07‏/10‏/2020

الجمهورية الفرنسية الإسلامية!

الثوبُ الناصعُ البياض لأيّ دولةٍ أو مذهبٍ أو عقيدةٍ أحلامُ يقظةٍ لأناسٍ أغمضوا أعينَهم وبدأوا في قراءةِ كُتُبِ التاريخِ دون أنْ يفتحوا عيونَهم!

التاريخُ محشورٌ في صفحاتِ كُتُبٍ لنطالعه بين ألفينة والأخرىَ فنستفيد، ونعرف، ونصحّح ما تلقيناه شفوياً من أنصاف الأميين ومتسكّعي الشوارع؛ لكن النــِتّيين والفضائيين واليوتيوبيين مَزَّقوا المعارفَ المكتوبةَ لتحل محلها حروبُ الشائعاتِ والتراشُق بأقوال رواد المقاهي في نهاية السهرة.

كان الإنسانُ نتيجة سقوطــِه وليدًا من بطنِ أمـِّه؛ أمّــا الآن فهو يسقط من الشاشة الصغيرة، تلفزيون أو حاسوب، فيجلس أمامه ولا تدري إنْ كان يتعلم أمْ يرضع!

يعيش في فرنسا خمسة أو ستة ملايين مسلم، منهم مهاجرون، ومنهم مقتَطـَعون من المستعمرات الفرنسيةِ السابقة، ومنهم متعاوِنــون سابقون مع قوات الاحتلال، ومنهم الباحثون عن الحرية والجَمال والعمل والدراسة، وكثيرٌ منهم يتنورون في عاصمة النور!

بعضُهم أخذ الإسلامَ معه لحمايتــِه من أخلاقِ وعادات المضيفين، وبعضُهم فرْنــَسوا إسلامَهم فَيصومون رمضانَ بانتظامٍ، ويؤدون نِصْفَ الصلواتِ وهُم في عَجَلةٍ من أمرهم، وبعضُهم استأْذَن إسلامَه أنْ يغض الطرْفَ عن سنواتِ المتعة والبهجة والسهر والجنس والعشق حتى تهدأ حِدَّةُ الشهوات فيتوب، ويتعرف علىَ إمامِ المسجد، ويُنْصِت للقرآن الكريم في مُكَبــِّر صوتٍ ليعرف الجيرانُ أنه عاد إلى طريق الصلاح.

وهناك مسلمون مزَّقتهم الحيرةُ بين داعش وبوكو حرام وفتاوىَ أئمة الحرمين الشريفين أو فتاوىَ الأزهر في قاهرة المعز.

تسوء الأوضاعُ المعيشية في الدول المُستعْمَرة سابقاً، فيشعر مُسلمو فرنسا بحنينٍ إلىَ قديمٍ يتجدد في الذِهْنِ و.. ليس في الواقع.

رغم امتلاءِ فرنسا بمسلمين مثقفين وعلماء وأطباء ومهندسين وفنانين وأكاديميين وروائيين، منهم العربي والأمازيجي والكردي والأفريقي، إلا أنَّ أغلبيةً مهاجرةً ومستقِرة تنتمي للطبقة الكادحة والمُتَعَرّقة سواء كانوا عُمّالا أو عاطلين أو أنصافَ أُميين أقنعهم آخرون أنهم يحملون مِشْعِل التنوير السلفي لتعليم تلاميذ الاستعمار أنَّ البخاري أرفع قدراً من فيكتور هيجو، وأنَّ أبا هريرة أعلم من موليير، وأنَّ حضارة الإسلام ستعود ليدخل الفرنسيون في دين اللهِ أفواجاً.

تخيلتُ لبرهةٍ من الوقتِ أنَّ الفرنسيين كلـــَّـهم مسلمون، وفي فرنسا الإسلامية يعيش خمسة أو ستة ملايين مسيحي أو يهودي أو بوذي أو بهائي أو قادياني؛ واستمعتُ في خيالي لخطبةِ الرئيس المسلم، وهالني ما سمعته عن الملايين الخمسة من المسيحيين واليهود والبوذيين والبهائيين والقاديانيين وعن أديانهم وأن ( المسيحية في أزمة، واليهودية في أزمة، والبوذية في أزمة، وهكذا دواليك!)

أعود إلى الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كاد منذ عدة أسابيع يعانق كلَّ لبناني ولو كان مسلما سُنــّيــاً أو شيعيـاً، وأتعجب: لماذا رفعنا السلاحَ في وجهِه، ووضعنا أمامَه تاريخــَه الاستعماري حتى الهجوم على مدينة بورفؤاد عام 1956 أي قبل ولادتــِه بوقت طويل؟

وصفه يوتيوب لهستيري مهووس بأنه:( الخنزير اللوطي الذي يهاجم الإسلام!)، على الرغم من أنَّ الرئيسَ الفرنسيَ لم يغلق المساجدَ، ولم يطالب بطرد المسلمين من أعمالهم، ولم يُحرّض على عدم البيع لهم والشراء منهم، ولم يتبرهم(!) ويطالب بعدم تهنئة المسلمين في أعيادهم، ولم يطالب القضاءَ بمضاعفة العقوبة على المسلمين( بالمناسبة فإن السجناء المسلمين في فرنسا المحكوم عليهم في قضايا العنف والقتل والإرهاب والمخدرات ثلاثة أضعاف غير المسلمين)!

لو أردنا أنْ نهاجم قتلة الشعوب البريئة ومستنزِفي ثرواتها ومُحْتلي أرضها فلن تسلم دولة في الدنيا كلها من أقلامنا وألسنتنا، من الفيكينج إلى المغول، ومن الحروب الصليبية إلى داعش وطالبان، ومن النازية إلى الثورة الشعبية الصينية.

لا يوجد على وجه الأرض أتباعُ دينٍ أو عقيدة أو مذهب إلا وقد تلوثتْ أيديهم بدماء الأبرياء.

ملايين المسلمين في فرنسا العلمانية يعيشون كغيرهم، يحصلون على إعانات بطالة، ونفس الأجور مثل أهل البلد، ويمارسون شعائر دينهم بحُريــة، ويحملون جواز سفر فرنسي، ويتظاهرون في الشارع دون أن تعتقلهم الشرطة لعقيدتهم، ويهاجمون رئيسَ الدولة، ويدخلون إلى بلدهم فرنسا ويخرجون منها مئة مرة في اليوم، ويتعرضون للعنصرية كغيرهم من الأفارقة والآسيويين والباسيفيكيين والهايتيين والرينيويين، ويتزوجون من فرنسيات، ويقفون علىَ النواصي لدعوة أهل البلد لاعتناق الإسلام.

لا أعرف أحداً يكره الاستعمارَ والاحتلال واستغلال الشعوب مثلي، فيوجع قلبي تأمل تاريخ جنوب أفريقيا، والهولنديين في إندونيسيا، والفرنسيين في كل شمال أفريقيا التي دفع منها الجزائريون الثمن الأفدح، والنازيين في فرنسا وبولندا خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، واضطهاد اليهود طوال تاريخهم الغربي الذي انتهى بالهولوكوست حين صمتت الكنيسة ثم دفع العربُ من أرضهم فلسطين الغالية.

وذبح الصربُ جيرانــَهم المسلمين، والعثمانيون فعلوا مثلهم بالأرمن، والأمريكيون بالأفغان، والبلجيك بالكونغو فقتلوا 15 مليونا منهم...

تاريخ البشر سيجعل إبليس يتبرأ منهم يوم القيامة وهو يقف أمام رب العزة؛ لذا فأنا لا أحمل معي دفتر المذابح وكلما غضبت على زعيم في أوقات السلم قرأت له فيه عارَ تاريخِه في زمن الحرب.

أنا مسلم ومؤمن بديني وملتزم به ما وسعني الجهد والزمن والسلام الفكري ومع ذلك فأنا أنتقد المسلمين أكثر من انتقاد الغربيين لهم، وقضيت في أوروبا 47 عاما من عُمري( انجلترا وسويسرا والنرويج) فرأيت وشاهدت أضعاف ما شاهد ماكرون؛ وأكرر حديثَه بأنَّ الإسلام في أزمة، ونظرة على ملايين المواقع النـــِتّية والفضائية والشخصية التي تتصارع مع الإسلام وتنشر أحاديث وحكايات وخرافات وهراء العنعنيين وشيوخ الفتاوىَ الفجّة وعشاق القصص التاريخية المُخزية، صحيحة أو كاذبة، يجعلني أتطابق مع ماكرون مع الفارق أنه قد يكره الإسلام، وهذا حقُّه في بلدِه ، وأنا أحب الإسلام لأنني مقتنع به.

يا إلـَـهي، لو كنتُ أحكم بلداً إسلامياً يعيش فيها خمسة ملايين يعتنقون ديناً أو مذهباً أو عقيدةً أخرىَ ويطالبون بتغيير الدستور ليتوافق مع فِكْر المتشددين منهم، لخرجَتْ من فمي حِمَمٌ من نار الغضب!

أتذكر غضبي على المسلمين هنا في النرويج حينما بدأوا في تجميع متطرفيهم لتنظيم هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شوارع أوسلو، وأكثر القائمين عليها من العاطلين عن العمل والمتسولين على أبواب الضمان الاجتماعي الذي يدفع لهم مرتباتهم من أموال دافعي الضرائب النرويجيين.

للرئيس الفرنسي ماكرون مئة خطأ وجريمة وتجاوز وتهور، وهو داعم قوي للكيان الاحتلالي الصهيوني في فلسطيننا، والفرنسيون لديهم عليه تحفظات لا حصر لها؛ لكن الهجومَ الإسلامي عليه لأنه تلــَفَظ بكلمةِ "الإسلام في أزمة" هو هجومٌ غير عادل أو مُنْصِف، فلا تطالبوه أنْ يكون مسلماً  ويُلمّع ما يراه من مسلمي العصر الحديث لترضوا عنه.

الشجاعةُ أنْ نرُدّ عليه بالمنطق، لنا أو علينا، وأن نُظْهِر الوجهَ المشرقَ لديننا الذي أخفاه دواعش الزمن الأغبر، وأنْ نوافقه في أنَّ الصورة الإسلامية لخمسة ملايين مسلم في بلدِه ليست مُشــَـرّفةً، وأن من يدافع عن الإسلام ينبغي أنْ لا يسُبّ ولا يلعن ولا يُخَنْزِر خصمَه ولا يُلــَـوّط غريمَه ولا يُذكّره بتاريخِه الاستعماري لخلافه معه، إنما يستدعي الحديثَ الاستعماري إذا كان الموضوع تاريخياً أو حقوقياً .

نعم، الإسلام في أزمة وهذا لا يُقلل أو ينتقص ذرةً أو شعرةً من صلاحيته كآخر الأديان السماوية.

أيها المنتقد لماكرون، لا تكن كمسلم إذا خاصَمَ فَجَرَ، فالإسلامُ لا يعرف إلا النبلاء في خصوماته.

الإسلام في أزمة مصنوعة في الفكر والسلوك للمسلمين قبل صناعتها في ألسنة وأقلام خصومهم.

 

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين

أوسلو في 7 أكتوبر 2020  

 

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...