُ معاتباً مدير التحرير عن الإخلال بالمقال فقد اعتبرته تزويراً في أوراق إعلامية، فقام بتشويه رسالتي الثانية وأضاف إليها ما يقلل من شأني.
أقسمت بعدها أنني سأصدر مجلة بمفردي، لا يكتب فيها أحد غيري، ولا أستأذن رقابة أو جهاز استخبارات أو محرراً أو لغويا أو موزعاً أو مخرجاً وفنيا للمجلة.
كانت الكويت هي الأقرب لي في العالم العربي، ورغم أن مقالاتي تسبب الحرج للمسؤولين فيها، لكنها كانت الدولة الوحيدة التي أدخلها وأحمل معي الممنوعات النشرية دونما وجَل أو خوف.
كلما فتح الكويتيون قلوبهم لي، تحرر قلمي من التردد، فهناك على الأقل دولة عربية لا يخاف أحد فيها استدعاء زائر الفجر بسبب مقال أو رأي أو انتقاد أو معارضة.
فترة مكتظة بحوادث خليج عربي ساخن، كلما نام بركان، استيقظ آخر، فالعراق وإيران يتصارعان وتصيب اللكمات جيرانهما، وتسقــط الشظايا قريباً من الحلبة .. من الساحة ..من شط العرب والنهرين.
كنت ككل عربي قومي قلبه في بغداد خشية حراس الثورة الإسلامية القادمين بمفاتيح الجنة من قــُـمْ، وكنت ككل عربي يعرف أن ديكتاتورية آيات الله كاستبداد حزب البعث العربي الاشتراكي/فرع بغداد، والنار في خُطب الخوميني كالجمرات في توجيهات صدام حسين.
لم أقم بزيارة طهران قط، والمرة الوحيدة التي طرقتُ باب السفارة الإيرانية في أوسلو كانت في مارس 1979 للتهنئة بنجاح الثورة والاطاحة بحُكم محمد رضا بهلوي من عرش الطاووس. فتح لي كوة في الباب موظفٌ مندهش وسألني عما أريد: قلت بأنني أريد أن أكتب اسمي في سجل المهنئين بالثورة: من أين أنت؟ طرح فضولـُـه الطبيعي هذا السؤال! من مصر. قلت له مبتسماً!
أغلق الكوّة الصغيرة في الباب، ثم عاد إليَّ قائلا: إن الإمام آية الله الخوميني يقول بأن دخول السفارة ممنوع على أعداءِ الله. سألته: ومن هم أعداءُ الله؟ قال بحسم كلماتِ إمامه روح الله الخوميني: إنهم اليهود والمصريون!
منذ ذلك اليوم الذي انقلبتْ فيه التهنئة إلىَ شبه نعي بعدما تحوّل الغضب الطاهر ضد المستبد إلى طائفية مقيتة، لم أقم بزيارة السفارة الإيرانية أو حضور أي مناسبة آياتية.
كان وقوف العرب مع العراق بسبب الكبرياء الفارسي نحو جيران مدّوا أيديهم لطهران فظنتْ أن الخليج يلين لها، وأن المياه لا تعرف التفاوض في التسمية فأي موّجة في شواطئه تتحدث الفارسية حتى لو كانت تنام في أحضان شواطيء عربية .
كانت "طائر الشمال" تنشر بصراحة شديدة هموم الكويت ومشاكلها وقضاياها، وأردّ فيها على المغالطات والأكاذيب التي كانت تنتشر في صحف ومجلات، بعضها يصدر بهدف واحد وهو حديث الإفك عن الكويت وتسريب شائعات والحطّ من شأن كل ما هو كويتي.
وقابل الكويتيون هذا بتدفئة العلاقة التي امتدت إلى أكثر القيادات والشيوخ وآل الصباح الكرام، لكنني لم أنبس ببنت شفة عن فحوى أي حوار دار بين جدران أربعة، ولم أطلب حديثا صحفيا مع سمو الأمير أو سمو ولي العهد أو سمو رئيس الوزراء أو أي مسؤول آخر، فيقيني أن الفائدة تأتي لاحقاً ومن المعلومات الضمنية أكثر من الصريحة، فالصحفي السعيد بحديث بين الصفحات يحترق بسرعة، ولن يحصل في مرات لاحقة عن الخبايا وهي أضعاف التي يُسرّبها المسؤول لأذنيّ إعلامي فضولي.
بأسرع من البرق منحني الكويتيون ثقتهم الكاملة، وسمحوا لي أن أطرح تساؤلاتي التي لا يقترب منها صحفيٌ آخر، فأنا أسمع لأستفيد، وغيري يسمع لينشر.
في الكويت لم أتمكن من معرفة الأقرب إلى قلبي وعقلي ونفسي فمعظم المسؤولين الكبار يقفون على نفس المسافة تقريبا، ففي المحبة تقترب أو تبتعد المسافة لكن عُمق العلاقة يحدد حجم الفائدة المعلوماتية التي أحصل عليها والتي ستأتي في وقت متأخر ولو بعد سنوات في ثنايا مقال، وبين السطور وفوقها وتحتها.
كان سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ولي العهد رئيس مجلس الوزراء بالنسبة لي كويتاً متنقلة، وقلباً يسع وطنا ومواطنيه ويقول هل من مزيد!
كان، رحمه الله، يفتح قلبه لي، ويمنحني إحساساً بالأمان الشديد. كان قارئاً نهماً، ورجل دولة من الطراز الأول، ولم أرَ سموه، تغمده الله بواسع رحمته، غاضباً إلا مرة واحدة، عندما استقبلني في مكتبه بـ "قصر بيان" وبصحبتي ابنتي سونيا ( 14 عاماً آنئذ) وابني مجدي ( كان عمره 9 سنوات ) وكنا نحن الثلاثة في ضيافة سموه (عام 1993) وسألته: هناك أحاديث يتناولها الشارع الكويتي والإعلام وبعض المسؤولين عن مصالحة مع نظام صدام حسين، فكيف ترون المصالحة؟
لولا محبته لي لأنهى اللقاء فوراً! احتقن وجهه، وقال في كلمات كأنها تستعيد مشهد جحافل المغول من الشمال وهم يخترقون فجر الكويت الهاديء، ويغتصبون وطنا كل أبنائه وبناته في حالة عشق معه.
قال لي: لو أن كل الناس توافقوا على المصالحة فأنا سأقف بمفردي ضد غزاة وطني!
كان قلبه موجوعا ومغموساً في بركان من الغضب والحزن، فسموه، رحمه الله، أول من طُعن في ظهره بعدما غادر عزة إبراهيم الذي كان يمثل خيال طاغية العراق العاصمة السعودية الثانية، وعاد يحكي عن تعنت الوفد الكويتي برئاسة سمو الشيخ سعد العبد الله.
أثارت زياراتي السنوية للكويت مشاعر الغيرة والحقد لدى كثيرين من الإعلاميين والصحفيين وأشباه الأصدقاء، فالعربي بوجه عام لا يؤمن بشفافية كلمات الثناء عن نظام حُكم في دولة نفطية، ويظن أن رنين المال وحفيف القلم يتناغمان.
كانت مشكلتي الأكبر في الخليج هي الحساسية المفرطة لدى كل دولة تجاه الانتقاد، فينعكس هذا حرجا على الآخرين، بل يظنون أن العلاقات الخليجية ستتأثر إذا زادت حدة قلمك عن الحد المسموح به تقليدياً، فالخطوط الحمراء تختلف من بلد إلى آخر، وبعض المؤسسات الأميرية والدينية والعسكرية والأمنية في الخليج برمته ترفع راية القداسة.
تعرفت في الكويت على شخصيات إذا جلست معها التصقت بالمقعد لروعة أحاديثها ومعلوماتها وثراء فكرها، فالدكتور عبد الله الغنيم، على سبيل المثال، رئيس مركز البحوث والدراسات الكويتية، أمنــّـي النفس بلقائه قبل الزيارة بوقت طويل، وأستمع إليه كما أتصفح موسوعة ثقافية غير محددة عدد صفحاتها فضلا عن أدبه الجم.
والمرحوم رضا الفيلي، وكيل وزارة الإعلام المساعد لشؤون الإذاعة والتلفزيون، كان اللقاء معه في كل زيارة خليطاً من الشعر والأدب واللغة والإعلام، ووفاؤه كبير لمن عمل معه، وكان يصطحبني لصحبته من الأصدقاء، والمرة الأخيرة قبل رحيله، تغمده الله بواسع رحمته، أمتعني بسهرة مع فنانين وأدباء وشعراء وأكلنا أسماكاً بحرية على أوتار عود لأنغام عبد الوهاب القديمة بأنامل أحد أصدقائه. كان غيوراً على اللغة العربية وغاضباً على ألسنة من يعجّمونها ويبعثرون حروفها في الاستديو وهم يتحاورون.
كان اللقاء مع الشيخ سعود ناصر الصباح حالة خاصة من الصراحة فقد طلب من السيدة أمل الحمد أن تدعوني فور تسلمه منصب وزيرا للإعلام لأنه كان يتابع مقالاتي وهو في واشنطون سفيراً لدولة الكويت. وظللت أقوم بزيارته في كل عام، وزرته في بيته الجميل، وزرته وهو يرعى والده في المستشفى( رحمهما الله ) وكانت صراحته تبدو صادمة، لكنه شخصية لا تخشى الكبار، ولا تبحث عن سهولة الدخول إلى عوالمهم عن طريق المجاملة، فيقذف الكلمة الصريحة والمباشرة، وهو السفير السابق الذي حمل الكويت على لسانه وفي قلبه بين وسائل إعلام أمريكية تجعل من زلة اللسان تقريراً مخيفاً، فكان خير من مثــَّــل الكويت وساهم في تحريرها مع ثلة من كبار الدبلوماسيين.
وكان السفير المبدع في علاقاته الاجتماعية والدبلوماسية والإعلامية خالد الدويسان كأنه وزارة خارجية في العاصمة البريطانية، يؤثر في الرأي العام، ويلتقي كل رؤساء البعثات الدبلوماسية في عاصمة الضباب، ويعرفه كل من يعمل في الشأن العام من الملكة ورئيس الوزراء والوزراء وأعضاء البرلمان، ويستقبل، ويحاضر، ويناقش، ويعقد الندوات، وتستضيفه القنوات التلفزيونية البريطانية فلديه الجديد في كل مرة، ومع ذلك فلم يحدث مرة واحدة أن اعتذر عن لقائي، وهو قاريء نهم، ومتابع جيد، ومدخن شره، ورمز مشرف للكويت.
وفي الكويت خرجت بصديق يساوي في قيمته عشرات من الأصدقاء، فهو رقيق رقة الشاعر، وذكي ذكاء السياسي المحنك، ومتواضع تواضع العظماء، وخفيض الصوت، وكاتب وإعلامي ووزير سابق، والوحيد الذي يدعوني في زيارتي لبيته الأنيق ذي الذوق الرفيع على إفطار باكر، فول وفلافل وعجــّـة، وأحاديث في السياسة لا تنتهي قبل أن أشبع من كنزه المعلوماتي، ثم نكمل الحديث في الشاليه الخاص به على شاطيء البحر، ونُصلي الجمعة معاً، ونسبح في المياه الدافئة، وأنا لا أتوقف عن طرح استفساراتي ولو كان بيننا موج البحر!
في إحدى زياراتي لمكتبه في وزارة الخارجية قدمني لصاحب السمو الأمير ( الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وزير الخارجية)، وأهديث سموه عدة كتب من مؤلفاتي.
وفي الكويت تعرفت على الدكتور خليفة الوقيان في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وأحببته لدماثة خلقه، وسهولة الحديث معه، ولغته العربية الجميلة، وأتذكر أنه شكرني عن مقال لي في نقد حامد سليمان مؤلف كتاب ( مهانة المصري في الخليج ) الذي أساء فيه بوقاحة للكويت وشعبها، وقال الدكتور خليفة الوقيان: سعدت كثيراً أن مصرياً هو الذي فند أكاذيب الكتاب لئلا يقال بأن الكويت تسيء للمصريين.
وفي الكويت تعرفت على أبي هيثم، الرجل الذي إذا مشى في الأسواق احتاج إلى أضعاف الوقت لكثرة من يوقفونه للمصافحة والسلام والتحية والعناق، فالوزير السابق فيصل الحجي كتلة من الحب تتحرك، ولو كان للحياء مدرسة لما وجدتْ خيرا منه مديرا لها.
أعاده الله بالشفاء والصحة من رحلته العلاجية في أمريكا، وأطال عمره، وحفظه لمحبيه ولعلهم كل سكان الكويت.
وتعرفت على الدكتورة رشا الصباح، وكيلة وزارة التعليم العالي سابقا، والتي كانت مرشحة لمنصب رئيس جامعة الأمم المتحدة، والمثقفة والأكاديمية، والمتحدثة بعدة لغات، والتي تعرفها أكثر جامعات الدنيا. كان صاحب السمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، رحمه الله، يحمل لها تقديراً خاصا، ويفتخر بها، ويعتبرها وجه الكويت العلمي في الخارج، ويراها طلاب البعثات مثلهم الأعلى.
تستقبلني بروح شبابية، وتقدّمني للآخرين كأنني كويتي سقط من بطن أمه في مصر. وكانت تتألم من صراع الأكاديميين على منصب أو مركز، ولم تتفاخر بأنها ابنة الأسرة الحاكمة خشية جرح تواضعها. وآخر زيارة لها في بيتها استقبلتني استقبالا كريما وديا وحميمياً. وكانت أغنية ( أنت الحب ) لأم كلثوم تصدح في البيت، فقلت لها: بليغ حمدي، أليس كذلك؟ ردت الدكتورة رشا الصباح: بل محمد عبد الوهاب!
دعتني لمؤتمر وزراء التعليم في الدول الإسلامية، وتلقيت منها دعوة لندوة عن العقل العربي ومعي الدكتور حسن أبو طالب الذي تحدث عن أمن الخليج.
وفي الكويت تعرفت على أسرة إذا دخلت بيتها ظننت أنك المضيف وهم الضيوف. بيت فيه كتب ونباتات تبدو فيه الكتب مزروعة والنباتات خارجة لتوها من المطبعة.
إنه الشاعر والروائي والمترجم سليمان الخليفي وزوجته الدكتورة حصة ماجد الشاهين.
عندما تحررت الكويت كانت هي الأسرة التي اتصلت بها في الساعات الأولى لأطمئن عليها.
أهداني شاعرنا الحبيب ديوانه ( صدى الأعماق ) وأهدتني حرمه كتابا عن المياه وهو دراسة شهادة الماجستير.
بيت تجتمع فيه كل مقومات السعادة من تواضع ومحبة وكرم وكتب وأزهار وذوق رفيع.
وتعرفت على السيدة أمل الحمد وكيلة وزارة الإعلام لشؤون الإعلام الخارجي وهي النسخة المصغرة لمارجريت تاتشر الكويتية. امرأة بعشرة رجال، لا تجامل إلا قليلا ، وساعة عملها لا تنقص دقيقة واحدة عن الستين.
عرفتها منذ العام الأول لزيارتي ولم تتغير طوال كل تلك السنوات. رشحتها في واحدة من مقالاتي لتولي منصب أمين عام جامعة الدول العربية فهي الأفضل والأقوى والأكثر حسماً. كلمتُها كانت تصعد من طابق لآخر في المبنى الضخم لوزارة الإعلام كما تصعد الرياح.
عندما يأتي وزير إعلام جديد يجد نفسه في حاجة ملحة لآرائها حتى تستقيم الوزارة. خلال عملها في المركز الإعلامي بلندن أراد الشيخ سعود ناصر الصباح أن يختصها لعمله في الكويت، وتمسك بها السفير خالد الدويسان فهي رمز لنجاح أي عمل إعلامي. وعندما عملت لبعض الوقت في المركز الإعلامي الكويتي التابع لاكسبو 92 في إسبانيا كانت هي الدينامو المحرك مع المستشار صقر البعيجان.
دموعها عصية على العينين ، وقد شاهدتها على وجهها مرة واحدة في مكتبها بوزارة الإعلام بعدما فقدت والدها، رحمه الله، بعدة أيام. فلما حدثتها عن الأبوة وتلك العلاقة المقدسة لم تتمالك شدة الحزن.
مصادفة وجودي في الكويت خلال شهر رمضان المبارك، على غير العادة، واتصلت بي لتدعوني على إفطار رمضاني في بيتها الشبيه بمتحف فني رقيق. وقالت لي بأنها فهمت أن اليوم الأول لي لابد أن يكون مع أسرة فالدفء جزء من طقوس الصوم. رأيتها تتعامل مع بناتها بحنان شديد على العكس تماما من صلابة عملها في الوزارة، فهنا أمومة و.. هناك قيادة.
قابلت السيدة هداية سلطان السالم مرة واحدة، لكنها كانت معي بقلبها وهي أول من رحب ب"طائر الشمال" في افتتاحية " المجالس" تحت عنوان نشرة مقاتلة عام 1984. واتصل بي في إحدى المرات الأستاذ حسين العثمان يبلغني رغبة السيدة(!) أن تنتقل الضيافة من وزارة الإعلام إلى "المجالس"، فاتصلت بالسيدة أمل الحمد التي اعتذرت عن انتقالي ضيفاً على السيدة هداية سلطان السالم.
كرم كويتي لم أر له مثيلاً، وعندما انتقلت السيدة هداية سلطان السالم إلى جوار ربها، كتبت مقالا تحت عنوان ( الرحيل بأمر الغدر ) وأدمعت عيناي، وتذكرت فضلها عليَّ، وكتاباتها وشجاعتها إبان الغزو الهمجي العراقي وكيف كانت تقاوم، وتقوم بمظاهرات مناهضة لأشاوس الطاغية، وتخبيء أسلحة فوق سطح منزلها.
كانت، رحمها الله، شجاعة وإعلامية وصحفية ومدافعة عن حقوق المرأة وكاتبة وخليجية بالاضافة إلى كويتيتها.
وتعرفت على الشيخ سلمان دعيج الصباح وزير العدل السابق، وأول تعارف كان في 15 ديسمبر 1990 عندما ترأس الوفد الشعبي الكويتي بعضوية وزير التربية الأسبق أنور النوي وفيصل المطوع وعلي البدر الرشيد والدكتور عبد المحسن المدعج.
كان الشيخ سلمان محدثا لبقاً، وخطيب مفوهاً، ورائعا في إقناع النرويجيين بقضية بلده الصغير المحتل، ولماحاً في ذكاء نادر.
في كل زيارة للكويت بعد تحريرها أقوم بالمرور على مكتبه للمحاماة، ويستقبلني بحرارة خالصة، وأجلس معه ساعة أو أكثر، وعادته أن يكتب في ورقة مستقلة أي اسم أو عنوان كتاب أو معلومة جديدة. يحمل محبة جارفة لسمو ولي العهد الشيخ نواف الأحمد. دعاني إلى بيته وتشرفت بلقاء الدكتورة ميمونة الخليفة العذبي الصباح التي غمرتني بالاهتمام ، وكانت لها آراء سديدة في تاريخ الكويت.
عندما تجولت مع الشيخ سلمان دعيج الصباح في برد أوسلو في 17 ديسمبر 1990 كان مجروحاً حتى العظام، وقال لي: لقد كنت وزيراً للعدل، وأحيانا أحتاج لانجاز عمل بصورة قانونية فألجأ لواسطة فلسطينية، فالجالية أكثر قوة وسطوة من كبار المسؤولين الكويتيين، فكيف يغدرون بنا، كان غاضبـًــا على القيادات الفلسطينية وعلى رأسها ياسر عرفات، رحمه الله.
وفي الكويت تعرفت على الشيخ سلمان صباح السالم الحمود الصباح، رياضي، إذا سار استطال ظُهرُه بعزة نفس رغم تواضعه الجم. إذا قام بزيارتي في فندق شيراتون الكويت جرى إليه العاملون والموظفون والحراس والعاملون في موقف السيارات يصافحونه فهو شيخ ومن الأسرة الحاكمة ويتساوى لديه الصغير والكبير، ويجدد الشكر عدة مرات حتى لمن يفتح له باب السيارة.
تربى في بيت سمو الشيخ سعد العبد الله، رحمه الله، وتتلمذ على يدي سمو الشيخ نواف الأحمد.
يعرف قدر الكبار في الكويت، وينصت إليهم كأنهم كلهم أعمامه، ويرى أن الكويت ينبغي أن لا تخسر هذه القيمة الفريدة من نوعها، أي احترام الصغير للكبير.
محلل سياسي من الدرجة الممتازة، وخبير بالشؤون الخليجية، ومضيف رائع للوفود الرياضية، وقاريء للصحف بدون تقارير مستشاريه. وأب مثالي.
سنوات طويلة في الحرس الوطني كان المحرك للمؤسسة بعد توجيهات الشيخ سالم العلي والشيخ نواف الأحمد. يعشق قيادة السيارات بمفرده دونما حاجة لسائق.
طوال ثلاثين عاماً وفي كل زيارة أستمتع بحديث مع سمو الشيخ جابر المبارك الحمد الصباح.
إذا صافحك شعرت من ضغط مصافحته أن أصابعك التصقت ببعضها، وإذا جلس معك أنصت بشغف وهو يصوب عينيه في وجهك. وإذا سألته وجدت الإجابة صريحة ومباشرة وموضوعية.
عندما عدت من بغداد في زيارتي الأولى 14 سبتمبر 1989 استقبلني في مكتبه بوزارة الإعلام، وحكيت له عن الزيارة، وعن لقائي مع صلاح المختار مدير الإعلام الخارجي ولقائي بوزير الإعلام لطيف نصيف الجاسم ورؤيتي للحدود الكويتية الآمنة وهو ما لم يقله أي صحفي عربي في قلب بغداد فالنتيجة قد تكون عدم الخروج من جمهورية الرعب إلى الأبد.
كنت دائم الزيارة له في الديوان الأميري عندما كان يعمل مستشاراً ويدور الحوار حول كل الشؤون والشجون.
واستقبلني مرتين في مكتب سموه برئاسة مجلس الوزراء، وكالعادة مع معظم المسؤولين فهي استقبالات فردية لأنني لا أجري أحاديث صحفية أو حوارات للنشر.
وظل أول من استقبلني في عام 1984 إلى الآن، سمو الشيخ ناصر محمد الأحمد الجابر الصباح، كما هو لا يتغير إلا إلى مزيد من الودّ والألفة، وأظن أن كل لقاءاتي شهدها الصديق العزيز الأخ نايف الركيبي، فهو شاهد على شفافية هذه العلاقة الجميلة.
أهديت مقدمة أول كتاب لي ( صدر لي حتى الآن 20 كتاباً) لسمو الشيخ ناصر، أول من فتح لي أبواب الكويت، بل أول من ألقىَ في قلبي المحبة للكويت والكويتيين.
أما سمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح ولي العهد فقد كتبت عن سموه ما لم أكتبه عن أي شخص آخر، ولم تنقص قناعاتي ذرة عن حكمته وقيادته ومحبة كل من يعرفه.
يستقبلني ويتركني أطرح تساؤلاتي وحيرتي ولم يغضب أو يعاتب في ثلاثين عاماً إلا مرة واحدة كادت تكون القشة التي تُكسر تلك العلاقة الدافئة.
كنت قد خرجت عن أصول الضيافة ووزعت كتابين من مؤلفاتي على واحد وتسعين إعلاميا عربياً في الفندق، وداخل غرفهم بواسطة موظف في الفندق نفسه. هاجت الدنيا كلها ( 8 ابريل 2008) وزلزلت الأرض الإعلامية زلزالها،وثار سفراء، وغضب قناصل، واشتغل واشتعل الخط الأحمر بين الإعلاميين وجهات الأمن في بلادهم عن طريق البعثات الدبلوماسية. كانت السفارات المصرية والتونسية والسورية والسعودية هي الأشد غضباً ( رغم أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ( أمير الرياض وقتئذٍ) كان يستقبلني بكل المودة، ويؤيد كتاباتي، وقال للأستاذ المستشار الوزير علي الشاعر: أوصيك بمحمد عبد المجيد خيراً، فهو يكتب ما لا يتجرأ أحد على الخوض فيه، وكنت في حمايته من المتربصين بي في السعودية.
وغضب السفير التونسي عندما قرأ مقال: ( دماء على أنياب الرئيس التونسي). وتحسس كل إعلامي قلبه ليتأكد أن نبضاته لم تتضاعف.
أحرج عملي هذا ديوان سمو ولي العهد وكل أصدقائي الكويتيين، ولم ينظر إعلامي واحد في وجهي أو يتحدث معي باستثناء وزير الخارجية المغربي السابق محمد بن عيسى الذي سهر طوال الليل يقرأ في الكتابين.
وسقط مبارك، وهرب زين العابدين بن علي، وعُزل علي عبد الله صالح، وما يزال بشار الأسد في قصره الدمشقي، وسُحل معمر القذافي.
استمر غضب سمو ولي العهد عامين أو أكثر، وعندما عُدت لم يعاتبني فقد فهم أنني عاتبت نفسي بما فيه الكفاية.
ودفعت الثمن الأكبر بعدها بثلاثة أسابيع في تخطيط استخباراتي وضيع، فالذين غضبوا، انتقموا. وكانت المصيدة في نهاية ابريل 2008 مع الدكتور فيصل القاسم والضيف الثاني مجدي البسيوني مساعد وزير الداخلية المصري لشؤون السجون والمعتقلات.
كانت المؤامرة محبكة لاحراقي على الهواء، فالجزيرة ليست قناة تلفزيونية فقط، إنما جهة أمنية.
عبقرية الحزن لدى سمو الشيخ نواف الأحمد تجعله يضع لها حدوداً مكانية وزمنية وعاطفية، ثم يُصدر لمشاعره التوجيهات باسدال الستار على الماضي.
من المفارقات الطريفة أنني كنت في إحدى الزيارات أنتظر الدخول على سموه في قصر السيف. وشاهدت نشرة الأخبار التي جاء فيها تنفيذ حُكم الإعدام في برزان التكريتي الذي كان قد توعدني بالتصفية والقتل لأني على حد قوله أساند ( شيوخ الكويت) وجاء تهديده عبر الصديق عدنان الجميلي رئيس تحرير صحيفة المسلة التي كانت تصدر في استوكهولم.
دخلت على سمو ولي العهد وكان قد سمع الخبر لتوه وابتسم قائلا: لقد نجاك الله منه.
قائمة طويلة لا تنتهي أسردها بمحبة وصراحة ليطلع عليها الذين ضللتهم دعايات مغرضة عن الكويت وأهلها ورجالها ونسائها وآل الصباح الكرام.
صفات حميدة لا تخدشها بين ألفينة والأخرى تصرفات فردية، فالكويتي بوجه عام وفيٌّ لمن يصادقه بغير مسببات أو مصالح خاصة .
أول زيارة للعراق كنت في الدوحة وتحدثت هاتفيا مع مدير الإعلام الخارجي ببغداد الذي طلب مني الاتصال به عندما أصل إلى الكويت ليشكرني على تعاطفي مع العراقي في الحرب العراقية/الإيرانية .....
وتعرفت في الكويت على الشيخ فيصل الحمود المالك الصباح وهو أول من قام بتقديمي إلى سمو الشيخ سعد العبد الله( رحمه الله). الشيخ فيصل صاحب نشاط عجيب كأنه كتلة مشعة من الحركة الدائبة، والترحيب، والشرح، وقاريء من الدرجة الأولى، وإذا تولى منصباً ملأه دبلوماسية وإعلاماً وعلاقات إجتماعية.
في حضوره أضمن نجاح لقائي بسمو الشيخ سعد العبد الله. في إحدى المرات كان سمو الشيخ سعد العبد الله في الديوانية، وعرفت أنه لن يكون لي لقاء خاص بسموه. جلست مع العشرات من الزائرين، وقمت متوجهاً إلى الباب الخارجي، لكن الشيخ فيصل أشار لي بالعودة. عدت لأجد سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء يطلب مني الجلوس بجانب سموه. قلت لا شك أن سموكم في حالة إرهاق بعد مشاورات تشكيل الحكومة. همس في أذني قائلا: لقد قمت فعلا بتشكيلها ولم أعلنها بعد، وأنت أول من يعرف الآن!
كنت سعيدا وفخوراً بهذه الثقة.
قمت بزيارة الشيخ فيصل عندما أصبح سفيراً لدولة الكويت في سلطنة عُمان. وجدت السفارة قد تحولت إلى كويت صغيرة داخل مسقط، ورحب بي كعادته ترحيباً حاراً. كان العُمانيون يعتبرونه سفيراً للكويت ولعُمان في آن واحد. يتحدث وينصت ويتصل بكل وسائل الإعلام العُمانية، وفي وقت وجيز كان قد تعرف على كل الشخصيات المؤثرة في صناعة القرار العُماني. كان السلطان قابوس يعتبره من أهل البلد قياساً إلى أعماله في خدمة الضيف والمضيف.
وألتقيته في العاصمة البريطانية، وعشية يوم مغادرتي تلقيت مكالمة هاتفية من الصديق خالد الحجرف يبلغني فيه بأن سموه ينتظرني صباح الغد في مقر إقامته بلندن.
كنت سعيداً عندما رأيت وجه سموه مشرقاً مما يدل على أن صحته تحسنت. بدلة أنيقة وربطة عنق صفراء.
قال لي، رحمه الله، لقد سمعت من الأخ السفير أنك كنت في السفارة، وحرصت على أن أقابلك قبل عودتك إلى أوسلو. شعرت وقتها بأن الكويت كلها تجلس معي. قلت لسموه بأنني أرى إشراقة صحة وشفاء، فرد قائلا: هل تعرف أنني قرأت كتابك الثاني ( مداخلات ممنوعة ) في ليلة واحدة؟ نحن في الكويت نحمل لك كل المحبة.
عدت إلى الفندق وأنا أكاد أطير فرحاً في ضبابها.
كان الشيخ فيصل المالك الحمود الصباح أبا العروسة في احتفالات الكويت بالعيد العاشر للتحرير، وإذا كان لي أن أنسب نجاح الاحتفال لشخصية كويتية فلن أتردد في وصف الشيخ السفير فيصل المالك الحمود الصباح بأنه المضيف الأول والمنظم الرائع لها.
عندما أصبح سفيراً للكويت في المملكة الأردنية الهاشمية حزن العُمانيون لغيابه وفرح الأردنيون لوجوده بينهم.
أول مرة قمت فيها بزيارة بغداد كانت في 12 سبتمبر 1989، وكنت في الدوحة واتصلت بصلاح المختار مدير الإعلام الخارجي الذي طلب مني القيام بزيارتهم فموقفي وكتاباتي خلال الحرب العراقية/الإيرانية كان موقفاً عروبياً. وصلت إلى الكويت قادماً من دولة قطر. اتصلت مرة أخرى فطلب مني صلاح المختار أن أذهب إلى السفارة العراقية في الكويت للحصول على تأشيرة الدخول.
رفض حامد الملا في البداية وتعلل بأن التأشيرة ستأخذ وقتاً طويلا. لم أجد طريقا أقصر من الكذب شبه الأبيض وقلت له بأنني قد أقوم بإجراء حديث مع الرئيس صدام حسين!
تخشب الرجل، وكادت مفاصله تنفصل وتتناثر في مكتبه، ثم طلب مني الانتظار عدة دقائق. بعد أقل من نصف ساعة كانت التأشيرة مختومة في جواز سفري النرويجي، واصطحبني إلى الباب وودعني كأنني سأكتب تقريرا إيجابيا عنه لقائده المهيب.
اتصلت بالصديق العزيز الأستاذ رضا الفيلي، رحمه الله، وأبلغته أنني ساسافر للمرة الأولى إلى بغداد، فنصحني أن أترك كل متعلقاتي في الفندق، وقال لي: أنت تحمل دائما منشورات وممنوعات، فلا رقابة في الكويت، أما العراق فأنت لا تعرف النظام فيه.
هبطت الطائرة في مطار صدام الدولي، ففي العراق كل شيء يحمل اسمه، وكل صورة كبيره من نصيبه، وكل عراقي لا يسير خطوتين دون أن تصطدم عيناه بمجسم صدام، فهو في اليقظة والمنام.
استقبلني صلاح المختار مدير الإعلام الخارجي استقبالا دافئاً، ورحب بي، وقضينا أكثر من ساعتين نتحدث في كل الأمور. قال لي بأن كل حرف أخطه في ( طائر الشمال ) في النرويج يعلمه فور طباعته. وأبدى إعجابه الشديد بكتاباتي ولكن له تحفظ على تأييدي لما أطلقت عليه ( حدود كويتية آمنة) مع العراق، وتحفظ آخر عن مقالي المعنون ب ( موقف عراقي مؤسف ) عن دعم صدام لميشيل عون.
نظر إليَّ متفحصاً ردّ فعلي عندما قال: ومع ذلك فأنت لدينا آمن رغم كتاباتك.
كان الحديث عن حدود كويتية آمنة يعني وراء الشمس لأي إعلامي، أي غضب بعثي لا يزول إلا بزوال صاحبه.
صباح اليوم التالي قيل لي بأن هناك 250 صحفياً جاءوا لتغطية الانتخابات في المنطقة الكردية، وقد طلب وزير الإعلام لطيف نصيف الجاسم أن يلتقي مع صحفي واحد فقط، وكنته!
في صباح اليوم التالي ( 13 سبتمبر 1989) استقبلني وزير الإعلام لطيف نصيف الجاسم وتم تسجيل اللقاء تلفزيونيا ولا أعرف إن كان قد تم بثه أم لا!
بعد اللقاء كنت أجلس في المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الإعلام ليجيب على أسئلة الصحفيين الذين جاءوا لتغطية الانتخابات الكردية.
في بغداد عليك أن تراقب لسانك كلما ارتفع لحلقك، وأن تنتقي لغتك ومفرداتك فاستخبارات صدام لا تمزح ولكنها تمسح، وأسنانها قد تتحول فجأة إلى أنياب، وأنت مُراقـَـب في غرفتك وطريقك وهاتفك ولو استطاعوا التسلل إلى أحلامك لكنت عارياً، فكرياً، في أحلامك وكوابيسك!ّ
رفعت يدي وسألت الوزير الذي توقع مني سؤالا لطيفا فقد استقبلني منذ أقل من ساعة: لماذا الصحافة العراقية متخلفة مقارنة بنظيرتها المصرية والكويتية؟
علت الدهشة وجهه ولسان حاله يقول: لقد نسيَّ الضيف أنه في بغداد صدام وليس في الكويت الشيخ جابر.
كان ردُّه سرداً مقتضباً عن وطنية وقومية الصحافة العراقية. اقترب مني مراسل مجلة ( كل العرب ) الباريسية التي كان يصدرها ياسر هواري قائلا: حتودينا في داهية، يا أستاذ محمد!
كان صلاح المختار كريما معي وألح أن أطلب منه أي هدية أراها مناسبة، فطلبت منه مجموعة من الكتب التي أقوم أنا باختيارها. وفعلا تجولت في بعض المكتبات، وكتبت قائمة بحوالي 120 كتابا في الأدب والشعر والتاريخ. وبعد عودتي إلى أوسلو تلقيت إشعاراً من سفارة العراق في السويد بأن هناك عدة طرود من بغداد باسمي. شكرت الملحق الثقافي العراقي وطلبت منه إرسالها إلى أوسلو. قام فعلا بإرسال 59 كتاباً، وسرقت السفارة 61 كتاباً!
عدت إلى الكويت وإلى نفس الغرفة في فندق الهيلتون كأنني لم أسافر، لكنها بداية تجربة كان فيها الإيجابي والسلبي، فالعاصمة كلها عبارة عن متحف لصور القائد المهيب. وكل الناس تراقب كل الناس.
شكرني سمو الشيخ جابر المبارك ( وزير الإعلام آنئذٍ) على طرحي هموم الكويت في قلب بغداد، أما سمو الشيخ ناصر فكان تعقيبه على الزيارة بأنني رأيت ما فوق سطح عاصمة البعث، أما العمق، يقصد جمهورية الخوف، فلم أقترب منه!
زيارتي الثانية والأخيرة والخاتمة كانت في المؤتمر الشعبي للتضامن مع العراق الذي حضره حوالي 2500 شخصية من القيادات السياسية والإعلامية والأدبية والحزبية.
خليط عجيب من كل الألوان والمقاسات والأفكار والتحزبات، وأكثر من الثلث جاءوا من الكويت.. الجارة الصغيرة والمسالمة والآمنة، وحوالي خمسمئة من مصر.
من السادس إلى العاشر من مايو 1990. جاء صدام حسين ومرَّ على الحاضرين مروراً عشوائياً، فصافح من مدّ يده، ثم جلس على المنصة وطلب من الشاعر أحمد السقاف، رحمه الله، أن يكمل كلمته.
كان التفتيش الأمني رهيباً، حتى أن الحراس طلبوا مني التقاط صورة لمكان فارغ للتأكد أنها كاميرا. جلست أستمع وأراقب وأقوم بتغيير العدسات، وأكبرها كان يرصد أصغر شعيرات وجهه. ولم يقترب مني أحد أو يسألني أو يعترض، فالاستخبارات العراقية صاحبة أساليب الفزع خلف الابتسامة، والتهديد في صورة ضحكة، والوعيد في مصافحة حارة.
في اليوم التالي كتبت ورقة صغيرة باسمي طلباً لالقاء كلمة، ووضعتها أمام الشاعرة الدكتورة سعادة الصباح التي كانت تترأس جلسة ذلك اليوم. كان بجواري أستاذ جامعي مصري ونظر لي بإزدراء وقال: أنت مقيم في النرويج فكيف تعرف ما يحدث في العالم العربي، وكدت أسمع خياله يؤكد أنني لا أعرف القراءة والكتابة باللغة العربية.
لم أتوقع أن أن تنادي الدكتورة سعاد الصباح على اسمي لأنني لم أسجل رغبتي في الحديث قبل بدء المؤتمر. قفزت من مكاني متوجهاً ناحية المنصة، فوجدت نفسي أمام المئات من قيادات العالم العربي، كثير منهم يتكلم أو يهمس أو يحرك رأسه أو يلقي التحية على جاره. عدد لا بأس به كان يدخن في الممر المؤدي إلى القاعة. التزمت الصمت دقيقتين أو أقل ثم قلت: كنت أود أن يكون الاخوة الحاضرون أكثر عددا من الواقفين في الخارج، ولكن يشفع لنا أن قلة مستمعة خير من كثرة غير مستمعة.
هنا .. هنا فقط عاد الواقفون في الخارج إلى مقاعدهم، ترى ماذا سيقول هذا المجنون القادم من النرويج!
تحدثت عن السلطة والصحفي، وقلت: كم وددت أن يكون بيننا الآن الأخ الرئيس حافظ الأسد ( عدو صدام الأول، طبعاً) فضجت القاعة بالتصفيق. ثم قلت: وكم وددت أن يكون بيننا الآن الأخ العقيد معمر القذافي ( الذي لم يتلق دعوة من صدام )!
بعد إنتهاء كلمتي اقترب مني عدة صحفيين وسألتني إعلامية لبنانية: كيف تجرأت وقلت هذا الكلام؟ هنا اكتشفت أنني كنت متهوراً، وزادت نبضات قلبي، واهتزت عظام ركبتي، فرددت عليها حتى تسمع الأجهزة السرية العراقية صك البراءة ولو كان خارجاً من اللسان فقط! قلت لها: لأنني في العراق وفي عهد صدام حسين فقد تجرأت في كلمتي! كنت أعلم أن كلمة واحدة في غير موضعها تعني أن جسدي سيكون وليمة لدود الأرض في بلاد النهرين. ابتسمت الصحفية وعرفت أنني نجوت بفضل خوفي وليس لشجاعتي.
خرجت من القاعة وجرى خلفي شخص. وقفت لأتعرف عليه فقال لي: لقد استمعت إلى كل كلمات المؤتمر منذ بدايته، وأنا طبيب أسنان من المنصورة، وأعترف بأنك كنت الأشجع في بغداد. عدت إلى الفندق على الغداء، واستأذنت ثلاثة ضيوف من الإمارات أن أجلس في المقعد الخالي بجوارهم. قال أحدهم: كنا، قبل حضورك، نتحدث عنك مندهشين مما قلت.
وهنا فهمت أنني تجاوزت كل خطوط جمهورية الرعب.
عشية مغادرتي بغداد جاءني في فندق المنصور مليا شخص قدم نفسه على أنه الدكتور كمال ناجي أستاذ في جامعة المستنصرية، وأراد تقديم الشكر لي، ومصاحبتي إلى المطار في فجر اليوم التالي عائداً إلى أوسلو.
طبعا رجل استخبارات من الدرجة الممتازة، ووافقت على مصاحبته لي ( كأنني أستطيع أن أرفض!). في صباح اليوم التالي كان الدكتور المزعوم معنا في المطار لغرض سأعرفه لاحقا.
عدت إلى أوسلو وتنفست هواء الحرية، ثم ذهبت إلى نقابة الصحفيين النرويجيين والتي أنا عضو فيها. قمت بتسليم النيجاتيف للأفلام الستة وفي كل فيلم 36 صورة. بعد يومين ذهبت لتسلم الصور وكانت المفاجأة: سألتني المسؤولة في قسم الطبـع والتحميض: أين التقطت الصور؟ قلت لها: في بغداد! قالت: لقد تم تسليط أشعة دمرت الأفلام الستة، في الحقائب المرســَـلة وفي حقيبة اليد.
لهذا كان كمال ناجي مرافقي إلى مطار صدام الدولي ليتأكد أن المخابرات تؤدي عملها على أكمل وجه، وأن الصور الدقيقة جداً لصدام حسين وهو يتحدث في المؤتمر لا تخرج من جمهورية الرعب قبل موافقة أباطرة الخوف.
في يونيو 1987 تم إغلاق المكتبة العالمية بعد خسائر مادية فادحة، ومررت بأيام عصيبة، وفي نفس الشهر افتتحت إذاعة صوت العرب من أوسلو مع صديق عراقي. بعثي حتى النخاع. صدّامي حتى العظم. عفلقي حتى الحلق.
سارت الأمور على ما يرام وكنا نذيع أخبار الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ونقرأ بثاً حياً الصحف العربية، لبنانية وكويتية ومصرية وعراقية وغيرها. كنت حريصا على الحذر، وأن لا يشاهدني أحد وأنا أدخل الاستديو، ومعي سلاح أبيض، وعندما تنتهي ساعتا البث أخرج جرياً كأنني لص هارب بعد ارتكاب جريمة.
ولم نكن نختلف إلا قليلا، فهو مناصر للقضية الفلسطينية ومتعاطف مع الكويت ومعبوده صدام حسين. وأنا لم أكن بعثياً أو إسلامياً أو منتمياً لحزب أو جماعة أو تنظيم أو جمعية.
في صبيحة يوم الغزو الآثم اتصل بي صديقي العراقي البعثي، الذي تغزل في الكويت امامي واستحسن قراءاتي لأخبار الديرة في إذاعة صوت العرب من أوسلو. سألني عن رأيي، فقلت له بأن المباديء لا تتجزأ، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين كالعراقي للكويت، فردَّ عليَّ قائلا بأن جنوبنا قد عاد إلينا، وأنه لن يسمح لي بوقاً للدعاية ضد القائد صدام حسين.
قلت له: ظننت أنك طوال تلك الأعوام تتعاطف مع الكويت، بل إنني كنت سأتوسط لك لدىَ وزارة الإعلام الكويتية لدعوتك هناك، وتكريمك لموقفك في الإذاعة، ثم إن نفقات الإذاعة، لم تكن كبيرة، هي من جيبي. قال لي: ولكن كل المراسلات الداخلية أحتفظ بها.
ظللنا على هذا المنوال شهراً كاملا، لا يغيب احدنا خشية الآخر. كنا نقرأ في الإذاعة النقيضين في نفس البث. هو يمتدح في صدام ويرفع من شأنه ويجمّل ويبرر عدوانه، ويؤيد جيش الأشاوس في الكويت المحتلة. ثم يتراجع إلى الخلف بعيداً عن الميكروفون، وأقرأ أنا لعنات وانتقادات وإدانات ضد شيطان بغداد، وأطالب بالانسحاب الفوري من الكويت.
شهر كامل ظن عرب أوسلو أن اثنين من المجانين يديران إذاعة مجنونة.
وجاء يوم 3 سبتمبر 1990 ولم يحضر صديقي، وانتهزت الفرصة لأعلن عن بيان هام سأذيعه بعد دقائق حتى إذا كان صديقي في منزله لا يغادره لئلا يفوته البيان.
وظللت أقرأ، وألعن في طاغية بغداد، وأدافع عن حق الكويتيين في تحرير أرضهم. وقبل انتهاء وقت البرنامج قرأت البيان الذي قطعت فيه كل علاقة بنظام جمهورية الخوف، أعلنت انحيازي التام للكويت، ثم قمت بتمزيق أسلاك الأستديو، وعدت إلى البيت، ونمت نوماً هادئاً.
في صباح الثاني من أغسطس بعد سويعات قليلة من بدء الغزو العراقي اتصلت بوزارة الخارجية الكويتية ولم يرد أحد. ثم أرسلت فاكساً إلى سمو الشيخ ناصر، فسمعت الرنين ثم انقطاعه، وفهمت أن الجنود العراقيين قد تنبهوا إلى جهاز الفاكس.
قبل الغزو بأسبوع ( تقريبا) كنت أشعر أن خـَـطباً جللاً سيحدث، وربما هو عدوان عراقي على الكويت. كتبت رسالة إلى صدام حسين وأرسلتها إلى صلاح المختار طالبا منه تسليمها للرئيس. رسالة صريحة وفيها أمل، ولو كان كاذباً، وفيها خيال مصطنع، وفيها مديح لصدام حسين أعدّد له فيها أفضال الكويت على العراق والعراقيين لعله يتذكر أو يخشى، يتفكر أو يقرعه ضميره، يتراجع قبل أن يخطو الخطوة الأخيرة.
بعد يومين( ربما ثلاثة ) اتصل بي القائم بالأعمال العراقي في العاصمة السويدية استوكهولم وحدثني حديثا لطيفا حشوه الأدب والتهذيب والوطنية، وشكرني على الرسالة القومية التي أرسلتها إلى الرئيس القائد(!) ثم ختم حديثه بقوله: تأكد، يا أستاذ محمد، بأننا قوم لا نغدر!
اتصلت فوراً بصديقي الدبلوماسي المستنير وليد الخبيزي، سكرتير أول السفارة الكويتية في لندن يومئذٍ، وحكيت له من أمر المكالمة، فأثني على خوفي على الكويت، وقال لي بأنه سيتصل فوراً بوزارة الخارجية ليطمئنوا أن العراقيين لن يغدروا!
بعد أقل من أربعة أيام كان جيش القسوة والغلظة والغدر يخترق فجر الكويت الهاديء، ويحتل جارته الصغيرة.
كانت الصدمة كبيرة، ووقعها على النفس زلزالا يجعلني أرتاب في كل صور الصداقة والوفاء والمحبة والعهود والمواثيق.
رأيت أسناناً بيضاء لامعة وقد تحولت إلى مخالب، ثم أصبحت أنياباً، ثم غرزتها في الصديق قبل العدو.
لم يعد أمامي غير مجلة ( طائر الشمال ) بعد أن أغلقت المكتبة العالمية وإذاعة صوت العرب من أوسلو، فأصدرت عدداً خاصاً منها وهو عبارة عن رسالة موجهة إلى صدام حسين، كأنها الأمل الأخير في الإنسحاب من الكويت، وبالقطع كانت كلماتي أضغاث أحلام وهي تبرئة ذمة من إثم قد يُحسب عليَّ لاحقاً. ولم يستجب طاغية العراق فقد انتفخ، واقتنع أن العالم العربي سيأتيه صاغراً، جاثياً على ركبتيه، وأن حربه ضد التحالف الدولي والعربي سينتهي بقبولهم شروطه والتي منها أن يلتهم الكويت.
لم يكن حزني لأن صديق الإذاعة وقف مع صدام حسين واعتبر أن جنوبهم رجع إليهم، ولكن لأنني اكتشفت خواء العقل العربي، وأن مساحة الكراهية في النفوس تجاه الخليجيين كان ضخمة ومليئة بفقاعات من الأوهام وخزعبلات الإعلام.
لو وقف مع الكويت من عرب أوسلو خمسة أو عشرة لشكرت الله لأن الخير في أمتي إلى يوم القيامة، لكن الصدمة القاتلة والمفجعة كانت أن الكويت الصغيرة التي احتلها الجار الأكبر بحثت عن الأصدقاء في النرويج فلم تعثر عليهم.
الوحيد .. الوحيد الذي تعاطف مع الكويت وأبدى دعمه لي كان الصديق داود البصري الذي اختلفنا معا عام 1986 اختلافا جذريا، ومزقنا أقلامنا على صفحات هستيرية، فكان يكتب في ( التيار الجديد ) ضد آل الصباح وأعمدة الحكم برمتها وكل من يتعاطف مع طاغية بغداد، وكنت أرد عليه في ( طائر الشمال ) مفنداً أقواله.
ولكن عندما تصالحنا، وتصافينا في عام 1987 وانتهت الخلافات، وأبدى حنيناً شديدا للكويت التي عاش فيها، وعمل في صحافتها، وتابع همومها، كانت نقطة الالتقاء بيننا، باستثناء أنه ظل على موقفه العدائي والكريه لصدام حسين.
وفي يوم الغدر العراقي، وتدنيس أشاوسة صدام للكويت المسالمة كان داود البصري يقف مع الكويت، بل لا أبالغ إذا قلت بأنه ثاني اثنين، فلم يكن غيرنا يتعاطف مع الكويت، من عرب أوسلو.
موقف مشرف لا أنساه للصديق الذي تخاصمنا في رؤيتينا للعراق والكويت حتى أنه قام بالترحيب بالوفد الشعبي الكويتي الذي زار أوسلو في منتصف ديسمبر 1990!
صدمتي في النفاق العربي كانت على أشدها، ورأيت البغضاء تتراقص على وجوه وفي عيون عربٍ كانوا يمتدحون في الكويت، ويحلمون بزيارتها، ويثمــّـنون موقفها من الصراع العربي/الصهيوني، ويعرفون أن الطريق إلى القدس يمر عبر الدعم المالي والدبلوماسي والإعلامي الكويتي.
صديق لي كان قبيل الغزو الآثم يحلم ليله ونهاره بزيارة الكويت، والاطلاع على نهضتها الثقافية، فلما اتصل بي ثاني أو ثالث يوم للغزو الهمجي وأبلغته أنني منحاز إلى الكويت حتى تتحرر من لصوص بغداد، رد عليَّ قائلا: أنت تعيش في أوهام، يا صديقي، لأن الكويت اختفت إلى الأبد، والبقاء للدولة القومية الكبرى بقيادة صدام حسين.
هذا نموذج من عشرات .. من مئات المثقفين العرب في الدول الإسكندنافية الذين تأثروا بالفكر الاستعلائي، وظنوا أن دولتهم الكبرى بدأت تطل برأسها عليهم.
كانت المراكز الإسلامية المدعومة خليجياً هي رأس الحربة الموجهة ضد أولياء نعمتهم.
في العاشر ( تقريبا ) من ديسمبر 1990 اتصل بي من القاهرة الدكتور بدر جاسم اليعقوب وزير الإعلام ليبلغني نبأ وصول الوفد الشعبي الكويتي المنبثق عن مؤتمر جدة في منتصف أكتوبر، وطلب مني خطة عمل للوفد في النرويج للقاء المسؤولين وصناع القرار وشرح قضية الكويت المحتلة.
شكرته على الثقة وسألته: معالي الوزير، ومن سيأتي من وزارة الإعلام أو الخارجية؟
قال لي: كيف يأتي مسؤول وأنتَ هناك، اليست الكويت بلدك أيضا؟ أنت سفيرنا في النرويج!
كانت سعادتي خليطاً من الخوف والبهجة، فثلاثة أيام لشرح قضية القرن ليست كافية. وأنا لا أملك أي سلطة أو منصب رسمي!
بعد يومين اتصل بي السفير غازي الريس سفير الكويت في بريطانيا ليعيد إبلاغي بالخبر، وقال بأن الوفد في فندق بالعاصمة السويدية. طرحت نفس السؤال، هل ستأتي معهم، سعادة السفير أو يأتي الأستاذ وليد الخبيزي؟
قذف في أذني عبر الهاتف كلمة الحب والثقة التي لم أتوقعها. كيف تنتظر مني أن آتي إلى أوسلو وأنت هناك؟ سأضع اسمك ضمن الوفد الشعبي الكويتي رغم أنك تحمل الجنسية النرويجية.
ولم أنم ليلتها من الفرح على الرغم من أن الاحتلال حزن، والغزو فاجعة.
اتصلت فورا بالفندق في استوكهولم ليرد عليّ الأستاذ أنور النوري وزير التربية الأسبق، ووعدته بأنني سأقوم بعمل برنامج على قدر محبتي للكويت وقناعاتي بقرب التحرير.
أول شيء فعلته هو العثور على خريطة قديمة وصحيحة للكويت، وأسرعت إلى المطبعة في أوسلو، وطبعت منها عدة آلاف من النسخ.
ثم عكفت على وضع برنامج مكثف ليس فيه راحة، من نشرة الأخبار التلفزيونية النرويجية، وجامعة أوسلو، وإحدى المدارس الثانوية، ووزارة النفط، ووزارة الخارجية، والسفارة المصرية وكان السفير الدكتور السيد شلبي متردداً خشية أن يأتيه عتاب من القاهرة، فتوسلت إلى القائم بالأعمال السفير سليمان عواد،( المتحدث باسم رئيس الجمهورية لاحقا) وكان صديقا عزيزاً، وطلبت منه اقناع السفير أن يستقبل الوفد الكويتي في المطار، ويدعو أعضاءه إلى غداء في السفارة.
كانت الزيارة ناجحة بكل المعايير، فأعضاء الوفد الخمسة شعلة من النشاط والذكاء والحماس والقدرة الإقناعية، تتشرف بهم الكويت، ويتشرفون أنهم حملوا معهم أطهر قضايا الوطن الصغير.
كانوا يطلقون عليَّ، مزاحاً، اسم ( مستر خمس دقائق ) لأنني كنت أردد أنْ لا راحة في هذه الأيام الثلاثة، ونلهث من مكان إلى آخر، ولم يفقد أحدهم ذرة واحدة من الحماس. كنا نبدأ بتوزيع خريطة الكويت على كل الحاضرين في مدرج الجامعة، في المدرسة الثانوية، في الوزارات و غيرها.
كان اليوم الأول تكريما للكويت، فلأول مرة تستضيف نشرة الأخبار شخصية عربية لتتحدث باقتضاب عن سبب الزيارة وكانت لغة الشيخ سلمان دعيج الصباح سليمة وموضوعية ومعلوماتية. كانوا يتناوبون في الأحاديث والخطب واللقاءات، وكأنهم جاءوا ومعهم الكويت.
كانوا، الشيخ سلمان دعيج الصباح والأستاذ فيصل المطوع والأستاذ علي البدر الرشيد والأستاذ أنور النوري والدكتور عبد المحسن المدعج، في حالة عشق مع وطن جريح، في حالة إيمان بالقدرة على التحرير، في حالة التصاق بتراب الوطن على مبعدة آلاف الأميال.
كنت أشاركهم الحزن وأتخيل نفسي مكان أي منهم، وعندما تشرفت بزيارتهم في بيتي ودخل عليهم ابني مجدي، وكان في السادسة من العُمر، وطبع كل واحد منهم قبلة على وجهه أو احتضنه بدفء الأبوة، كنت على يقين أن كل ضيف كريم رأى فيه ابنه سواء كان داخل الكويت أو خارجها.
كانت فلسطين في قلبي وعقلي وكل خلجات نفسي، وشاركت في معظم النشاطات الفلسطينية في العاصمة النرويجية، وكنت أشتعل غضباً ضد من يقترب من الفلسطينيين بكلمة أو انتقاد أو حتى شراء بضائع إسرائيلية، وفي جعبتي عشرات الحكايات، لكن الغزو العراقي للكويت ضرب عليها صفحاً من النسيان المتعمد إثر السخرية من أصحاب أعدل قضية عربية عندما اعتقدوا أن الوقوف مع الكويت يستحق التهكم، فالقائد البطل الذي هدد بحرق نصف إسرائيل سيعيد إليهم النصف الآخر وعليه بوسة!
وهاجمت كثيرا وانتقدت الموقف الفلسطيني والمظاهرات البائسة التي خرجت في الأراضي المحتلة وبيروت وتونس والمغرب والجزائر والأردن والعراق والدول الإسكندنافية بقيادة ملائكة النضال، سابقاً، وهم يضربون بعُرض الحائط كل القيم والمباديء والأعراف، ويبصقون على الكويت .. التي فرشت لهم أرضها وكادوا يستوطنونها بطلب من أهلها، فسفاح بغداد أقرب إليهم من أشقائهم الكويتيين.
ثم تلقيت مكالمة هاتفية من فلسطيني يعيش في مدينة قريبة من أوسلو، يتوعدني فيها بالتصفية ( سنقتلك أمام بيتك كالكلاب كما قتلنا السادات لأنك تتعاطف مع الكويتيين الخونة ). وكان هذا التهديد نهاية الفصل الأخير من عشقي لقضية عُمري، النضال الفلسطيني ضد الصهيونية! قطعا ما زلت حتى هذه اللحظة لا أشتري أنا أو أولادي، وإن شاء الله أحفادي، شيئاً مهما صــَــغُر من دولة الاحتلال الإسرائيلي.
كنت مؤمنا بيقين لا يتزحزح أن الكويت على مرمى حجر من التحرر، وأن خامس جيش في العالم سيتهاوى في صحراء الكويت والعراق، وأن مهيب بغداد من ورق.
قبل شهر من التحرير تلقيت رسالة فاكس من الطائف، خاصة جداً وبتوقيع سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح يبلغني فيها بقُرب اللقاء في الكويت المحررة، ورأيت في الرسالة ما لم يره الآخرون. رأيت فيها الثقة واليقين والإيمان، وأن سموه، رحمه الله، استودعني موعد التحرير بدون زمن محدد.
كنت أتلقى رسائل شكر وأخرى لرفع المعنويات، وكذلك رسائل محبة، خاصة من سمو الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح رغما انشغاله في تدريب جيشه للعودة المباركة.
تــُـوفَّي الملك أولاف ملك النرويج، فاتصلت على الفور بالسفارة في لندن واستأذنت السفير غازي الريس أن أنشر إعلانا في صحيفة هي الأكثر انتشارا في النرويج ، ويكون الإعلان باللغتين النرويجية والعربية، وفيه عزاء سمو الشيخ جابر وسمو الشيخ سعد العبد الله، رحمهما الله، والشعب الكويتي إلى الشعب النرويجي الشقيق في وفاة ملكهم الذي كان على رأس المحبوبين في تاريخ النرويج. وافق السفير وطلب مني أن ترسل الصحيفة فاتورة الحساب على السفارة مباشرة في لندن.
في 17 يناير 1991 كانت جنازة الملك أولاف، وفي نفس اليوم كانت الضربة الجوية ضد الجيش العراقي المحتل. كانت الكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي، رغم احتلالها، أرسلت وزيراً وسفيراً، لتقديم العزاء. وزير التعليم العالي الدكتور علي الشملان، وسفير الكويت في لندن الأستاذ غازي الريس.
وفي يوم الجنازة صدرت صحيفة VG التي كانت توزع 393 ألف نسخة يومية وفيها إعلان العزاء الكويتي في نصف صفحة. النرويجيون يشعرون بامتنان عجيب للنرويج، ويتبادلون الصحيفة في الشارع، فالعزاء باللغتين كان مدهشاً.
اعتبر الإعلام الرسمي في تونس والجزائر وليبيا والأردن وفلسطين والعراق ولبنان وغيرها كتاباتي نوعاً من الرجس الشيطاني.
في نفس شهر الغزو الآثم ( 25 أغسطس 1990) كان هناك مؤتمر الكراهية في أوسلو الذي حضره عدد كبير من قيادات الفكر ومنهم جيمي كارتر وإيلي فيسيل ونادين جورديمير وحنا سنيورة والدكتور منصف المرزوقي والمناضل نيلسون مانديلا والأديب الرئيس فاكلاف هافل وكل أعضاء الحكومة النرويجية ولجنة نوبل للسلام.
ألقى الدكتور المرزوقي كلمة رائعة أمام الجمع وفند أكاذيب الزعم أن الكراهية عربية، ودان الاحتلال العراقي. ثم طلب مني أن ألتقط له بعض الصور مع نيلسون مانديلا.
قمت أيضا باجراء حديث صحفي، على غير عادتي، مع مانديلا، وسألته إن كان بإمكانه السفر إلى بغداد وإقناع صدم حسين بالانسحاب من الكويت. وافق على الفور قائلا بأنه يعرف أن العرب يحبونه. اتصلت بالأستاذ ناصر العثمان المشرف العام على صحيفة ( الشرق ) القطرية وطلبت منه أن يفسح لحديثي مع مانديلا مساحة في الصفحة الأولى. وبعدها أرسلت له بالفاكس الحديث، الذي نشره في اليوم التالي.
الدكتور منصف المرزوقي تلقى شتائم واتهامات في تونس بأوامر من زين العابدين بن علي لأنه على حد قول الصحافة التونسية كان في مؤتمر لدعم الصهيونية، والسبب الحقيقي أنه طالب جيش صدام الانسحاب من الكويت مما أشعل غضب الديكتاتور التونسي.
أرسلت له على الجامعة الصور التي تجمعه بنيلسون مانديلا وطار بها فرحاً، لأنها تبطل أباطيل زملائه الأساتذة الذي روجوا الشائعات، فرفع أمامهم الصور مع المناضل جنوب الأفريقي العظيم فبُهت الكاذبون.
أكتفي بهذا القدر من حكايتي مع الكويت والعراق، وأعيد التهنئة للكويت بذكرى التحرير.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق