22‏/10‏/2015

إعادةُ تصنيع الزمن الجميل!

لا يمكن أنْ تتحدث عنه علىَ أنه ماضٍ فقط، أو ذكريات مرَّت بك أو عليك، أو حنين جارف لفترات زمنية أو ابتلاع حبوب استمرار النضارة في الذهن والوجه والروح.
قد يكون حالة حب مع الماضي أو ندم لأنَّ الزمنَ لم يتوقف فجاء يرسم في كل يوم خطوطا جديدة، وتجاعيدَ غيرَ مرئية للوهلة الأولى، وأخدودات متناثرة كأن الوقت يسقط فيها، وحُفرًا في الذهن نسدّها بأوهامنا وخيالاتنا.

وقد يكون محاولات متكررة للعودة إلى الوراء هروبا من الحاضر وخشية من مستقبل ضبابه اكثر من وضوحه.
وفي كل الأحوال فهو إعادة تصنيع زمن على هوانا، وبث روح الحياة فيه، وحذف كل ما من شأنه أن يستدعي فترات مظلمة سقط أكثرها في الطريق من الطفولة ثم الشباب ثم الكهولة ليستمر خريف الزمن متوجها حثيثا نحو الشتاء الطويل والأخير.
عليك إذاً أن تعيد تلوينه، ووضع بصماتك الحالية عليه لئلا يصطحب معه أناساً ونغما وروائح وصداقات وصدامات وأفكاراً ومعتقدات وسلوكيات وأخطاءًا، فيتعلق بك كما كان، ويعيدك إلى كل الماضي قبل أن تسترده، كما تشاء أو كما تتمنى، إلى حاضرك.

كل الناس تتحدث عن الزمن الجميل، حتى الذي عاش البؤس في طفولته وباكورة شبابه، وأصبح الآن في رغد من العيش وسعة من المال وتفيض البهجة على جانبي يومياته، يُشعرك وهو يرسم أمامك بحكاياته ماضيه الأوهم، وزمنه الأقتم وغير السعيد.
الحـنين إلى الزمن الجميل غضب على الحاضر، ومحاولة لإذابة الحرمان، وقد يكون حالة تمرد على الذين يسرقون ممتلكاتنا الروحية ويستبدلون بها حاضراً مزيفاً أو مستقبلا غير واضحة معالمه.
مع قدرة الإنسان المعاصر على استخدام التكنولوجيا والصوتيات والتسجيلات والأفلام والصور ودخول الكمبيوتر كعامل مساعد في استدعاء كل الأزمنة في وقت واحد لزمن حاضر، تصبح المشاعر مستعدة لتغيير زمنها إلى أي وقت يظن المرء أنه كان جميلا، سواء تلك حقيقة أو خيال!
وتصنيع الزمن الجميل عبقريته في خداعنا أنفسنا، فنحن نختار ونحتار، ونربط أغنية جميلة بقريب أو حبيب أو أب أو أم أو حدث وطني أو شخصية تأثرنا بها أو مسجد أو كنيسة أو فترة شهدت روحانياتنا في قمة شبابها وأدائها ومتعتها.
وتصنيع الزمن الجميل ضروري لطرد القبح الذي نظن أنه هاجم حاضرنا ليمسح ماضينا، ولكن هل زمننا القبيح جميل لأحفادنا عندما يشاهدوه بعيونهم أو يستدعوه بخيالاتهم؟
 
وتصنيع الزمن الجميل يُشترَط فيه ترعرع مشاعر هائجة من الحنين والحرمان والتمرد، ثم القدرة على سد ثغرات كان المفترض أنها ولــَّــت، فإذا بها تقوم بزيارتنا بين ألفينة والأخرى فتتعبنا وتشجينا وترهقنا و.. تعذبنا.
وتصنيع الزمن الجميل أكثر سهولة لدىَ المغتربين لأن المقيمين يشهدون التغييرات البطيئة، وتعتاد عيونهم على الجمال القبيح عكس المهاجر الذي يحوّله ذهنــُــه إلى القبح الجميل.
لا أستطيع أن أنفي الزمن الجميلَ وإلا مسحت عن غير قصد أو عمد مشاهد لا حصر لها، كانت جميلة واختبأت خلف القبح.
قناعاتنا بالزمن الجميل عملية تطهير حاضرة لتبتهج النفس وتسعد الروح حتى لو اقــترضنا من طفولتنا وشبابنا وباكورته مشاهد نصفها حقيقي و.. النصف الآخر صناعة محلية داخل خلجات النفس المخادعة.

تصنيع الزمن الجميل يحتاج أيضا إلى عمليات تجميل لخيالات أشخاص، رحلوا أو هم يقاومون زمنهم الذي كان بين أيدينا فزعمنا أنه لا يرانا رغم أن تجاعيد وجوهنا ورقابنا تشهد بأننا كاذبون أو مخادعون لأنــفسنا خداعا جميلا!
تصنيع الزمن الجميل حالة يومية في أغنية أو ذكرى أو حُلم أو رائحة أو خيال غائب أو صوت أم يأتي من بعيد أو وجه أب يدلف للحظات ليطمئن علينا ثم يصعد مرة أخرى إلى السماء.
لو لم نصنع زمننا الجميل في كل يوم مئة مرة لكان دود الأرض قد التهمنا منذ وقت طويل. إنها عبقرية الحياة التي لا تفرِّق بين ماض في حديقة غنــَّـاء أو معتقل أو غربة أو حياة بائسة أو مرض مزمن أو فقر مدقع أو صداقة فاشلة، فكلها تنتهي بين أيدينا لنعيد صناعتها كما نهوىَ.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
 أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...