تجاور جوازا سفر عربي وأوروبي على المكتب الملاصق للمدخل الرئيس في المطار الدولي. تخيلتُ الجوازين وقد تناطحا، وتصارعا كما تتصارع الديكة، ثم تحاورا أخيرًا، فكان أنْ سَجّل خيالي الحوارَ التالي:
جواز السفر العربي: ما الذي جاء بك إلى هذا المكان، ثم وضعك بجانبي كأننا نِدّان يتساويان في الورق والقيمة وحامِلَيّنا؟
جواز السفر العربي: ما الذي جاء بك إلى هذا المكان، ثم وضعك بجانبي كأننا نِدّان يتساويان في الورق والقيمة وحامِلَيّنا؟
جواز السفر الأوروبي: أما المكان فحاملي يحمل وجهُه عينين زرقاوتين تفتحان له مغاليقَ مطارات عربية يعرف قسوتَها حاملُك حتى لو كان يعلق على جدران داره شهادة تعادل ما لدى الدكتور أحمد زويل!
وأما مجاورتي إياك فهي محض مصادفة لا تقلل من شأني ولا تجعلك نِدّا لي أو نظيرا ولو خرجتَ أنت من مطبعة ألمانية تحتضنها إدارة الجوازات والجنسية في بلدك كأنها ستطبع صور الزعيم لتعليقها فوق رؤوس موظفي الدولة في مكاتبهم.
الجواز العربي: إنني أحمل في أحشائي لغة جميلة، وأنا رغم مهانتي يعرفني أهل قومك على أن حاملي عربي وليس فقط مصريا أو فلسطينيا أو سوريا أو مغربيا أو لبنانيا.
إذا قام أحدهم بسرقتي فإن أجهزة أمن بلدي يتم استنفارها، ويصعب على السارق أن يقوم بتزويري، ويتعرض صاحبي لسبعين سؤالا من ضابط أمن المطار بُعَيّد وصوله بوثيقة سفر مؤقتة كبدل جواز ضائع!
الجواز الأوروبي: لكن صاحبك ترتعش يداه ، ويكاد يسقط مغشياً عليه لو تفحصّك ضابطُ الجوازات أكثر من دقيقتين.
أما أنا فأمرق كلمحِ البصر أو أقل في مطارات برلين وجلاسجو وهيراكليون ولارناكا وأنقرة ومدريد ومارسليا، بل يكتفي أحيانا ضابط الجوازات بالنظر إلى وجه حاملي كأنه يحمل مفتاحَ الجَنّة.
أحيانا أنام هانئاً في درج مكتب حاملي دون أنْ يرهقني بالسفر، فيصحب معه بطاقةَ الهويةِ لينتقل بين هولندا وبلجيكا، أو بين السويد والدانمرك، أو يذهب للتبضع من جنيف إلى الحدود الفرنسية وقد لا يحتاج حاملي إلى البطاقة الشخصية إنْ غادر أوسلو إلى الحدود السويدية، أو استقل سيارته من الفارو البرتغالية ليقضي المساء في إسبانيا.
أما أنت فما إن تقع عينا ضابطِ أمن المطار العربي على حامِلِك حتى تصيبه نوبةُ غضبٍ، وتبهت ابتسامتُه، ويتفحص وجهَه محاولاً العثور على تُهمةٍ لا أحسب أضعفَهم إلا قادراً على تلفيقِها.
قبل أن يتسلمك صاحبُك من إدارة الجوازات والجنسية يقوم بتخليص اجراءاتٍ كأنه سيهرب بك، أو سيلجأ إلى أول بلد أوروبي يستنشق فيه نسمةَ حرية ، ولا يقوم بزيارته زائرُ الفجر ولو قضى بقيةَ حياتِهِ في خيمةِ أمام قصرِ رأسِ الدولة محتجاً ومنتقداً السياسة العليا!
الجهات الأمنية في عالمك العربي تتعامل معك على أنك نجسٌ تختبيء في صفحاتِك جرائمُ حامِلك المجهولة منها والمعلومة، أما أنا فكتابٌ مقدسٌ يكاد يرفعه رجلُ الأمن في المطارات الأوروبية ويقوم بتقبيله إنْ كان حاملُه ذهبيَّ الشَعْرِ وأزرقَ العينين أو أخضرَهما!
الجواز العربي: إنَّ قيمتَك ليست فيك أو في صاحبك لكنها نتيجةٌ حتميةٌ لمصالح دولٍ مزقتها حربان عالميتان دفعتا لباطنِ الأرض بسبعين مليونا من البشر.
كان من الممكن أنْ أكون مثلَك لو لم تدعم حكوماتُكم طغاتنا فيقللون من شأن مواطنيهم، ويجعلون الوطنَ سجناً، فتنخفض قيمتي كما تنخفض العملةُ الخضراءُ في وول ستريت لو عبث في أيِّ بورصةٍ أحدُ الحيتانِ أو حجبنا عنكم براميلَ ذهبنا الأسّوَد.
في منتصف الستينيات عَلِمَ الرئيسُ جمال عبد الناصر بأنَّ مواطنيه يتعاملون من السلطات الألمانية ( الغربية ) آنئذٍ معاملةً غيرَ كريمة.
وجاءت توجيهاتٌ من الرئيس نفسه بمعاملةِ الألمان في منافذ مصر كلها معاملة سيئة حتى تصل الرسالةُ إلى السلطات في برلين الغربية.
وفجأة ارتفعت قيمتي، ولم تنفعك الدماءُ الزرقاءُ التي تجري في عروقِ صاحبك، أو حمايةُ الغربِ كله لوثيقةِ السفر الراقية!
الجواز الأوروبي: هذا هُراءٌ، فأمريكا اللاتينية كانت أحذيةُ العسكرِ تصنع جوازات السفر، والديكتاتور يهين شعبَه في الداخل ويدافع عن مواطنيه في الخارج، أما في عالمِك العربي فحاملُك تطارده سلطاتُ بلدِه ولو كان في مرتع الحرية مشاركاً في مظاهرة بالهايد بارك المحيطة بقصر صاحبة الجلالة.
حتى تركيا التي لا يزال الساركوزيون يتعاملون معها على أنها الرجلُ المريضُ قدّمتْ منذ سنوات احتجاجاً شديدَ اللهجةِ إلى السلطات الألمانية التي هددت بطردِ فتىً تركيٍ يبلغ الرابعةَ عشرة من عمره.
فهل هناك زعيمٌ عربيٌّ، إلا قليلاً، يدافع عن حامِلِك وكأن كرامتَهما واحدة؟
يحملني جندي أمريكي وهو متوجّه إلى العراقِ في حماية الاحتلال، ولا يستطيع وزيرُُ الداخليةِ العراقيِّ أن يلمسني، ولو شاهدني المالكي نفسُه فستتسع ابتسامتُه حتى لو كان حاملي قد قتل لتَوّهِ من العراقيين نصفَ سكانِ قريةٍ آمنةٍ مطمئنة.
يسلّمُك صاحبُك إلى كفيلٍ خشيةَ أنْ تهرب، أو تعود إلى بلدِك أو تبحث عن كفيلٍ آخر أقل جشعاً وطمعاً، ورغم أنه عربيٌ مثل حاملك إلا أنه يعاملك كوثيقةِ سفرٍ دنَّسَها الفقرُ، وتحمل بين طياتِها كرامةً تماثل قيمةَ حامليها العرب!
الجواز العربي: تُحَدّثني عن أمريكا اللاتينية ولعلك نسيت جوازَ السفر الأمريكي الدبلوماسي الذي يحمله سفيرُ البيتِ الأبيضِ في فنزويلا ولم تنفعه كل الأعراف الدبلوماسية فغادر البلادَ مطروداً، حتى سفير القطب الواحد في بوليفيا عجز جوازُ سفره أنْ يعطيه قيمةً أكثر من تلك التي ترفع مقامَ شابٍ ثائرٍ يعلق صورةَ جيفارا على الحائط فوق فراشه، فبكى السفيرُ مُلْكاً رأسمالياً ثرياً لم يحافظ عليه حفاظَ فقيرٍ ماركسيٍّ لا يجد قيمةَ بطاقةِ سفرً بين تشيلي وكولومبيا.
وهل نسيت جوازات السفر الخليجية الشقيقة وهي تتفتح لها قاعاتُ كبار الزوار في مطارات دمشق وتونس والقاهرة وبيروت والرباط و ..؟
إنك تعيش أوهامَ الحلم الأوروبي فتظن مساحةَ جيبِ حامِلِك الكبيرة والتي يدفع منهاا إكراميات للعاملين في منتجع شرم الشيخ وفنادق سوسة والحمّامات ومطاعم الدار البيضاء وسماسرة العقارات في بيروت واللاذقية تمنحك بياضاً ناصعاً، وترفع مقامَك لتَسْخَر بعدها من جوازِ السفر العربي.
الجواز الأوروبي: ومع ذلك فسأظل أنا الممثلَ الشرّعيَّ والوحيدَ لأحلامِ حامليكم، ولو تم استخراجُ جواز سفر سويسري أو ايطالي أو نمساوي أو برتغالي أو حتى مالطي لملياردير عربي لما تأخر في قبوله وتقبيله، وربما تعليقه مع خرز خشية الحسد والحاسدين!
إنَّ القيمةَ الكبرى في جواز السفر هي في كيفية تعامل أبناءِ بلدِ حامله معه، وفي المقدمةِ منهم رجال الأمن.
يستطيع حاملي إذا سرقني لصٌّ أن يتصل بقنصل بلده، فيفتح له بابَ السفارةِ من جديد إنْ كان في وقتٍ متأخر، ولا يطرح عليه سؤالاً أمنياً أو يعاتبه أو ينتقده، لكنه يستخرج له وثيقةَ سفرٍ في اللحظة نفسِها، ويكمل فترةَ اقامتِه، ثم يعود إلى بلده دون أن تفتح الجهةُ الأمنيةُ تحقيقاً مخيفاً معه.
في مطار أوسلو الدولي تكتشف عائلاتٌ كثيرة مسافرة أنها نسيت جوازات السفر بعد وصولها، والوقت لا يسمح بالعودة إلى البيت، وزحام السفر شديد في فترة العطلات المدرسية، ومع ذلك فسلطات المطار لا تعيد تلك العائلات والأفراد من حيث جاءوا، وتستكمل اجراءات السفر ببدل فاقد أو بالهوية الشخصية.
في معظم جوازات السفر الأوروبية والأمريكية والكندية تم الغاءُ خانة الوظيفة، فهي لا تعطيني قيمةَ أكثر من جنسيةِ حاملي، ولا يكترث ضابطُ الأمن في المطار إن كان حاملي وزيرا أو عاطلا عن العمل، أما أنت، جواز السفر العربي، فيبحث ضابطُ الأمن في صفحاتِك عن وظيفةِ صاحبِك ليعرف درجتَه في حرارة الاستقبال أو برودته، وفي اتساع ابتسامته أو تقطيبة وجهه!
أنت مترَقَب للوصول أو ممنوع من المغادرة بسبب أيّ هفوة يرتكبها حاملُك ولو كانت حُكْماً غيابياً في جنحةٍ لا تستحق ضياعَ وقتِ القاضي والمحكمة، أما أنا فجزءٌ من منظومة قررت مع العالمِ الغني أن يحمل كرامةَ الغرب كله بمجرد أن تقع عليّ عينا ضابط أمن الحدود.
صحيح أنَّ خانة الوظيفة تم حذفُها والاستغناءُ عنها، ويشرّفني أنَّ صفحاتي ليست بها أختامٌ إلا إذا سافرت إلى عالمِكم العربي أو الأفريقي أو دول جمهوريات الموز.
الجواز العربي: وهل تظن أن فخري لأن عالمي العربي يقع بين أغادير وطنب الكبرى، وبين مقديشيو والمحمرة لا يجعلني انخرط في البكاء بين ألفينة والأخرى متمنّياً أنْ أمرق مثلك كالريح في مطارات صنعاء والرياض وعَمّان وبغداد ودمشق وتونس والجزائر والقاهرة والدوحة وجدة ونواكشوط والمنامة؟
لقد أتى علينا حين من الوقت تَمَنّىَ فيه حاملونا أن يكون الوطنُ العربي واحداً، وأنْ لاا يحتاج المواطنُ لأكثر من هويةٍ شخصيةٍ وهو يجلس في قطارٍ سريعٍ يستقله في أغادير ويمر عبر مراكش فالرباط ثم يتوجه إلى الجزائر، ومنها تمتد قضبانُه إلى وهران ليشمّ الركابُ رياحاً قادمةً من تونس الخضراء، ولا يمر وقت طويلٌ حتى يعلن الوصولَ إلى طرابلس الغرب.
وينزل ركابٌ، ويصعد آخرون فالقطار متوجّه إلى طبرق فالسلوم فمرسى مطروح فالاسكندرية ، ولا يزال الطريق طويلا وممتعا ووحدوياُ، وسيمر عبر فلسطين ومنها إلى العاصمة الأردنية ليُسْرع بعدها إلى بغداد فيتجه إلى سورية أو الكويت أو تركيا!
لكنَّ حامليك هم الذين تسببوا في جعل قيمتي لا تساوي صفحاتي، فوقفوا مع الطغاة، وساندوا الزعماءَ الارهابيين، وغضّوا الطرفَ عن لصوصِ الشعوب، وتعاونت مخابراتُهم مع أسيادِ القصر، وصنعوا منذ ستين عاما كياناً استيطانياً في فلسطين ليمزق عالَماً عربياً كان يحلم بخروج المستعمِر المؤقت فاستبدلتم به استعماراً دائما.
الجواز الأوروبي: أشفق عليك من هول ما رأيت، فحاملُك إنْ ثقلت عليه الدنيا بما خَفّتْ ورحبت لعَنَك كأنك سببُ تعاستِه، وإنْ استبدل بك جوازَ سفرٍ من بلادنا كان يومَ عيدٍ له ولكل الحالمين معه.
أراك وقد اعتصرَك العَرَقُ، وهَلكتْ صفحاتُك من كثرةِ التقليبِ فيها والختم عليها بغضبٍ وقسوةٍ، واسوَدَّتْ حوافُك مِنْ طول الامساك بها والعبث فيها بأصابع في كفٍ اعتاد أن يصفع المواطنَ على وجهِه أو قفاه!
ليس لك أملٌ أنْ تصبح مثلي قبل أنْ يَعْصي حاملوك مُهينيك، فكرامتُك من كرامةِ من تنتسب إليه.
الجواز العربي: لو عشتَ يوماً واحداً مثلي في يدِ كفيلٍ أو ضابطِ أمنٍ عسكريٍّ على الحدودِ لتخيلتَ المشهدَ بِرُمَته، فهو كارثةٌ لا يعرف أحدٌّ إلىَ أيّن تذهب بالوطن العربي!
محمد عبد المجيد
وأما مجاورتي إياك فهي محض مصادفة لا تقلل من شأني ولا تجعلك نِدّا لي أو نظيرا ولو خرجتَ أنت من مطبعة ألمانية تحتضنها إدارة الجوازات والجنسية في بلدك كأنها ستطبع صور الزعيم لتعليقها فوق رؤوس موظفي الدولة في مكاتبهم.
الجواز العربي: إنني أحمل في أحشائي لغة جميلة، وأنا رغم مهانتي يعرفني أهل قومك على أن حاملي عربي وليس فقط مصريا أو فلسطينيا أو سوريا أو مغربيا أو لبنانيا.
إذا قام أحدهم بسرقتي فإن أجهزة أمن بلدي يتم استنفارها، ويصعب على السارق أن يقوم بتزويري، ويتعرض صاحبي لسبعين سؤالا من ضابط أمن المطار بُعَيّد وصوله بوثيقة سفر مؤقتة كبدل جواز ضائع!
الجواز الأوروبي: لكن صاحبك ترتعش يداه ، ويكاد يسقط مغشياً عليه لو تفحصّك ضابطُ الجوازات أكثر من دقيقتين.
أما أنا فأمرق كلمحِ البصر أو أقل في مطارات برلين وجلاسجو وهيراكليون ولارناكا وأنقرة ومدريد ومارسليا، بل يكتفي أحيانا ضابط الجوازات بالنظر إلى وجه حاملي كأنه يحمل مفتاحَ الجَنّة.
أحيانا أنام هانئاً في درج مكتب حاملي دون أنْ يرهقني بالسفر، فيصحب معه بطاقةَ الهويةِ لينتقل بين هولندا وبلجيكا، أو بين السويد والدانمرك، أو يذهب للتبضع من جنيف إلى الحدود الفرنسية وقد لا يحتاج حاملي إلى البطاقة الشخصية إنْ غادر أوسلو إلى الحدود السويدية، أو استقل سيارته من الفارو البرتغالية ليقضي المساء في إسبانيا.
أما أنت فما إن تقع عينا ضابطِ أمن المطار العربي على حامِلِك حتى تصيبه نوبةُ غضبٍ، وتبهت ابتسامتُه، ويتفحص وجهَه محاولاً العثور على تُهمةٍ لا أحسب أضعفَهم إلا قادراً على تلفيقِها.
قبل أن يتسلمك صاحبُك من إدارة الجوازات والجنسية يقوم بتخليص اجراءاتٍ كأنه سيهرب بك، أو سيلجأ إلى أول بلد أوروبي يستنشق فيه نسمةَ حرية ، ولا يقوم بزيارته زائرُ الفجر ولو قضى بقيةَ حياتِهِ في خيمةِ أمام قصرِ رأسِ الدولة محتجاً ومنتقداً السياسة العليا!
الجهات الأمنية في عالمك العربي تتعامل معك على أنك نجسٌ تختبيء في صفحاتِك جرائمُ حامِلك المجهولة منها والمعلومة، أما أنا فكتابٌ مقدسٌ يكاد يرفعه رجلُ الأمن في المطارات الأوروبية ويقوم بتقبيله إنْ كان حاملُه ذهبيَّ الشَعْرِ وأزرقَ العينين أو أخضرَهما!
الجواز العربي: إنَّ قيمتَك ليست فيك أو في صاحبك لكنها نتيجةٌ حتميةٌ لمصالح دولٍ مزقتها حربان عالميتان دفعتا لباطنِ الأرض بسبعين مليونا من البشر.
كان من الممكن أنْ أكون مثلَك لو لم تدعم حكوماتُكم طغاتنا فيقللون من شأن مواطنيهم، ويجعلون الوطنَ سجناً، فتنخفض قيمتي كما تنخفض العملةُ الخضراءُ في وول ستريت لو عبث في أيِّ بورصةٍ أحدُ الحيتانِ أو حجبنا عنكم براميلَ ذهبنا الأسّوَد.
في منتصف الستينيات عَلِمَ الرئيسُ جمال عبد الناصر بأنَّ مواطنيه يتعاملون من السلطات الألمانية ( الغربية ) آنئذٍ معاملةً غيرَ كريمة.
وجاءت توجيهاتٌ من الرئيس نفسه بمعاملةِ الألمان في منافذ مصر كلها معاملة سيئة حتى تصل الرسالةُ إلى السلطات في برلين الغربية.
وفجأة ارتفعت قيمتي، ولم تنفعك الدماءُ الزرقاءُ التي تجري في عروقِ صاحبك، أو حمايةُ الغربِ كله لوثيقةِ السفر الراقية!
الجواز الأوروبي: هذا هُراءٌ، فأمريكا اللاتينية كانت أحذيةُ العسكرِ تصنع جوازات السفر، والديكتاتور يهين شعبَه في الداخل ويدافع عن مواطنيه في الخارج، أما في عالمِك العربي فحاملُك تطارده سلطاتُ بلدِه ولو كان في مرتع الحرية مشاركاً في مظاهرة بالهايد بارك المحيطة بقصر صاحبة الجلالة.
حتى تركيا التي لا يزال الساركوزيون يتعاملون معها على أنها الرجلُ المريضُ قدّمتْ منذ سنوات احتجاجاً شديدَ اللهجةِ إلى السلطات الألمانية التي هددت بطردِ فتىً تركيٍ يبلغ الرابعةَ عشرة من عمره.
فهل هناك زعيمٌ عربيٌّ، إلا قليلاً، يدافع عن حامِلِك وكأن كرامتَهما واحدة؟
يحملني جندي أمريكي وهو متوجّه إلى العراقِ في حماية الاحتلال، ولا يستطيع وزيرُُ الداخليةِ العراقيِّ أن يلمسني، ولو شاهدني المالكي نفسُه فستتسع ابتسامتُه حتى لو كان حاملي قد قتل لتَوّهِ من العراقيين نصفَ سكانِ قريةٍ آمنةٍ مطمئنة.
يسلّمُك صاحبُك إلى كفيلٍ خشيةَ أنْ تهرب، أو تعود إلى بلدِك أو تبحث عن كفيلٍ آخر أقل جشعاً وطمعاً، ورغم أنه عربيٌ مثل حاملك إلا أنه يعاملك كوثيقةِ سفرٍ دنَّسَها الفقرُ، وتحمل بين طياتِها كرامةً تماثل قيمةَ حامليها العرب!
الجواز العربي: تُحَدّثني عن أمريكا اللاتينية ولعلك نسيت جوازَ السفر الأمريكي الدبلوماسي الذي يحمله سفيرُ البيتِ الأبيضِ في فنزويلا ولم تنفعه كل الأعراف الدبلوماسية فغادر البلادَ مطروداً، حتى سفير القطب الواحد في بوليفيا عجز جوازُ سفره أنْ يعطيه قيمةً أكثر من تلك التي ترفع مقامَ شابٍ ثائرٍ يعلق صورةَ جيفارا على الحائط فوق فراشه، فبكى السفيرُ مُلْكاً رأسمالياً ثرياً لم يحافظ عليه حفاظَ فقيرٍ ماركسيٍّ لا يجد قيمةَ بطاقةِ سفرً بين تشيلي وكولومبيا.
وهل نسيت جوازات السفر الخليجية الشقيقة وهي تتفتح لها قاعاتُ كبار الزوار في مطارات دمشق وتونس والقاهرة وبيروت والرباط و ..؟
إنك تعيش أوهامَ الحلم الأوروبي فتظن مساحةَ جيبِ حامِلِك الكبيرة والتي يدفع منهاا إكراميات للعاملين في منتجع شرم الشيخ وفنادق سوسة والحمّامات ومطاعم الدار البيضاء وسماسرة العقارات في بيروت واللاذقية تمنحك بياضاً ناصعاً، وترفع مقامَك لتَسْخَر بعدها من جوازِ السفر العربي.
الجواز الأوروبي: ومع ذلك فسأظل أنا الممثلَ الشرّعيَّ والوحيدَ لأحلامِ حامليكم، ولو تم استخراجُ جواز سفر سويسري أو ايطالي أو نمساوي أو برتغالي أو حتى مالطي لملياردير عربي لما تأخر في قبوله وتقبيله، وربما تعليقه مع خرز خشية الحسد والحاسدين!
إنَّ القيمةَ الكبرى في جواز السفر هي في كيفية تعامل أبناءِ بلدِ حامله معه، وفي المقدمةِ منهم رجال الأمن.
يستطيع حاملي إذا سرقني لصٌّ أن يتصل بقنصل بلده، فيفتح له بابَ السفارةِ من جديد إنْ كان في وقتٍ متأخر، ولا يطرح عليه سؤالاً أمنياً أو يعاتبه أو ينتقده، لكنه يستخرج له وثيقةَ سفرٍ في اللحظة نفسِها، ويكمل فترةَ اقامتِه، ثم يعود إلى بلده دون أن تفتح الجهةُ الأمنيةُ تحقيقاً مخيفاً معه.
في مطار أوسلو الدولي تكتشف عائلاتٌ كثيرة مسافرة أنها نسيت جوازات السفر بعد وصولها، والوقت لا يسمح بالعودة إلى البيت، وزحام السفر شديد في فترة العطلات المدرسية، ومع ذلك فسلطات المطار لا تعيد تلك العائلات والأفراد من حيث جاءوا، وتستكمل اجراءات السفر ببدل فاقد أو بالهوية الشخصية.
في معظم جوازات السفر الأوروبية والأمريكية والكندية تم الغاءُ خانة الوظيفة، فهي لا تعطيني قيمةَ أكثر من جنسيةِ حاملي، ولا يكترث ضابطُ الأمن في المطار إن كان حاملي وزيرا أو عاطلا عن العمل، أما أنت، جواز السفر العربي، فيبحث ضابطُ الأمن في صفحاتِك عن وظيفةِ صاحبِك ليعرف درجتَه في حرارة الاستقبال أو برودته، وفي اتساع ابتسامته أو تقطيبة وجهه!
أنت مترَقَب للوصول أو ممنوع من المغادرة بسبب أيّ هفوة يرتكبها حاملُك ولو كانت حُكْماً غيابياً في جنحةٍ لا تستحق ضياعَ وقتِ القاضي والمحكمة، أما أنا فجزءٌ من منظومة قررت مع العالمِ الغني أن يحمل كرامةَ الغرب كله بمجرد أن تقع عليّ عينا ضابط أمن الحدود.
صحيح أنَّ خانة الوظيفة تم حذفُها والاستغناءُ عنها، ويشرّفني أنَّ صفحاتي ليست بها أختامٌ إلا إذا سافرت إلى عالمِكم العربي أو الأفريقي أو دول جمهوريات الموز.
الجواز العربي: وهل تظن أن فخري لأن عالمي العربي يقع بين أغادير وطنب الكبرى، وبين مقديشيو والمحمرة لا يجعلني انخرط في البكاء بين ألفينة والأخرى متمنّياً أنْ أمرق مثلك كالريح في مطارات صنعاء والرياض وعَمّان وبغداد ودمشق وتونس والجزائر والقاهرة والدوحة وجدة ونواكشوط والمنامة؟
لقد أتى علينا حين من الوقت تَمَنّىَ فيه حاملونا أن يكون الوطنُ العربي واحداً، وأنْ لاا يحتاج المواطنُ لأكثر من هويةٍ شخصيةٍ وهو يجلس في قطارٍ سريعٍ يستقله في أغادير ويمر عبر مراكش فالرباط ثم يتوجه إلى الجزائر، ومنها تمتد قضبانُه إلى وهران ليشمّ الركابُ رياحاً قادمةً من تونس الخضراء، ولا يمر وقت طويلٌ حتى يعلن الوصولَ إلى طرابلس الغرب.
وينزل ركابٌ، ويصعد آخرون فالقطار متوجّه إلى طبرق فالسلوم فمرسى مطروح فالاسكندرية ، ولا يزال الطريق طويلا وممتعا ووحدوياُ، وسيمر عبر فلسطين ومنها إلى العاصمة الأردنية ليُسْرع بعدها إلى بغداد فيتجه إلى سورية أو الكويت أو تركيا!
لكنَّ حامليك هم الذين تسببوا في جعل قيمتي لا تساوي صفحاتي، فوقفوا مع الطغاة، وساندوا الزعماءَ الارهابيين، وغضّوا الطرفَ عن لصوصِ الشعوب، وتعاونت مخابراتُهم مع أسيادِ القصر، وصنعوا منذ ستين عاما كياناً استيطانياً في فلسطين ليمزق عالَماً عربياً كان يحلم بخروج المستعمِر المؤقت فاستبدلتم به استعماراً دائما.
الجواز الأوروبي: أشفق عليك من هول ما رأيت، فحاملُك إنْ ثقلت عليه الدنيا بما خَفّتْ ورحبت لعَنَك كأنك سببُ تعاستِه، وإنْ استبدل بك جوازَ سفرٍ من بلادنا كان يومَ عيدٍ له ولكل الحالمين معه.
أراك وقد اعتصرَك العَرَقُ، وهَلكتْ صفحاتُك من كثرةِ التقليبِ فيها والختم عليها بغضبٍ وقسوةٍ، واسوَدَّتْ حوافُك مِنْ طول الامساك بها والعبث فيها بأصابع في كفٍ اعتاد أن يصفع المواطنَ على وجهِه أو قفاه!
ليس لك أملٌ أنْ تصبح مثلي قبل أنْ يَعْصي حاملوك مُهينيك، فكرامتُك من كرامةِ من تنتسب إليه.
الجواز العربي: لو عشتَ يوماً واحداً مثلي في يدِ كفيلٍ أو ضابطِ أمنٍ عسكريٍّ على الحدودِ لتخيلتَ المشهدَ بِرُمَته، فهو كارثةٌ لا يعرف أحدٌّ إلىَ أيّن تذهب بالوطن العربي!
محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
طائر الشمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق