02‏/05‏/2012

مَنْ ليس فيه مِنْ صدّام حُسَيّن فلَيرْجُمَه


Oslo 13. november 2005


المشهد العراقي أينما نظرتَ إليه وجدَته صورة عبثية لمسرح بوهيمي يقف على خشبته ممثلون فاشلون، ويتلاعب بهم من يمسك خيوط الدُمى بمهارة كما يمسك محركها في ( الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة )!
كانت المحاكمة الأمريكية لشيطان بغداد الأسير تبدو للظاهر كأن العراقيين هم الذين يحاكموه، أو هم الذين وجدوه في حفرة تحت الأرض مع الجرذان، أو هم الذين طاردوا اثنين وخمسين قياديا بعثيا بعدما التصقت عيونهم بصورهم على ورقة كوتشينة مطبوعة في مطابع السي آي إيه.
لكن الحقيقة أن صدام حسين إنْ كان هو الجالسَ في القفص، فإن نُسَخا منه متناثرة في أنحاء العراق، وبعضها يحاكمه ويجلس في القصر الجمهوري يتبادل النكات مع جنرال أمريكي.
كم وددت أن يكون هذا الطاغيةُ بين ايدي العراقيين من لحظة الصفر بشعره الأشعث والقمل والبراغيث تعيث فسادا فيه وتمتص من دمائه، وأن يكون القرار عراقيا صرفا، وأن يفتخر العراقيون بأنهم بأحرارهم وشرفائهم وبدعم من قوى المعارضة في الخارج تمكنوا من اصطياد حفار القبور، لكن للأسف الشديد تحول العراق كله إلى أداة في يد الطاغية، من تجسس الابن على والده إلى ثلاثة ملايين عضو فعال في أجهزة الاستخبارات والأمن والقمع، ومن خوف كل عراقي من أخيه إلى تعاون عراقيي المنافي من المعارضة مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية حتى أن الرجل الثاني جاء في مروحية أمريكية ليتسلم مفاتيح الوطن كما يتسلم الجواسيس مكافأتهم السخية نظير خدمات قدموها للاحتلال.
الديمقراطية الأمريكية في العراق تشبه الدجال الأعور، وأي مسؤول عراقي مهما كان منصبه من رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء إلى أصغر موظف في وزارة النفط لابد أن تؤشر قوات الاحتلال بالموافقة عليه، وكلهم موظفون لدى مستر بوش.
لو كان العراقيون هم الذين أسروا هذا الطاغية اللعين فإن مشهد المحاكمةكان سيتغير، ويصغر فيه صدام حسين أمام شعبه وقضاة العراق الحر وعدالة الحكم الجديد، أما أن يحاكمه طغاة آخرون لو أتيحت لهم الفرصة لفعلوا كثيرا مما قام به، فإن العبث هنا يصل إلى أقصى مداه.
كان من الممكن أن تبدأ المحاكمة بجرائم سبعة شهور جهنمية أرسل فيها الطاغية جنوده للغدر بدولة الكويت، ثم ارتكاب مذابح ومجازر وجرائم تخجل منها الانسانية، ولكن لأن حلم عراقية الكويت لا يزال مترسبا ومتراكما ومختبئا في عمق اللاوعي لكثير من العراقيين ومنهم قيادات كبيرة قامت بزيارة الكويت، وتحدثت عن الاخوة والجيرة والتاريخ المشترك والمصير الواحد، لكن الجزء الصدامي لا يفصح عن نفسه في لقاءات المسؤولين العراقيين الكبار الذين كان أكثرهم يعلمون بمصير الأسرى الكويتيين، واختاروا الصمت جبنا أو انتظارا لابتزاز الكويتيين ولهفة ذوي الشهداء المساكين على معرفة مصير مختطفيهم وأسراهم ورهائنهم
كان من الممكن أن تبدأ المحاكمة بمجزرة حلبجة التي لا تزال ذكراها عنوانا للعار، ودليلا أن الانسان لم يزل أسفل السافلين، فصدام حسين سقط بعدها بخمس عشرة سنةأذاق فيها شعبنا العراقي الويلات وعذابات لم تعرفها هلوسات الطغاة من قبل
كان من الممكن أن تبدأ المحاكمة بالسؤال عن قرار خوض الحرب مع ايران وفقد العراق لنصف مليون من أبنائه وتدمير البلد واهدار ثرواته، ويتم في الوقت عينه التحقيق العراقي العادل فيمن بدأ الحرب، جنون الطاغية صدام حسين أم استفزازات الحرس الثوري الايراني الذي يلتقي مع صدام نفسه في نفس التعطش الدموي؟

العراقيون أصيبوا، أعني أكثرهم، بعمى الألوان، وانشطر مفهوم الكرامة عشرين ضعفا، ثم انتهى إلى أسر الاعتياد، فلا يهم أن يفتش جندي أمريكي امرأة عراقية ويتحسس جسدها أمام الجميع، ولا يهم عدد المغتصبين في سجن أبو غريب، ولا يكترث العراقيون لطائفية مقيتة رسمها صانعو ( فرق تسُد )، فأضحى العراقُ مجزءا بالفعل ولو صلى شيعي بأهل السنة وأذّن كرديٌ في الناس وساوى تركماني صفوفهم.
الطائفية اللبنانية جنة عراقية من خلال عيون أي مراقب أمين وخبير في شؤون بلاد الرافدين، واللغز العراقي هو الشيء الوحيد الذي يلتف حوله العراقيون فلا نعرف من يقاوم، ومن يدافع عن شرف الأمة، ومن يفجر السيارات أمام المساجد والمستشفيات وفي الاسواق وعلى مقربة من مدارس الأطفال.
كل العراقيين مشتركون في جريمة المشهد اللغز، وممنوع معرفة تفاصيل دقيقة عمن يقومون بالعمليات، وأرقام السيارات، واصحابها، وأحاديث مع عائلات وأصدقاء ومعارف من قاموا بالعمليات سواء المقاومة الشريفة التي ترفض الاحتلال أو الارهاب الأعمى الذي يصطاد الضعفاء والأبرياء والجرحى والخارجين من دور العبادة.
أي ديمقراطية تلك التي يبشرنا بها جنود اليانكي أو تجار السلاح في أمريكا أو لصوص بنك بترا الأردني أو مهربو وثائق الوطن لأجهزة الاستخبارات الغربية؟
أي ديمقراطية تلك التي يسرق فيها مجموعة من الوزراء وفي مقدمتهم المسؤول عن الدفاع مئات الملايين من الدولارات تحت سمع وبصر قوات الاحتلال التي نهبت بدورها أموال النفط، ثم يطلب العراقيون من الكويتيين دعما ماليا كبيرا وكأن الكويت لم تتعلم الدرس بعد؟
إن خلط المقاومة الشريفة بالارهاب الأحمق الشرس ليس مصادفة، ولا نظن أن التعاون الكامل بين الاستخبارت الأمريكية وشقيقتها العراقية لم يتوصل إلى معرفة الخط الفاصل بينهما.
ومع ذلك فالشيء الذي لا يعرفه الأمريكيون أنه لا يوجد عربي من البحر إلى النهر ليس في قلبه ذرة من غبطة، وفرحة خافية، وسعادة مختبئة خلف أحاديث ادانة وغضب وشجب وتنديد بقتل القوات الأمريكية.
قطعا لم نتوقع أن يتفقد عمرو موسى حرس الشرف الأمريكي أو يقف احتراما للنشيد الوطني للرابع من يوليو، لكننا بدأنا نشك في كل شيء يتحرك على أرض العراق المخضبة بدماء الأبرياء والمجرمين في أسخف مسرحية عرضها القاتل والقتيل أمام العالم كله. كيف تمكن العراقيون من جعل أحاسيسنا تتبلد، ومشاعرنا تتجمد، وتأييدنا يقف حائرا لا يعرف لمن يتوجه؟ هل يريد العراقيون اقناعنا بأن مئات السيارات المفخخة منذ بداية الاحتلال يقودها أشباح لا يملكون هوية وطنية وليس لهم أرشيف في أمن الدولة؟ ترى من المستفيد في حكومات فيشي المتعاقبة في بغداد والسليمانية من الفوضى العارمة في أرجاء الوطن؟ أريد أن أعرف ما الذي يفرحني أو يبكيني في المشهد العراقي فلا أرى غير اللغز بعلامة استفهام بطول نهر دجلة وتاريخ العراق العظيم.

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...