مديحة يُسري ..
تاريخ الشاشة الفضية!
عشرون عاما مرّت
بعد اعتزالها عندما كانت في السابعة والستين، لكن رقة وجهها، وبشاشتها، وسحر
ابتسامتها وقفت كلها عند سن العشرين عندما غنى لها عبد الوهاب: بلاش تبوسني في
عينيَ، ده البوسة في العين تفرّق!
جاء الفنانون
والفنانات لحضور جنازتها، والترحم عليها، ولكن أيضا لمشاهدة أنفسهم وأنفسهن في
مرآة الحياة بعد العودة إلى البيت، وخلع الملابس السوداء، وتوجيه السؤال الأبدي من
زوجة أبي سندريلا: هل هناك من هي أجمل مني؟
كل فنانة حزينة
كانت تمسك آلة الزمن لتوقفها عند السن الذي لا تظهر فيه التجاعيد، ولا تبين
الأخاديد، ولا تنكمش البشرة، فحفارُ القبور لا يشاهد الفن السابع، والمشيعون
يمسكون موبيلاتهم لتصوير الأحياء الخائفات من عُطل في سرعة الزمن، فلا تكبح كل
عمليات التجميل فرامل الأيام، ويظن كل من يلتقط صورة أنه بعيد بُعد المشرقين عن
اليوم الموعود .. وشاهد ومشهود.
مديحة يُسري،
رحمها الله، كانت قطعة من الجمال على حِدَة، إذا شاهدتها في فيلم ظننت أنها ستأتيك
بعده لتبثك لواعجها، وتصيبك بسهم لواحظها فلا تتركك إلا عاشقا نصفه متيم، أو مجنونا
يبحث عن نصفه العاقل.
في الأفلام
القديمة العبدالوهابية كانت رشاقتها عرضا متفردًا لعبقرية الجسد الأنثوي الأنيق،
وحتى عندما كانت تقوم بدور الغيرة، مثل موقفها من فاتن حمامة في لحن الخلود، كانت
عيناها تخذلانها فترسمان طيبة يطل منها حب لمن تغار منها!
أعجبني دورها،
رحمها الله، في ( لا تسألني من أنا!) ولم تستطع شادية أن تسرق منها الكاميرا رغم
براعة الثلاث، أعني مع يسرا!
مديحة يُسري رحلت
بعد الاعتزال بعشرين عاما، وتراجعت قبل الاعتزال بعشرين عاما، لكن أعوامها السبعة
والتسعين أخفت ملامح ومشاهد وتغييرات ما بعد العشرين.
يطلب الناس من
الله أن يطيل عُمر من يحبون، لكنها لا يتخيلون للحظة واحدة أن طول العُمر قد يحمل
الآلام والأحزان وتبهت الذاكرة وتتثبت صورة جديدة قبل اعتداء فضوليي الموبايلات
بكاميراتهم القبيحة كما فعلوا مع الأميرة ديانا بعد الحادث الذي أودىَ بحياتها؛
لكن ذاكرة الناس كانت مشحونة بشباب امرأة حلت محلها كاميلا باركر فكبر ولي العهد
سبعين عاما، وظلت ديانا في أذهان محبيها كأنها ترتع وتلعب وتجري وتسبح مع هاري
وويليام.
مديحة يسري لم
يُعرف عنها مزايدة دينية، فاشراقة وجهها الجميل كان في حد ذاته دينا طبيعيا
كالخضرة والماء!
فنانات مصر
الوفيات للراحلة في الجنازة يعرفن أنهن وفيات بعد محطة أو اثنتين أو حتى عندما
يبلغن السابعة والتسعين، وكل من يُشيّع راحلا يفكر في نفسه طوال الطريق البطيء
الذي ينتهي بمساحة صغيرة متربة لا تمر ساعات حتى يصبح ظلام سطحها كظلام عمقها.
ستختفي صور العقود
الأخيرة المنصرمة، ويبدأ العقل الواعي في استدعاء مديحة يسري العشرينية
والثلاثينية عندما تعرض الشاشة الصغيرة أفلامها؛
تماما كفاتن حمامة وشادية وسعاد حسني وزبيدة ثروت ونادية لطفي وكريمان،
فالتجاعيد ترحل في نهاية الجنازة، وعنفوان الشباب يبقىَ مترسبا في خيالات تسبح في
الرومانسية، وترفض الصراع مع الزمن لئلا يهزمها قبل الموت.
مديحة يُسري رحلت
عن عالم الأحياءِ إلى حين يرحل الأحياءُ وتأتي أجيال تختار الأعمار المناسبة
لتتذكرها، ميري ماتيو، إنريكو ماسياس، عبد الحليم حافظ، فيكي لياندروس، أنوك إيميه،
إيزابيل هوبر، جولي آندروز، إيف مونتان، أحمد رمزي، عُمر الشريف ....
لم تدخل مديحة
يُسري معارك مع الزمن أو مع الفنانات، رغم أن المرض أنهكها، والعُمرَ أشقاها،
والجسد خانها، والجمال رحل قبلها بثلاثين عاما، لكنها ستظل ساحرة سمراء .. ومُنيةَ
النفس العليلة!
لم يمهلها القدرُ
ثلاث سنوات أخريات ليحتفل محبوها بمرور قرن على مولدها، فالزمن لا يفاوض ولا يُزيد
أو يــُـنقص، فرجعت مديحة يُسري إلى ربها راضية مرضية، وأسكنها فسيح جناته.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 30 مايو
2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق