نصف قرن على الجريمة!
لماذا فرحنا بقتل روبرت كنيدي؟
الفرح حق إنساني لا ينازعك فيه أحدٌ، بل يمكنك أن تستنفر كل خلايا جسدك
لتفرز جراثيم البهجة في صورة عدالة وهمية يحققها لك قاتل تقنعك قضية أنت مؤمن بها
أنه سفك دماءً من أجلها!
مساحات الصمت تمتد لنصف قرن؛ ونحن لا نراجع أنفسنا رغم أننا لسنا
القاتلين؛ إنما نحن متعاطفون مع من أطلق النار على رجل دخل مئة معركة من أجل
السلام والمساواة والإنسانية، فلما تعاطف مع إسرائيل، كأكثر زعماء الغرب وأمريكا
في ستينيات الغضب الممتدة من ربيع براغ إلى انتقام لوس أنجلوس، فرحنا أنْ جاء رجل
مِنــّـا، عربي وفلسطيني ومسيحي نسيَ رسالة السلام لابن مريم، عليهما السلام.
السيناتور روبرت كنيدي كان يدافع عن قضايا السلام، ويقضي ساعاته في البحث
عن وحدة أمَّة متمنيا أن يرىَ اليوم الذي يجلس في المكتب البيضاوي رجل أسود يحكم
دولة بيضاء عنصرية تتنفس من رئتي كلو كلوكس كلان، ويكتب تاريخ الاضطهاد فيها أحفاد
كونتاكنتي!
روبرت كنيدي عرّض حياته للخطر عشرات المرات في زياراته للجيتوات السوداء،
وأدمعت عيناه وهو يحمل طفلا أسود لا يأكل إلا فتاتا؛ فمات بين يديه.
قيل له بأنه سيُقتــَـل مثل أخيه، جون كنيدي، فلم ينصت إليهم، لكنه كان
ينصت للرصاص الأعمى الذي حصد عشرات الآلاف في فيتنام، وأقسم أنه سينهي هذه الحرب
الجهنمية الظالمة على شعب في الناحية الأخرى .. البعيدة عن بلده، ويعيد 185 ألف
جندي أمريكي يعملون في وظيفة قتلة بالنيابة عن السياسيين.
كانت أمامنا الفرصة أن نقنعه، وكانت حساسيته المرهفة للمظلومين مقدمة لوضع
قضية شعبنا الفلسطيني أمامه، حتى لو ربحنا نصف تعاطف في حال وصوله إلى الحُكم،
فأمريكا كانت تبكي على أخيه وعلى مارتين لوثر كينج وعلى أبنائها في فيتنام الذين
ذهبوا لمحاربة أشباح ماركس وانجلز، فإذا هم يقتلون السكان الضعفاء، صُفرَ الوجوه،
نحيلي الأجساد، مجوفي البطون!
كان سرحان بشارة سرحان صغيرا في السن، يعيش حُلم عودة اللاجيء الفلسطيني
إلى أرض الوطن المغتَصَب، واقتنع أن السيناتور هو سبب مصائب الاحتلال، رغم أن
روبرت كنيدي الذي أنهى سرحان حياته بطلقتين في الرأس كان في الحقيقة الأقرب إلى
التعاطف مع أصحاب أعدل قضية بعدما يكسب أصوات اللوبي الأمريكي المتعاطف مع تل
أبيب.
وسقط السيناتور مضرجا بدمائه وهو في سن الثانية والأربعين، 6 يونيو 1968،
وترك خلفه شبه دزينة أطفال، وأحلام مارتين لوثر كينج والمكسيكيين والهنود أحفاد
السكان الأصليين والزنوج الذين أعطاه 90% منهم أصواتهم في الانتخابات التي جرت قبل
أسبوعين من مصرعه.
كان السنياتور يقرأ بوعي وسلام الكتاب المقدس، ووصلته رسالة المسيح، عليه
السلام، فأنصت إليها عكس ما فعله أكثر السياسيين الأمريكيين.
لماذا فرحنا منذ نصف قرن بجريمة قتل روبرت كنيدي وهو لم يكن قد تولىَ
الحُكْمَ بعد، ويعيش وسط ضغوطات مراكز القوى البيضاء والصهيونية والعنصرية ومصانع
الأسلحة وأنياب الرأسمالية المتوحشة التي لا تريد أن تعترف بهزيمتها أمام الضعفاء،
آكلي الأرز في حقول فيتنام؟
هل صحيح أن سرحان بشارة سرحان قدّم لشعب فلسطين خدمة بقتله روبرت كنيدي؟
كانت الولايات المتحدة على مرمىَ حجر من التغيير الأسطوري في طريق السلام
الذي كان سيمتد إلى آسيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية!
إن وضع قضايا عادلة في فوهة مسدس يطلق رصاصات عمياء في الجانب الآخر من
الكرة الأرضية هو دفاع أحمق يُلمّع الخسارة، ثم يحتفل الغوغاء بالنصر الدونكيخوتي!
سرحان بشارة سرحان ظن أن مسيحيته ستجعل تروس المطابع في أمريكا ليــّــنة
وهي تُدينه، وسيُصَليّ المسيحيون في أمريكا من أجله رغم أن القتيل هو الأقرب للمسيح،
عليه السلام.
إننا نحن العرب نملك عزة نفس عجيبة تجعلنا لا نراجع أحكامَنا الظالمة التي
أطلقناها في زمن مراهقتنا السياسية.
وحتى أقطع الشك والريبة عن أي قاريء؛ فأنا مقاطع لإسرائيل من مهدي إلى
لحدي، ولو اعترف الإنس والجن وأربعمئة مليون عربي بالاحتلال الصهيوني فسأبقىَ
بمفردي!
لكن رؤيتي الجديدة تلك لا تتعلق بقضية مصيرية ومبدئية عن سرقة أرض عربية
بواسطة الأقدام الهمجية؛ إنما عن عدالة عوراء أقامها شاب مِنـــّـا، عربي فلسطيني،
منذ نصف قرن، واختار السيناتور الأقرب للسلام والمحبة والمساواة والمسيح، فأرداه
قتيلا، وخسرنا نحن رجلا كان يمكن أن ينصت إلينا.
كانت لغة الحوار على الأرض الأمريكية سائدة، وعندما قابلتْ جولدا مائير
أخاه جون كنيدي، اقنعته في أقل من ساعتين بعدالة الظلم الصهيوني؛ أما نحن فكنا نظن
أن صراخنا حوار.. فخسرنا.
لقاء واحد، هاديء، عقلاني بين الملك فيصل بن عبد العزيز والجنرال شارل
ديجول انتهى إلى وقف تصدير السلاح للدولة الصهيونية.
نصف قرن على جريمة قتل السيناتور روبرت كنيدي، فهل تعلـّـمنا الدرسَ أمْ
أننا لم نبرح زمن المراهقة السياسية التي تلوّح بالقبضة كأنها حوار؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 26 مايو 2018
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق