قراءة في الموقف الكويتي
أوسلو في مارس 2003
مع بدء كل موسم حروب عربية أو مشاكل في الخليج أو انخفاض أسعار النفط؛ يشتعل سوق عكاظ العربي بكل من يريد أن يشتم أو يتهم الكويت أو يبحث عن كبش فداء لفشل الأنظمة أو الاجتماعات أو أي هزيمة تلحق بالعرب.
هكذا بدأ النظام الفاشي في العراق بعد انتهاء حرب المليون قتيل إيراني وعراقي؛ فوجّه اتهامات حمقاء إلى الكويت على أمل أن تتنازل الديرة عن مليارات من مستحقاتها على النظام البعثي التكريتي.
وتوالت الاتهامات؛ وكل من يفشل أو يأكل الفساد مشروعاته؛ أو تستصرخ بطون شعبه النظام يوجـِّـه سهامه إلى الكويت باعتبارها كما قال أبو عمار للشاعر الكبير أحمد السقاف: أم العرب والفلسطينيين؛ رغم أن ياسر عرفات نفسه تعاطف مع سفاح بغداد.
الجنود الأمريكيون في كل دول الخليج وفي الأردن ويعبرون قناة السويس ويتلقون دعما سريا من ليبيا ومخابراتيا من تونس وتعاطفا من المغرب وتقديرا من الجزائر؛ لكن الكويت هي كبش الفداء لإخفاء معالم الهزيمة العربية؛ فيبحثون عمن أتى بالجنود الأمريكيين إلى خليجنا العربي الدافيء!
في منتصف الثمانينيات كانت الكويت؛ بنفس شرعيتها الحالية لآل الصباح الكرام؛ أكثر دول المنطقة استقلالية في القرار؛ وتحديا للقوى الكبرى؛ وساحة لمعركة الفلسطينيين ضد الكيان الصهيوني؛ وسندا للعراق العربي في الحرب المجنونة.
والكويت هي التي اطلقت مارد الحرية والديمقراطية في المنطقة رغم توغل العادات القبلية ورفض أنفاس الحرية من كل الزعامات العربية.
والكويت لم تقم باستضافة القوات الأمريكية على أرضها؛ لكنها النهاية الطبيعية للعجز العربي في مواجهة النظام العدواني الفاشي في بغداد؛ وخطاب صدام حسين الذي أدّعىىَ فيه أن العراق اعتذر عن غزو الكويت ليس بعيدا؛ لكن العرب في ثقافة الفضائيات والمراسلين من بغداد توهموا أنه قدَّم اعتذاره فعلا للكويت؛ وقليل منهم من فهم أنه توعد بغزو جديد بعد أن فشل الأول عام تسعين؛ وانكشف أمر الثاني عام أربعة وتسعين؛ وكاد الثالث يتحقق عام ستة وتسعين.
نظام طاغية بغداد يعيش أمَّ المعارك؛ ويخطط لاحتلال الكويت ولو بعد حين؛ ويقوم بتعبئة العراقيين بكراهية الديرة، ويحرض على واحد من أهم ينابيع الديمقراطية والحرية والشورى والتسامح.. أعني حُكم آل الصباح الكرام.
الذين يتهمون الكويت بأنها فتحت ذراعيها لقوات الغزو الأمريكية وهم على مبعدة كيلومترات معدودة من قاعدة العديد القطرية يكشفون عن جهل شديد بأحداث المنطقة؛ ولو وقف العرب كلهم منذ هزيمة شيطان بغداد مع شعبنا العراقي، وقاطعوا النظام، وحاربوه في كل مكان، وحرّضوا الشعب العراقي، واستضافوا كل قوى المعارضة
لما انتهىَ الحال إلى ما نحن عليه الآن.
ولو كان هناك قرار عربي بالإجماع على عدم استضافة جندي أمريكي على أرض عربية مقابل انهاء التهديدات العربية ضد الجيران والأشقاء لخضعت الكويت والتزمت قبل كل أعضاء جامعة الدول العربية.
أين الذين يتهمون الكويت من مشكلة احتجاز ستمئة مختطــَـف ورهينة في بغداد؟
أين هم كذلك من حالة الحرب النفسية والتعليمية والثقافية التي أعلنها طاغية بغداد؛ وبدا كأنه على وشك أن يقوم باعادة غزو الكويت قبل أن ينبلج فجر اليوم التالي؟
أيّ دولة تنعم بالأمان والسلام والديمقراطية وتكاتف أبنائها ودعم كل أفراد الشعب للسلطة الشرعية الحاكمة يمكن أن تتحمل الخوف والخشية ورفع درجة الاستعداد لسنوات طويلة قبل أن يقوم مجنون بغداد الفاشي بهدم المعبد على نفسه وعلى كل دول المنطقة.
نحن لا نبرر للكويت وجود نصف الجيش الأمريكي في الخارج على أرضها؛ ولا ندين الكويت صاحبة التاريخ الناصع والقومي والوطني والأيدي البيضاء الخيّرة على العرب كلهم، والمواقف المشرّفة رغم كل من طعنها في الخلف وتآمر عليها وتحالف مع خصومها.
لو كان هناك نظام عربي آخر غير الكويت الصغيرة، وتلقى من التهديدات والغزو والغدر وتبديد الثروات التي نهبت خلال شهور الاحتلال وإشعال آبار البترول وإحياء أوهام إعادة الغزو كلما غضب النظام في العراق؛ لما تردد في استضافة الجيش الأمريكي برمته وحلف الناتو والمرتزقة، وربما رفض عبور أي لاجيء عراقي لأرضه، لكن الكويت تظل في أحلك الظروف وأصعبها وأقساها جزءا من الأمة العربية، ولها فضل على العرب جميعا من بيروت ودمشق إلى القاهرة وعمّان والرباط وتونس وكل مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.
لو لم تكن الكويت مضطرة لردع العدوان وانهاء التهديد العراقي، وعدم التغريد خارج السرب العربي الذي يحلق بأجنحة أمريكية لكانت آخر دولة عربية تستضيف قوات أجنبية؛ فهي التي رفضت رفع الأعلام الأمريكية على سفنها عندما كان العرب يحجّون للبيت الأبيض.
إن التشكيك في الموقف الوطني والقومي الكويتي لا ينفصل عن التعاطف ولو على استحياء مع جمهورية الخوف العراقية.
ومن يعرف الكويت جيدا لا يداخله أدنى شك في رغبة الكويتيين جميعا؛ بمن فيهم السلطات الثلاث، على رحيل كل جندي أمريكي بمجرد زوال خطر صدام حسين.
والكويتيون ليسوا ساذجين ليتصوروا أن الجيش الأمريكي جاء لحمايتهم، وأنه يحمل المَنَّ والسلوى، لكنهم اختاروا أسوأ الشريّــن؛ أو بالأحرى لم يختاروا، والرفض كان يعني أمريكيا تسليط طاغية بغداد عليهم كما فعلت السفيرة الأمريكية السابقة في العراق.
والكويتي ليس ممن إذا اتقى عضاضَ الأفاعي نام فوق العقارب، وما أشد حاجة الكويت الآن لنا جميعا لعل الجحيمَ ينتهي قريبا.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو ( مارس 2003 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق