لكن حبلَ سُرَتِكَ لم ينقطع عن أمِك!
كنتَ تسمع النداءَ تلو الآخر: الأكل حيبرد، فتقوم من مقامك بتكاسل؛ ثم تجلس وتلتهم وجبة العشاء، ولا تنتبه إلى أن ست الحبايب أخذت لنفسها ( العيش البايت) لتتلذذ أنتَ بالخبز الطازج، فلا تشكرها، ولا تعتذر لها، ولا تُلقي نفسَك على قدميها تُقبلهما.
كان اخوتك يخرجون من الغرفة سِراعـًـا وهم يسدّون أنوفهم. وتأتي أمُك، فتعطيك الحقنة الشرجية، وتشم غائطــَــك الأصفر السائل، فلا تتأفف، فبرازُكَ لم يتغير منذ أنْ كنت في بطنها تسعة أشهر. ثم تمسح مؤخرَتــَـك، وتطبع قُبلة على رأسك متمنية لك الشفاء والنومَ الهانيء، فلا تشكرها، ولا تعتذر لها.
كانت ملابسك الداخلية مسؤوليتَها، ورائحتك الكريهة سرًا في بئر أمومتها، وكرامتك قبل أي شيء آخر، فلا يلاحظ اخوتك أو أبوك بللا أو اتساخا، ومع ذلك فلا تشكرها، ولا تعتذر لها؛ ولو مرة واحدة!
كانت تعرف ليلة أول سيجارة اخترق دخانها رئتيك، فتشم رائحتك وهي تُقبّلك، وتصمت. وكانت تعرف مع من كنتَ، ومن أغراك ببداية التدخين، وتحتفظ لك بسرك دونما حاجة لاستئذانك، فلا تشكرها، ولا تعتذر لها.
في كل مرة كنتَ تحتلم كانت هي الأسرع لاخفاء ملابسك الداخلية، فتجد النظيفة جاهزة قبل أن تذهب إلى المدرسة، وبسذاجتك تظن أنها لم تلاحظ ولو مرة واحدة.
إذا عاتبتك لأمر ما؛ ارتفع صوتك فوق صوتها، وإذا زجرك والدك.. أطرقت خجلا أو خوفـًـا، ولم تفهم أنْ قوتــَـها في ضعفها، وضعفَ والدك في صرامته؛ ولم تعتذر لها ولو مرة واحدة.
كانت تدلف خلسة إلى غرفتك فتشدّ الغطاء الزائد من جسد أخيك، وتغطي به أطراف قدميك لئلا تبرد في غرفة دافئة، ثم تتأمل وجهك، الجميل أو الدميم، اليوسفي أو الشمبانزي؛ كأنك قـَـدَمت من بطنها في اليوم السابق كأمير الجمال في الرحم وخارجه.
الفنان السعودي محمد عبده حكىَ أنه في طفولة فقر الأسرة كان ينام على السطوح تحت قدمي والدته، وكان يعتبر نومه الهاديء والمسالم ليلة في الجنة، فتحتَ قدميها الأمان كله يسري في جسده وأحلامه.
كانت ست الحبايب قادرة أنْ تستخلص الصدق والكذب من أي حكاية، وتتألم لآلامك، وتحزن لأوجاعك، وتعرف قصص حبك الطفولية والصبيانية والعبيطة، وكانت تلتقط أول نقطة حيض في ملابس ابنتها، وتزيلها قبل اليوم التالي، فحياءُ أختك ينبغي أن لا يتحول إلى خجل.
كانت أمُك تضع القرش فوق القرش فإذا بهما يتضاعفان، ويظن والدك أنها تأخذ من الحصّالة، لكنها في الواقع تُدبّر من عبقرية ربة بيت تربطها بالسماء حبال غير ظاهرة لا يعرفها أبوك أو كل ذكور عائلتك.
أتحدىَ من يقول بأن كل أم كانت تفعل هذا؛ سيحاسبها الله يوم القيامة.
لا تصدّقوا من يقول لكم بأن أمهاتكم، محجبات أو سافرات، مؤمنات أو كافرات، عالمات أو جاهلات، ثريات أو فقيرات، سيُحشَرن في نار جهنم، فحسابُ الأم هو التربية والحنان والمحبة وتماسك الأسرة وسعادة أبنائها فإذا التزمت به، سليقة أو فطرة أو أمومة، فابحثوا عنها يوم القيامة في الجنة، ولا تنصتوا للحمقىَ الذين يحدثونكم عن أم ربّت أولادها، وملأت بيتها بهجة، وغمرت فلذات أكبادها حنانا، ثم يحاسبها الله.
كانت لديها الحاسة التاسعة وبها تعرف من الذي سيستمر صديقا لك طوال عمركما، ومن الذي سيعطيك ظهره؛ ويمضي بعيدًا عنك، لكنك بغرورك لم تُصدّقها، وتؤكد لها أنك أعرف بأصدقائك منها، وعندما كبرت، وأصبحت أبا، اكتشفت أنها كانت على حق.
كان لطعامها رائحة غير موجودة في مطاعم أو لدى أمهات أصدقائك، وكان مذاق طعامها يتسلل إلى الخارج، ويهبط السلالم، ويخترق ويلمس لسانك قبل أن تضع المفتاح في باب الشقة.
كنت تجلس أمامها وتضع ساق فوق ساق بغير اكتراث، وإذا دخل والدك اعتدلت في جلستك، وكانت تلاحظ ولا تنبس ببنت شفة.
قليلة هي المرات التي دعوتها لمشاهدة فيلم في دار عرض أو مسرحية، ولم يقرعك ضميرك، حتى طلبك منها الخروج بمفردكما كانت حالة نادرة.
كنت تدخل خلسة عليها فتسمعها تدعو الله لك ولأشقائك وشقيقاتك بالسلامة، ولا تدعو هي لنفسها خشية أن تكون طلباتها على الله كثيرة.
ملعونة كل التراثيات التي تُنزل أمـَّـك عن مقام أبيك، فأي عقيدة أو دين أو مذهب يُحقّر من شأن ست الحبايب ليس من الله في شيء.
لو تغربت مائة عام وعدت إلى بيت الأسرة القديم المتهالك فستستقبلك رائحتها فور دخولك.
كل الكائنات الحية تموت إلا الأم فهي تموت فقط عندما يدفنك حفـــّـار القبور!
قد تكون لأعز الناس وأقربهم ابتسامة غير مريحة؛ إلا الأم فجمالها صناعة ربانية حتى لو خربش وجهَها الزمانُ والعُمر والحزن والفقر والمرض.
تختلف مع أبيك واخوتك فتبهت صلة الرحم ولو قيد شعرة، وتخاصم أمــَّـك وتتشاجر معها، فتعود إليك من الباب الخلفي في غربتك أو غيابها أو من قبرها، وتحتضنك لتحفظ لك كرامتك في تأخرك في الاعتذار لها.
تلتقي مع عائلات في سهرة أو حفل فيه شباب وشابات، وإذا بحثت عن أمك بينهم ستجدها تراقبك من بعيد وهي تشكر الله أنها أنجبت أجمل خلقه حتى لو كنت مليئا بالبثور والتشوهات!
الحمقىَ يتعجبون أن الله لم يبعث نبية أنثى، فالحقيقة السماوية التي لا نراها هي أن كل الأمهات نبيات!
غريبٌ أنك الآن لا تتمنىَ أن تُقبــَّــل رأسَها، ويديها، وقدميها، أو تمرّغ وجهك في تراب قبرها.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق