الحياد المنحاز ومأزق المنتدى
قليلة هي المطبوعات التي تُجبرك على احترامها حتى لو اختلفت مع نهجها، ونادرة هي المطبوعات التي تستقطب المثقفين والمفكرين والمبدعين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم واتجاهاتهم. وقد شهد وطننا العربي بعضا منها فأثرت الفكر العربي، وساهمت مساهمة كبيرة في تثبيت الوعي وعرض مختلف الآراء بصورة عقلانية تناسب فكر مشارف القرن الحادي والعشرين.
فكانت “الدوحة” القطرية و” الفيصل” السعودية و “ العربي” الكويتية و “ الناقد” اللندنية وغيرها.
وقد واصل بعضها مسيرته، صعودا وهبوطا، بحسب المناخ الثقافي المسيطر علي الفكر العربي.
وفي الأعوام الخمسة الماضية عرفت أقلام المفكرين طريقها إلى مطبوعة ثقافية جيدة يصدرها منتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية عمّان، ويشرف عليها الرجل الثاني في المملكة الهاشمية الأمير الحسن بن طلال. ولكن بصمات الدكتور فهد الفانك والدكتور سعد الدين إبراهيم واضحة كل الوضوح في نهج المطبوعة من صفحتها الأولى إلى غلافها الأخير.
وقد قامت” المنتدى” وهو اسم المطبوعة، بدور كبير في بلورة الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي لدى قطاع عريض من القراء وكانت تنشر أخبار منتدى الفكر العربي وتجتذب الحاضرين ندواتــــه، والمشاركين في أعماله. وقضية الثقافة العربية كانت سهلة وواضحة ما انفك المثقف العربي يدين الإمبريالية ويهاجم الصهيونية ويكتب عن حقوق الإنسان العربي وضرورة احترامها.
إلى أن جاء الخميس الأسود، أو يوم القيامة الكويتي، وانشق المثقفون العرب وانفرط عقد التضامن العربي، وزلزل الضمير العربي زلزاله واكتشف المثقفون والمفكرون والمبدعون في “المنتدى” أنهم جزء من النظام العام الأردني وأن هناك خطوطا حمراء كثيرة لم يتبينوها من قبل، وأن عشرات المقالات والندوات والمحاضرات والأحاديث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والأخلاق والعروبة والشرف وقيمة المواطن، وما إلى ذلك، لم تعد لها فائدة لأن الحقيقة المُرّة مغايرة تماما لكل تنبؤات أصحاب القلم، ومثقفي الأمة.
وهذه القضية بالذات ليس فيها حياد، ويخطئ من يظن أنه يستطيع الرقص على الحلبتين معا وفي الوقت الواحد.
الذين تابعوا” المنتدى” منذ صدورها سيدهشهم أمر عجيب حقا، وهو أن منتدى الفكر العربي ينشر دائما في مطبوعته أسماء المتبرعين وقيمة التبرع سواء كان من أفراد أو مؤسسات.
وتقرأ الأسماء فتجد من بينها:
لجنة المصاريف الكويتية - معهد الأبحاث العلمية - بنك الكويت الوطني - الدكتورة سعاد الصباح - صندوق النقد العربي ـ الكويت، غرفة التجارة والصناعة ـ الكويت - بنك الكويت الصناعي وعشرات غيرها من الشخصيات الكويتية والمؤسسات الوطنية والخاصة، هذا فضلا عن مسابقة الإبداع الفكري التي نظمتها الدكتورة سعاد الصباح للمنتدى وتبرعت بقيمة الجوائز الممنوحة للمتسابقين.
معنى ذلك أن الكويت كانت السبــّـاقة دائماـ كالعادةـ لنشر الثقافة العربية ولم تبخل على المنتدى، بل إن الفضل في استمرار هذا الصرح الفكري الكبير يعزى إلى بترول الخليج العربي.
ونالت الكويت جزاءها شماتة في العدوان العراقي، وإهمالا من الذين أوقفتهم على أقدامهم.
وصدر عدد أكتوبر من “ المنتدى” في محاولة للوقوف على “ الحياد في الجانب العراقي” أو عرض وجهات النظر المختلفة شريطة أن تتفق مع النهج العام في الأردن.
وهكذا أصبح للثقافة العربية وجه يعبر عن” الحياد المنحاز”، وتفتقت العبقرية العربية لمثقفينا عن هذا النوع من خداع النفس.
ويكبر الحزن في النفس لاختفاء “ منتدى الفكر العربي”، على الرغم من إصرار القائمين عليه على أنه مازال موجودا على الساحة العربية. واستقال الدكتور سعد الدين إبراهيم، واعتذر كثير من المثقفين أصحاب الضمائر الحية عن المشاركة في نشاطات المنتدى، وسقطت قلعة أخرى من قلاع الثقافة العربية.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو ( من أرشيفي عن الغزو العراقي للكويت )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق