24‏/05‏/2017

حوار بين حُرٍ سجين و .. سجين حُر



ليس كل المعتقلين شجعانا، أو كل من لا ينام في زنزانة باردة يصبح بالتالي جباناً أو متواطئا مع السلطة.
هذا الحوار دار بين مواطن يسير بجوار الحائط خشية عيون الأمن وأكف مخبريهم ومرشديهم وبين مواطن معتقل في سجن عربي في واحد من سجوننا الأكثر عددا من جامعات الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة!
كان الأول يرتعش دون أن تراه عينا ضابط أمن، والثاني رابط الجأش مشرق الوجه كأنه قادم من سياحة روحية داخلية اكتشف فيها عبقرية الخَلق والقدرة على الصبر والاحتمال.
ودار بينهما الحوار التالي:

الأول: لقد كدت أسقط صريعا من الخوف صباح أمس عندما اتصل بي صديق يمارس غباء السياسة وحماقة الاهتمام بهموم الوطن فانتقد زعيم وطننا المبجل حتى ظننت أن أسلاك الهاتف كلها تهتز من الحدود الشمالية إلى الجنوبية.
الثاني: وأنا أيضا كنت خائفا حد الفزع أن تقوم إدارة السجن بالادعاء أنني بعثت رسالة استجداء وتوسل إلى السلطة راجيا عفو وصفح ومكرمة الزعيم.

الأول: لقد جانبك الصواب وأنت تدفع من سنوات عمرك ثمن تهورك ومشاغباتك ومشاكساتك وانتقاداتك للحكم.
الثاني: أراك تقف مع الجلاد، وتشد من أزره، وتمتدح سوطه، وتُقَبّل حذاءه، وتدفع بابن بلدك لأنيابه.

الأول: هذا ليس صحيحا بالمرة، لكنني لست مسؤولا عن خوفي، فكل العيون ترمقني بنظرات حادة تقدح منها شرارة غضب مصحوبة بنصائح أنْ لا أقترب من السلطة والأمن، وأن لا أرفع عينيّ أمام ضابط، وأن لا تسمع جدرانُ البيت أو المكتب همساتي خشية أن يغضب سيّدنا أو تنقل إليه عيونُه المنتشرة في كل شبر من أرضنا خلجات نفسي فينتهي الأمر بجسدي المرتعش دوما إلى قبو تحت الأرض لا تعرف طريقه خفافيشُ الكهوف وفئرانُ المجاري.
الثاني: ومع ذلك فأنت لا تنام ملء جفونك، وإذا نمت فتوقظك طَرَقات خفيفة على باب بيتك، وتفزع من مواء قطة، وتنفصل مفاصل ركبتيك لدى مرور دورية شرطة بجانبك.

الأول: لكنني أعود إلى بيتي مساء، وأحتضن أولادي، ويدفئني الفراش مع زوجتي، وأشاهد فيلما في المساء أو أقضي سهرة مع أصدقائي نتسامر حتى الفجر على مقهى دون أن تعرف كلمة السياسة طريقها إلى ألسنتنا.
الثاني: لم أفهم مقصدك! أتعاتبني لأنني محروم من حريتك؟ أتحرض سوطَ الأمن ضد ظهري العاري؟

الأول: لكنك أخترت هذا الطريق، وتحَديّت السلطة بجبروتها وقوتها وسطوتها، وغرقتَ في شعارات غير مفهومة لدَيّ عن الكرامة والحرية والحقوق والمساواة والعدالة، فعليك إذن أن تدفع ثمن خياراتك!
الثاني: لكنني أدافع عنك، وأناهض السلطةَ لئلا يهوي كف غليظ لمخبر فظ على قفاك.

الأول: وهل اشتكيتُ لك مسكنتي ومذلتي ومهانتي؟ إنني أرى وأسمع وأعرف ما تعرف أنت تماما وربما أكثر، وبين ألفينة والأخرى أدلف إلى غرفتي الواقعة في ركن قصّي بعيدا عن عيون الفضوليين، ثم أدعو الله سرا ودون أن يتحرك لساني أن يأخذ على يد الظالم، أو يهديه إلى صراط مستقيم، وأن ينصرنا على أعدائنا، وتلك لعمري أقصى امكانياتي في التمرد والعصيان.
الثاني: ومن قال لك بأنني مضطر لاستأذنك قبل الدفاع عن كرامتك؟ إنني أكتب قصة الحياة وأنت تدافع عن الموت. أنا أستطيع أن أنظر في عيون أولادي بفخر من خلال قضبان ضيقة في زيارة قصيرة وأحمل رسالتهم إلى السماء. أما أنت فلا تلتقي عيناك بعيون أولادك، وربما تُعلّمهم أن سيدَ القصر أقرب إليهم من كل أنبياء الدنيا ومصلحيها وقديسيها. أنت تتوسل إلى السلطة لتسمح لك بحياة قبضَها مَلَكُ الموت منذ وقت طويل، وأنا أعرف أنه سيقبض روحي أمام الناس لكنه سيتركها تهيم فوق الوطن والأحرار والشرفاء لتؤنس وحدتهم، وتجعل وحشتهم صحبة جميلة مشرقة سيوشي التاريخ يوما بأسرارها ويقول أولادُي باعتزاز بأن أبانا مَرّ من هنا.

الأول: أنت تحسدني على حريتي، وتحلم في زنزانتك بقَبَس منها، وتشتاق لأولادك، وتَقْبَل الاهانةَ رغم أنفك كما قبلتُها أنا طائعاً مختارا.
الثاني: لكنني هنا أتألم، وأتوجع، وأتعرض لكل صنوف التعذيب لأنني طالبتُ بحقك في حياة حُرة وكريمة، وأنْ تتساوى مع أخيك المواطن، وأنْ لا يسرق سيدُ القصر ورجاله اللقمةَ من أفواه أبنائك، وأن تجد الدواءَ لأمّك المريضة، وأن تصرف معاشَ والدك المُسنّ، وأن تجد ابنتُك الأمنَ والسلام في الطريق والبيت والعمل، وأن تضع في بطنك طعاماً غير مسمم، وأن يتمدد جسدك المريض في المستشفى فتجد العناية والرعاية، ويسمح لك نظام عادل وغيرُ فاسد أن تسدد لخزانتها ولطبيبك ثمن علاجك.

الأول: لماذا لا تترك العنايةَ السماويةَ تتولى عنّا تلك المهمةَ، وأن يأتي الحلّ على جناحي القضاء والقدر، فطاعةُ وليّ الأمر واجبةٌ حتى لو كان ارهابيا ومستبدا وديكتاتورا ويجلدنا قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن بعد صلاة العشاء؟
الثاني: أغلب الظن أنّ مَنْ حشر في رأسك تلك التعاليمَ كان يعمل سجّانا أو واشياً لدىَ السلطة أو مرشِدا لأحد الجلاّدين الذي سقطوا من رَحِم الشيطان ورضعوا حليبَ الذئاب وهي تنهش لحم فريستها.
أنت تجعل من الدين قطعةَ بانجو، وتخدّرك كتُبٌ عتيقة، وتسْكَر حتى الثمالة ظناً منك أنّ معرفتك بحياة أحد الأقدمين هي صفوة العلم ورأسُ العقل وموسوعتك المتحركة.
أما أنا فأرى الدين في مظاهرة ضد الظلم، واعتصام من أجل الضعفاء، وكشف الغش والفساد، ورفض مهانة المواطن، والايمان بالمساواة بين البشر.

الأول: إنني أشفق عليك، وأتمنى أن يعود إليك صوابُك، ولا تناطح صخرة لتوجعها فتوهن قرنك الوعل.
الثاني: غريب أن يشفق الحرُّ السجين على السجين الحرِ!
هل تخيلت مرة واحدة عذاباتي وأنا أفكر في ابني الصغير الذي يعود من المدرسة ظهر كل يوم فلا يجد أباه، ثم يؤجل حلمه إلى الغد، ويأتي يوم جديد، ويتم ترحيل الحلم إلى الأسبوع التالي، ثم الشهر الذي يليه، وتبتعد صورتي عن مخيلة ابني، وتَفْرغ حكاياته لأقرانه عن والده، فالصورة باهتة، والحياة تسير، والسلطة قررت أن تُيتّم ابني وأنا حَيّ في سجونها.
هل تستطيع الاصغاءَ إلى صمت ابنتي التي لم أرها منذ عشر سنوات وقد كبرت، واصطحبت معها أحلامَها الوردية المصبوغة بسواد قاتم يأتيها من بين قبضان يقبع خلفها والدها؟
هل تظن أنني سعيد في الحياة مع وجبة الضرب المخلوطة بوجبة طعام تعفها الحيوانات، وأنام على رائحة كريهة، وأدخل الحمّام لدقيقيتن لا تزيدان ثانية واحدة، ويحرمني الطاغيةُ المستبد من حقي الطبيعي الذي وهبني إياه رَبُّ الكون العظيم؟

الأول: وهل تظن أنني سعيد بوجودك في هذه الظروف القاتلة والمهينة التي حَرَمتك من حق الحياة حرا طليقا؟
لكن ينبغي أن تفهم أن قدراتي في تأهيل مشاعري لتصبح انسانية ووطنية يلفها قلب شجاع ليست كقدراتك في صناعة الشروق فور الغروب مباشرة.
لستُ مسؤولا عن جُبني وخوفي، وقد حاولت عدة مرات أن أنظر في عيني رئيسي في العمل، وضابط الأمن، والمخبر الذي يتفحص تعبيرات وجهي كأنه يبحث عن مساحة من عدم الرضا على الزعيم!
إنني أريد أن أعود إلى أهلي سالما ولو تورم جسدي كله من سياط رجال الأمن والسلطة.
الثاني: ولكن ماذا تقول لأهلك وأولادك وأحبابك عن القيم والمباديء والأخلاق والشهامة والشجاعة والمواطنة والحقوق والعدالة والايمان والخير ؟

الأول: أستخدم نفس الكلمات التي سردتها أنت على مسامعي، لكنها تمر علي مر السحاب، ولا تؤثر في السامع والقائل، ولا ينقلها اللسان إلى موطن العقل والقلب والايمان.
لقد شاهدتك في المرة الأولى وأنت بصحبة رجال الأمن، وكانوا يوسعوك ضربا، ويركلوك في بطنك، ويصفعونك على وجهك حتى انفجرت الدماء منه.
الحق أقول لك أنني أسرعت الخُطى إلى البيت، وخشيت أن تلتقي عيناي بعيني أيّ من مصطحبيك القساة، وكنت أشعر بخجل شديد لأنني تخليت عنك، وحسدتك لشجاعتك، ورأيتك أكبر مني بمئات المرات، أعني رأيتني أصغر منك حتى بتّ بقايا صِفر تذروه رياح فيختفي قبل أن تلمسه نسمة رقيقة.
الثاني: لماذا تظن دائما أنها بلدي أنا فقط، ومسؤولية حمايتها من مغتصبيها تقع على عاتقي، وأن (لائي )ضد البغي والظلم والفساد تنقلب إلى (نعمك ) عند مواجهة السلطة؟
لماذا لا نتوحد على كلمة سواء نتساوى فيها، أنت وأنا، في ملكية الوطن وشراكته؟

الأول: لأن الله لم يخلق البشر بقدرات متساوية، وجعلهم فوق بعض درجات، وأنت مهمتك التغيير ولو كان عن طريق التمرد والثورة والعصيان والرفض ومناهضة كل القوى الأخرى، أما أنا فمهمتي تنحصر في القبول والاستسلام ورفض التغيير والخوف من المستقبل.
أنت هدير الأمواج وأنا البحر الهاديء دائما. أنت العقل الغاضب وأنا أتبع ما ألفيت عليه آبائي.
أنت ترى الفساد فتنتفض ضده ولا يتحمل جهازك العصبي العيش معه، ولا يفاوضك ضميرك على الصمت مقابل انتفاع وامتيازات ومصالح مشتركة.
وأنا أترك مهمة تغييره للقدر، ولمثلك من الباحثين عن المدينة الفاضلة.
أنت تكبُر أمام السلطة وأنا أشعر بالأمان كلما صغرت، وأقصى آماليّ أن أصبح صفرا لا يراه القصر، ولا تكترث له قبضة الأمن، ولا يعيره مخبرٌ أو مرشدٌ أيَ اهتمام.
عشرون مثلك في زنزانة تحت الأرض يخيفون جيشا من كلاب الطاغية المدججين بالسلاح والقسوة وقانون القبضايات، وعدة ملايين مثلي لو صرخ فيهم ضابط بأقل رتبة لبالوا على ملابسهم خوفا ورعبا.
السلطة ترى صدرك وظهري فتصفعني لتُسْكِتك، وتحبسك لتضمن استمرارَ تقوص ظهري الأكثر طاعة من الماشية أمام عصا الراعي.
أنت تُحَمّلني ما لا طاقة لي به عندما تطلب وقوفي معك، وأنا أظلِمُك إنْ طلبتُ منك الهُتافَ للطغاة فهم لن يصدقونك حتى لو أطاعك لسانُك لبعض الوقت.
الثاني: قد أتفق معك في أنّ خوفك وشجاعتي لا يلتقيان، وأن عبوديتك وحريتي تصطدمان، لكن تبقى المشكلة الأكثر صعوبة وهي أن السلطة تُعَبّد بك الطريق للوصول إلى رقبتي، وتضرب بصَمْتِك لساني، وتتفرغ لايذائي عندما تراك وأمثالك أصفارا متراصة.
أنا أريدك أن تساعدني في الدفاع عن حقوقنا، وأن نلتقي على الحد الأدنى منها وهي الكرامة والمواطنة والمشاركة في الحُكم والحفاظ على أموال الدولة واستقلالية القرار السيادي والضرب على أيدي العابثين بُمَقَدّراته واعتبار خيراته ملكا لك ولي ولأولادنا.
لماذا لا تحاول أن تتذوق طعمَ الحرية فربما ترفض بعدها العودةَ لعالم السُخْرَة والطاعة الغنمية لعصا راعيك؟

الأول: أنا لا أستطيع أن أتخلص من مشاعر الخوف في صدري قبل أن تقبض أنت عليها بكل قوتك وتحريضك وغضبك وتمردك ثم تنزعها معي بعدما سَكَنتْ في صدري رَدْحاً طويلا من الزمن.
عليك أن تمُدّ يدك الطاهرة لتنظف أوساخ العبودية التي أرفل فيها شريطة أن لا تجعل السلطة تؤذيني وإلا تخلّيت عنك، وربما استعانتْ هي بي لتُخرس لسانك إلى الأبد.
الثاني: وهذا ما أحاول أن أفعله لكنك لا تستجيب، فتارة تستعين بالدين لتمد في روح الطاغية وتتوهم أنك تكسب ثواب الآخرة في طاعة ولي الأمر مادام يجعلك تصلي وتصوم وتخلع نعليك قبل دخول المسجد، بل ويَمُنّ عليك بجنة الخلد التي تنتظرك لأن ظهرك العاري أطاع لسعات سوطه دون أن تنبس ببنت شفة.
أنت تُخَزّن الدين كالقات وتجلس به ساعات طويلة منتظرا ملائكة مُسَوّمين يهبطون بجوارك ليَشُدّوا من أزرك، وتارة تُلقي في وجهي بكل الاتهامات الظالمة التي لقنتك إياها السلطة، فتوحي إليك أنني مُعادٍ تماما لأمانيك وأحلامك ومستقبل أولادك على الرغم من أنها تسرق اللقمةَ من أفواههم.
لو قرأتَ في حقوق الانسان والعلوم الانسانية وتاريخ الشعوب وانتزاع الحريات وسقوط الطغاة فربما تجد تلك القراءاتُ ثغرة في ضميرك وعقلك تنفذ منها وتُقَرّبك إليّ، فتفهم أنني أحاول رفعَك وأنت تجذبني للسقوط؟
الأول: كم وددت أن أفهم حديثك لكنني ملتصق بالأرض وأنت تحلق في السماء فكيف لنا أن نلتقي؟

محمد عبد المجيد
عضو إتحاد الصحفيين النرويجيين
Taeralshmal@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...