النفس على نار هادئة!
ترسم طوال حياتك صورة جميلة مُلونة بالتسامح والمحبة والجمال، وإطارها خبراتك الشخصية وقناعاتك اليقينية عن شخص، صديق، حبيب، قريب، عقيدة، حزب، مفكر، عالـِـم، مثقف، مثـَـلِك الأعلى.
وفجأة تهب عاصفة فتقلب المشهدَ عاليه سافله؛ وتقف حائرًا وعاجزًا عن الفهم، وتقتضي الأمانة أن تشرح لأبنائك سِرَّ قناعاتك الجديدة بعد عُمر مديد، فهل تسيء لقصة الحب، وتعيد تلوين المشهد بأثر رجعي مع استخدام ألوان مختلفة قد يغلب عليها اللون الأسود؟
هل تقول لهم بأنك أخطأت في حسابات عائلية ودينية وسياسية واجتماعية وتربوية، أم تـُـلقي باللوم على الآخرين، وحينئذ قد يأتي شرحُك بنتائج عكسية؟
هل تصف العلاقات العاطفية بطرق مختلفة في أزمنة متباعدة؟
هل تقول بأن الذي تربيت على يديه في البيت أو المدرسة أو الشارع أو المسجد أو الكنيسة قام بخداعك؟
هل تستمر في الأوهام القديمة لئلا تضر أبناءك الذين تأثروا بمشهد ماضوي من حياتك، أم تصارحهم بالحقيقة الجديدة؟
هل تذهب إلى ابنك وتبلغه اكتشافاتك الجديدة عن عمك أو خالك أو أستاذك أو صديق عُمرك أو توأمك الروحي، أم تتركه يصطدم بالحقيقة ولو بعد موتك؟
كلنا مررنا وبدون استثناء بتلك المرارة القاتلة، بل قد نكون نحن المخطئين كما يعتقد الآخرون، لكن الرباط المقدس في الفكر أو صلة الرحم أو التحزب أو دروس العقيدة المشتركة أو لقاءات المسجد أو الكنيسة أو العمل أو الدراسة تنقلب على وجهها، فكيف تصارح من أنت مسؤول عن تربيتهم من جديد.. وفي كل حقبة زمنية؟
حتى ابتسامتك وأنت تعيد رسم المشهد والأفكار والأشخاص والأحباب تكون باهتة بعدما جرحها الزيف الجديد!
العواطف الثابتة خرافة، والحب الخالد في الروايات فقط، والصدمات المتتالية قادرة أن تجعلها صدامات في أفئدة تكسرت، وتناثرت ومن المستحيل جمعها، ورتقها، ولصقها من جديد.
النفس الإنسانية متشابكة المسارب والمداخل والمخارج، فقد تظن أنك تدخل؛ فإذا بك تخرج، وقد تعتقد أنك تحب فلا تستريح لخفايا مشاعر الآخر.
قد يأتي اليوم الأخير في حياتك عندما يتسلم حفــّـــار القلوب جسدك المسجىَ، ومع ذلك يُدْفــَــن معك السر العظيم .. أي حقيقة كل العلاقات التي مرّتْ بك أو مررت عليها أو شاركت فيها أو دخـَـلتْ في نسبج عواطفك من الجانب الخطأ.
هل تستمر في خداع نفسك وتصف الرباط المقدس كأن طرفه في السماء، أم تقول لأبنائك بأنك بريء من صناعة الجفاء؟
كل رباط مقدس قد تقطعه نسمة خفيفة لا يشعر بها وجهك، لكن جذورها في النفس عواصف ظلت عصية عن الملاحظة طوال عُمرك!
خُلق الإنسان ضعيفا؛ لكنه خـَـلق في ذاته السذاجة فعجز عن فهم ما كان ينبغي له أن يفهمه قبل أن تستوي النفس على نار هادئة لا تحرق إلا بعد ضياع العُمر.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو في 26 يوليو 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق