طائر الشمال و .. سوريــا! من أرشيفي
بيني وبين سوريا عشق قديم يمتد إلى طفولتي في مدرسة البوصيري الابتدائية
القريبة من مسجد أبي العباس المرسي.
اتفقت كثيرًا مع نظام الحُكم واختلفت أكثر، لكن ظلت سوريا في قلبي قبل أن
تنتقل لجوانب أوجاعي.
مرَّ ردحٌ طويل من الوقت قبل أن أتخلىَ عن استخدامي اسم الجمهورية العربية
المتحدة، كأني لا أعترف بالانفصال.
عندما نشرت مقالي رسائل عشق قديمة، وأرسلت طائر الشمال إلى الرئيس حافظ
الأسد مع رسالة مطولة عن عشقي لدمشق، وهيامي بسوريا الحبيبة، ورفضي الانفصال؛ ضمنت
رسالتي ومقالي بالحديث المطوّل عن السجون والمعتقلات، واعتبرتُ أجهزة التعذيب
كأنها تأتمر بأوامر الموساد.
بعدها بأقل من ثلاثة أسابيع تلقيت اتصالا هاتفيا من مدير تحرير مجلة
الفرسان الباريسية، دريد رفعت الأسد، يهنئني فيها على قرار الرئيس حافظ الأسد
الافراج عن 2700 من المعتقلين تأثرًا بمقالي وخطابي وحبي الشديد كوحدوي لسوريا.
سألني عن علاقتي بالقصر الجمهوري في دمشق، فأكدت له أنني لم أقم بزيارة
الأقليم الشمالي قط.
ظللت أكتب، وأنتقد بشدة لكن من موقع العشق القديم المتجدد، إلى أن ألقيت
كلمة في 8 مايو 1990 في المؤتمر الشعبي للتضامن مع العراق في بغداد، وحضور 2500 من
قياديي العالم العربي، وقلت فيها: كنت أودُّ أن يكون الأخ الرئيس حافظ الأسد بيننا
الآن. ضجت القاعة بالتصفيق، وطبعا لم يرق كلامي لصدام حسين فقد كان الرئيس السوري
الراحل عدوه الأول، وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر من الغزو العراقي الآثم والأحمق
والغادر لجارته الصغيرة الكويت.
في عام 1996 تلقيت دعوة كريمة من الدكتور محمد سلمان وزير الإعلام لزيارة
دمشق، وهي زيارتي اليتيمة. كان في استقبالي الإعلامي الصديق عصام أباظة الذي جعل
زيارتي القصيرة كأنها في ربوع الجنة.
في المطار مزح معي ضابط الأمن: أخيرا وقعت في أيدينا، يا أستاذ محمد!
ابتسمت له وقلت: لم أكن أعرف أنكم تعتقلون ضيوفكم!
ردّ على الفور: لقد كنت أمزح معك.رحب بي السوريون ترحيبا وحدويا، وطلبت مشاهدة المكان الذي رفعت الجماهير
فيه سيارة عبد الناصر. وزرت مكتبة الأسد، وجمعية الصحفيين ووكالة الأنباء السورية،
أما أخي عصام أباظة فكان رضوان على باب الجنة.
في إحدى المرات عدت إلى غرفتي في الفندق فوجدت رجل مخابرات يفتح درجاً في
المكتب. فلما رآني وألقيت عليه التحية، قال لي: أراك مهتما بقواعد اللغة العربية
وأشار إلى ثلاثة كتب. قلت له: لو فتحت الدرج الثاني فستجد كتابين عن الجاسوس إيلي
كوهين اشتريتهما من مكتبة ميسلون أمام الفندق. صافحته، وشكرته( هي عادة عربية فأنت
الذي تشكر ضابط الأمن حتى لو ألقى جواز السفر في وجهك بالمطار!).
كتبت مقالات كثيرة عن عهد الرئيس بشار الأسد، وكلها ترسم الصورة الجميلة
لسوريا باستثناء البقعة السوداء وهي الاستخبارات والسجون والمعتقلات والأمن ، إلى
أن جاء ربيع دمشق، فذهب الظن بي أن الأحرار سينضمون إليه، وانتظرت، وتمنيت حتى
ظهرت مكان الأسنان أنياب، وبدلا من دستور الحرية انتشرت حيوانات مفترسة تحمل في
صدورها فتاوى الطائفية والقتل وفي أيديها أسلحة بيضاء فاقع لونها و.. حاد نصلها.
وأفسح الشباب الغاضب للربيع خريفا، ودخل الشتاء، واشتعلت الأرض والنفوس،
ودخلت الكتب المقدسة المعركة بجانب الإرهابيين، أقصد أدخلوها عنوة.
ثم انضم الجيران والغرب والشرق والمعابد ورجال الدين والقوى الكبرى لتناول
لحوم السوريين في شواء جماعي يبدأ الضيوف فيه بلحم الأطفال الذين لم يلتهمهم البحر
بعد.
من ليس فيه من سوريا، فليبحث له عن وطن آخر.
كل عربي لا يحمل في قلبه سوريا مع وطنه الأم، فلن يعرف الحب أو.. دمعاً لا
يكفكف يا دمشق.
من لم يشم عبق سوق الحميدية، فلا حاجة له في الموسكي أو سوق الفناء أو
المباركية أو شارع الرشيد أو سوق الأزبكية أو الحمرا.
من سمع دعاء الشرق ولم تمر مشاهد سورية في مخيلته فليقم بصناعة زمن جديد
لعله يشفىَ من الجفاف الذهني.
حتى لو لم تعد سوريا خلال عُمري فسأبلغ أولادي وأحفادي أن يقوموا بزيارتها
عندما تشرق شمسها من جديد، ويهرب مغول العصر، وينحسر دعاة الفتاوى الفجة.
أما رأيي الذي لم يتزحزح قيد شعرة فهو أن كل معتقل بريء في السجون
السورية، نظامية أو معارضة أو إسلامية، فيحمل معه لعنة السماء على السجــَّـان.
محمد عبد المجيد
طائر الشمالأوسلو النرويج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق