25‏/05‏/2017

كيف يصوم المسلمون في بلاد شمس منتصف الليل؟


شهرٌ قمري يأتيك صيفا أو شتاء، خريفا أو ربيعا.
   شهر خير من ألف شهر، فتستعد له كأنك ذاهب إلى عُرس، وتشم رائحته قبل وصوله بوقت طويل.
   يُنبئك بقدومه شقيقُه الأكبر رجب، ثم يُعيد شعبان على مسامعك موعدَ القُدوم، ومع ذلك فيستقبله ثلثا المسلمين في يوم قدومه، ويؤخر الاستقبالَ الثلثُ الثالثُ بحجة أن الهلال لم يظهر في سماء صافية كقلوب صائميه.
   يغضب زعيم عربي على آخر فتدّعي وسائل إعلامه أن هلال رمضان يستحي من الظهور فيكمل المسلمون شعبانَ ثلاثين يوما، وتكتشف فجأة أن هلال شهر البركة أصبح ظهورُه وِفقا لمِزاج سيّد القصر، فإذا تعانق الزعيمان صام مسلمو بلديهما في نفس اليوم.
   ماذا عن المسلمين في بلاد يزورها رمضان عندما لا يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيأتيها والشمس لا تختفي عن سمائها، ثم يأتيها مرة أخرى بعد عدة سنوات والشمس لا تعرف طريقها لأفق مظلم لا يبين فيه إنس أو جان لو انقطع التيار الكهربائي كله؟

   في يونيو عام 1982 تسلمتْ سفارةُ مصر في العاصمة النرويجية أوسلو رسالة مطولة من دار الافتاء التابعة لوزارة العدل في القاهرة تصرح للمسلمين الصومَ في حد أقصى ست عشرة ساعة ونصف الساعة في المواعيد المتقاربة من العالم الاسلامي.
   كان خبرا سارا يحتاج لاحتفال بهيج، فقد رفع علماء عقلاء الحرجَ عن المسلمين في النرويج وفي دول الشمال.
   لكن المسلمين لم يُصَدّقوا تلك الفتوى التي تيسر لهم أمور دنياهم في دينهم، وتخفف عنهم أمور دينهم في دنياهم.
   التزمتُ بالفتوى ومعي قلة من المسلمين، وأصبح سحوري وافطاري في موعد ثابت لا يتغير صيفا أو شتاء، ولا يؤخر أو يقدم دقيقة واحدة أو أقل.
   كان احساسا رائعا يربط الدين والدنيا معا. لا يجهدك في طول الصيام ولا يُحَيّرك في قلة عدد ساعاته إن طال الليل فيكاد يشتبك طرفاه ويصبح الصوم ثلاث أو أربع ساعات حجة على المسلم وليس حجة له إن قال بأن الاسلام لكل زمان ومكان.

   بعد صدور الفتوى بثلاث سنوات تلقيت دعوة كريمة من الدكتور عبد الله عمر نصيف أمين عام رابطة العالم الاسلامي في ذلك الوقت، وتعرفت في المؤتمر العالمي للمساجد على كبار علماء الأمة، وكان من بينهم فضيلة الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الجامع الأزهر.
   قصصت على فضيلته ( رحمه الله ) من نبأ حيرة المسلمين في النرويج من تلك الفتوى التي تيسر عليهم الصيام إن جاء رمضان صيفا، وتجعله طبيعيا إن قَدَمَ شهرُ البركات شتاء.
   تعجب الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، وقال لي: لقد أصدرتُ تلك الفتوى ومعي عشرة من خيرة علماء الأمة، ونحن نتحمل أمام الله المسؤولية عنها، فكيف ترفضون تيسير أمور دينكم؟
   مرت خمس وثلاثون سنة منذ تلقينا تلك الفتوى وأنا ملتزم بيني وبين ونفسي بتلك العقلانية المستنيرة التي جمعت سماحة الاسلام وسهولة أركانه في رأي صائب رفضه معظم المسلمين، ونَسيّه من التزم به لبعض الوقت في أوائل الثمانينيات.
   كان لي صديق يرى، كأكثر المسلمين، أن الخيط الأبيض والخيط الأسود لايرمزان إلى الوقت في ذلك الوقت، فكان يصوم حتى يقترب افطاره من سحوره، ويجلس مع أفراد الأسرة قبل منتصف الليل وقد أنهكهم الصيام تماما، ويبكي ابنه وهو في الرابعة عشرة لأنه غير قادر على عملية التعذيب تلك، ولا يفهم أن الله سيثيبه ويجزيه عن المشقة وأعضاءُ جسده الضعيف لم تكتمل بعد، وتصرخ طالبةً رشفة من الماء، ولكن حسم وحزم وصرامة الأب التصقت بقسوة شديدة غير مبررة.

   وتصاب ربة البيت باعياء شديد، فهي تُعِدّ الافطار لأسرة كان من المفترض أن يغط أطفالها الكبار في نوم عميق استعدادا ليوم جديد يحتاج سلامة العقل والجسد والروح.
   يفرح المسلمون، خاصة في الشمال، عندما يأتيهم شهر رمضان في منتصف فصل الشتاء، فيصوم المسلم ساعتين أو ثلاث ساعات، ولكن إمساكية رمضان التي تحايل فيها المسلمون على الخيط الأبيض والخيط الأسود تزيد عدد ساعات صومهم لأربع أو خمس ساعات.
   قضية قد يكون مر عليها ألف وأربعمئة عام لولا أن الاسلام جديد في النرويج، وأكثر النرويجيين لم يعرفوا مسلما واحدا قبل نهاية الستينيات من القرن الفائت.
   واجتهد كثيرون للخروج من هذا المأزق، فيقول قائل بأن الصيام لأقرب بلد إسلامي، ويرد آخر: وهل في الاسلام بلد اسلامي أم أمة إسلامية؟ هل ألبانيا بلد إسلامي أم البوسنة والهرسك أم قازخستان؟
   وهل البلد الاسلامي يحكمه الاسلام أم تعيش فيه أغلبية مسلمة؟

   ووجد الكثيرون الحل في أن يشُقّوا على أنفسهم إنْ جاء شهر رمضان صيفا، ويَمُنّوا النفسَ بصيام كأنه لا صيام عندما يهل ذلك الشهر الفضيل الكريم في منتصف فصل الشتاء؟
العقل والنقل يتصارعان، والمسلم يظن أن الأوامر الالهية تتعلق بالكسوف والخسوف والشمس والقمر والضوء حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يريد أن يفهم أنها مواقيت في عصرها حتى يكتشف المسلمون مواقيت جديدة تحددها عقارب الساعات والدقائق والثواني!
لأول تبدأ الشكوى بصوت مرتفع، فهناك جيل ثالث من المسلمين يعرفون أنهم نرويجيون، وأن عليهم تفسير الصوم لأقرانهم، وأنهم على مسافة زمنية ومكانية طويلة من علماء الاسلام. 
يتندر أهل البلد هنا علينا، ويتعجبون من شهر تتراجع فيه انتاجية المسلم إلى الربع، وتتوقف الحياة تماما قبيل الافطار بعشر ساعات!
حيرة، وتردد، ومشاحنات مع النفس، ومصالحة مع العقل ما تكاد تستكين إلى السلم حتى يباغتها النقل مرة أخرى فلا تعرف أيّ إسلام يريدون؟
تزمت مخيف يلوح بالدين كأنه أمر بالاعتقال أو التعذيب حتى أن أحد الشيوخ هنا قال في فتوى بأن المسلم الذي يضبط منبه الساعة على موعد الذهاب إلى العمل، وليس على موعد صلاة الفجر سيلقي به الله في جهنم إن مات وهو نائم في فترة ما بين صلاة الفجر والذهاب إلى العمل!
كيف إذن ستقنع هؤلاء بأن الخيط الأبيض والخيط الأسود والليل كان لزمن لم يعرف دقات الساعات السويسرية، وأن الله العلي القدير العزيز الرحيم لا ينتظر من العبد سجودا وركوعا ودعاء وفقا للنظام الشمسي أو القمري.
المسلمون في النرويج في حيرة شديدة وأنا أزعم أنه لن تمر عشر سنوات أو أكثر بقليل حتى ينفصل الجيل القادم تماما عن الاسلام إن لم يسارع عقلاء الأمة بفتح باب الاجتهاد، وبالتوقف عن اهانة العقل والرأي والفكر والنقاش والجدال بالتي هي أحسن.
   خطوط حمراء لا يتجاوزها المسلم، واجتهادات قد تذهب بصاحبها لعالم التكفير، وعقل أنعم الله به على الانسان لو استخدمْتَه لصدرت فتوى جديدة لكنها هذه المرة تقطع رقبتك دون أن يبدي مسرور السياّف أسفه لبرهة واحدة. ماذا لو أنك سألت عن إمكانية موعد ثابت لكل مسلمي أوروبا يفطرون في نفس اللحظة، ويمسكون جميعا في اللحظة عينها كأنهم على قلب رجل واحد؟

   إحساس رائع ومزيج من البهجة والسكينة والراحة عندما تجلس على مائدة الافطار في نفس اللحظة التي يقول فيها المسلم في أنقرة وفاليتا ونابولي وتولوز وجنيف وأدنبرة وبلفاست وريكيافيك وهلسنكي وبودابست ووارسو وكييف وبوخارست وروتردام وأثينا وهامرفيست وستوكهولم وأورهيس وبرلين و.... بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني إليك صُمْت وعلى رزقك أفطرت.
   فتوى تحتاج لشجاعةٍ، وشجاعةٌ تحتاج لقَدْر من الإيمان يُحرك الجبالَ، وإيمانٌ يرى الذاتَ الالهيةَ من منظور رحمة الله على عباده.
   معذرة إنها أضغاث أحلام جميلة لا تصمد لحظة واحدة أمام غضب المؤمنين بأن الدين عُسر لا يُسر، وهم للأسف الأقوى والأعلى صوتا ويملكون السيف والسلطة والقلم.

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
Taeralshmal@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...