22‏/01‏/2014

أقباطنا .. شركاء الوطن، حقوقهم واجباتنا

رؤيتي لهموم أقباطنا عام 2001
 
أقباطنا .. شركاء الوطن، حقوقهم واجباتنا
 
الدخول إلى المنطقة الوعرة في النسيج المصري تحتاج إلى تصريح نفسي وفكري ووجداني واستعداد كامل للتعرض لأشد أنواع النقد إيلاما، فالمنطقة القبطية في المشهد المصري، ظلت تسبق الدخول إليها أو الحديث عنها أو الإشارة لبعض مشاكلها علامات استفهام من المسلمين والأقباط والأمن والسلطة العليا، والسبب أنها تمس وترا حساسا يضيق به الجميع، ولا يتسع له صدر أي فئة، وتراه السلطة تدخلا في شؤونها بحكم ثقافة الوصاية التي تتحكم في معظم شؤون حياتنا.
وعورة المنطقة القبطية في النسيج المصري تزداد صعوبة عندا تسيء السلطة فهم أي طرح، فتتولى على الفور تقسيمه ما بين مؤيد لمطالب غير عادلة ومعارض لمطالب عادلة
!
هناك أيضا حالة شبه يأس تنتاب جميع قطاعات الشعب ناتجة عن مئات التجارب الواقعية التي تثبت حقيقة عدم اكتراث السيد الرئيس لأي نداء أو صراخ أو شكوى، وهو أمر لا يتعلق بأقباط مصر فقط، لكنه حالة عامة صبغت الحياة اليومية المصرية وعلى رأسها علاقات رئيس الدولة بمواطنيه، فسياسة الرئيس تقوم على "تجنب وجع الرأس" بمشاكل المصريين التي لا تعد ولا تحصى، حتى لو وضع مستشاروه ورجال الأعمال وأجهزة الأمن تقارير على مكتب سيادته بأن وزيراً متورط في قضايا فساد، فإن السيد الرئيس سيزيحها من أمامه كما أزاح من قبل عشرات التقارير عن المستشار إسماعيل الجوسقي وكمال الشاذلي ويوسف والي وماهر الجندي وفهيم الريان وغيرهم، فالمصريون كما يراهم الرئيس لهم رب يحميهم
.
نحن نكتب انطلاقا من إيمان برسالة سامية تؤديها صاحبة الجلالة السلطة الرابعة، ولكن لايخالجنا أضعف الإيمان بأن الرئيس يمكن أن يستجيب لهموم مصرية أو مطالب من رعاياه
.
نكتب عن هموم قبطية من منطلق إسلامي علمنا إياه الدين الحنيف، فحقوق أقباط مصر ينبغي أن لا تختلف قيد شعرة عن حقوق مسلميها
.
وأقباط مصر ليسوا طائفة أو أقلية أو عنصرا آخر من عناصر الأمة لكنهم مصريون فتحوا للمسلمين صدورهم وعقولهم منذ أكثر من ألف عام، وفضلوا الاحتفاظ بدينهم ولم يتأخروا عن الذود عن وطنهم، معقل الإسلام، وهم بالتالي ليسوا أهل ذمة أو رعايا دول أجنبية وإنما موطنون لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم نفس الواجبات
.
التسامح هو القيمة الكبرى التي تحفظ للوطن قدسيته وأمنه وسلامه، ولكن هذه القيمة تراجعت كثيرا منذ أن بدأ الرئيس الراحل أنور السادات في تغذية التطرف الديني وإذكاء نار الفتنة الطائفية، وبدأت الجماعات الإسلامية باكتساح قيم و مبادئ الوطن لتحل محلها نعرات طائفية وعنصرية وكان أمرا طبيعيا أن أفعى التطرف والتزمت والتشدد التي أخفاها الرئيس الراحل في صدره قد لدغته أولا ثم توجهت لتمزق أجزاء من الوطن في صورة الإرهاب وقتل السياح ومهاجمة الأقباط ومطاردة المفكرين والأكاديميين والإعلاميين
.
المرة الأولى التي قرأت فيها الوصايا العشر لجماعة الإخوان المسلمين كانت منذ خمسة وثلاثين عاما(1965) وقفت صامتا ومندهشا أمام المبدأ التاسع الذي يقول: احرص على أن لا يقع القرش إلا في يد أخيك المسلم
!
وهي دعوة عنصرية طائفية تناهض تماما مبادئ الإسلام العظيم، وتقف علي النقيض من دعوة نبي الإسلام محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، الذي يوصي خيرا بأقباط مصر ويؤكد بأن خصومهم هم خصوم النبي الكريم يوم القيامة
.
المشكلة هي في أن الدولة لا تعترف بعدالة مطالب الأقباط وتحيل القضية برمتها إلى وزارة الداخلية واعتبارها قضية أمنية وقد صرح الرئيس حسني مبارك في أكثر من مناسبة بأنه لا توجد أي مشاكل قبطية في مصر، وهو تصريح ليس غريبا فالرئيس نفسه لا يرى أن في مصر أمية وأن وسائل إعلام صفوت الشريف تقوم بتلميع التطرف الديني وأن هناك مليوني مواطن من رعاياه يقطنون المقابر مع الأموات وأن المصري هو أرخص مواطني العالم الثالث في الغربة وفي الوطن، وأن كرامة المواطن المصري في عهد سيادته تقل عن الصفر كثيرا عندما يلقي به حظه العاثر بين يدي ضابط شرطة في الريف أو في صعيد مصر.
الرئيس لن يرى مشاكل أشقائنا أقباط مصر أو يلمس أوجاعهم أو يخفف من آلامهم أو أن يقف بحزم في مواجهة أي تمييز يتعرضون له لأن البعد الإنساني في رؤية سيادته منذ أن تولى حكم مصر بقانون الطوارئ غير موجود بالمرة وبالتالي فإن أقباط المهجر لا يختلفون عن المصريين- مسلمين ومسيحيين- الذين تعرضوا للظلم والبغي والنهب والسرقة والعدوان في العراق والأردن وليبيا، فسياسة الرئيس تقوم على أن لا كرامة للمصريين تستحق أن يستنفر من أجلها أو يرهق نفسه أو يعقد اجتماعا طارئا أو يوصي زبانية التعذيب في أقسام الشرطة بأن يخففوا قليلا من نعالهم التي تدوس على كرامة رعاياه ومواطنيه.
أقباط المهجر الذين تجاوز عددهم المليون مصري، والذين تجنس أكثرهم بجنسيات وطنهم الجديد، هم امتداد عضوي وفعال لأبناء الوطن من مسلمين ومسيحيين، ومطالب أكثرهم لا تخرج عن تحقيق العدالة في كل صورها ورفع قيمة المواطنة ومحاربة التطرف الديني بإعلاء شأن التسامح وتحقيق عدالة توزيع الوظائف وفقا للكفاءة والشرف والنزاهة
.
والاحتفاظ بالخط الهمايوني، مثلا ، الذي نقل الرئيس صلاحيته إلى المحافظين يخالف تماما الدستور الذي ينص علي احترام العقائد، فلا يعقل أن ينظر المحافظ في طلب ترميم كنيسة أو إصلاح دورة مياه بها
.
والمواطنة ليست مــِـنـَّـة أو منحة أو هدية أو تبرعا من الحاكم للمحكوم، وليس من حق أي مسئول التمييز في التعيين بمناصب الدولة الكبرى، والمفترض وفقا لكل صور العدالة أن لا تقف طموحات المواطن المصري القبطي أو أحلامه أو آماله عند حد معين أو وظيفة لا يتخطاها أو منصب لا يمدّن عينيه لأبعد منه، فينبغي أن تكون كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها للمواطن القبطي حتى لو رشح نفسه رئيسا للدولة الإسلامية كما كان عيدي أمين دادا المسلم رئيسا لأوغندا المسيحية
.
التمييز هو الاستعلاء والذي يؤدي بالتالي إلى نفي الآخر نفيا تاما، فكريا وعقائديا، من منطلق الخلاف على صورة الإيمان بالدين، وأنا في الواقع كمسلم أعرف ديني جيدا بفضل الله وأعتز به وأومن عقلانيا وعاطفيا ويقينيا بالإسلام الحنيف ولا تستطيع أي قوة مهما أوتيت أن تزايد عليّ في علاقتي بالله عز وجل أو تنتقص من قدر فهمي لتعاليم الإسلام العظيم، أرى أن كل حقوقي الإسلامية ومواطنتي يجب أن يتمتع بها أخي القبطي بدون استثناء حتى لو أراد المواطن القبطي المسيحي المتشدد أن يلتحق بكلية أصول الدين وبتخصص في الشريعة ويرتدي الجبة والعمامة، فضلا عن كل مناصب ووظائف الدولة مع استثناءات قليلة جدا وهي المناصب الخاصة بممارسة الشعائر الإسلامية. هذا هو الإسلام الذي أعرفه وأحبه وأتمسك بتعاليمه واسترشد بقرآنه المجيد وبسنة نبيه، صلوات الله وسلامه عليه، وهو الإسلام الذي يضفي حمايته على المسيحيين والمسلمين بنفس القدر دون فرق أو تمييز
.
لا أظن أن القضية المطروحة ستؤتي ثمارها في عهد الرئيس حسني مبارك ولو أن هناك طيفا صغيرا من الأمل في استجابة الرئيس لما ترددنا في التأخر سنوات للكتابة عن هذه الهموم المصرية، فهناك مثلا عدة آلاف من المصريات اللائي تزوجن من مواطنين غير مصريين، وتتعامل الدولة مع أبنائهن تعاملها مع الأجانب تماما، على الرغم من أن ابن المواطنة المصرية قد خرج إلى الدنيا في أم الدنيا ولا يعرف وطنا آخر غير وطن والدته ولا يتحدث بغير لغتها ولا يدين بالولاء لأي مكان آخر غير مصر، ولكن الرئيس حسني مبارك يرفض فكرة منح أبناء المصرية جنسية أمهم ووطنهم وبلدهم
!
عشرون عاما من حكم الرئيس حسني مبارك ولم يفكر للحظة واحدة في منح مواطنيه من أقباط مصر حقوقهم المشروعة وفي مقدمتها الوصول إلى أي منصب أو وظيفة وفقا للكفاءة والشرف، فنحن نبحث عن محافظ قبطي أو وزير في وزارة أو مسؤول كبير في أمن الدولة أو مستشار للرئيس أو قيادة إعلامية، وتكون نتيجة البحث خيبة أمل وحزنا عميقا على البلد الذي امتص لآلاف السنين حضارات وتعاقبت على حكمه مئات من الأسر الأجنبية القادمة من خارج الوطن، وظلت مصر بمنأى عن أي خطر حتى لو جاس الاستعمار الفرنسي في أزهرها الشريف أو دنسها الاستعمار البريطاني لسبعين عاما أو حكمها الأتراك العثمانيون مئات الأعوام
.
إن أول مظهر من مظاهر التمييز ضد أشقائنا الأقباط يبدأ في الفكر الاستعلائي الذي يلغي الآخر أو يهمشّه أو يراه مواطنا من الدرجة الثانية أو يربطه بالغرب برباط ديني مسيحي، وهذا الفكر الاستعلائي يقوم على محورين: الأول إعلامي بتغييب التواجد القبطي مقابل تلميع وجوه متعصبة ومتخلفة ونصف أمية تتوجه إلى الأمة بأحاديث دينية مليئة بالكراهية ومفعمة بالحقد وتساندها فتاوى عمر عبد الكافي وعمر عبد الرحمن والمرحوم الشيخ عبد الحميد كشك وبقية الكتيبة التي لا تساهم قط في تقدم الأمة، إنما تحرض على التفرقة والتميز الديني، وتقوم بعملية تغييب كامل للوعي عن طريق طرح جديد للإسلام يخلط العنف بإقامة الحدود بحجة أن الإسلام جاء لإعلاء شأن المسلمين بأي وسيلة يوفرها استعراض القوة لإنزال الرعب في قلوب أعداء الدين
!
في مصر اليوم تم استبدال الشيخ يوسف البدري بالإمام محمد عبده، وأفسح التلفزيون المجال لأنصاف الأميين لقيادة الجانب الروحي للأمة، وبدلا من تقديم تصورات إسلامية واقعية ومستنيرة عن رؤية هذا الدين الحنيف للأمية والبلهارسيا وتسديد الضرائب للدولة والغش والفساد والرشوة والاستيلاء على أراضي الوطن، انشغل الإعلام بزواج المسلم من جنيــّـة واللجوء إلى العفاريت لوضع حلول للمشاكل النفسية والعصبية، وتوجيه كم هائل من الكراهية لأشقائنا أقباط مصر وقد تغلغل هؤلاء المتخلفون إلى دور الحضانة والمدارس والجامعات في محاولة لتربية أجيال تعتبر المجتمع في جاهلية حتى أن بعضهم يرفض تحية العلم ويراها وثنية، ومن هنا بدأ العد التنازلي لأخطر طوفان قد لا يبقي ولا يذر على الأرض الطيبة وذلك بتراجع فكر التسامح واعتبار المسلمين في حالة حرب مع المجتمع وجاهليته وقيمه ومبادئه وفنونه وآدابه وعلمائه وأيضا أقباطه المصريين الذين عاشوا بيننا لأكثر من ألف عام ورفضوا كل صور التعاون مع الاستعمار الغربي المسيحي
.
عندما يهل شهر رمضان المبارك يخجل كثير من أشقائنا الأقباط من تناول الطعام جهرا، بل إن البعض يشارك المسلمين صيام الشهر الكريم حفاظا على مشاعر الإخوة في الوطن، ثم تراجعت هذه المشاركات الجميلة في زمن أسود تلغى فيه الطائفية الطرف الآخر، ويرفض أصحاب خاتمة الديانات السماوية حقوق أشقائهم من أهل الكتاب الذين يراهم القرآن الكريم الأقرب مودة لأن منهم قسيسين ورهبانا وهم لا يستكبرون
.
مصر في حاجة إلى ثورة حب وتسامح تعيد للوطن رونقه واشراقته ووجهه الجميل وتلك الثورة لن يقودها صبيان التخلف والعنصرية المقيتة وخطباء الهوس الحقدي
.
إن مطالب الأقباط المشروعة لا غبار عليها وهي صورة من صور العدالة وحق لهم على المسلمين بعد مئات من الأعوام جنبا إلى جنب للدفاع عن مصر
.
إن الله، العلي القدير، ليس منحازا لأحد، وكلنا سنأتيه يوم القيامة فردا، وميزان الحسنات يوم الحشر هو لصالح المتسامحين فقط
.
الدين ليس حالة عقلية فقط أو اختيار حر لكنه وراثة لا قبل لأحد برفضها إلا أن يكون قد بلغ سن الرشد وقرأ وبحث وأعاد اختيار دينه أو انتقل إلى دين آخر، وأي شخص يظن أنه اكتسب مسبقا مكانا في الجنة لأن والدته أرضعته مع حليبها مبادئ دين ما، هو مخطئ حتما
.
في باكورة شبابي كنت مولعا بمقارنة الأديان، وقرأت كثيرا جدا في الإسلام والمسيحية، وبدأت في وضع كتاب عن المقارنة بين الدينين، وقطعت شوطا كبيرا منه. ثم ذهبت إلى القاهرة للقاء الشيخ محمد الغزالي( 1969)، رحمه الله، وكان مراقبا عاما بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لأبلغه بكتابي وأستهديه بعض الآراء وأعقب على كتابه عن المسيحية والإسلام. وكان لقاءا رائعا لازلت أتذكر كل تفاصيله فقد كان الشيخ الغزالي واحدا من أربعة تأثرت بهم فكريا والتهمت كل مؤلفاتهم وكان الثلاثة الآخرون هم مصطفى صادق الرافعي والنمساوي محمد أسد صاحب كتاب " الطريق إلى الإسلام" ورابعهم المفكر العظيم مالك بن نبي
.
ولم يقدر لي القدر تكملة كتابي، ومرت السنون وتولى الزمن بطريقة مختلفة تماما رسم مشهد جديد للنضج لا تفريط به في قيم الدين ولا استعلاء به على الآخر.

إن فهمي للإسلام جعل المسافة بيني وبين كل الجماعات الإسلامية تقريبا كالبعد بين المشرقين، ففي نفسي أيضا نفور شديد من كل الذين استخرجوا عنوة من دين التسامح قطعا من الليل مظلمات وخلطوها بعنف وكراهية وأحاطوها بهوس جنسي يرى فيه المسلم العالم كله امرأة وشهوة وعورة.
حتى عندما اختلف شاربو الدماء مع الدكتور نصر حامد أبي زيد ومع الدكتورة نوال السعداوي لم يجدوا غير تفريق الزوجين عقابا لعدم طاعة أمراء الجماعات الجدد، فإسلامهم الذي اخترعوه يرون من خلاله العالم كله شهوة وسوطا لاذعا ورجما بالحجارة في خليط عجيب من اللذة السادية والسرقة ويمارسون كل صنوف الضلال والنهب والاعتداء على الأقباط وتحريم الموسيقى والجمال والخير والإبداع، وتكفير المسلمين قبل تكفير أشقائنا أقباط مصر
.
الإسلام الذي أعرفه قائم على الهدي والتسامح والمساواة بين البشر ورعاية حقوق الغير وحرية العقيدة وهو مبدأ قرآني مجيد ينبغي أن لا يحيد عنه أي مسلم لوضوحه الشديد ولأنه أتى في صيغة أمر لكل المسلمين " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" بل إن الأمر الإلهي العظيم توجه إلى نبيه الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، " وما أنت عليهم بمسيطر
".
إن حرية العقيدة مبدأ ثابت في الإسلام يجب على كل من يؤمن بهذا الدين أن يطيعه طاعة خالصة، ونخلص منها إلى أن من يعيش بين المسلمين ينبغي أن يتمتع بكل حقوقهم وأن يلتزم بكل الواجبات غير الدينية التي تسبق الحقوق
.
إن تاريخ الكنيسة القبطية في مصر ليس ملكا خالصا لأشقائنا الأقباط لكنه ملك أيضا لكل مسلم يفتخر به، ويعلم أولاده نضال القبط ضد قوى الإلحاد الرومانية واختيارهم على مدى مئات الأعوام الجانب الإسلامي في كل حملة استعمارية تعرضت لها أرض الكنانة
.
من أبسط حقوق أشقائنا أقباط مصر المساواة الكاملة في الوظائف والتعليم والمناصب والسفارات والإعلام، وأي دعوة تجعل موقعا معينا مقتصرا على المسلمين فقط لا تختلف في قليل أو كثير عن العنصرية التي كان البيض يمارسونها في جنوب أفريقيا ضد السكان الأصليين الذين لوحت شمس القارة السمراء وجوههم
.
قطعا هذا النداء ليس موجها للسيد الرئيس حسني مبارك فلو انقلبت مصر عاليها سافلها فلن يستبدل سيادته الذي هو خير بالذي هو أدنى،ولو قبــَّـل المصريون كلهم حذاء سيادته ظهرا وبطنا فلن يغير عشرات من المسؤولين والوزراء والمحافظين وزبانية التعذيب في أقسام الشرطة وسيظل إلى آخر يوم في حكمه، يحكم بقانون الطوارئ ويرى مطالب المصريين عبثا، وعبئا على سيادته ، وإذا اجتمعت الأمة كلها على ضرورة تغيير مسؤول وهي في الواقع مصدر السلطات كما جاء في الدستور، فإن السيد الرئيس حسني مبارك سيهزأ بهم ويجدد للمسؤول عدة سنوات أخريات، وكلنا نتذكر اعتكاف الرئيس في برج العرب شهرا كاملا يداعب فيه آمال وأحلام المصريين في حكومة جديدة قائمة على الكفاءة والنزاهة والشرف، وينهض بها شباب الوطن وعباقرته، وظن الساذجون والطيبون أن الرئيس في ولايته الرابعة سيضع مقاييس جديدة لقيادة الأمة
.
وخرج سيادته بعد شهر كامل ليحتفظ بتسعة عشر وزيرا، أكثرهم أثبت فشلا ذريعا، وليؤكد لشعب مصر كلها أن رجاله فوق أي اعتبار. فكيف إذن سيرى الرئيس مطالب أشقائنا الأقباط في الوقت الذي أطاح من أمامه مطالب كل المصريين؟

من أهم هموم الأقباط صعوبة الحصول على تصريح ببناء الكنائس، وفي الحقيقة ودون الدخول في متاهات إحصائية تؤكد من خلالها الدولة أن التصريحات كانت كافية ويرفض فيها أشقاؤنا الأقباط بيانات السلطة كجزء متعارف عليه من الرفض الشعبي لأي إحصاءات، فقد تعلم المصريون من تجاربهم أن بيانات الحكومة غير صحيحة
.
ونحن نسأل بدورنا عن الخسارة التي ستلحق بالدولة الإسلامية لو تم بناء مئات من الكنائس لأبناء الوطن تكون عونا للمسيحيين في اللجوء إلى الدين وطلب الأمن والسلام والعبادة سواء تعارض هذا مع المفهوم الإسلامي أو أثار حفيظة بعض المتشددين؟

ما هو الخطر الذي ستتعرض له الدولة الإسلامية لو وافقت السلطة على تصريح بناء كنائس لأبناء الوطن من الأقباط؟ إن وجود عشرين كنيسة بجوار مسجد واحد لن يؤثر في إيمان المسلمين ولن يجعل عدد المسيحيين يزداد، بل سيكون الأمر سهلا للأقباط في الدخول إلى مكان العبادة واللجوء إلى الدين طلبا للحماية من الأخطاء والخطايا
.
يحتاج المسلمون إلى ثقة بالنفس وبالدين بعيدا عن التشنج العصبي الذي يلغي الآخر وعقيدته في الوقت الذي يتلقى غير المسلمين من تعاليم الإسلام السمحاء كل عون ودعم ومباركة في عقائدهم وإيمانهم وصلواتهم..

 
الإسلام في خطر مادام المسلمون بعيدين عن روحه المتمثلة في المحبة والتسامح.وأوّلىَ الناس بعطاء القلوب الدافئة التي عـَـمَّرها الإيمان وتعاليم القرآن المجيد وسنة نبيه الكريم، صلوات الله وسلامه عليه، هم أشقاؤنا الأقباط، وأنا لا أظن أن هناك مسلما يحمل ضغينة في قلبه لجاره القبطي ثم يقف أمام الله خاشعا من رهبة الوقوف بين يدي من لا يمسك خزائن الرحمة عن عباده.
 
ومن الكنائس إلى قضية التوظيف وكنا نأمل أن تضرب الدولة ممثلة بالسيد الرئيس الحاكم العسكري المثل في المساواة بين كل المواطنين، ولكن سيادته يري أن كمال الشاذلي وفتحي سرور وممدوح البلتاجي ويوسف والي وصفوت الشريف وقبلهم إسماعيل الجوسقي ومحيي الدين الغريب وماهر الجندي هم أقدر على قيادة الدولة من كل مسلمي مصر وأقباطها، فكيف نطلب من الرئيس المساواة ؟
إن إشكالية فكر التمييز لم تبتدعه الجماعات الإسلامية الجديدة والتي خرجت من عباءة الإخوان المسلمين، لكنها تربت في أحضان الإعلام بعد أن ألقت بذورها في المدارس والجامعات وكتب الدراسة والنماذج والأمثلة في نصوص كتب الأدب والتراث والدين التي وضعها للأسف الشديد أناس تربويون يظنون أن مفاتيح الجنة يسلمها رضوان للمسلمين فقط، وتناسوا عن عمد أن الله، جل شأنه، رب العالمين، وأنه يختص برحمته من يشاء
.
إن غياب التاريخ والثقافة والتراث والتاريخ القبطي من مناهج الدراسة المصرية هي خسارة للتلميذ والطالب المسلم بحجب فترات مشرقة من تاريخ وطنه، وخاصة تلك التي تشهد بأن انحياز أقباط مصر إلى الجانب الإسلامي في الغزوات والمحن والأزمات كان أمرا مبدئيا وخالصا لوجه الوطن الذي لا تفرق نيران العدو بين قلوب أبنائه، إن كانت تحمل هلالا أو صليبا
.
هل يعقل أن تكون هناك مئات المراجع عن أقباط مصر وتاريخهم وكنيستهم وتراثهم في العالم الغربي، فإذا بحث المرء ونقــَّـب في مكتبات مصر سيجد المراجع

من نوعية الرد على النصارى، وانجيل برنابا، وحُكم موالاة غير المسلمين، هذا فضلا عن آلاف من الخطب الدينية الهستيرية الداعية إلى تمييز أكثر حدّة وشبه فصل تام بين أبناء الوطن الواحد والذين لا فضل لأي منهم في اختيار رحم والدته
.
وقبل أن أكمل مقالي عن حقوق أقباط مصر المشروعة وتعاطفي الشديد مع أبناء وطني الذين ينتمون إلى الكنيسة القبطية..معقل النضال مع الأزهر الشريف ضد قوى البغي والعدوان، أحب أن استبق أي أحكام تصدر أو سوء فهم متعمد سينفي عن الأقباط كونهم ملائكة لا يخطئون، بأنني أرى أن من صور التمييز، الإيغال في الخشية من مشاعر الاضطهاد لدى الآخر، بمعنى أن الأقباط كالمسلمين تماما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، وأن من بين مئات الآلاف من الأقباط في المهجر- وهم امتداد للوطن بمسلميه ومسيحية- هناك أيضا أشرار حاقدون ومتطرفون في كراهيتهم وأخص بالذكر أصحاب موقع بال توك على الإنترنيت المسمى" المسيح هو الله" الذين يقذفون بألسنتهم حمما من الكراهية المقيتة ضد القرآن الكريم ونبي الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، والمسببة للقرف والغثيان وكان آخرها إذاعة أغنية عفنة تمثل حفل زفاف ما أطلق عليه هؤلاء الأوغاد"محمد يتزوج الطفلة عائشة
".
والحمد لله أن هؤلاء أقلية لا تمثل أشراف مصر من أقباط المهجر, وأنها لا تؤثر في الامتداد العضوي والروحي والثقافي لهذا الجزء الهام من نسيج الأمة. ويحدوني أمل كبير أن يصدر البابا شنودة الثالث قرارا بتبرئة الكنيسة أن يدنسها هذا الموقع وهو يزيد مئات المرات عن النار التي أشعلها ممدوح مهران

"
النبأ" عن راهب دير المحرق
.
هناك بعض المنظمات والجمعيات المجهرية أو النشرات الصفراء التي يصدرها أقباط في الخارج تلوثت عقولهم من جراء تراكم الحكايات السلبية وتضخيم قضايا أقباط الوطن فجاء تطرفهم في خط بياني يرتفع هستيريا فيطالبون بدولة قبطية أو انفصال الجنوب المصري، والحمد لله أن موقف الكنيسة وقيادتها الرشيدة من هذا الهوس كان صارما وحاسما ورافضا
.
نعود إلى المطالب العادلة لأشقائنا الأقباط ولا نرى في أكثرها إلا حقوقا شرعية يجب على أبناء الوطن المسلمين تبنيها والدعوة إليها وتطبيق الجانب الشعبي منها وذلك بحكم أن الجانب الآخر المتمثل في سلطة الدولة وهي بين إصبعين من أصابع السيد الرئيس لن يعرف النور مادام الرئيس يزدري المطالب الجماهيرية ويعتبر الشعب المصري محظوظا لأنه يتشرف بالوقوف خاضعا ومطيعا بين يدي سيادته
!
لا ريب في أن هناك تيارا من الكراهية خلقتها فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، وهناك أحادية الاتجاه الديني المخالفة للتوجهات الإلهية في القرآن العظيم التي تؤكد على ضرورة حرية العقيدة فيختار المرء بين النجدين، وهناك الصورة الأكثر ظلما ووضوحا المتعلقة بوجود سقف على المناصب
.
ولعلني أجد نفسي في خلاف مع أشقائنا الأقباط عن ضرورة التمثيل النيابي وفقا لعدد الأقباط فأراه أيضا نوعا من التميز، سلبا أو إيجابا، وهو ينافي تماما الدعوة إلى تطبيق العدالة في كل صورها
.
أنا لا أكترث أن يكون في مجلس الشعب قبطي واحد أو أن يتشرف تكليفا بها عشرات من الأقباط فالتمثيل المئوي وفقا لعدد السكان هو طائفية مرفوضة, والمطلوب مقاييس جديدة ومتسامحة وقائمة على مفاهيم وطنية للكفاءة والشرف والنزاهة
.
على الرغم من أن هناك حصارا إعلاميا يشعر أقباط مصر أنهم غرباء في الوطن، إلا أنني أرى الجانب السلبي في اقتحام الأقباط لجة السياسة وصخب الحياة الفكرية العلنية واضحا وجليا، وأقدم اقتراحي الشديد لكل أشقائنا أقباط مصر الذين يصرون على لعب دورهم الوطني كاملا ومواجهة الأعاصير والرفض والصعوبات خاصة في اقتحام الفن السابع وقد تقدم الموكب كوكبة من المبدعين أمثال خيري بشارة وداود عبد السيد ويسري نصر الله ويوسف شاهين
.
عندما كنت صغيرا راقت لي كثيرا كتابات محمد جلال كشك ورأيت فيها تمردا من نوع جديد، فهذا الإسلامي المنشق عن الحزب الشيوعي والذي هاجمته صحيفة البرافدا يدغدغ مشاعر الاستعلاء لدى المسلم، ويبدو أنني في ذلك الوقت تعاطفت معه في نقده الشديد لغالي شكري والذي ضمنه كتابه" النكسة والغزو الفكري
".
ومرت السنوات وبدأت أتعاطف مع كتابات غالي شكري بعدما عاد إلى مصر وتولي رئاسة تحرير " القاهرة"، وابتعدت عن محمد جلال كشك الذي وظف كل إمكانياته للدفاع عن الإسلاميين الجدد وكاد يجعل من لصوص شركات توظيف الأموال عباقرة الاقتصاد المصري وجعل كتابه" الناصريون قادمون"ميثاقا خفيا للريان وأشرف السعد وغيرهم
.
لست في موضع الدخول في مناقشات عقيمة عن الفارق بين الولاء للوطن والولاء للدين، وعن صحة التصور الذي عممه ووسع نطاقه سيد قطب في كتاباته عن أن جنسية المسلم عقيدته وهي الدعوة التي أسفرت عن انشقاق في الوطن وجعلت المتطرفين يرون الخروج على القانون وقواعد التعامل اليومي وسلوكيات المواطن غير الدينية أمرا طبيعيا ومطلوبا لمناهضة " الوثنية والجاهلية"، فالحقيقة أنها مشاعر يمكن أن تتجزأ ولا تصيب الوطن في مقتل أو تنتقص من روح الأمة ورابطة الأخوة في كل صورها, فالمسلم يمكن أن يشعر بالأخوة في الدين وهو في المسجد وفي العمرة وفي الحج وفي شهر رمضان المبارك, لكنه يجب أن يستبدل بهذه المشاعر الدينية الدافئة أخرى دنيوية وهو في العمل وفي الشارع وفي أي تجمع غير مقتصر على المسلمين فقط، فيصبح مصريا في التعاملات الأخرى، كما أنه قد يفتخر بعروبته وهو يطلع على الإنتاج الأدبي والفكري والثقافي والفني لأمته العربية الأكبر من مصر
.
إن التحرك بتسامح وعفوية بين الوطنية والدين والقومية يحتاج لمنهاج جديد في التربية يتم بموجبه التخلص من شوائب مشاعر الفوقية التي تتسبب في إلغاء الآخر، دينيا أو وطنيا أو قوميا, ونحن في حاجة ماسة للتعرف على النفس من جديد بعيدا عن التسابق لعقد محاكم تفتيش تتسلل إلى النفوس لقياس درجة الإيمان والتأكد من وجود عقد تمليك بيت في الجنة
!
نؤكد مرة أخرى بأن مصر في حاجة لانفجار بركان من المحبة والتسامح يكتسح وينظف ما علق بالنفوس من أدران ووحل الطائفية والعنصرية والكبر، ونتحدى أن يخرج مصري واحد من جيبه مفتاحا لبيته في الجنة يحتفظ به لأنه مسيحي أو مسلم، فالله ليس منحازا لأحد، والطريق الوحيد المؤدي إلى نور السماوات والأرض يمر عبر القلوب المتسامحة
.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 5 سبتمبر 2001

ليست هناك تعليقات:

لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة!

  لهذا لم أعُدْ أحب حِجابَ المرأة! كنتُ فرحا به منذ نصف قرن؛ فقد كان جزءًا من الحرية الفردية للمرأة، فلا تغطي شعرَها إلا واحد بالمئة من نساء...