الغزو العراقي أم
الصدّامي.. التلاعب في الذاكرة!
كان الثاني من
أغسطس 1990 زلزالا هزّ كل القيم والمباديء والأعراف في الوطن العربي الذي لم يتوقع
أكثر المتشائمين فيه أن يظهر الغدر بكل قبحه في مشهد يخجل التاريخ من تكراره.
دولة عربية تتلقى
الدعم والمساعدة والمساهمة الأخوية من أموال الشقيقة الجارة الصغرى طوال ثمانية
أعوام هي مدة الحرب المجنونة على الجبهة الشرقية، فلما وضعت الحرب أوزارها،
ولـّـىَ جيشُ العراق وجهه وسلاحه نحو الأشقاء في الكويت .. الدولة الأكثر اطمئنانا
لحدودها وجيرانها وأشقائها.
لم يكن صدام حسين
فقط هو مصّاص الدماء الوحيد، فالقسوة عمّت العراق برمته، شعبا وجيشا وحكومة وحزبا،
ومن يقرأ يوميات المواطن الكويتي تحت الأقدام الهمجية لن يفهم شيئا مما حدث، وكأن
الشيطان انتقل إلى بغداد وجعلها المقر الرئيس للاعتداء والوحشية والغلظة.
انتهى الغزو
والاحتلال بهزيمة جيش عربي كبير، وسقطت غطرسة المهيب، وحاول مرة ثانية في 1994
وكأنه لم يتعلم الدرس، أو رغب في أن يقتحم سلامَ جارته مرة ثانية، ليُهزم من جديد،
ويرفع الجنود الأشاوس أعلاما بيضاء أو ملابس داخلية في الصحراء، فالأسر لدىَ
اليانكي أفضل من البطولة الوهمية في الوطن.
كانت شهورًا عصيبة
على كل كويتي اختطف العراقيون ابنه أو أخاه الأصغر، وأخفوه في غيابات الشمال، ثم
قاموا بتصفيته مع معرفة تامة من الاستخبارات والجيش والشعب، وتركوا الكويتيين يتعذبون،
ويتألمون، وينتظرون بصبر أيوبي خبرًا مفرحا أو حتى رفات أبنائهم المختطــَــفين.
وكانت الكويت
الصغيرة هي الأكبر في القيم والأخلاق والعروبة، فصالحت، وساهمت، واحتضنت مؤتمرات
لاعادة بناء ما دمره الجنون في العراق، وتنازلت عن أموال بعد أن فقدت ثلث ثروتها،
وضاع الثلث الثاني في التحرير، ولوثت سماءَ الديرة حرائق مئات من آبار البترول.
وجاء الطلب الاخير
المثير للغضب، فالذاكرة الشعبية لا تقبل أن يمسها مزيفو التاريخ، والغزو الأحمق
كان عراقيا بحتا وليس فقط صدّاميا، ومن يغير مناهج التدريس لتخفيف لهجة الاحتلال
كمن يأخذ عدوه، السابق، بالأحضان في مفاوضات ما قبل السلام.
كل دول العالم
تستخدم المصطلحات الحقيقية، ولا تستبدل بها أسماء زعماء الجحافل، فلا تذكرها
بالغزو الموسوليني لليبيا، والستاليني لدول البلطيق، والكنيدي لفيتنام، والهتلري
لبولندا، والبيجيني أو الأشكولي لجنوب لبنان، والبنياميني لغزة.
المصطلح الحقيقي
هو الغزو العراقي حتى تظل الكلمة موجعة ومفزعة وموخزة للضمير الشعبي العراقي لمئة
عام قادمة يكون فيها الزمن قد صنع سلاما بين الدولتين، تسلل إلى شغاف القلب، ووضع
بصماته على العقل الجمعي بأن الغزو من دمويات التاريخ سواء كان الرأس المدبر هو
صدام حسين أو عبد الكريم قاسم أو غيرهما.
إذا أردتم مصالحة
في النفس للعراقيين والكويتيين، فلا تضعوا مفردات الغش والتدليس والتزوير
والتزييف، وأي إحالة لشهور الجحيم السبعة لشيطان بغداد فقط ستعيق فكرة السلام في
المستقبل.
الغزو الآثم كان
حالة من الكراهية الشعبية والعسكرية والحزبية، وينبغي أن يتعلم أولاد الكويتيين في
الأجيال الأربعة أو الخمسة القادمة تفاصيل شهور القيامة في الديرة حتى يأخذوا
حذرهم، ويتعلموا أن الثقة العمياء في الشقيق سذاجة وعدم نضج ودعوة للاحتلال أن
يعود مرة أخرى.
أنا أدعو للاقتراب
الكويتي أكثر من العراق شريطة أن تكون المسافة النفسية والتاريخية واسعة وتحتمل
الغدر ولو بعد قرن من الآن.
أقل من ثلاثة عقود
على جحيم الثاني من أغسطس وهي مدة لا تكفي لرتق أحزان النفس، ولتعليم النشء الكويتي تاريخ ونضال وعبقرية المقاومة الكويتية وأمانة آل الصباح الكرام في الحفاظ
على الوطن، أو في استعادته إذا اقتحمته أقدام همجية.
دعاة المصالحة
عليهم واجب نزع أحلام وأوهام كل عراقي، ولو كان طفلا، بعراقية الكويت، وهذا يحتاج
إلى أجيال، حتى إذا حكم العراقَ شيطانٌ آخر كان الكويتيون على استعداد للتعامل مع
معطيات غزو آثم جديد.
العراق يمر بمرحلة
عدم الاتزان الطائفي وبفساد لم يعرفه تاريخه من قبل، لذا فإن التلاعب بالذاكرة
الكويتية سيحمل معه في المستقبل نفس الظروف، وستكون خيانة التاريخ هي تغيير فصوله
وعناوينه وأبطاله، فيتساوى الظلم والمظلوم.
دعوتي هذه ليست
كراهية في العراق، معاذ الله، ولكن رغبة في أن نترك الزمن يقوم بالتقويم الجديد،
ورسم مشهد دولتين شقيقتين، وعدم جرح ذاكرة وطن بمشرط دعاة التزييف.
هو غزو عراقي،
وسيظل عراقيا لعشرات السنوات حتى يستوي، ويتخمر في الذهن، ويؤلم الغازي، ويعتذر
جيش العراق وأبناؤه وأحفاده، ثم تلتئم الأخوّة على صحيح التاريخ وليس على العبث في
هوامشه.
الطلب العراقي بتحويله
إلى غزو صدّامي هو خيانة لكل طفل كويتي فقد أباه أو عمه أو خاله في شهور الغدر
الحمقاء.
يجب أن يتعلم
الكويتيون كراهية الاحتلال حتى يفسحوا المجال لرسالة المحبة من الطرفين.
أتذكر يوم أن
تشرفت باستقبال سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله السالم
الصباح لي، رحمه الله، عام 1993 في مكتب سموه، وسألت عن دعوات المصالحة، فاحتقن
وجهه الكريم، وقال لي: حتى لو تصالحتْ الكويت كلها مع المحتل الظالم فأنا سأكون الوحيد
الذي يرفض المصالحة.
كان رحمه الله
يقصد أن نترك الزمن يؤتي أكُله، ويصلح ذات البين، ويوجع ضمير الغزاة، وهو أمر
يحتاج إلى زمن فوق الزمن.
الكلمة الأخيرة
للكويتيين، أما كلمتي أنا، صديق الكويت والكويتيين لأكثر من نصف عُمري، فهي أن تظل
كلمة الغزو العراقي ملهمة ومشعلة ومغضبة، وحافظة للذاكرة الكويتية، ومُدرّة للدموع
قبل الابتسامة بوقت طويل.
حفظ الله الكويت
وأهلها وشرعية آل الصباح الكرام.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد
الصحفيين النرويجيين
أوسلو في الأول من
أغسطس 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق