من الذي يسرق البحر في مصر؟ .. بكائية على أوجاع وطن
هكذا رأيت مسقط رأسي منذ أربعة عشر عاما!
في عهد الراحل أنور السادات ظن اللصوص أن عصرهم الذهبي حمله لهم الرئيس المؤمن؛ وبدأ الانفتاح، ودخل اللصوص الجُدد مغارة علي بابا.. ولكن ظلت هناك أشياء بحُكم التقاليد والعادات والعُرف عصيّة على السرقة، أو على الأقل لم تكن في جدول اهتمامات حيتان الوطن.
وعندما جاء الرئـيس حسني مبارك انقلبت مصر عاليها سافلها، ولم يعد هناك شيء غير مستباح، الأراضي، العقارات، أجسام المرضى في غرف العمليات بالمستشفيات الاستثمارية، قضبان السكك الحديدية، أموال المصريين في البنوك، تحويلات الغلابة من الخارج، كرامة المواطن المصري في قسم الشرطة، عدالة القضية في قاعات المحاكم، مُرَتب الموظف المسكين، علاوة العُمّال السنوية، دَخْل قناة السويس، مبيعات البترول، الفارق بين العُملة المصرية وغيرها، المحصولات الزراعية، أراضي الفلاحين أو من بقي منهم فلاحا أو مزارعا، شواطيء سيناء لصالح القرى السياحية، جيوب المصريين والسُيّاح وهي تفرغ في ثقافة التسول والبقشيش والإكراميات التي صنعها النظام، الصوت الانتخابي في مجلس الشعب، حرية المواطن في اختيار رئيسه وخليفته.. الخ قائمة من مئات الالاف من كنوز الوطن المادية والمعنوية والأدبية والتاريخية.
لقد تعرضت مصر لأكبر عملية نهب في تاريخها منذ عهد الفراعنة إلى الآن، ولا يزال المصريون يبحثون في المكان الخطأ عن المتسبب الأول في الكوارث والفواجع التي لحقت بهم.
ومع ذلك ظل هناك شيء واحد في مصر عصيّا على السرقة، يُخْرج لسانه للصوص الجدد الذين أغمض الرئيس حسني مبارك عينيه عنهم، عمدا وعن سبق اصرار لمحو مصر العظيمة من على خريطتي التاريخ والجغرافيا لصالح الأسياد الجدد، وكان هذا هو البحر.
ملاذ الغلابة يغسلون فيه همومهم، ويتساوى في مياهه السيد والعبد، ويسبح فيه في الوقت عينه الملياردير بجانب المصري الذي إنْ عاد سالما لبيت ليس فيه عشاء قد تمر كرامته على كف ضابط شرطة فتجعله لا ينسىَ أن يشكر الله لأنه لم يمت بعد جوعا أو تسولا في عهد الرئيس حسني مبارك.
كان البحر كما يقول نجيب سرور يضحك حتى تبدو نواجذه، ويحتضن المصريين بدون تفرقة،ويسبّ ويلعن في الذين سرقوا بعض أطرافه وجعلوها للأثرياء والسياح والوزراء ورجال الأعمال من رمل سيناء في القرى السياحية إلى شاطيء مارينا حيث يدهس أبناء الذوات أجسادَ الفقراء بسياراتهم الفارهة أو بلنشاتهم الصغيرة والتي تقفز فوق الآمنين والأبرياء في عُرض البحر.
في مدينة الاسكندرية حيث كان المستشار اسماعيل الجوسقي يدمر العاصمة الثانية لثلاثة عشر عاما تجمعت خلالها على مكتب الرئيس حسني مبارك مئات الشكاوى الموثقة والمُبكية عما يحدث في الثغر؛ ولكن سياسة الرئيس كانت ولا تزال في ترك الفساد يسرطن في كل الخلايا أولا.. ويزحف بدون عوائق، ويمنع الرئيسُ استئصالـــَــه حتى تأتي اللحظة التي يتأكد فيها أن الألسنة ستتوجه بالشكر لسيادته لأنه منع فاسدا من الاستمرار بعدما نهب وشبع وأشبع غيره من حيتان الفساد.
وفي العهد الأسود الذي عاشته الاسكندرية الجميلة تحت قبضة المستشار الجوسقي لم يستطع أحد أن يسرق البحر، خاصة طريقه الممتد من المنتزه حتى رأس التين، فهو مــِـلـْـكٌ لكل الناس، ومنهم الحفاة والجوعى وبائعو السميط والتلاميذ الهاربون قبل الظهر من المدارس القريبة وحارسو العمارات من الصعايدة الذين كان الواحد منهم يلقي بالجلابية فوق الرمال المتسخة، ثم يُلقي بجسده المنهَك في مياه غير نظيفة اختلطت بها نفايات وفضلات البواخر المارة من مسافات بعيدة، وبعدها يعود إلى عمله، ويبيع زجاجات البيبسي الصغيرة بضِعْف ثمنها، ويضرب تحية لسكان العمارة من الذين يدفعون له بين الحين والآخر اكرامية أو بقشيشا.
وجاء اللواء محمد عبد السلام المحجوب وكأنه مَلــَــك من السماء سقط على العاصمة الثانية وقرر أن يعيد فيها زمنا جميلا في قلب زمن أسود.
كان الرجل ولا يزال أكبر َمن الشراء، وممثلا للقيم والمباديء والجَمال والخير.
قابلته في لقاء مطول بعدما تسلم الثغر بأقل من عامين، وذرفتُ دمعتيّ فرحة على مسقط رأسي.
بسطت أمامه أحلامي وآمالي في الاسكندرية التي خرج منها أحمد عرابي والبارودي وسيد درويش وبيرم التونسي ويوسف شاهين، وتعلـّـم منها المصريون أصول المقاومة، وضربتْ للعالم المثل في التسامح الديني والمذهبي والعقيدي والفني؛ فـــغـنّىَ لها جورج موستاكي وداليدا وكلود فرانسوا والشيخ امام، وكتب لها وعنها أحمد فؤاد نجم وادوارد الخراط وإبراهيم عبد المجيد، واستقرت في قاع ذكريات مئات الالاف من الأوروبيين والمصريين والعرب الذين عاشوا بها، وفرّغوا همومهم في مياه بحرها الأزرق، أو الذي كان أزرقا.
قلت للواء محمد عبد السلام المحجوب: معالي المحافظ، ألا تخشىَ من إغراءات الحيتان الجُدد وقوتهم وما قد يعرضونه عليكم من مال وعقارات وأشياء يسيل لها لعاب الشريف؟
ردَّ الرجل بثقة المؤمن بالله بأنه سيكون آخر مصري يمكن أن يفكر للحظة واحدة في الخضوع لكل الاغراءات والتهديدات.
ولكن عبقرية وإخلاص ونزاهة وشرف اللواء محمد عبد السلام المحجوب لم تمنع سماسرة العهد الجديد من سرقة أقدس مقدسات
ومدخرات الفقراء، وذكريات أهلها والمصطافين والعاشقين الذين كانوا ينتظرون منتصف يونيو من كل عام لتكملة قصة حب الصيف السابق، أو الوقوع في حب جديد غاب عن وصفه قلم احسان عبد القدوس، و( دقوا الشماسي ) للعندليب الأسمر.
وزحف السماسرة على الشواطيء، وأغلقوا البحر في وجوه الفقراء، واشتروه بثمن بخس جنيهات معدودة وكانوا فيه من الزاهدين.
نعم يمكنك أن تضرب غُطســًــا في مياهه ببضعة جنيهات تسرقها من ميزانية أسرتك التي لن تكمل اليوم الثالث عشر في الشهر حتى يبدأ الدعاءُ عاليا لرب العزة أن يستر الأسرة حتى نهاية الشهر. جريمة بكل المقاييس، فالبحر في الاسكندرية أكثر قدسية من المسجد والكنيسة والمركز الثقافي ومكتبة الاسكندرية وجامع القائد ابراهيم والمقر البابوي وبائع الفشار في محطة الرمل وبينالي الاسكندرية ولوحات فاروق حسني ونادي السينما الذي تعلمنا فيه من مصطفي درويش أصول النقد السينمائي.
قطعا لن نوجه حديثنا للرئيس حسني مبارك فهو لن ينقذ الاسكندرية كما لم ينقذ مصر طوال أكثر من عقدين، وربما سيسعد بخبر سقوط قلعة الصمود الأخيرة.. البحر في أيدي لصوص عهده الجدد.
إننا نخاطب ضمير اللواء محمد عبد السلام المحجوب، فعندما يترك المنصب، أطال الله في عمره، لن يغفر أهل الاسكندرية وعشاقها وأولادهم وأحفادهم له أن البحر الذي كان عصيا على صعاليك كل العصور سقط في عهده بضربة قاضية، ولم يعد بامكان المواطن أن يسير على الكورنيش، ثم يلقي بجسده في أي بقعة مباركة من الكيلومترات الممتدة من المنتزه حتى قصر رأس التين. الجريمة بكل أركانها لا تحتاج لتقرير أو توثيق أو محكمة أو تظلم أو شكوى، لكنها تستغيث بضمير وايمان المحافظ أنْ يُــنهي فورا وبدون انتظار تكملة الجريمة حتى نهاية الصيف. نريد أن تظل صورة المحافظ الشهم والمؤمن والوطني الشريف وعاشق مصر كما هي منذ اليوم الأول لتسلمه منصبه.
لقد تساهلنا جميعا في سرقة الوطن كله، وعندما يكمل الرئيس القادم جمال مبارك مهمة أبيه ويترك الحيتان يُجْهِزون على ما بقي من مصر، كنا واثقين أن البحر عصيٌّ على السرقة، مُحَصّن ضد النهب، مُقاوم شرسٌ في مواجهة أحط لصوص وسماسرة كل العصور.
ولكن البحر الجميل المقدس ينسلّ من بين أيدي أهله وعُشّاقه أمام المحافظ، وإذا أردتَ أن تغسل وجهَك فقط في مياهه المالحة فعليك بجيبك، فسماسرة الوطن سرقوه في العهد الأغبر.
ذهبت أيضا إلى الدكتور سعد الدين وهبة في مكتبه بالقاهرة لتهنئته على مقالات نشرها تستصرخ أصحاب الضمائر الحيّة لإنقاذ الإسكندرية من أيدي الصعاليك، وأباطرة المال.
ماذا يبقي في مصر يجاهر بأنه لم يتعرض للاغتصاب والنهب والاحتيال والسرقة؟
سيدي المحافظ؛ هل تعرف أن الذين سرقوا البحر أرادوا سرقة كل انجازاتك من ذاكرة أهل الاسكندرية؟ فهل لنا أن نستصرخ ضميرك؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
أوسلو في 24 سبتمبر 2004 ( من أرشيفي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق