24‏/04‏/2016

حوار بين مستشار و .. ابنه!

المستشار: أحسبُ أنك تحسب الأيام والساعات حتى تحصل على ليسانس الحقوق، وهديتي لكَ ستكون منصباً كبيراً في السلك القضائي.
الابن: لكن بعض الناس يقولون بأن الشروط تعجيزية، وأنتَ تعرف، يا أبي العزيز، أن لغتي العربية لا تسعفني في جملة واحدة سليمة، وأنني عدو لـَـدودٌ للكتاب، فكيف سأقرأ أوراق قضية والتي قد تصل إلىَ عشرات الصفحات؟

المستشار: اللغة العربية السليمة في السلك القضائي كانت في غابر الأزمان، أما الآن فيكفي أن تـُـميــّـز بين الألف والعصا، ولكَ في عمو أحمد رفعت أسوة حسنة، فقد قرأ ستين ألف صفحة وحــَـكـَـم بالبراءة على جمال وعلاء مبارك. وقرأ الحُكم على المخلوع الذي تابعه مئات الملايين، فلم يتمكن من نــُـطق كلمة واحدة بلغة عربية صحيحة.
الابن: وهل العدل مطلوب فعلا في المحاكم المصرية؟

المستشار: هذه أحاديث الساذجين المؤمنين بحقوق الإنسان والأخلاق والمباديء، أما في السلك القضائي المصري فلن تحتاج إلى منظومة القيم الرفيعة، فنحن نحكـُـم بالبراءة على ضباط التعذيب، وعلى مساعدي الجزار حبيب العادلي، وعلى المتهمين بقتل وانتهاك الحرمات، وكل المجرمين أكبر مـِـنـّـا ما داموا ملتصقين بالسلطة التنفيذية والمال، وأحمد فتحي سرور وصفوت الشريف وأحمد نظيف وغيرهم سيخرجون واحدا تـِـلو الآخر.
الابن: ولكن هل يمكن أن أتعرض لمحاكمة؟

المستشار: انصت إليَّ جيداً! نحن في السلك القضائي متضامنون في السراء والضراء، هل تتذكر يوم أن ضرب أحد ضباط عهد مبارك زميلا لنا بالحذاء على وجهه؟ لقد بلعنا كرامتــَـنا وقطعنا ألسنتنا جميعا. هل تابعت حكاية النائب العام وكيفية خضوع رئيس الجمهورية في النهاية، وخرج من قصر الرئاسة مرفوع الرأس رغم أن الدنيا كلها تعرف أن مصر في حالة ثورة، ومن أهم مطالبها خلع النائب العام.
إن لدينا مئات الآلاف من القضايا العاجلة التي نقوم بتأجيلها مرات عدة حتى يضيع الحق أو .. يموت صاحبه.
لن يحاكمك أحد، ولن يحاسبك مخلوق في مصر كلها على ظــُـلمــِـك، وعلى لـُـغتــِـك الرديئة، ولا تصدق الكلمة المرفوعة فوق رأسك "وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل" فقد قال زميل لنا بأن ستة وتسعين بالمئة من أحكام القضاء المصري مشكوك فيها.
الابن: ماذا لو حصلت على درجة مقبول في الليسانس، فهل هذا يعني أنني سأنضم لجيش العاطلين عن العمل؟

المستشار: ابن الزعيم زعيم، وابن الطبيب طبيب حتى لو كانت معلوماته أقل مما يعرف تمرضي مبتديء، وابنة الإعلامي الشهير تقرأ عليك نشرة الأخبار بلغة طالب في الثانية الإعدادية ولا تعرف عواصم الدول العربية، باستثناء دمشق وبيروت والرياض، وابن الدبلوماسي يحجزون له سفارة في عاصمة أوروبية قبل نقله إليها بعشرين عاماً، وابن الأستاذ الجامعي يحصل على درجة أقل من مقبول ويصبح معيداً يتلقى المديح من رئيس الجامعة على عبقريته.
نحن دولة يرث فيها الابن المنصب والمال والحسب والنسب والأصدقاء والمديح حتى لو كان متخلفاً عقلياً، ومعاقاً ذهنياً، فلا تكترث للغوغاء الذين يُصـَـدّعون رؤوســَـنا بالحديث عن الكفاءات.
الابن: أتفق معك، أبي العزيز، فأنا أعرف زميلا في كلية الصيدلة ولم يتخرج بعد، لكن والده وعده بالعمل مُعيداً فور تخرجه في مقابل أن يعمل نائب عميد الكلية مستشاراً في صيدلية والده!

المستشار: الآن بدأت تفهم آلية عمل ما يطلق عليه الحاقدون علينا الفساد في مصر، لكن الحقيقة أننا أسياد ولا نسمح أن يحتل المراكز العليا في الدولة من قضوا سنوات أعمارهم منكبّين علىَ الدراسة ليتفوّقوا علينا.
الابن: أريد أن أصبح وكيل نيابة في العام الأول، وأن أتمتع بكل الامتيازات التي يسيل لها لعاب الكثيرين.


المستشار: لو كانت لدينا محاكم خاصة لما ترددت هـُـنيّهة في أنْ أنشيء لكَ محكمة صغيرة وأنيقة بثلاثة طوابق، وإذا أردت أن تحكم بالإعدام كل يوم على المتهمين أو بالبراءة قبل أن تقرأ ملفات الاتهام فلن يمنعك أحدٌ من ذلك، بل أستطيع بحكم علاقاتي المتشعبة أن أرسل لك عشرات المتهمين تأمر بإعدامهم إذا كنت ترى مُتعة في هذا!
الابن: شكرا لك، أبي الحبيب، فأنت أعظم أب في الدنيا. وأنت مــَـثــَـلي الأعلى، وإن شاء الله أرفع رأسك بكل صور الظلم على هؤلاء المصريين الذين يتبجحون ليلا ونهارأ بالقضاء المصري الشامخ والنزيه.

المستشار: لن أذكر لك عن المفاجآت القادمة في أحكام القضاء المصري فهي من التي يشيب لها شعر الجنين في بطن أمه، وستتعلم، ابني العزيز، أن الآية القرآنية الكريمة المرفوعة فوق رؤوسنا هي للزينة فقط، لكنها لا تدخل القلوب، ولا تعترف بها ضمائرنا.
الابن: وماذا عن القضاة والمستشارين الشرفاء والأمناء والخاشعين للعدالة، ألن يعكروا علينا صفو متعة الظلم التي نتوارثها؟

المستشار: هؤلاء قلة لم يتمكن عهد الديكتاتور مبارك من كسر شوكتها، ولم يفلح المشير من إسكات ضمائرها، ولم يــُـؤَخـْــوّنها الرئيس مرسي، فهم يطمعون في رضا الله والشعب والتاريخ، أما نحن، الأغلبية الساحقة، فنملك مفاصل الدولة، ورقاب الشعب، وملفات رفعها مظلومون لنعدل فيها .. فعدلنا عنها.
الابن: لكن ما يحيرني هو أن كبار المثقفين والمتابعين والإعلاميين والحزبيين والسياسيين ورجال الدينين الإسلامي والمسيحي يصرخون في آذاننا كأنهم يُقيمون الصلاة، ويخشعون أمامنا مؤكدين إيمانهم بقضاء مصر العادل والشامخ والنزيه!

المستشار: دعهم في سذاجتهم يعمهون، فهذا الإكليشيه الذي يحفظونه ويرددونه كالببغاوات جعل كل مصري يعيش على أوهام عدالتنا، فنهبط بالمطرقة لنعلن الحُكم الذي يلطم بعده صاحب الحق وجهه وقفاه حتى يزرّق الأول و .. يــَـحـْـمـَـرّ الثاني!
محمد عبد المجيد
عضو اتحاد الصحفيين النرويجيين
أوسلو النرويج

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...