منذ سنوات طويلة وأنا أضع كلَّ أصابعي في عُش الدبابير، لكنها تلدغ قبل أنْ أصل إليها، وتهاجم إذا اقتربتُ منها، وتأخذ وضع الدفاعِ ضد الذين يمرون بجوارها و.. معهم حُسْن النية.
الإسلام العظيم الحنيف لم يعد علاقة سامية بين المسلم وربه، لكنه أصبح مِلــْـكية خاصة لكل من يستطيع أن يفك الخط، ومن يصلي ويصوم حتى لو قتل أو أهان زوجته أو قصّر في تربية أولاده.
لا تقترب من عُش الدبابير ولا تتحدث عن فهمك لآية قرآنية، أو رؤيتك لسلوك متوارَث عن أجدادٍ بينك وبين آخرِهم عدة قرون، وبينك وبين أولهم ألف وأربعمئة عام.
لا تفكر فالعلماء يفكرون لك، ولا تأكل لحمَهم، أي لا تنتقدهم، فكلُّ لحمِ العالم والفقيه مسموم.
لا تخالف كبيرهم، ولا تعاتب صغيرهم، ولا تشكك في حديث عنعني مضتْ عليه مئات الأعوام من لسان إلى أذن، ومن كتاب على جلد غزال إلى مطبعة أنيقة في قلب عاصمة الألف مئذنة.
لا تتحدث عن التاريخ وشخصياته، ولا تفسر القرآنَ المجيدَ حسبما يرتاح عقلــُــك فهمــًــا واحترامــًــا، فالدبابيرُ ستهاجمك في عقر دارك، وسترتاب في إسلامــِك.
لا تسأل عن النقابِ فالمسلمون سينتفضون من أجل الدفاعِ عن تغطية وجه المرأة وعن لعبة الاستغماية(!) التي ينخرط فيها المتحرش والإرهابي وخائن زوجته لتمرير الرذيلة، فكثيرون يعتبرون تغطيةَ وجه المرأة لا يقل أهمية عن الصوم والصلاة.
لا تُعمِل العقلَ لحظةً واحدةً وتظن أنك تعرف أكثر مما لدىَ شخصيةٍ مقدسةٍ مدفونةٍ في ضريحٍ خالٍ، فالدبابيرُ تفدي المجهولَ بحياتها، وتقطع رقبتــَـك إنْ شككت في رواية ٍنامتْ في أحشاءِ كتابٍ مُعفــَّـر؛لا تعرف صفحاتــِـه من ترابــِـه
.
لا تسأل عن أهمية الهواء والشمسِ لشعر رأس المرأة، فسيأتوكَ أفواجــًــا بألسنةٍ حِدْاد ترى أنَّ المرأةَ التي ارتدته حُرةٌ وهو من ثوابت الدين الذي فسّره محمد حسان وعمرو خالد والحويني ووجدي غنيم وقيادات كل الجماعات الدينية في الأربعة عقود المنصرمة.
لا تقل بأنَ صحيحَ الإسلام في العقل والكتاب والزواج من واحدة فقط والنظافة والأناقة والعطر فسيلقون بك لتماسيح النيل.
لا تقل بأنَّ الموسيقىَ غذاءُ الروحِ؛ فالنغمُ يبهج وهم يكرهون البهجةَ والجمال.
لا تقل بأن الأمية حرامٌ فسيقولون بأن النبي كان أميـًـا، ويمكنك أنْ تردد كالببغاء بأن أول آية سامية هي اقرأ؛ لكنَ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أعداءُ للقراءة، وخصومٌ للكتاب.
لا تقل بأنَّ القرآنَ كتابُ هدىَ وسلام وتسامح ومحبة، فسينغضون إليك رؤوسَهم ويقولون بل هو كتابُ علومٍ وفضاءٍ وتجد فيه ما لاتجده في المعمل أو التليسكوب أو وكالة الفضاء ناسا.
لا تتحدث عن الصوم في بلاد شمس منتصف الليل، فشيوخــُـنا الذين لا يعرفون موقعَ النرويج والسويد وآيسلندا يُفتون لك بما يجهلون.
لا تقل بأنك تصافح المرأة، فالمسلمون المصريون الذين عادوا في السنوات الأخيرة من عوالم مختلفة أجبروا المصريين المسلمين في الداخل على نهج جديد تمامـــًـا، فيه الخوف من الجنس أكبر من الخوف من الله، والرجل لا يجلس بمفرده مع شاب وسيم أمرد حليق اللحية لئلا تنتفض غريزته فيكون الشيطان ثالثـــَـها، والابنُ لا يدخل علىَ أمــِّــه الشقةَ وهي بمفردها، والأبُ لا ينفرد بابنته المراهقة، وإذا صافحتَ امرأةً فالرعشةُ تسري في مسامات جسدك.
دبابيرٌ تلدغ المفكرَ والكاتبَ والعاقلَ والحائرَ، وتضعك في صندوقٍ لا تخرج منه إلا إلىَ القبر.
ليس تـَـديــُّــنــًــا ولكنه الهوسُ الجديد في مزايدة فجّة، خلقتها وصنعتها مئات الآلاف من الفتاوى الضعيفة والساقطة فأسقطتْ معها الأمةَ، لذا يرفع كلٌّ مــِــنــّـا راياتٍ دينيةً في حياته وبيته وحاسوبه فتظن أنه لا يدع الدينَ يهرب منه لحظة واحدة حتى لو كان السلوكُ معاكســًـا تمامــًـا لصحيحِ الدين.
لو دخلتَ غُرزة مخدرات وشككتَ أمام المسطولين في إسلاميةِ النقاب، وانتقدتَ بعض ما جاء به البخاري وصحيح مُسلم والشعراوي فسيمزقك الحشــَّـاشون بأسنانــِـهم الصفراءِ الباهتة، فالدبابيرُ في كل مكان؛ إلا في المكتبات ودار الأوبرا!
تحدّث أمام أحدهم بلطف وتسامح عن شركاء الوطن الأقباط وحقوقــِـهم المشروعةِ في المساواةِ والعدلِ فسيقولون: لعلك باخعٌ نفسك علىَ حقوقــِــهم وهم يحصلون على أكثر منها!
اعتدت لأكثر من أربعةِ عقودٍ علىَ تحدي الدبابير، أما الآن، في عصرِ أونكل جوجل وعالــَــم المعلومات الأسرع من الذي عنده علم من الكتاب، فقد تراجع المسلمون عدة قرون، وحلَّ محلهم دواعشُ الفكر والعقل والثقافة والإعلام، ورفع الإرهابُ في وجوهنا إصبعـــَــه الأوسط!
كنتُ أتصور أنَّ الدبابيرَ تدافع عن وطنها وشبابها وحريتها وكرامتها وتعليمها وعلاجها وخيراتها وأموالها ومياهها وأرضها ومعيشتها اليومية في حياة وسكن ودواء، لكنها مشغولةٌ عن كل ذلك بلدغِ من يقترب من الحجاب أو النقاب أو الشيوخ أو التاريخ أو .. الحكايات.
الآن سكنتْ الدبابيرُ جماجمـــَـنا، وصدورَنا، وأفكارَنا، وسلوكياتــِـنا، وأساطيرَنا ، ولكنها لن تسمح لك أنْ تفكر ولو جئت لها بقرآنٍ يحض على التفكــّـر والتدبــّـر، تمامــًـا كما أتيتَ لهم بآياتِ حريـةِ الاختيار فمن يشاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فطالبوا بقطع رقبةِ من يؤمن بحرية الإيمان والكفر؛ حتى لو سمح بها الله.
سبعةُ أعشارِ المسلمين علىَ مواقع التواصل الاجتماعي يكرهون القراءةَ، ويزيــّــنون صفحاتــِـهم بحِكَمٍ وأمثال وآياتٍ قرآنية يفعلون عكسها.
تسعةُ أعشارِ المسلمين إذا حدثتهم عن عبقرية الإسلام، جاءوا إليك بالمرأة والجنس والحيض وشعر الرأس والمصافحة وعدم الاختلاط، وحدّثوك عن آخر الأديان السماوية.
أكثرُ المسلمين حاليا يخفون نزعاتٍ طائفية تضعهم فوق الجبال ليطلـّـوا علىَ غير المسلمين من علٍ، وغطرسةٍ وطاووسيةٍ رغم أن تعاليمَ القرآنِ ونبيه الكريم تحث المسلمَ علىَ التواضع وتضعه علىَ قدم المساواة مع غير المسلم.
نحن مهووسون بالإسلام الشكلي، ومرضىَ بخُطــَـبِ دعاةٍ يقرأون القرآنَ ويفكرون في السيف.. ثم ينهزمون مع أول نفخة ترامبية حتى لو أعلن أبو إيفانكا أن أموالــَـنا وخيراتنا ومقدساتنا حلالٌ لكل ذي عينين زرقاوتين، وشعر أشقر فوق وجهٍ أحمر في فمه علكة.
كانت فلسطين ثم نقصتْ إلى القدس ثم انكمشت إلى المسجد الأقصى وأخشى أنْ يخرج المسلمون للدفاعِ عن السجاد في المسجد أو.. عن المنبر.
الدبابيرُ تختار مسارح َمعاركــِــها، وتترك القضايا الكبرىَ لتمسك في خناق من يمنع النقابَ في مارسليا وتولوز ومونت كارلو!
نعم، دخلتُ عُشَ الدبابير مئات المرات فأنا مؤمنٌ بإسلامٍ يستريح إليه قلبي وعقلي ومنطقي ولساني، وأتحدى الدبابيرَ أنْ تسمع كونسرتو بيانو أو تُحرّم الحشيشَ أو تحارب الغشَ أو تُعطي لشركاءِ الوطن الأقباط حقوقــــَـهم كاملةً أو.. تقترب من قداسةِ شيوخ وعلماء ودعاة.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 11 ديسمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق