14‏/10‏/2019

الخطاب الجنازة!

الخطاب الجنازة!

لأول مرة في حياتي الكتابية التي امتدتْ لعدةِ عقودٍ أجدني عاجزًا عن التعليقِ علىَ خطابِ السيسي!
الخطابُ كان أكبرَ من كل قُدراتي المعلوماتيةِ واللغويةِ والعقلية.
كان الحاضرون من ضباطٍ وسياسيين ومثقفين وبرلمانيين وكبارِ رجالِ الدولةِ ينصتون وكأنَّ علىَ رؤوسِهم الطير، وكان الرئيسُ علىَ وشكِ قول: "كل الذين أطاحوا بمبارك في 2011 ولاد ستين كلب حتّىَ لو غضبوا بعد ثلاثين سنة من جحيمِ أعتىَ اللصوص وأفسدهم، ولن يحدث هذا معي.
كان طاووسـًا مُتعاجبـًا بنفسِه، مُتـَكبـّـرًا علىَ عبيدِه، مُتغطرســـًا بجهلـِه، مُحمِّلا الشعب كل أخطائـِه وجرائمِه، وشاهدًا علىَ الفَقْر المائي والإنساني والأخلاقي ، فكلُّ الجالسين كانوا في مكانيـن في نفس الوقت: الأول في القاعة و.. الثاني تحت حذائِه.
كان واثقـًـا بأنً خرابَ مِصْر بين يديه، وأنَّ تجويعَ المصريين وإفقارَهم يتناغم مع عطشِهم وترهيبـِهم.
كان حديثـــًا تهتز لجهلـــِه السماواتُ والأرضُ؛ لكنه لم يهزّ شعرةً في رعيتـــِه!
كان الديكتاتور يعلم أنَّ مصرَ أصغر منه، وأنَّ اللهَ خلق المصريين لخدمتــــِه، وأنَّ الجمادَ يغضب أسرع مما يغضب المصريون.
كانت بذرةُ العبوديةِ قد أُلـْقِيـَـتْ منذ عقودٍ، وحافظ عليها رؤساءٌ وقادةٌ ورجالُ دين.
كان الطاغيةُ أكبرَ من الإسلامِ والمسيحيةِ معـًـا، ولو نزل محمدٌ والمسيحُ، عليهما السلام، إلىَ أرضِ مصرَ فعزيزُها سيحجز لهما زنزانتين متجاورتين.
كان المستبدُ كأنه لم يلتحق بمدرسةٍ قَط، ولم يجلس علىَ تختةٍ في حياتـــِه، ولم يقرأ صفحةً في كتاب.
كان الخطابُ شهادةَ حقٍ واضحة أنه التحق بالمخابراتِ العسكريةِ بوساطةٍ أجنبيةٍ تتنبأ بمستقبلــَه في إنهاءِ العصر المصري الذي دام خمسةَ آلافِ عامٍ، فجاء هو ليفترس، لا ليحكُم.
كان الحاضرون أقزامــــًا لا تراهم العينُ المجردةُ من بعيد، وإذا اقتربتَ ولمستهم كانوا هباءً منثورًا.
كان الرجلُ واثقــــًا بأنه يتحدث إلىَ خيالِ المآتة، ولو أخرج كُرباجـــًا وهبط به على الحاضرين فردًا.. فردًا؛ فسيصفقون حتى تدمىَ أيديهم.
كان يعلم أنَّ في البدءِ كانت الكلمة، وأنَّ اللهَ أمرَ الإنسانَ أنْ يقرأ، لكن الرئيسَ جعل المصريين يكرهون القراءةَ لأنها تجعلهم يعرفون، ويتعلمون، ويتمردون على ثقافة العبيد.
كان خطابـُه أجهلَ وأكذبَ وأفسقَ وأفسدَ وألعنَ وأحطّ وأوضعَ ما التقطته جنباتُ وادي النيلِ العظيمِ الذي كان واهبَ الخــــُلــْدِ فأضحىَ واهبَ العطـَـشِ و.. الموت.
خطابٌ لو اجتمع كل علماءِ النفس في الدنيا لما تمكنوا من سَبْرِ أغوارِه؛ فهو حالةٌ تُرثي بها السماءُ أهلَ الأرضِ، وترقص بها الشياطين وهي تغيظ الملائكة.
لأول مرة أعجز عن فهم أو تفسير أو تحليل أو تفنيد خطابٍ لسيــّد القصر وكأنه يضع نهايةً في الكنيست لأم الدنيا؛ ثم يتوجـه إلىَ حائط المبكىَ ليشدّ شعرَه غيظـًـا من صمتِ شعبٍ يغضب مرة واحدةً في كل مئة عام.
حدّثوني عن مصري أغرقتْ دموعُ الحُزْن وجهــــَه بعد خطابِ السيسي لعلي أرىَ بصيصَ أملٍ في شعبـــِنا.
كان الخطابُ جنازةً صامتةً لا أستطيع وصفــها.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 14 أكتوبر 2019
    

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...